دراسات في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

تنبيهان

الأول : يستفاد من كلام الفصول انّ القيد في موارد الواجب المعلّق يكون غير اختياري دائما ، كما في الحج فانه مقيد بمجيء الموسم الّذي هو خارج عن اختيار المكلف ، وأشكل عليه بأنه لا وجه لحصره في ذلك ، فانه ربما يكون القيد في الواجب المعلّق اختياريا للعبد كما في مثل قوله «ان سافرت فقصّر» فانّ وجوب القصر ثابت بالفعل للمسافر ولو فيما بعد مع انّ السفر امر مقدور ولكن لا يجب تحصيله لأنه أخذ مفروض الوجود.

وبالجملة عمدة الوجه في توهم استحالة الواجب المعلّق انما هو أخذ الأمر المتأخر فيه مفروض الوجود بنحو الشرط المتأخر من غير فرق بين كونه مقدورا للمكلف أو غير مقدور له ، وهذا هو منشأ إشكال المانعين ، فالاختصاص لا وجه له.

الثاني : ذكر صاحب الكفاية (١) انه لو تم ما ذكره صاحب الفصول لكفى في دفع الإشكال في وجوب مقدمات الحج وأمثاله قبل مجيء زمان الواجب ، لأنه لو كان الوجوب فعليا وظرف امتثال الواجب متأخرا لسرى الوجوب الفعلي من ذي المقدمة إلى مقدماته ، إذ عليه تكون المقدمة متأخرة عن ذيها وجوبا ومتقدمة عليها وجودا كما هو الحال في غالب المقدمات ، لكن دفع الإشكال غير منحصر بذلك ، بل يمكن دفعه بالالتزام بالشرط المتأخر أيضا. ولو لم نقل بالواجب المعلّق ، فانّ ما ينفعنا في دفع الإشكال انما هو فعلية الوجوب قبل تحقق زمان الواجب ليمكن سريانه إلى المقدمات الحالية ، وفعلية الوجوب كما تكون بناء على الوجوب التعليقي تثبت

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ١٦٤ وما بعدها.

٣٠١

بناء على الشرط المتأخر أيضا ، والفرق بين الأمرين انما هو في انّ القيد على الواجب المعلّق يرجع إلى المادّة ، وفي الواجب المشروط بالشرط المتأخر يرجع إلى الهيئة ، والأثر المترتب عليهما شيء واحد ، انتهى.

وفيه : انّ القيد المتأخر في الواجب المشروط ان لم يكن قيدا في الواجب بان كان ظرف امتثاله حاليا وكان القيد راجعا إلى الهيئة فقط دون المادة فهو خلاف المفروض ، فان محل كلامنا انما هو فيما إذا كان زمان الواجب أيضا متأخرا وكان القيد قيدا له.

وان كان القيد قيدا له أيضا فهو بعينه الواجب المعلّق ، لأنّ القيد المتأخر حينئذ يكون دخيلا في المادّة والهيئة معا. توضيحه : انّ في الواجب المعلق لا بدّ وان يكون القيد راجعا إلى المادة لكن بنحو لا يجب تحصيله لأخذه فيه مفروض الوجود ، فيكون الفعل المطلوب هو الحصّة الخاصّة الواقعة في الظرف الخاصّ ، مثلا القصر حال السفر واجب لا مطلقا ولو بعد الحضر واعتبر إيقاع الصلاة عند الزوال لا مطلقا ، كما انّ القيد المتأخر يرجع إلى الهيئة أيضا فيكون الوجوب الفعلي مقيدا به بنحو الشرط المتأخر بحيث لو لم يتحقق الشرط في ظرفه لانكشف عدم الوجوب من أصله.

فكل واجب معلق واجب مشروط بالشرط المتأخر ، والقيد فيه راجع إلى الهيئة من جهة كما انه راجع إلى المادّة أيضا لكن بنحو لا يجب تحصيله ، اما لكونه غير مقدور أو لأخذه مفروض الوجود.

فما أفاده في الكفاية من تصوير وجه آخر يفيد فائدة الواجب المعلّق خارج عن الفرض على بعض صوره ، وعين الواجب المعلق على بعض الصور.

فتحصل انّ الواجب المعلّق والمشروط كلاهما بمكان من الإمكان ، فحينئذ وقوع كل منهما في كل مورد يتبع ظهور الدليل ، فان كان ظاهره اختلاف زمان

٣٠٢

الحكم وظرف الامتثال ، وهذا معنى الوجوب التعليقي كما في الحج لظاهر الآية وفي باب النذور وأمثاله فهو وان كان ظاهر الدليل تعلق الحكم على تحقق القيد بنحو الشرط المقارن كتعلق وجوب صلاة الظهر على مجيء الزوال في قوله عليه‌السلام «إذا زالت الشمس وجب الطهور والصلاة» (١) يحكم به فلا محالة يتّحد الوقتان أعني وقت الوجوب والامتثال. وهذا كلّه واضح.

وانما الكلام فيما إذا كان الدليل مجملا ، وتردد امر القيد بين ان يرجع إلى الهيئة بنحو الشرط المقارن وبين رجوعه إلى المادّة ، ففي مثله يقع الكلام في مقامين :

أحدهما : فيما يقتضيه الأصل اللفظي.

ثانيهما : من حيث مقتضى الأصل العملي.

اما المقام الأول : فتارة يبحث عما كان القيد فيه متصلا ، وأخرى عما كان القيد منفصلا. فأولا نتكلم في الثاني فنقول : ان كان لكل من الهيئة والمادة إطلاق فلا محالة يدور الأمر بين تقييد أحدهم ، وقد ذهب الشيخ إلى تقديم إطلاق الهيئة وتقييد إطلاق المادة ، لأنّ إطلاق الهيئة شمولي وإطلاق المادّة بدلي ، ومهما دار الأمر بين تقييد أحدهما قدم الثاني.

فالبحث يقع في المقام من جهتين :

إحداهما : في تعيين الصغرى ، وانّ إطلاق الهيئة شمولي والمادة بدلي أو لا؟

ثانيتهما : في بيان الكبرى ، وانه عند الدوران قدم الثاني.

اما الصغرى : فالحق فيها ما ذهب إليه العلّامة الأنصاري ، لأنّ مفاد الهيئة وهو الوجوب ثابت على ذمّة المكلف في جميع حالاته ولا يخرج عن عهدته إلّا بامتثاله ، فالصلاة تجب على المكلف قائما كان أو جالسا ، ماشيا كان أو راكبا إلى

__________________

(١) راجع تهذيب الأحكام ـ ج ٢ ـ ص ١٤٠.

٣٠٣

غير ذلك من الطوارئ والعوارض ، وهذا معنى الإطلاق الشمولي. واما إطلاق المادّة فهو عبارة أخرى عن تعلق التكليف بالطبيعي ، ولازمه كون المكلف مخيرا في تطبيقه على أي فرد من افراده شاء.

واما الكبرى : فقد تبع المحقق النائيني شيخنا الأنصاري ، فما ذهب إليه من تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي عند دوران الأمر بينهما أوضحه بتوجيهات ثلاثة :

أحدهما : انه لو قال المولى : «أكرم عادلا» وقال أيضا : «لا تكرم فاسقا» تكون النسبة بينهما عموما من وجه ، وحيث انّ إطلاق الأول بدلي ، لأنّ الحكم المستفاد منه واحد ، وهو إكرام طبيعي العالم والمكلف مخير في تطبيقه على أي فرد أراد ، وإطلاق الثاني شمولي يعم جميع افراد الفاسق بنحو الاستيعاب ، فالحكم واحد صورة ومنحل لبّا إلى أحكام عديدة بحسب ما للفاسق من الافراد ، فلا محالة يقيّد الإطلاق البدلي ويبقى الإطلاق الشمولي على حاله ، وذلك لأنه لو انعكس الأمر لزم رفع اليد عن الحكم وتخصيص المطلق الشمولي في بعض افراده ورفع اليد عن مدلوله ، وهو على خلاف القاعدة ولا يصار إليه إلّا لضرورة ، وهذا بخلاف ما ذكر فانه لا يلزم منه محذور ، إذ لم يكن الحكم في المطلق البدلي متعددا وانما كان دائرته قبل التقييد موسعا ويضيق بعد ذلك من دون ان يتصرف في مدلوله.

وفيه : أولا : انّ للمطلق البدلي في المقام دلالتان ، دلالة مطابقية ودلالة التزامية ، امّا الدلالة المطابقية فهي إيجاب المادّة على المكلف ، واما مدلوله الالتزامي فهو ثبوت الترخيص الشرعي للمكلف في تطبيقه المأمور به على أيّ فرد من افراد الطبيعي شاء. فانّ هذا الترخيص أيضا شرعي مستفاد من إطلاق الدليل في مقام الإثبات وعدم تقييد الطبيعي بخصوصية خاصة.

فانّ الأمر المتعلق بالطبيعي وان كان لا بدّ في امتثاله من إيجاد الطبيعة في ضمن

٣٠٤

خصوصية ما ، لاستحالة إيجادها خالية عن جميع الخصوصيات ، إذ الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، إلّا انّ تلك الخصوصية التي وجد في ضمنها الطبيعي لا تكون دخيلة تحت الأمر ، ولذا يمكن ان يتعلق تكليف بالخصوص والخصوصية من الوجوب كما في ما لو نذر المكلف إيقاع الفريضة في المسجد ، والحرمة كما في الصلاة في الدار المغصوبة ، أو الكراهة أو الاستحباب على ما تقدم توضيحه في باب الكراهة في العبادات ، أو الإباحة بالمعنى الأخص الاصطلاحي وهي الترخيص الشرعي.

والترخيص فيما نحن فيه ـ أي ترخيص المكلف به على أي فرد شاء ـ مستفاد من إطلاق المادة بالدلالة الالتزامية عن عدم تقيدها بخصوصية خاصة ، وإطلاقها من هذه الجهة شمولي لا بد لي لأنه سار إلى جميع الافراد والخصوصيات فالترخيص المستفاد منه منحل إلى ترخيصات عديدة.

وعليه فرفع اليد عن إطلاق المادّة وتقديم المطلق الشمولي على البدلي وان لم يستلزم التصرف في مدلوله المطابقي إلّا انه مستلزم للتصرف في مدلوله الالتزامي ، فانّ شموليته كانت تقتضي جواز تطبيق طبيعي المأمور به على ذاك الفرد.

وثانيا : لو أغمضنا عن هذا المدلول الالتزامي أيضا وقلنا بأنّ الترخيص في التطبيق في المقام عقلي لا شرعي. نقول : كما انّ تقديم المطلق البدلي على الشمولي كان مستلزما للتصرف في مدلول المطلق الشمولي كذلك العكس مستلزم للتصرف في مدلول المطلق البدلي ، فانه كما يكون ظاهر المطلق الشمولي هو السريان وانحلال الحكم إلى جميع الافراد ، كذلك المطلق البدلي ظاهر في تعلق الحكم بنفس الطبيعة على سعتها الغير المقيدة بقيد القابلة للانطباق على جميع الافراد ، ورفع اليد عن ذلك مخالف لظاهره وموجب لرفع اليد عن سعته التي كانت مدلولا له ، وكلا الظهورين في عرض واحد.

٣٠٥

نعم لو كان أحد الظهورين أقوى من الآخر بان كان أحدهما بالوضع والآخر بمقدمات الحكمة قدم الأول على الثاني بلا كلام ، وهذا بخلاف ما إذا كان كل من الإطلاقين بمقدمات الحكمة.

وان كان أحدهما شموليا دون الآخر فانّ تقديم كل منهما يستلزم التصرف في الآخر ، امّا بالتخصيص الأفرادي ، وامّا بالتخصيص الأنواعي وتضييق دائرة الحكم كما في تقديم المطلق البدلي على الشمولي.

فهذا الوجه ليس بشيء.

الوجه الثاني : انّ الحكم في المطلق الشمولي ينحل إلى أحكام عديدة بعد تمامية مقدمات الإطلاق فيه ، فتكون هناك أحكام عديدة أداها المولى ببيان واحد.

وامّا في المطلق البدلي فالحكم متعلق بالطبيعة الملغى عنها جميع الخصوصيات ، وعليه فالعقل يرى تساوي اقدام الافراد من حيث الوفاء بغرض المولى ، فيحكم بالتخيير. فحكم العقل بالتخيير انما هو بعد إحرازه التساوي ، ومن الواضح انّ المطلق الشمولي يصلح للقرينية وإثبات عدم تساوي مورد الاجتماع مع بقية الافراد في الوفاء بالغرض والملاك ، ومعه كيف يحكم بالتساوي أو بالتخيير في تطبيق الطبيعي المأمور به عليه؟!

وفيه : انّ الترخيص في المقام شرعي لا عقلي ، والحاكم بالتساوي هو نفس إطلاق الدليل ، والشاهد عليه انه لو قال : «أكرم عادلا» وتعلق الحكم بالطبيعي الملغى عنه الخصوصيات فشك في جواز تطبيقه على فرد خاص أو قال : «أعط الخمس للسيد» فشك في جواز تطبيقه على السيد الفاسق وعدمه وانّ العلوي الفاسق وأف بالملاك أم لا؟ فنفس إطلاق الخطاب يكفي في ثبوت الترخيص وتساوي اقدام الافراد في الوفاء بغرض المولى ، وعليه فكما انّ مقتضى الإطلاق البدلي وفاء الفرد الّذي هو مورد الاجتماع بالملاك كذلك مقتضى الإطلاق الشمولي

٣٠٦

عدم وفائه بذلك ، فتقع المعارضة بينهما لا محالة ، ولا وجه لتقديم أحدهما على الآخر كما تقدم.

الوجه الثالث : انّ الأمر في المطلق البدلي متعلق بالطبيعة المعراة عنها الخصوصيات الفردية ، فتعم كل واحد من الافراد بنحو البدلية ، وظهوره في ذلك متفرع على عدم ثبوت مانع من شموله لبعض الافراد ، والمطلق الشمولي صالح للمانعية عن شموله لمورد الاجتماع لسريانه ، بخلاف العكس ، فانّ حجّية المطلق الشمولي في الإطلاق غير متوقّفة على عدم المطلق البدلي وإلّا لدار. فالتوقف يكون من المطلق البدلي على الشمولي لا العكس ، فمن هذه الجهة نقدم الإطلاق الشمولي على البدلي.

وفيه : ما تقدم ، ونزيده وضوحا : انه ان أريد من التوقف توقف الحكم المستفاد من المطلق البدلي وهو الوجوب ثبوتا على عدم الحكم المستفاد من المطلق الشمولي وهو الحرمة ثبوتا ، بمعنى انّ ثبوت الوجوب لفرد متفرع على عدم حرمته واقعا فهو غير تام. وذلك لأنه وان سلّمنا تضاد الأحكام الخمسة إلّا انه ليس بين ثبوت كل حكم وعدم الآخر ترتب ، ولا توقف أصلا ، بل كل حكم مع عدم الآخر يكونان في مرتبة واحدة.

وان أريد من التوقف انّ حجّية الظهور في المطلق البدلي متوقفة على عدم المانع الإثباتي عنها ، بمعنى انّ حجّية الظهور فيها ما دامية فمتى قامت أمارة على الخلاف سقطت عن الحجّية في الظاهر ، فهو في محله وان كان تاما ، إذ حجّية كل ظهور متوقفة على عدم قيام أمارة على خلافه ، وقيامها على خلافه يوجب سقوط حجّيته لو كانت منفصلة وعدم انعقاد الظهور له إذا كانت متّصلة ، بداهة انّ أصالة العموم متفرعة على عدم وجود الخاصّ ، وأصالة الإطلاق فرع عدم وجود المقيد. إلّا انّ الكلام في مانعيّة المطلق الشمولي عن المطلق البدلي دون العكس ، إذ بعد ما

٣٠٧

عرفت من كون الإطلاق في كل منهما مستفادا من مقدمات الحكمة فلا ترجيح لأحدهما على الآخر أصلا ، كما انّ نسبة المقيد إلى كل منهما نسبة واحدة.

فتحصل مما ذكر انّ في امتثال المقام لا يمكن تقديم أحد الإطلاقين على الآخر ، والوجوه التي ذكرت لا تثبت شيئا ، فبعد قيام العلم من الخارج على تقييد أحد الإطلاقين حيث انّ القرينة منفصلة على ما هو المفروض يسقط كلا الإطلاقين عن الحجّية.

ومنه يعلم انّ ما أفاده النائيني وصاحب الكفاية من انه لو وقعت المعارضة بين العام والمطلق قدم العام ، لأنّ دلالته بالوضع بخلاف دلالة المطلق فانّ ظهوره انما هو بمقدمات الحكمة التي لا تجري فيما إذا كان العام قابلا للبيانية غير صحيح وذلك لأنّ صاحب الكفاية ذهب إلى انّ أداة العموم لا تدل إلّا على تسرية الحكم إلى افراد مدخوله ، ولا تكون متكفلة لإثبات ما أريد من المدخول سعة وضيقا إطلاقا وتقييدا. فقولنا : «أكرم كل عالم» لا يدل إلّا على وجوب إكرام كل فرد من افراد ما أريد من الدخول ، فان أراد المتكلم منه مطلق العالم فالعموم يسري إلى جميع افراده ، وهكذا. فإطلاق المدخول لا بدّ وان يستفاد من مقدمات الحكمة ، وامّا نفس الأداة فلا تكون متكفلة لذلك ، هذا هو الّذي ذكره في باب العام والخاصّ (١) ، وارتضاه النائيني قدس‌سره.

وعلى هذا فكون العموم مستفادا من مقدمات الحكمة امر مشترك بين العموم والإطلاق ، وعليه فلا وجه لتقديم العام على المطلق فيما إذا وقعت المعارضة بينهما ، إذ ليست المعارضة حينئذ إلّا بين إطلاقين كما هو واضح ، وهو إطلاق مدخول أداة العموم وإطلاق المطلق ، وليس بينه وبين نفس أداة العموم معارضة أصلا. بداهة انّ

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٣٣٤.

٣٠٨

اجتماع الحكمين المتضادين الّذي هو منشأ المعارضة انما يلزم من إطلاق المدخول ، ولو كان مقيدا لم يلزم ذلك أصلا ، فطرف المعارضة هو ذلك لا العموم ، فلا وجه للتقديم.

نعم بناء على المختار من أنّ أداة العموم بالوضع تدل على إطلاق المدخول وسعته وانها موضوعة لذلك ، فلو قال المولى «أكرم كل عالم» وأريد من العالم خصوص الفقهاء لكان مستعملا للفظ في غير ما وضع له ، وكان غلطا ، فأداة العموم تدل بالوضع على ما كان نتيجة الإطلاق من إطلاق المدخول وعمومه ، يكون ما ذكراه وجيها ، إذ دلالة العام على تسرية الحكم حينئذ تكون بالوضع بخلاف دلالة المطلق عليه ، فانها تكون بمقدمات الحكمة ، فيكون العام بيانا بالإضافة إلى المطلق دون العكس ، ولعلّه إلى هذا أشار الشيخ قدس‌سره بقوله في باب العام : «انّ دلالة العام تنجيزية ودلالة المطلق تعليقية».

هذا كلّه في الكبرى.

واما الصغرى وتطبيق هذه الكبرى على ما نحن فيه على فرض تسليمه ، فالظاهر انها غير منطبقة عليه ، وذلك لأنّ التنافي في المطلقين في غير المقام انما كان بين نفس الدليلين غايته في بعض مدلوليهما لعدم إمكان الجمع بينهما لاستحالة الحكم بوجوب إكرام العالم الفاسق وحرمته فلم يكن مناص من رفع اليد عن أحدهما.

واما في المقام فلا تنافي بين إطلاق الهيئة وإطلاق المادة أصلا ، وانما التنافي حصل من الخارج ، ونسبته إلى كل منهما نسبة واحدة.

وبعبارة أخرى : في ما تقدم كان التنافي بين نفس الإطلاقين ، ومن تنافيهما ذاتا علمنا بأنّ أحد الإطلاقين غير مراد في مقام الثبوت ، فلم يكن لنا بد من تقديم أحد الإطلاقين على الآخر بترجيح الأظهر ، أو رفع اليد عنهما معا.

واما فيما نحن فيه فليس بين نفس الإطلاقين تناف أصلا ، وانما المنافاة بينهما

٣٠٩

ناشئة من العلم الخارجي لورود المقيد على أحدهما فيعلم منه عدم إرادة كلا الإطلاقين. ومن الواضح انّ نسبة العلم الإجمالي إليهما على حد سواء ، وأقوائية أحدهما في الظهور لا توجب تقدمه على الآخر ، إذ لم يكن التعارض بين الظهورين كي يتقدم الأظهر على الظاهر ، مثلا لو ورد من المولى «أكرم زيدا» ثم نقل عنه «أكرم عالما» بنحو العموم البدلي وعلمنا من الخارج إجمالا بكذب أحد الدليلين ، أو انه لم يرد الظاهر من أحد الخطابين واما استعمل لفظ زيد في غير معناه مجازا أو لم يرد الإطلاق من المطلق. فلا وجه لتقديم ظهور لفظ زيد في معناه ، ورفع اليد عن إطلاق المطلق لأقوائيته حيث انه بالوضع لا بمقدمات الحكمة ، وهكذا لو علمنا بطهارة أحد الإناءين وجدانا وحكمنا بطهارة الإناء الآخر بقاعدة الطهارة ثم علمنا إجمالا بنجاسة أحد الإناءين فلا وجه لرفع اليد عن طهارة الإناء التي كان مستند طهارته هو القاعدة ، لأقوائية العلم الوجداني عن القاعدة.

وكذا الحال لو علمنا إجمالا بإرادة خلاف الظاهر ، امّا من الدليل الحاكم وامّا من الدليل المحكوم مثل قوله عليه‌السلام «لا شك لكثير الشك» مع أدلة الشكوك ، فلا يتقدم ظهور الدليل الحاكم لكونه أقوى.

وبالجملة لا عبرة لأقوائية أحد طرفي العلم الإجمالي على الآخر في تقديمه عليه ، والوجه فيه واضح ، فانّ التعارض ليس بين نفس الظهورين وانما هو من جهة العلم الإجمالي ، ونسبته إلى أضعف الحجج وأقواها على حد سواء.

والمثال الواضح لذلك هو انّ البيّنة لا تعارضها اليد ، لأنها تتقدم عليه على كل حال ، فلو قامت البيّنة على عدالة زيد وحكمنا بقاعدة اليد بأنّ الدار الفلاني ملك عمرو ثم علمنا بكذب أحد الدليلين ومخالفته للواقع ، فلا وجه لتقديم البيّنة على اليد لكونها أقوى منه ، بل لا بدّ في ذلك من العمل بما يقتضيه العلم الإجمالي ، ومقتضى العلم الإجمالي فيما نحن فيه سقوط كلا الإطلاقين عن الحجّية بعد ثبوتها لفرض انفصال القرينة.

٣١٠

الواجب النفسيّ والغيري

وقد قسم الواجب إليهما ، وتظهر ثمرة البحث والتقسيم في بيان ما يقتضيه الأصل اللفظي أو العملي فيما إذا شك في كون واجب نفسيّا أو غيريّا مع سقوط ما وجب هذا الواجب لأجله على تقدير غيريته عن الوجوب لعجزه عنه ونحوه.

فانه لو كان الواجب نفسيا يكون باقيا على وجهه ، ولو كان غيريا لسقط وجوبه لا محالة لسقوط ذي المقدمة وما وجب لأجله عن وجوبه. وعلى أي حال يقع الكلام في مقامات ثلاثة :

الأول : في تعريف الواجب النفسيّ والغيري.

الثاني : فيما يقتضيه الأصل اللفظي عند الشك في الوجوب النفسيّ والغيري.

الثالث : فيما يقتضيه الأصل العملي.

أما المقام الأول : فالمشهور عرفوا الواجب النفسيّ بأنه ما وجب لا لواجب آخر ، والغيري بما وجب لواجب آخر.

وقد أورد على ذلك بأنّ لازمه ان تكون جل الواجبات بل كلها غير وجوب المعرفة غيرية بناء على مسلك العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، فانه عليه جميع الواجبات انما وجبت لترتب تلك المصالح الملزمة اللازم استيفائها عليها ، فهي واجبة لواجب آخر أعني استيفاء المصلحة. نعم يتم ذلك على مسلك الأشاعرة.

٣١١

وكأنّ المحقق الخراسانيّ (١) سلم الإشكال ولذا ، عدل عن تعريف المشهور إلى تعريف آخر وهو : انّ الواجب النفسيّ ما وجب لحسنه النفسيّ أي كان الداعي على إيجابه هو حسنه الذاتي وان كان مشتملا على المصلحة الملزمة أيضا. والواجب الغيري ما وجب لترتيب واجب آخر عليه كاستيفاء المصلحة الملزمة وكان الداعي على إيجابه ذلك وان كان حسنا ذاتا أيضا إلّا انّ الداعي على إيجابه لم يكن ذلك.

وفيه : انه ما المراد بالحسن الذاتي؟

فان أريد به الحسن الناشئ من ترتب الملاك والمصلحة عليه فهو عين المصلحة والواجب لأجله واجب غيري على ما ذكره.

وان أريد به حسن نفسي مستقل ، فأولا : أي دليل دل على اشتمال الواجبات النفسيّة على الحسن الذاتي زائدا على ترتب المصلحة عليها ، بل هو امر مقطوع العدم في غير الركوع والسجود من العبادات الذاتيّة الحسنة بالذات ولو لم تكن في البين مصلحة مترتبة عليها ، بداهة انه لا حسن في دفن الميت غير عدم انتشار جيفته ، وهكذا في غسله.

وثانيا : بناء على ذلك لا يبقى في البين واجب متمحض في النفسيّة ، بل جميع الواجبات النفسيّة تكون مرددة بين النفسيّ والغيري ، وذلك لوجود كلا الملاكين فيها ، أي ملاك الوجوب النفسيّ وهو الحسن الذاتي ، وملاك الوجوب الغيري وهو ترتب المصلحة عليها. ولا معنى لأن يجعل المولى داعيه لإيجابه الحسن الذاتي مع وجود الملاك الآخر التام للداعوية فيها ، فانه ترجيح بلا مرجح ، ولا يمكن الالتزام بذلك.

فهذا التعريف أيضا مخدوش ، فنرجع إلى تعريف المشهور فنظر في انه هل

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ١٧٢.

٣١٢

يترتب عليه المحذور المتقدم أم لا؟

وقد أجاب المحقق النائيني (١) عن الإشكال بما حاصله : ان الأحكام وان كانت تابعة للمصالح أو المفاسد في متعلقاتها إلّا انّ نسبة تلك المصالح إلى الواجبات ليست نسبة المسببات إلى أسبابها ، والمعلولات إلى عللها التامّة لتكون مقدورة للمكلف ولو مع الواسطة ، بل نسبتها إليها نسبة المعاليل إلى عللها المعدّة ، بداهة عدم ترتب الانتهاء عن الفحشاء على مجرد الصلاة ، بل تتوسط في ذلك إرادة الغير ، نظير زرع الحنطة وصيرورتها سنبلا ، فانه يتوسط بينه وبين فعل الزارع أمور خارجة عن اختيار الزارع ، ومن ثم يقبح تكليف الزارع بذلك واستشهد على ذلك بظواهر أدلة الواجبات وتعلق الأمر فيها بالافعال دون المصالح المترتبة عليها مع انها لو كانت مقدورة لكان تعلق الأمر بها ابتداء أولى. وعليه فلا يمكن تعلق الإيجاب بالمصالح لتكون الأفعال الخارجية واجبة لواجبات أخر.

ثم انه أنقض على تعريف المشهور بالواجبات التهيئية المعبر عنها بالواجب للغير ، كالغسل الواجب على الجنب ، والحائض في الليل لمن يجب عليه صوم غده فانها واجبة لواجب آخر.

هذا ونقول : ما ذكره من الجواب ومن النقض كلاهما غير تام.

اما جوابه : فلأنه انما يتم لو كان الداعي على الإيجاب هو الغرض الأقصى ، وليس كذلك ، بل الداعي لذلك ليس إلّا الغرض الأدنى الّذي يترتب على الفعل لا محالة وهو الاعداد والتهيؤ لترتب المصلحة القصوى ، ونسبته إلى العمل نسبة المسبب إلى سببه ، والمعلول إلى علته التامة فيكون مقدورا للمكلف بالواسطة ، فيعود المحذور.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ١٦٧.

٣١٣

واما نقضه ففيه :

أولا : انّ ظاهر تعريف المشهور بأنّ الواجب الغيري ما وجب لواجب آخر ان يكون ذو المقدمة أيضا واجبا في عرض وجوب المقدمة ، بل يترشح الوجوب منه إليها ، فلا يعم الواجبات التهيئة المتقدم وجوبها على وجوب ذيها.

وثانيا : لا مانع من دخولها في التعريف بعد ما عرفت من انّ الغرض من هذا التقسيم ليس مجرد الاصطلاح ، وانما هو الأثر المترتب على ذلك عند الشك في الوجوب النفسيّ والغيري مع سقوط وجوب ذي المقدمة. فانه لو كان مقتضى الأصل اللفظي أو العملي الوجوب النفسيّ لبقي وجوب ذاك الواجب ، وإلّا لسقط ، فانّ هذه الثمرة تجري في الواجب للغير أيضا ، فلا مانع من دخوله في مورد البحث وان لم يعبر عنه اصطلاحا بالواجب الغيري.

فالصحيح : في الجواب عن أصل الإشكال هو انه بناء على القول بأنّ الأمر المتعلق بالمسبب بنفسه متعلق بالسبب كما ذهب إليه بعض فلا إشكال كما هو ظاهر.

واما بناء على المعروف من انّ العلّة والمعلول وجودان مستقلان وانّ الأمر المتعلق بكل منهما لا يكون امرا بالآخر كما هو الصحيح ، ففيما نحن فيه نقول : انّ الغرض الأدنى المترتب على الفعل الواجب وان كان اختياريا للمكلف إلّا انه مضافا إلى العلم الوجداني بعدم تعلق التكليف بالأغراض والمصالح ، حيث انها مما لا يلتفت إليها ولا يعرفها عامّة الناس ، بل لا يعرف حقيقتها إلّا المعصومون لا يعقل تعلق التكليف بها ، إذ لا يفهم البدوي إيجاد ما هو معد ومهيئ للانتهاء عن الفحشاء ، فانه يعتبر في متعلق التكليف ان يكون مما يعرفه عامة المكلفين ، فاذن لا يكون استيفاء المصلحة الملزمة واجب شرعا ليكون إيجاب سببه لذلك الواجب ، فلا إشكال أصلا.

هذا ويمكن ان نقول : انه بناء على مسلك الأشاعرة من عدم ثبوت مصلحة في

٣١٤

الواجبات فانتفاء الإشكال يكون من السالبة بانتفاء الموضوع. وامّا على مسلك العدلية من التبعية فنعرف الواجب النفسيّ بأنه : «ما وجب لغرض في غيره مترتب عليه» والواجب الغيري بأنه : «ما وجب لغرض في غيره مترتب على الغير».

المقام الثاني : لا ريب في انه لو كان لدليل الواجب إطلاق فمقتضاه هو النفسيّة. كما ان مقتضى إطلاق الهيئة هو العينيّة والتعيّنية على ما تقدم الكلام فيه. وقد نسب إلى الشيخ قدس‌سره إنكار التمسك بالإطلاق لإثبات النفسيّة ، ولعل منشأه على تقدير صحّة الإسناد هو المنشأ لما نسب إليه أيضا من إنكار الواجب المشروط ، بدعوى انّ مفاد الهيئة من المعاني الحرفية التي هي غير قابلة للإطلاق والتقييد ، وقد ذكرنا في ما تقدم عدم تمامية الإسناد ، وانّ الشيخ قائل بالواجب المشروط كما يظهر من كلماته قدس‌سره في رسائله ومكاسبه.

وعلى أي تقدير لو كان ما نسب إليه من إنكار الواجب المشروط ثابتا أيضا لا يمكننا المساعدة على ما أسند إليه في المقام ، وذلك لأنّ الشيخ لا يمكنه إنكار الواجب الغيري مع كثرة المقدمات ، والالتزام بوجوبها النفسيّ المستلزم لتعدد العقاب عند تركها كما ترى ، فلا مناص له من تصوير الواجب الغيري ، وحينئذ نقول : ما المائز بين الوجوبين في نظر الشيخ في مقام الإثبات بعد وضوح المائز بينهما ثبوتا على أي تعريف؟

وما يمكن استفادة الوجوب الغيري منه انما هو أحد امرين على سبيل منع الخلو :

اما تقييد الواجب بقيد كما لو قال المولى «صلّ عن طهارة» فيستفاد منه وجوب ذاك القيد غيريا ، ولو كان لوجوبه دليل آخر أيضا فانه يقيد إطلاقه بذاك الدليل المقيد ، لو لم نحتمل تعدد الوجوب ، فانّ مثبتات الأصول اللفظية حجّة.

واما تقييد الوجوب وتعليقه على وجوب آخر كما في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ

٣١٥

إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ...)(١) ، أي إذا وجبت الصلاة. والتقييد في مثل ذلك يكون في مفاد الهيئة على المختار وفي المادّة المنتسبة على مسلك الميرزا قدس‌سره وفي المادّة على ما نسب إليه الشيخ غايته بنحو لا يجب تحصيل القيد.

وفي المقام القيد وهو الإيجاب غير مقدور للمكلف دائما ، فلو ثبت أحد التقيدين يثبت الوجوب الغيري لا محالة ، وامّا لو لم يتحقق تقييد الواجب ولا تقييد الوجوب بأحد المعاني المزبورة فيستفاد من إطلاق أحدهما ان لم يكن الآخر مطلقا بان كان مهملا لا مقيدا أو من إطلاق كليهما الوجوب النفسيّ. فإنكار إمكان التمسك بالإطلاق لإثبات الوجوب النفسيّ مما لا يمكن على جميع التقادير والأقوال.

المقام الثالث : لو لم يكن للفظ إطلاق أو كان دليل الوجوب لبيا ، فهل مقتضى الأصل النفسيّة أو الغيريّة؟

ذهب المحقق الخراسانيّ قدس‌سره إلى الثاني بدعوى انه من الشك في التكليف ، فيكون موردا للبراءة.

وأشكل عليه النائيني قدس‌سره بما حاصله : انّ المقام يكون نظير الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، فالشك فيه يكون موردا للاشتغال ، لأنّ تعلق التكليف الجامع بين النفسيّ والغيري به معلوم ، فلا مجال فيه للبراءة.

ونقول : الظاهر انّ مورد كلام الآخوند مغاير لمورد كلام الميرزا ، وكل من القولين صحيح في مورده ، بيانه : انّ الشك في الوجوب النفسيّ والغيري له صورتان : فانه تارة : يكون الشك في ذلك مع علم المكلف بكونه فاقد لبعض شروط وجوب ذي المقدّمة ، كما لو شكت الحائض في انّ وجوب الوضوء نفسي أو غيري مقدمة للصلاة التي سقط وجوبها عنها قطعا لانتفاء شرطه وهو الطهر ، ففي

__________________

(١) المائدة ـ ٦.

٣١٦

هذه الصورة يتم ما ذكره الآخوند ، فانه ليس للمكلف علم بتوجه تكليف إليه بالقياس إلى الوضوء ، فتجري البراءة بالإضافة إليه.

وأخرى : لا يكون المكلف فاقدا لشرط وجوب ذي المقدمة إلّا انّ وجوبه المحتمل ثبوته غير واصل إليه ، كما لو فرضنا انه علم بوجوب المشي إلى السوق عليه لكنه تردد بين كونه نفسيا وكونه طريقيا لشراء اللحم الواجب ، وفي هذه الصورة يتم ما ذكره الميرزا النائيني ، وذلك لأنّ المكلف متيقن بتعلق الوجوب بالمشي إلى السوق غايته تردد بين النفسيّة والغيرية ، ووجوب ذي المقدمة وان لم يكن واصلا إليه ومنجزا عليه بل يكون موردا للبراءة إلّا انا قد ذكرنا في بحث الأقل والأكثر إمكان كون التكليف الواجب وأصلا ومنجزا من ناحية دون أخرى ، ففي موارد الشك في الأقل والأكثر تفويت الواقع من ناحية الأكثر أعني الجزء المشكوك لا يوجب العقاب لعدم تنجّزه من تلك الناحية.

وفي المقام أيضا كذلك تفويت الواجب النفسيّ من جهة الإخلال بهذه المقدمة موجب للعقاب ، بخلاف تفويته من جهة أخرى.

وحل المطلب ما ذكرناه هناك من انحلال حرمة الترك إلى الجهات ، فلا مانع من كون الترك من جهة حراما دون الترك من جهة أخرى.

وبعبارة أخرى : المشي إلى السوق في المثال واجب على كل تقدير يقينا ، ومعه لا مجال لإجراء البراءة عنه ، فلو تركه العبد فسأله المولى لم تركت ما كنت عالما بوجوبه؟ ليس له جواب ومؤمن عن ذلك.

وبعبارة أخرى : يعلم حين ترك المقدمة بأنه يخالف الواجب النفسيّ على التقديرين.

وان شئت فقل : حيث انّ ثبوت الوجوب الغيري مستلزم لثبوت الوجوب النفسيّ المتعلق بذي المقدمة فلا محالة يتولد من العلم بوجوب الشيء مرددا بين

٣١٧

النفسيّ والغيري علم إجمالي آخر وهو العلم بوجوب المقدمة نفسيا أو وجود ذيها كذلك ، وحيث انّ كلا من الطرفين في نفسه مورد للبراءة لا محالة تسقط فيهما بالمعارضة ، ونتيجته الاحتياط ولزوم الإتيان بكل منهما.

هذا ولكن المختار هو انحلال هذا العلم الإجمالي بالعلم بوجوب المقدّمة تفصيلا غايته مرددا بين كونه نفسيا أو غيريا ، وهذا نظير انحلال العلم الإجمالي في الأقل والأكثر بالعلم التفصيليّ لوجوب الأقل على كل تقدير مرددا بين ان يكون ضمنيا أو استقلاليا ، فمن قال بالانحلال هنا يقول به في المقام ، ومن قال بأنه لا ينحل بذلك لا يقول به في المقام أيضا.

ومن هذه الجهة ذكرنا انّ ما نحن فيه يكون نظير الشك في الأقل والأكثر ، ونتيجة الانحلال هو وجوب الإتيان بالمقدمة فقط ، فعلى أي حال لا تصل النوبة إلى البراءة عن وجوبها كما هو واضح.

وهناك صورة ثالثة للشك في الوجوب النفسيّ والغيري ، وهي ما إذا علم المكلف بوجوب شيئين وتردد امر أحدهما بين كونه واجبا نفسيا أو غيريا. وبعبارة أخرى شك المكلف في تقيد أحد الواجبين بالآخر.

وقد ذهب الشيخ والميرزا قدس‌سرهما إلى جريان البراءة عن التقييد في ذلك.

والتحقيق انه يكون لهذه الصورة أقسام :

القسم الأول : ان يعلم المكلّف باتحاد الوجوبين من حيث الإطلاق والاشتراط وتلازمهما في ذلك كما في وجوب الوضوء والصلاة المستفاد من قوله عليه‌السلام : «إذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة» وحيث انّ المكلف في هذا القسم يعلم إجمالا بوجوب الوضوء نفسيا ، أو تقيد الصلاة به ، وكل من الخصوصيّتين في نفسه مورد للبراءة ، فلا محالة تسقط البراءتان بالمعارضة ، فلا بدّ من الاحتياط العقلي حيث لا رافع لاحتمال التقيّد.

٣١٨

القسم الثاني : ان يكون أحدهما مطلق والآخر مقيّد ، كما لو علمنا بأنّ الوضوء لو كان واجبا نفسيا فهو مطلق بالقياس إلى خارج الوقت وداخله ، وان كان غيريا فوجوبه مقيد بدخول الوقت وقبله ليس بواجب ، والاجتزاء بغير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل.

وذهب النائيني قدس‌سره في هذا الفرض إلى جريان البراءة عن النفسيّة التي لازمها الإطلاق ، فيرد عليه : انّ البراءة انما تجري عن التضييق لا عن الإطلاق والتوسعة ، فلا وجه لما أفاد.

فالصحيح انّ العلم الإجمالي المتعلق بالوجوب النفسيّ أو التقيد بما بعد الوقت يمنع عن جريان البراءة عن كل من الأمرين ، فتصل النوبة إلى الاشتغال لا محالة.

القسم الثالث : ما إذا كان أحد الوجوبين على تقدير ثبوته مقيدا بالوقت والآخر بقبل الوقت ، كما لو فرضنا انّ الوضوء لو كان واجبا نفسيا فهو مقيد بما قبل الوقت ، وان كان غيريا فهو مقيد بما بعد الوقت.

وفي هذا الفرض أيضا تقع المعارضة بين البراءة عن كل من التقييدين بعد العلم الإجمالي ، فتسقط ، فلا بدّ من الاشتغال بالإتيان بوضوءين أحدهما في الوقت والآخر قبل دخوله.

هذا ملخّص الكلام في أقسام الشك في الغيريّة. وقد عرفت انّ المرجع في بعضها هو البراءة كما في الصورة الأولى ، وفي جملة منها الاشتغال كما في بقيّة الصور.

ثم لا ريب في ترتب الثواب على امتثال الوجوب النفسيّ وترتب العقاب على مخالفته ، إلّا انه ليس المراد من استحقاق الثواب ان تكون الإثابة واجبة على المولى ، بداهة انّ العقل يلزم العبد بالقيام بوظيفة العبودية ، فهو من وظائفه ، مضافا إلى انّ ما أتى به العبد وامتثاله من تكاليف المولى ، لا يساوي بعض ما أنعم المولى عليه في الدنيا فكيف يطالب به الثواب من المولى بل المراد من استحقاق الثواب

٣١٩

الأهلية بمعنى ان المولى ، إذا أثاب العبد المطيع فقد وضع الثواب في محله ، بخلاف ما إذا أثاب العبد على فعل مباح فانه واقع في غير محله.

اما الواجب الغيري فقد وقع الخلاف في ترتب الثواب على امتثاله ، وفصل المحقق القمي في ترتب الثواب على امتثاله وترتب العقاب على مخالفته بين ما إذا كان الوجوب الغيري موردا لخطاب مستقل وما إذا لم يكن كذلك وعبر عنه بالوجوب التبعي.

ولكن الصحيح هو التفصيل بين ترتب الثواب على امتثال الوجوب الغيري وترتب العقاب على عصيانه ، والقول بترتب الأول دون الثاني وذلك : لأنّ العقاب انما يترتب على عصيان الوجوب النفسيّ سواء أتى بمقدماته كلا أو بعضا أو لم يأت ، كما انه لو فرضنا انّ المكلف امتثل التكليف النفسيّ من دون الإتيان بمقدماته لا يكون مستحقا للعقاب أصلا.

وهذا بخلاف استحقاق الثواب على إطاعته ، فانّ الواجب الغيري لكونه واقعا في طريق الإتيان بالواجب النفسيّ يمكن إضافته إلى المولى ، فالإتيان به بداعي طريقيته لما هو واجب نفسيا ، وليس كالمباحات الصرفة التي لا تكون قابلة للإضافة إلى المولى.

ومن الواضح انّ الثواب مترتب على ما يؤتي مضافا به إلى المولى ، فلا يعتبر في إضافته إليه قصد الأمر الغيري أصلا ، فلا وجه لما ذكره في الكفاية من انّ الأمر الغيري لا يكون مقربا فكيف يكون الواجب الغيري مقربا إلى المولى.

وبما ذكرنا ظهر انّ الثواب يترتب على الإتيان بمقدمة الواجب بداعي وقوعه في طريق إتيان الواجب النفسيّ سواء قلنا بوجوب المقدمة شرعا أم لم نقل به ، كما هو الصحيح على ما نبيّنه إن شاء الله. لما عرفت من انّ ترتب الثواب على امتثاله ليس من جهة قصد امره الغيري.

٣٢٠