دراسات في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

مثلا لفظ زيد يكون أجنبيا عن الدار وبالعكس وإذا جيء بلفظ «في» يرتبط أحد اللفظين بالآخر ، فالحروف موجدة للربط الكلامي وموضعة لذلك ، وعليه فكل من الربط اللفظي والنسبة الكلامية الثابتة بالحروف والربط الخارجي أي النسبة النّفس الأمرية يكون مصداقا لمفهوم النسبة والربط الّذي هو معنى اسمي ، فكلاهما يكونان مصداقا لذلك ، لا ان الربط يكون من مصاديق الربط الكلامي ، وحينئذ فان كان الربط الكلامي مطابقا ومشابها مع الربط النّفس الأمري بأن كانا تحت طبيعة واحدة وصنف واحد ، فيكون الربط الكلامي صدقا ، وإلّا فيكون كذبا.

وإلى هذا أشار المحقّق المير شريف حيث يقول : لو كانت النسبة الكلامية مطابقة مع النسبة الخارجية تكون صادقة ، فالتعبير بالمطابقة أي تطابق الربطين يكون بهذا المعنى لا انطباق الكلي على الفرد كما هو واضح.

هذا ونقول : ما المراد من كون الحروف موجدة للربط الكلامي؟ فان أريد به ان الربط الكلامي يكون من لوازمها الذاتيّة فهو مما نقطع بخلافه ، وإلّا لزم صحّة الإتيان بكل حرف مكان كل حرف ، فتأمل. وان أريد ان ذلك ثابت بالوضع والجعل فما الموضوع له فيها.

وبعبارة أخرى : لو أريد : ان الحروف موجدة للربط بين الألفاظ فقط من دون إيجاد تغير في معانيها ، فهو ممنوع ، إذ لا معنى للربط بين أصوات يبقى جزء منها ، فيوجد الجزء الآخر. وان أريد ان الربط بين الكلمات يكون من جهة إيجاد الربط بين معانيها ووجود معنى حرفي ، فنسأل عن ذاك المعنى وانه أي شيء فيكون حاكية عنه.

فالصحيح ان يقال : ان الأسماء والحروف متباينة سنخا ، ولكن معاني الحروف في أنفسها مختلفة ، فلا بدّ من الاستقراء في ذلك ونعرف بمقدار ما استقرأنا ، ونقول : ما يكون من قبيل كلمة «في» وأمثالها تكون موضوعة لتفهيم تضييق

٤١

المعاني الاسمية ، فان المعاني الاسمية جزئية كانت أو كلّية معانيها غير مقيّدة بشيء ، ونعبر عنها بلا شرط ـ فيكون لها حصص وأصناف ، وهذا التغيير في الجزئي غير خال عن مسامحة ، والمراد واضح ـ بحيث لو كان المتكلّم بها في مقام البيان يستفاد منها الإطلاق ، وان لم يكن في مقام البيان تكون تلك الأسماء المستعملة من قبيل المجملات كما لو قال : «أكرم العالم» وهذه الأسماء قابلة للتخصيص والتقييد ، وحيث ان الغرض كثيرا ما يتعلق بتفهيم الحصص وكان الوضع لكل من الحصص متعذرا لعدم تناهي الحصص ، أو متعسرا لكثرتها فلا محالة وضعت الحروف للدلالة على إرادة تفهيم ذلك ، مثلا لفظ «في» في قولك «الصلاة في المسجد خير» يدل على ان الموضوع ليس مطلق الصلاة بل الحصة الخاصة منها ، وهذا يجري في جميع موارد استعمالاته ، مثلا يقال : «الغني في الله تعالى ضروري» أي الحصة الخاصة منها ، أو «الفقر في الله تعالى مستحيل» أو «الفقر في الممكنات ضروري» أو «اجتماع النقيضين في الخارج محال» أي الحصة الخاصة منه إلى غير ذلك من الأمثلة ، فيقيد الموضوعات أولا ثم يحكم عليها بهذه الأحكام ، وبالجملة فالأسماء معانيها مطلقة بهذا المعنى ، ولا يخلو هذا التعبير عن مسامحة خصوصا في الأسماء الجزئية ، والحروف وضعت للدلالة على إرادة تضييق تلك المعاني وتخصصها ، كما ان التوصيف والإضافة أيضا يكونان كذلك ، مثلا إضافة غلام إلى زيد يدل على تضييق الغلام وتخصصه بزيد ، وهكذا في التوصيف.

وبالجملة نذكر قبل بيان المعاني الحرفية مقدمة وهي : ان المفاهيم الاسمية الكلية أعم من ان تكون من قبيل الجواهر ، أو من الاعراض ، أو من الأمور الاعتبارية التي تكون هي الموضوع له لتلك الأسماء بنحو اللابشرط المقسمي على مسلك القدماء وبنحو الماهية المهملة على ما هو الحق فهي غير مقيّدة بالوجود ولا بالعدم ولا بشيء آخر ، وهذه المفاهيم نفسها تكون بعضها أوسع من بعض كما في

٤٢

مفهوم الإنسان ومفهوم الحيوان ، فان العقل يرى أضيقيّة الأول عن الثاني وأكثرية أصناف الثاني عن أصناف الأول حتى مع قطع النّظر عن الوجود الخارجي فتأمّل.

فالأسماء الكلّية غالبا تكون موضوعة لهذه المفاهيم ، ومن الواضح ان لكل من هذه المفاهيم حصص وأصناف ، مثلا الإكرام تارة يكون في الليل وأخرى في النهار ، وتارة يكون بالقيام وأخرى بالضيافة أو بغيرها إلى غير ذلك بحسب اختلاف المكرم والمكرم ، وسبب الإكرام ونحوها ، وكما نحتاج في التفهيم والتفهّم إلى وضع الألفاظ لتلك المفاهيم الكلّية كذلك يحتاج إلى ألفاظ تدل على تلك الحصص ، إذ كثيرا ما يتعلّق الغرض بتفهيمها ولم يوضع للحصص لفظ مخصوص إلّا نادرا كما في القعود والجلوس ، فانهم يقولون ان الجلوس موضوع لما إذا حصلت تلك الهيئة عن قيام أي لهذه الحصة منها ، والقعود لما إذا حصلت عن اضطجاع ، وبعضهم قال بالعكس ، فالحروف غالبا موضوعة لإفادة التضييق وبيان الحصص ، مثلا لو أراد المتكلم تفهيم حصة خاصة من القيام أي القيام على قدم واحد فيقول : «قام فلان على قدم» وهكذا لو أراد بيان صوم خاص فيقول : «الصوم في يوم عاشوراء مكروه» أو «صوم العيدين حرام» وهكذا ، وعلى هذا فيكون لهذا القسم من الحروف حيثيتان ، فهي من حيث انها تكون مرحلة لتضييق المفاهيم تكون إيجادية ، وهي من حيث كونها دالة على ان المتكلم أراد تفهيم الحصة الخاصة تكون حكائية ، ونعبر عن هذا القسم اصطلاحا بالحروف الاختصاصية (١) ، وعلى هذا

__________________

(١) ذكر الأستاذ دام ظله ان الحروف المشبهة بالفعل تكون لتضييق الاخبار ، فان الاخبار قابل لأن يكون اخبارا مع التحقيق وبدونه ، والاستفهام لتضييق المعنى بكونه مورد استفهام لا غير ، وأداة الحصر لحصر المحمول في الموضوع أو العكس ، وأداة النفي لتضييق ما يستفاد من الجملة إلى النفي دون الإثبات ، إلى غير ذلك.

٤٣

ينطبق ما نقل عن علي عليه‌السلام في تعريف الحرف «انه ما أوجد معنى في غيره» هذا هو القسم الأول.

أما القسم الثاني من الحروف ما يكون اسما حقيقة وان كان يعامل معه معاملة الحرف فهو يكون حرفا اصطلاحا فقط ، وإلّا فمعناه مستقل اسمي ، كما انهم يعتبرون عن بعض الأسماء التي يدخل عليها خواص الاسم كالتنوين باسم الفعل لاشتماله على معنى الفعل ، وهذا القسم من الحروف كحروف التشبيه «مثل الكاف» فان معناه انما هو المثل ، أو الشبه بحسب اختلاف الموارد ، إذ التشبه لو كان بلحاظ الذاتيات يعبر بالمثل ، وان كان من حيث الصفات يعبر بالشبه.

وهذا المعنى اسمي ، ولذا لم نجد مرادفا للكاف في الفارسية ، مع انه لو كان حرفا حقيقة لكان مما يحتاج إليه في جميع اللغات.

القسم الثالث ما يكون لقلب ما يستفاد من الجملة الخبرية ـ على ما نبيّنه ـ من الإثبات إلى النفي كما في لفظ «لا» ، و «ما» ، و «لن» وأمثال ذلك ، و «ليس» وان كان فعلا وينصرف منه بعض الاشتقاقات إلّا انه أيضا معنى حرفي بهذا المعنى ، والجامع بين الجميع هو التضييق.

والحاصل : بعد ما أثبتنا ان الحروف لا تكون علامة محضة كالنصب ، ولا تكون متحدة مع الأسماء من حيث المعنى ، بل يكونا متباينين من حيث المعنى ، وأبطلنا ما ذكره المحقق النائيني من كون الحروف موضوعة لإيجاد الربط الكلامي ، وما ذكره بعض الأعاظم من كونها موضوعة للنسب الخارجية ، فثبت مدّعانا لا محالة ، وان الأسماء موضوعة للمعاني المستقلة ، والحروف لإيجاد التضييق بين تلك

__________________

ـ نعم ألفاظ النداء ليس لها معنى ، بل هي موضوعة لتوجيه المخاطب بهذا الصوت كما يتحقق ذلك في بعض الأوقات لسائر الأصوات ، فتأمّل.

٤٤

المفاهيم والدلالة على تخصصها ، فمعاني الحروف نفسها تكون غير مستقلة ومتدلية بالغير ، ففي قولك «الصلاة في المسجد» لفظ الصلاة تدل على المفهوم الخاصّ والمسجد القيد ولفظ «في» على تقيد الصلاة بهذا القيد ، فالحروف كلها موضوعة للتضييق ، غايته بعضها لتضييق المفرد كما هو الغالب ، وبعضها لتقييد الجملة كأداة الشرط ، فانها تضيق مفاد الجملة إنشائية كانت كقوله «ان جاءك زيد فأكرمه» أو إخبارية كما تقول «ان كانت الشمس طالعة فالنهار موجود».

ولا يخفى ان المعاني الحرفية على هذا تكون قابلة للّحاظ الاستقلالي كالأسماء ، بل ربما يكون المقصود الأصلي في الكلام هو المعنى الحرفي كما لو سئل عن تحصص الصلاة بالأين أو «متى» وقيل : «أين صلى زيد»؟ و «متى صلى زيد»؟ ولم يكن السؤال عن نفس الزمان والمكان.

ثم انا انما أطلنا الكلام في المقام لأنه يترتب عليه ثمر مهم في مفهوم الشرط ، فان المنكرين له استدلوا على مدعاهم بان مفاد الهيئة معنى حرفي وملحوظ آلي ، ولا يكون قابلا للإطلاق والتقييد ، فلا يمكن رجوع القيد إليه ، بل لا بدّ وان يرجع إلى المادّة ، فلا يتحقّق للشرط مفهوم ، وبما ذكرنا ظهر ان مفاد الهيئة وان كان معنى حرفيا إلّا انه قابل للّحاظ الاستقلالي ، ولا ينافي ذلك كون المعنى غير مستقل ، لأن عدم الاستقلال الذاتي لا ربط له بعدم الاستقلال في اللحاظ ، وعليه فيكون قابلا للإطلاق والتقييد كالمعاني الاسمية فإذا لا مانع من رجوع القيد إلى الهيئة ، فيثبت مفهوم الشرط ، وهذه ثمرة مهمة.

ثم ان الوضع في الحروف عام ، فان الحصص كما ذكرنا كثيرة ، بل غير متناهية ، ولا يمكن تصور كل منها بخصوصية لغير المتناهي ، فهل يكون الموضوع له فيها عاما أيضا أم لا؟

أما على مسلك المحقق الخراسانيّ قدس‌سره فيكون الموضوع له فيها عام واضح ،

٤٥

وأما على المختار فالموضوع له فيها خاص ، فالواضع تصور عنوانا عاما كالتحصص من حيث الظرفية ، ووضع كلمة «في» لمصاديقه أي لأصنافه ، فيكون الوضع فيها عاما والموضوع له خاصا.

ثم انه روى عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام انه قال : «الاسم ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى ، والحرف ما أوجد معنى في غيره» ونقول : ان تعريف الاسم بأنه ينبئ عن المسمّى واضح ، وهكذا تعريف الحرف على ما ذكرناه ، وأما تعريف الفعل ، فان كان المراد بالحركة فيه ما يكون في مقابل السكون فمن الواضح ان غالب الأفعال لا تدل على ذلك ، مضافا إلى ان الحركة بهذا المعنى مختصة ببعض الاعراض أعني الأين والمتى ولا تجري في سائرها ، فما المراد من الحركة في تعريف الفعل؟!

ولبيان ذلك : لا بدّ من التعرّض لمعنى الهيئات. والمشهور ان الهيئة في الجمل الاسمية تدل على ثبوت النسبة الخارجية في الكلام الموجب ، وعلى سلبها أو النسبة السلبية في الكلام المنفي ، ولكنه غير صحيح.

أما الأول : فلان ثبوت النسبة فرع تحقق الطرفين في نفس الأمر الأعم من الخارج ووعاء الاعتبار ليشمل مثل «الإنسان ممكن» ، لكن مع انّا نرى صحة استعمال الهيئة في مثل «الإنسان حيوان ناطق» مما يكون الحمل فيه أوليّا ، فان الإنسان متّحد مع الحيوان الناطق في جميع المراحل خارجا مفهوما وتصورا ، ولا فرق بينهما إلّا بالإجمال والتفصيل ، ولا معنى لثبوت النسبة بين الشيء ونفسه ، وفي قولك «العنقاء معدوم» مع عدم تحقق طرفيها ، فلا بدّ على مبنى المشهور من الالتزام بالتجريد ، أو بالمسامحة في أمثال هذه الموارد ، مع انّا نرى صحّة الاستعمال فيها بلا عناية كاستعمال الهيئة في قولك «زيد قائم».

وثانيها : ان الواضع أي شخص كان لم يكن رجلا لاغيا وعابثا في مقام

٤٦

الوضع بان يوضع الألفاظ للمعاني بلا غرض وغاية ، بل كان غرضه سهولة التفهيم والتفهم ، وحينئذ نسأل أي شيء يستفيده السامع وينتقل إليه من سماع هذه الهيئة؟ وجدانا نرى انا لا ننتقل من سماعها الا إلى تصور نسبة المحمول إلى الموضوع مع احتمال وقوعها وعدم وقوعها في الخارج ، ولا نستفيد منها أكثر من ذلك.

وهذا المعنى نستفيده من الهيئات المفردة أيضا مثل «قيام زيد» مثلا ، ومن الجملة السلبية أيضا كقولك «ما زيد بقائم» ، ولا كاشفية لها عن التصديق بثبوت النسبة ، والمفروض انها من القضايا التصديقية ، فلا بد وان تكون موضوعة لمعنى آخر ، فما هو ذلك المعنى؟

والصحيح ان يقال : انها موضوعة لقصد الحكاية والاخبار ، ويتضح هذا بما ذكرناه في حقيقة الوضع ، وانه عبارة عن تعهد الواضع والتزامه بذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، وفي وضع الهيئة في الجمل الخبرية : التزام بالإتيان بها عند قصد الحكاية ، فهي تدل على ان المتكلم قصد بإيجادها الحكاية والاخبار وان داعيه على الإتيان بها هو ذلك.

وعليه فالهيئة من حيث مدلولها لا تحمل الصدق والكذب ، لأن دلالتها على قصد اللافظ تكون كدلالة لفظ زيد على معناه ، وانما يكون الصدق والكذب فيها بلحاظ متعلق مدلولها وهو الاخبار والحكاية من حيث مطابقتها مع المحكي وعدمها ، وحيث ان الداعي في الأفعال الاختيارية يكون عنوانا للفعل ، مثلا إذا قام بقصد التعظيم يصدق على القيام انه تعظيم ، وإذا فعله بداعي السخرية يكون الفعل سخرية وهكذا ، ففي المقام حيث ان الداعي على الإتيان بالهيئة الخاصة يكون هو الاخبار ، فيصدق الحكاية والاخبار على نفس الهيئة بلا عناية ، كما يصدق على رفع الرّأس والإشارة بالأعضاء في مقام الحكاية والاخبار عن شيء ، فتكون الجملة كالفعل الخارجي بنفسها مصداقا للخبر.

٤٧

وعلى هذا يتم ما يقال : من ان معاني الهيئات حرفية ، إذ على ما ذكرناه تكون الهيئة موجدة للخبر والحكاية في الخارج ، فتكون إيجادية كالحروف.

هذا في هيئة الجمل الاسمية ، وأما غيرها من الهيئات فهي كثيرة ، منها هيئة الأفعال وتوابعها من المشتقات.

وليعلم ان المشتقات تكون مشتملة على مادة مشتركة بينها وعلى هيئة ، وقد وقع الخلاف في تعيين تلك المادة المشتركة ، فذهب قدماء النحويين إلى انها هي المصدر ومتأخروهم إلى انها اسم المصدر.

ولكن التحقيق : عدم صحة ذلك لأن المادة المشتركة لا بد وان تكون موجودة في جميع المشتقات لاعتبار وجود المقسم في الأقسام ، وإلّا لخرج عن كونه مقسما ، ونحن نرى ان كل واحد من المشتقات من حيث الهيئة والمعنى يكون مشتملا على خصوصيّة لا توجد في غيره مثلا ضرب مشتمل على معنى وخصوصية لا توجد في بقية المشتقات ، فلا وجه لتوهم كونه أصلا في الكلام كما ذهب إليه الكوفيون من النحويين ، وهكذا المصدر معناه العرض الملحوظ بما انه صفة للغير واسم المصدر معناه العرض إذا لوحظ بما هو موجود خاص ، وليس هذا اللحاظ دخيلا في معاني المشتقات أصلا.

فإذا لا بد وان تكون المادة المشتركة هو نفس المعنى اللابشرط الغير المقيد بشيء حتى من حيث التقييد بعدم الاشتراط ، ويعبر عنه بالمهملة ، ومن حيث اللفظ للألفاظ المرتبة من حيث التقديم والتأخير لا غير في مثل لفظ الضاد والراء والباء في ضرب ويضرب ونظائره. هذا في مادة المشتقات.

وأما الهيئات ، فهيئة فعل الماضي موضوعة لتفهم قصد الحكاية عن تحقق المبدأ خارجا أي قبل زمان التكلّم ، وحينئذ ان كان المبدأ المشتمل عليه الفعل مسندا إلى الزمانيات فبالالتزام يدل الفعل الماضي على الزمان الماضي ، فان لازم

٤٨

تحققه قبل زمان التكلم هو ذلك ، وان كان مسندا إلى نفس الزمان أو ما فوق الزمان فلا يدل إلّا على مجرد التحقق كما في قولك «مضى الزمان أو الدهر أو علم الله» وأمثال ذلك ، فيكون استعمال الماضي في هذه الموارد بلا عناية وتجريد ، لأن الزمان لم يكن مأخوذا في معناه أصلا وانما كان مدلولا التزاميا له إذا كان فاعله من الزمانيات ، وهذا هو الّذي أوجب توهّم جملة من النحويّين كون الزمان الماضي مأخوذا في مدلوله.

وأما المستقبل فهيئته موضوعة للحكاية عن التلبس بالمبدإ فعلا وإذا دخل عليه السين أو سوف ينقلب إلى الاستقبال ، وعلى هذا يظهر الوجه في كون مفاد هيئة الأفعال معنى حرفيا ، لأنها تدل على تضييق تلك الصفة بالتحقيق في الفعل الماضي وبالتلبس في المستقبل.

وأما هيئة المصدر واسم المصدر فقد ظهر الحال فيهما مما تقدم. وأما هيئة بقية المشتقات من اسم الفاعل والمفعول والصفة المشبهة واسم الآلة والمكان والزمان ونحوها فهي موضوعة لقصد تفهم ذات مبهمة من جميع الجهات سوى اسناد المبدأ وانتسابه إليه ، مثلا هيئة القائم تدل على ذات متصفة بتلك الصفة أما إنسان وأما حائط وأما رمح وأما حيوان وأما غير ذلك.

نعم تختلف أنحاء التلبسات فهيئة الفاعل دالّة على الذات المنتسب إليه المبدأ بالنسبة الصدورية ، وفي المفعول بالنسبة الوقوعية ، وفي الآلة بالنسبة الآلية إلى غير ذلك.

وعلى هذا فتكون الذات داخلة في مدلول المشتقات ، ولا وجه لما ذكره بعضهم من بساطة المشتقات بمعنى خروج الذات عن مدلولها ، نعم البساطة بمعنى آخر صحيح كما سنتعرض لذلك إن شاء الله تعالى في محله مفصّلا.

استدراك : ذكرنا ان هيئة الجمل الاسمية تدل على قصد المتكلم الاخبار

٤٩

والحكاية ، وليعلم انه ليس مرادنا من ذلك ان معنى «زيد قائم» مثلا قصد الحكاية عن قيام لتحتمل الصدق والكذب بحسب مدلوله ، فليس معناها الاخبار عن القصد ولا يكون بابها باب الاخبار عن القصد وانما يكون بابها باب الدال والمدلول ، فان نظام العالم يتوقّف على تفهّم المقاصد وتفهيمها ، ولذا نرى ان كثيرا ما يتعلق الجعل والمواضعة بتفهيم المقاصد بالافعال كالتعظيم بالقيام عند طائفة ، وبرفع العمامة عند قوم ، وبوضع إحدى اليدين على الأخرى عند آخرين إلى غير ذلك ، فيكون القيام ورفع العمامة أو اليد مصداقا للتعظيم نظير الأفعال التوليدية ، وحيث انه من الأفعال الاختيارية فيدل على قصد التعظيم أيضا.

فالقيام مثلا بعنوانه الأولي قيام وبعنوانه الثانوي تعظيم ، ورفع الرّأس مثلا في بعض الأحيان بعنوانه الأولى يكون فعلا خاصا وبعنوانه الثانوي يكون مصداقا للاخبار والحكاية ، ولذا لا يبعد القول ببطلان الصوم بذلك إذا كان افتراء على النبي أو أحد الأئمة عليهم‌السلام ، هذا في الأفعال الخارجية ، واما في الألفاظ فهيئة الجملة الاسمية لم تجعل لثبوت النسبة ، وانما جعلت للحكاية والاخبار بالثبوت أو بالنفي ، وحيث ان الحكاية والاعتبار من الأفعال القصدية فلا محالة تدل على قصد ذلك ، فان شئت فعبّر بأنها موضوعة للاخبار القصدي ، وان شئت فقل بأنها موضوعة لقصد الاخبار ، وعلى هذا فالصدق والكذب فيها ليس بلحاظ مدلولها بل بلحاظ مطابقة الحكاية مع المحكي وعدمها.

وأما الأفعال فالمادة المشتركة بينها انما هي المعنى اللابشرط من جميع أنحاء النسب ، وأما هيئتها فهيئة فعل الماضي موضوعة للحكاية عن تحقق قيام المبدأ بالذات وسبقه على زمان التكلم ان لم يكن الفعل مقيدا ، وان كان مقيدا فبالقياس إلى القيد مثلا لو قال يجيئني زيد بعد عشرة أيام وقد صام قبله بيوم يكون السبق فيه بالقياس إلى المجموع لا مطلقا ويكون الاستعمال بلا عناية.

٥٠

وأما هيئة فعل المستقبل فموضوعة للحكاية عن التلبس بالمبدإ ، أما حال أو الأعم منه ومن الاستقبال.

وأما هيئة اسم الفاعل ونظائره فهي موضوعة لذات مبهمة من جميع الجهات مقيدة من جهة الانتساب إلى المبدأ ، فهي تدل على التضييق والتقييد كالحروف كما ان لفظ الخمر أيضا لا يدل إلّا على شيء مسكر مبهم من حيث كونه مأخوذا من تمر أو عنب أو غيره ، وهكذا لفظ النار تدل على ذاك العنوان المبهم من حيث كونه من خشب أو نفط أو غيره ، وما يقال من خروج الذات عن حقيقة المشتق سيأتي انه غير تام بل الذات مقوم فيه.

وأما هيئة فعل الأمر والنهي فهي موضوعة للدلالة على تعلق الطلب والبعث في الأول والزجر في الثاني بالمعنى الّذي نبيّنه في حقيقة الطلب بالمادة فتكون من حيث دلالتها كدلالة الهيئة في الجمل الخبرية ، فكما ان الجمل الخبرية من حيث مدلولها لا تتصف بالصدق والكذب ، غايته حيث ان مدلولها وهو الاخبار والحكاية يكون من الأمور التعليقية ويكون له تعلق بالخارج يحتمل فيه الصدق والكذب ، ومدلول فعل الأمر والنهي لا تعلق له بالخارج أصلا ، وتكون نظير دلالة الكلمات المفردة مثل زيد على معناه ، فلا مجال فيها للاتصاف بالصدق والكذب أبدا كما في الألفاظ المفردة.

إذا عرفت هذا فنقول : ان الأسماء انما تدل على ذوات المعاني لا بشرط من حيث الوجود والعدم من غير فرق بين الجوامد والمشتقات والمصدر وغير المصدر ، مثلا : لفظ الإنسان يدل على الطبيعة الخاصة الغير المقيدة بالوجود والعدم القابلة للاتصاف بهما ، وهكذا لفظ قائم يدل على ذات مبهم إلّا من حيث انتساب المبدأ إليه ، ومثله لفظ ضرب الّذي هو مصدر معناه العرض الخاصّ بما انه صفة للغير ، فيصح ما يقال ان الاسم ما أنبأ عن المسمى.

٥١

وأما الأفعال : ففعل الماضي والمضارع يدلان على فعلية المعنى الّذي كان قابلا لكل من الفعلية وعدمها ، فهما يدلان على حركة المبدأ من القوة إلى الفعلية.

وأما فعل الأمر والنهي ، فهما يدلان على ان المعنى الّذي كان قابلا لتعلق الطلب به وجودا وعدما تعلق به الطلب وصار كذلك فعلا ، وبهذا ظهر الوجه في كون معانيها حرفية ، فانها تدل على تضييق المعنى الاسمي وتقييده بالوجود والفعلية تارة وبفعلية العدم أخرى كما في الحروف ، والفرق بينهما هو ان التضييق في الحروف كان تضييق المفهوم بالمفهوم ، وفي الأفعال يكون التضييق تضييقا بالوجود أو بالعدم ، وهما مشتركان من حيث أصل التضييق ، وبهذا يظهر بيان الخبر المسند إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام من «ان الاسم ما أنبأ عن المسمّى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى والحرف ما أوجد معنى في غيره».

بقي في المقام أمران :

أحدهما : النقض بأسماء الأفعال ، فانها أيضا تدل على حركة المسمّى بهذا المعنى.

وفيه : ان المعرّف في الخبر انما هو الفعل أي الهيئة الفعلية ، ومن الواضح انه ليس لأسماء الأفعال مادة موضوعة وهيئة موضوعة استقلالا ، بل المادة والهيئة معا فيها موضوعة لمعنى خاص ، فهي حقيقة من الجوامد غايته ان معناها معنى الفعل ، ولذا يدخل عليها خواص الاسم من التنوين وغيره ، فهي كالخنثى فتأمل (١).

ثانيهما : ان هيئة الجملة الاسمية أيضا تدل على حركة المسمى بهذا المعنى كما في «زيد قائم» فانها تدل على فعلية القيام من زيد ، فالتعريف لا يكون مانعا.

وفيه : ان المعرّف انما هو الكلمة ـ كما يستفاد من المقسم المذكور في الخبر ـ

__________________

(١) وجهه انه ينتقض بها تعريف الاسم لا محالة (منه).

٥٢

والجمل الاسمية تكون كلاما ، وبعبارة أخرى لم يرد في الخبر ان كلّ ما أنبأ عن حركة المسمى فهو فعل لينتقض بالجمل الاسمية ، وانما قال : الفعل الّذي هو كلمة ما ينبأ عن حركة المسمى ، ولا ينافي ذلك ان يكون شيئا آخر أيضا دال على ذلك.

هذا كله في بيان الخبر والفرق بين الاسم والفعل والحرف وبيان معانيها.

ثم انه يقع الكلام في الفرق بين الاخبار والإنشاء ، وان ظهر إجماله مما تقدم ، فنقول : المشهور كما في الكفاية (١) انه لا فرق بين الاخبار والإنشاء من حيث المعنى ، وان اختلافهما انما يكون باختلاف الدواعي ، بل ذكروا ان دلالة الجمل الخبرية المستعملة في الطلب على ذلك يكون آكد من دلالة صيغة افعل عليه ، خصوصا إذا كانت بصيغة الماضي وواقعة في جزاء الشرط كما في قولك «من قهقه في صلاته أعادها أو يعيدها» فان المتكلم لكثرة اشتياقه بذلك الأمر كأنه يعتبره مفروض الوجود والتحقق فيخبر عن ذلك.

وكيف كان على ما سلكناه في بيان الموضوع له في الجمل الخبرية وغيرها لا مجال لهذا التوهم أصلا.

بيان ذلك : هو ان الإنشاء عندهم عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ، والظاهر انه مجرد لقلقة لسان ولا معنى لإيجاد المعنى باللفظ أصلا ، فان الموجودات على ما مرّ مرارا منحصرة في الموجودات الحقيقة ، وهي وجود الجواهر والأعراض الشاملة للأمور الانتزاعية أيضا ، وفي الموجودات الاعتبارية ولا ثالث.

فان أريد من إيجاد المعنى باللفظ الإيجاد الحقيقي فبالبداهة نرى انه لا يوجد باللفظ إلّا فرد من الكيف المسموع ليس إلّا ، ولا يكون اللفظ سببا ولا آلة لوجود المعنى أصلا ، وان أريد إيجاده بالوجود الاعتباري في وعاء الاعتبار ، وحينئذ لا

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ١٦.

٥٣

يخلو الحال من ان يراد وجوده في اعتبار المتكلم ، أو يراد وجوده في اعتبار الشرع أو العقلاء.

أما الأول : فلا شبهة في انه متقوم باعتبار المعتبر وتوجه نفسه ، سواء كان هناك لفظ أو لم يكن.

وأما الثاني : فاللفظ وان كان موضوعا لاعتبار الشارع والعقلاء ونسبة الموضوع إلى حكمه تكون كنسبة العلة إلى معلوله فتحقق اللفظ يكون علّة لثبوت الاعتبار النوعيّ أو العقلائي بمعنى انطباقه على المورد لا أصل ثبوته وإنشائه ، ولكن الموضوع لاعتبار الشارع والعقلاء ليس هو اللفظ المجرد ، وانما هو اللفظ الّذي يكون مستعملا في المعنى ، فما هو ذلك المعنى؟! فيكون القول بان الإنشاء إيجاد اللفظ بالمعنى لقلقة لسان كما ذكرناه.

والصحيح ان يقال : ان الإنشاء انما هو إبراز الاعتبار النفسانيّ ، فان حقيقة الإيجاب ليس إلّا اعتبار الأبدية وثبوت متعلق طلبه على رقبة المكلف ، كاعتبار الدين في ذمة المديون والعمل على رقبة الأجير ، ولذا ربما يتعدى ذلك بلفظ «على» كما في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(١).

وينتزع من هذا الاعتبار عنوان الإلزام من جهة كونه لازما على رقبة المكلف ، وينتزع منه الوجوب بمعنى الثبوت لثبوته في ذمته ، والتكليف من جهة إيقاعه المكلف في الكلفة إلى غير ذلك ، ولفظ افعل يكون بحسب تعهد الواضع مبرزا لهذا الاعتبار ، فكما ان الهيئة في الجمل الخبرية تكون مبرزة لقصد الحكاية ، فليس فيها من حيث دلالتها احتمال الصدق والكذب ، كذلك الهيئة في الجمل الإنشائية مبرزة لنفس الاعتبار ، فليس فيها احتمال الصدق والكذب أصلا ، وليس معناها

__________________

(١) البقرة ـ ١٨٣.

٥٤

الحكاية عن قصد الإنشاء ليحتمل فيها الصدق والكذب ، بل بابها باب الدلالة ، فأما ان تدل أو لا تدل ، لا باب الاخبار والحكاية ، وحيث ليس لمدلولها تعلق بما في الخارج فلا مجال لاحتمال الصدق والكذب فيها من تلك الجهة أيضا. وبالجملة ظهر ان حقيقة الإنشاء انما هو إبراز الاعتبار.

هذا معنى الجمل الإنشائية ، وأما الجمل الخبرية فمعناها قصد الحكاية ، والمعنيان متباينان ، وعليه فلا مجال لتوهم اتحادهما وكون الاختلاف فيهما من حيث الداعي أصلا ، بل لا مناص من كون اختلافهما بحسب المعنى الموضوع له.

هذا والحاصل : ان ما ذكروه من ان المعنى والمستعمل فيه في الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الإنشاء تارة ، وفي الاخبار أخرى كفعل المضارع والماضي إذا وقع جزاء الشرط واحد في كلا الاستعمالين وانما الاختلاف بينهما يكون من ناحية الداعي لا يمكننا المساعدة عليه.

فان الموضوع له للهيئات ليس ثبوت النسبة ونفيها ، وانما هو قصد الحكاية في الاخبار ونفس الاعتبار النفسانيّ في الإنشاء على ما عرفت تفصيله.

ومما يؤيد ذلك انه لو كان المستعمل فيه في الإنشاء والاخبار واحدا وكان الاختلاف من جهة الداعي لزم صحة إنشاء الطلب بالجمل الاسمية مثل زيد قائم أيضا ، إذ لا خصوصية لفعل الماضي والمضارع والظرف.

ومن الواضح ان ذاك الاستعمال من أفحش الأغلاط ، نعم يصح استعمال الجملة الاسمية في إنشاء الطلب فيما إذا كان الخبر ظرفا كما في قوله عليه‌السلام «المؤمنون عند شروطهم» (١) ولو لم يكن ذلك من باب الكناية وأجنبيا عن المقام.

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ ج ١٥ ـ ب ٢٠ من أبواب المهور ، حديث ٤.

٥٥

بقي في المقام فرع وهو بيان معنى أسماء الإشارة والضمائر : صريح الكفاية (١) ان لفظ ذا مثلا موضوع لكل مفرد مذكر عاقل ، وان كون المعنى مشارا إليه ولحاظه كذلك انما يأتي من ناحية الاستعمال.

ونقول : لو سلمنا ما ذكره في المعنى الحرفي من ان الآلية والاستقلالية ينشئان من ناحية الاستعمال من دون ان يكون لشيء منهما دخل في الموضوع له لا نسلم ما ذكره في المقام ، فان الاستقلالية والآلية يكونان من لوازم الاستعمال ، بخلاف كون المعنى ملحوظا بما انه مشار إليه ، فان ذلك لا يكون من لوازم الاستعمال ، فلا وجه لاعتباره فيه ما لم يكن دخيلا في الموضوع له.

ومما ذكرناه ظهر فساد ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره ، من ان «ذا» موضوع للمفرد المذكر الّذي أشير إليه بهذا اللفظ أي الحصة الخاصة بنحو دخول التقييد وخروج القيد (٢).

فإنا نسأل إنه ما المراد من الإشارة إلى المعنى باللفظ؟ إن أريد منها الإشارة الاستعمالية فبكل لفظ يشار إلى معناه ففي استعمال لفظ الإنسان يشار إلى معناه ، وان أريد بها معنى آخر فأي شيء ذلك؟

وهناك احتمال آخر أدق من ذلك وهو ما أفاده بعض أعاظم مشايخنا وحاصله : إن «ذا» موضوع للمعنى الّذي أشير إليه بإشارة خارجية بإحدى آلات الإشارة من الإصبع والرّأس العين كما يتفق ذلك كثيرا عند استعمال هذه الألفاظ (٣).

وفيه : ان هذا كان يتم لو لم يكن استعمال أسماء الإشارة والضمائر والإشارة بها إلى غير المحسوسات والمعاني صحيحا بلا عناية ومسامحة ، كما يقال ان كان المراد

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ١٦.

(٢) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ١٣.

(٣) نهاية الدراية ـ ج ١ ـ ص ٦٤.

٥٦

من هذا المعنى ذلك فهو باطل ، وبالجملة ما ذكره في الكفاية من ان اسم الإشارة كلفظ «ذا» موضوع لذات المشار إليه ، وان الإشارة تنشأ من ناحية الاستعمال كاللحاظ الآلي في الحروف فقد عرفت انه غير تام ، إذ لا معنى لكون الإشارة ناشئة من قبل الاستعمال أصلا إلّا ان يراد منها الإشارة بمعنى الاستعمال التي هي موجودة في جميع الألفاظ.

وهكذا ظهر عدم صحّة ما أفاده المحقق النائيني ، فأمتن الوجوه ما نقلناه عن شيخنا المحقّق قدس‌سره بان يكون اسم الإشارة موضوعا للحصة الخاصة من المعنى ، وهي المعنى المقيد بكونه مشارا إليه بالإشارة الخارجية أو الذهنية ، إلّا ان الإشكال فيه هو صحّة استعمال أسماء الإشارة في موارد غير قابلة للإشارة أصلا كما عرفت.

فالصحيح : في معاني أسماء الإشارة ما ذكره ابن مالك وغيره من النحويين من كونها موضوعة لنفس الإشارة لا للمشار إليه ، أي وضعت لأن يكون آلة للإشارة ، أي لأن يشار بها كما يشار باليد والعين ونحو ذلك ، والإشارة في مقابل التصريح معناها بيان المعنى بنحو الإبهام والإجمال ، كما ان التصريح هو البيان بنحو التفصيل ، ومن ثم سمّيت أسماء الإشارة والضمائر والموصولات بالمبهمات ، فالمبين فيها يكون قرائن خارجية من الصلة في الموصولات ، وذكر المشار إليه في الإشارة ، مثل ان تقول : «جئني بهذا الرّجل أو القرينة العقلية أو غير ذلك ، وإلّا فنفس الإشارة يكون فيها نوع إجمال غالبا كما لو أشير إلى الجدي وقيل «هذا الجدي» فانه لا يتعين ذلك بمجرد الإشارة.

وكيف كان ، فالصحيح في أسماء الإشارة ما ذكره النحويون ، ولا يرد عليه ما يقال : من ان لازمه عدم صحّة الحمل في مثل قولك «هذا زيد» أو «ذاك أخو عمر» وأمثال ذلك ، لأن لفظ «ذا» على هذا يكون بمنزلة الإشارة باليد فلا يكون للقضية موضوع ، وذلك لأنه انما يؤتي بلفظ «هذا أو ذاك» كما يؤتى بالإشارة

٥٧

بالأعضاء طريقا لإراءة المعنى ، فالموضوع يكون المعنى الّذي أحضر في ذهن السامع بتلك الإشارة أو اللفظ ، فلا إشكال ، ولا ينبغي إطالة الكلام في المقام أكثر مما ذكر.

بقي الكلام في استعمال اللفظ في نوعه أو صنفه أو مثله.

ونقول : قد ذكرنا ان دلالة اللفظ على معناه لا تكون ذاتية ، وانما هي مستندة إلى الوضع والتعهد ، فدلالة اللفظ على معناه الحقيقي تكون مستندة إلى الوضع من غير إشكال ، كما ان دلالته على المعنى المجازي أيضا تكون مستندة إلى الوضع بمعنى انه لو لا وضع اللفظ لما يناسب المعنى المجازي لما كان استعماله في ذاك المعنى المجازي صحيحا.

مثلا لو لم يكن لفظ أسد موضوعا للحيوان المفترس بل كان موضوعا للبحر مثلا لما جاز استعماله في الرّجل الشجاع ، إذ لا علاقة بين البحر والرّجل الشجاع أصلا ، فالمعنى المجازي أيضا مستند إلى وضع الواضع لكن بهذا المعنى ، وهذا واضح.

انما الكلام في انه مضافا إلى ذلك هل يكون اللفظ بالقياس إلى المعنى المجازي وضع على حدة أم لا؟ ويؤيد الثاني اتفاق المعاني المجازية في جميع اللغات ، فان اللفظ الموضوع للحيوان المفترس في كل لغة يجوز استعماله في الرّجل الشجاع ، ويبعد اتفاق جميع اللغات في هذا الوضع.

ثم ان المشهور بينهم ان صحّة استعمال اللفظ في نوعه أو صنفه أو مثله أو شخصه لا يكون بترخيص الواضع ووضعه ، وانما هي بالطبع ، وذلك لأن الوضع انما هو لإيجاد العلقة والربط بين اللفظ والمعنى ، فإذا فرضنا في مورد ان العلقة والربط ذاتي فيه كما في اللفظ ونوعه وصنفه ومثله وشخصه فأي حاجة إلى الوضع هناك ، وبعد ما ذكرناه في عدم الحاجة إلى الوضع في المعاني المجازية لوجود المناسبة بينه

٥٨

وبين المعنى الحقيقي ذاتا فعدم الحاجة إليه في المقام بطريق أولى ويؤيد ذلك صحّة استعمال الألفاظ المهملة في شخصها ونوعها وصنفها ، بان يقال : ديز لفظ أو ثلاثي ، والالتزام بثبوت الترخيص فيها بعيد غايته لعدم تناهي المهملات ، وهذا ظاهر.

ثم انهم أشكلوا في استعمال اللفظ في شخصه ، فمنعه بعض وصحّحه في الفصول (١) بتأويل ، فانه لو كان اللفظ مستعملا في نفسه ودالا عليه يلزم اتحاد الدال والمدلول ، وإلّا فيلزم تركب القضية اللفظية من جزءين أي من المحمول والنسبة في مثل قولك : «زيد لفظ» ولذا ذهب في الفصول إلى تقدير لفظ «هو» ليكون مبتدأ ويندفع به المحذور.

ولنا كلام في جميع ما ذكر ويتضح ذلك ببيان أمرين :

الأول : ان الغرض من الاستعمال انما هو إحضار المعنى المقصود في ذهن المخاطب ، فإذا كان إحضار المقصود في ذهن السامع في مورد ممكنا من دون توسط لفظ أصلا فالاستعمال يكون لغوا.

وبعبارة أخرى : المعاني تكون على نحوين :

منها : ما لا يمكن إحضارها في ذهن السامع إلّا بتوسط اللفظ كما في المعقولات الثانوية ونظائرها.

ومنها : ما يمكن إيجادها من دون ذلك بتوسط إشارة ، أو إحضار فرد منه ، مثلا يرفع رقيّا ويريه إلى المخاطب ويقول ملك زيد والمقصود فيه يكون إحضار شخصه والحكم عليه أو يقول مبرد مثلا فيكون المقصود إحضار طبيعي الرقي والحكم عليه ، وربما يكون المعنى بنفسه من قبيل الألفاظ فبمجرد إيجاد اللفظ يوجد المعنى المقصود في ذهن السامع ، فلا حاجة فيه إلى استعمال اللفظ أصلا ، والمقام من

__________________

(١) الفصول ـ ص ٢٢.

٥٩

هذا القبيل ، فانه بمجرد التلفّظ بكلمة «زيد» يوجد شخصه في ذهن السامع ويوجد طبيعي زيد في ضمنه أيضا.

الثاني : إنّا ذكرنا انه لم يوضع للحصص والخصوصيات ألفاظ خاصة مع انه كثير ما يتعلق غرض المتكلم بها ، ولذا احتالوا في ذلك بوضع الحروف ، فهي تدل على التضييقات والحصص.

وبعد ما عرفت الأمرين نقول :

لو كان غرض المتكلم ومقصوده إيجاد شخص اللفظ أو نوعه والحكم عليه كما في قولك «زيد لفظ» أو كان المقصود إحضار نوعه كما في قولك «ضرب فعل ماضي» فبمجرد الإتيان بهذا اللفظ يوجد ذلك في ذهن السامع وبتبعه يحضر الطبيعي في ذهنه أيضا.

وأما لو كان المقصود صنفه أو مثله فبالتكلم باللفظ يوجد الطبيعي في ذهن السامع ، ثم يضيق ذاك الطبيعي الّذي ثبت في ذهن السامع بوجود فرده خارجا بالحروف. مثلا يقال : زيد في «قام زيد» فاعل ، أو زيد في قولك «زيد قائم» مبتدأ ، فليس شيء من ذلك من قبيل استعمال اللفظ في المعنى ، بل يستحيل استعمال اللفظ في شخصه لا لما في الفصول من استلزام اتحاد الدال والمدلول فان ذلك قابل للدفع وقد وقع ذلك في بعض الأدعية ، حيث قال : «يا من دلّ على ذاته بذاته» ، بل لأن الاستعمال سواء قلنا بأنه بمعنى إيجاد المعنى باللفظ وجعل اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ، أو قلنا بأنه جعل اللفظ علامة للمعنى كما هو الأنسب بما ذكرناه في حقيقة الوضع متقوم بالتعدد والاثنينية ، فلا يعقل ان يكون الشيء علامة لنفسه ، كما لا يعقل ان يكون الوجود الحقيقي وجودا تنزيليا أيضا.

٦٠