دراسات في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

بمنشإ انتزاعها.

واما ان أريد بها مقولة الإضافة ، كعنوان الفوق والأكبر والأصغر والأبوّة والبنوّة ، وأمثال ذلك مما هي من المقولات الحقيقية ، ويكون لها وجود مستقل ، وهي خصوصيات ثابتة في محالها غايته انّ وجودها أضعف من وجود سائر المقولات ، غير وجود الهيولى ، فانه أضعف من وجود مقولة الإضافة المتقومة بذاتها بطرفين ، فهي متحققة سواء كان هناك عاقل ومعتبر أم لم يكن ، فالسماء متصف بالفوقية المنتزعة من كون الشيء في جهة العلو حقيقة ولو لم يكن معتبرا أصلا ، وهكذا الأرض متصفة بالتحتية ، والجبل أكبر من النملة ، وهكذا سواء كان مدرك أم لم يكن.

فالعقل في هذه الموارد يدرك الأمر الواقعي ، لا انه يعتبر الفوقية أو التحتية أو الكبر والصغر ، ومن هذه الجهة تعد الإضافة من المقولات الحقيقية ، فالأمر بهذه العناوين يكون امرا بذواتها ، وتكون أطرافها مقدمة لتحققها خارجا.

واما المقدمة الثانية : وهي بيان الصغرى وتطبيق الكبرى على المقام ، فقد عرفت انّ التقيد أمر واقعي ، وليس منتزعا من القيد ، وانما القيد مقدمة لحصوله ، ومن ثم يمكن الأمر بالمقيد مع عدم قدرة المكلف على إيجاد القيد فيما إذا كان إيجاد المقيد ممكنا كالأمر بالصلاة في الوقت أو إلى القبلة ، مع انه على ما أفاده يستدعي ذلك الأمر بما لا يطاق.

هذا مضافا إلى انّ لازم ما ذكره قدس‌سره ان لا يكون في البين فرق بين الجزء والشرط ، لأنّ الجزء ما هو دخيل في المركب قيدا وتقيدا ، والشرط ما يكون دخيلا فيه تقيدا لا قيدا ، وعلى ما أفاده يلزم ان يكون جميع الشروط أيضا دخيلة في المركبات قيدا أيضا.

على انه قدس‌سره فرّق بين الجزء والشرط في خروج الأول عن حريم النزاع بخلاف

٢٦١

الثاني ، وبناء على ما ذكره لم يبق فرق بينهما أصلا ، فما أفاده غير تام ، فليس ذات القيد مما تعلق به الأمر النفسيّ ، وعليه فيحصل الامتثال قبل حصول الشرط ، غايته يكون مراعى من حيث الكشف ، فيعود الإشكال.

٣ ـ والتحقيق ان يقال : في حل الإشكال انه ليس المراد من شرط الواجب معناه الاصطلاحي ، وانما المراد منه ما يكون الواجب مقيدا ومربوطا به من دون ان يكون للشرط تأثير فيه أو في وفائه بالغرض أو في ترتب المصلحة عليه ، وانما الواجب هو الحصّة الخاصة من الطبيعي ، ومن الواضح انّ التحصص كما يحصل بتقيد المأمور به بالأمور المقارنة يحصل بالأمور السابقة واللاحقة أيضا. مثلا القيام له صنفان ، وينقسم إلى القيام الملحوق بالمطالعة ، والقيام الغير الملحوق بها ، فيمكن ان يكون خصوص الصنف الأول وافيا بالغرض والمصلحة دون ان يكون لثبوت القيد في ظرفه دخل في ذلك أصلا حتى بنحو المقدمة ، فانّ السبق واللحوق لهما خصوصية من بين سائر أنواع الإضافات ، فيتحقق كل منهما حقيقة مع عدم تحقق الآخر. مثلا الآن الأول سابق على الآن الثاني ومتصف بالسبق واقعا قبل وجود الآن الثاني ، وهكذا العكس.

والمقام من هذا القبيل ، فصوم المستحاضة يكون ملحوقا بالغسل حقيقة من أول تحققه فيما لو أتت المرأة بالغسل في الليل ، فالغسل انما يكون كاشفا عن ملحوقية الصوم به ليس إلّا ، نظير اشتراط خياطة الثوب في ضمن البيع مثلا ، فانّ الإتيان به في ظرفه يكشف عن صحّة البيع ونفوذه من أول الأمر.

توضيح ذلك : انّ ما يتصف ذاتا بالسبق واللحوق انما هو التدريجيات كأجزاء الزمان الغير القابلة للاجتماع في الوجود ، وانما ينعدم منها جزء ثم يوجد الجزء الآخر ، فالجزء الأول متصف بالسبق حقيقة ويكون متقدما على الجزء الثاني قبل تحققه.

٢٦٢

واما الأمور الزمانية كالأفعال ، فهي انما تتصف بالسبق واللحوق بالعرض ، ومن حيث تقيدها بالزمان السابق أو اللاحق ، فالفعل المقيد بكونه واقعا في الجزء الأول من الزمان حقيقة متصف بالتقدم بالإضافة إلى الجزء الثاني من الزمان وبالقياس إلى الزماني الآخر المقيد بالزمان الثاني ، ولا مانع من تقيد الفعل بالزمان المعبر عنه اصطلاحا بمقولة «متى» ، كما لا مانع من تقيده بالمكان المعبر عنه بمقولة «الأين» ، وعليه فكما يمكن ان يكون الفعل المقارن لزمان خاص كالصلاة المقارنة للزوال مثلا ، أو المسبوق بزمان خاص كالصلاة بعد المغرب ، أو الملحوق بزمان معين كالصلاة قبل المغرب وافيا بالغرض أو المصلحة ، كذلك يمكن ان يكون العمل المقارن لفعل خاص أو السابق عليه أو اللاحق به وافيا بالمصلحة ومتعلقا للأمر ، فيكون المطلوب حينئذ هو الحصة الخاصة من الطبيعي.

وان شئت فعبر عنها بالمشروط أو بالمقيد ، كالصوم المتعقب بالغسل في الليل من دون أن يكون للغسل دخل وتأثير في المأمور به وفي ترتب المصلحة عليه أصلا ، ولا نعني بالشرط في الواجب إلّا أخذ التقيد به في المأمور به ، ومن الظاهر انّ الصوم حقيقة يتصف بالتعقب من حين تحققه فيما إذا أتت المرأة بالغسل في الليل ، فلا يبقى حينئذ إشكال أصلا.

هذا كله في الشرط المتأخر بالقياس إلى الواجب.

واما بالقياس إلى الحكم كاشتراط الملكية الحاصلة بالبيع الفضولي بالإجازة المتأخرة فقد وقع الخلاف بين المحققين في إمكانه واستحالته ، وحيث انّ جملة من العلماء ذهبوا إلى استحالته لم يمكنهم الالتزام بالكشف الحقيقي في إجازة الفضولي ، فاختار بعضهم الكشف الحكمي ، وبعضهم القول بالنقل ، إذ لا يلزم فيه إشكال إلّا من حيث تقدم الشرط ، أعني العقد وانعدامه حين ثبوت الأثر ، وقد عرفت انه ليس في ذلك كثير إشكال ، كما نشاهد ثبوت مثله في الأمور التكوينيّة.

٢٦٣

وكيف كان فقد ذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله (١) إلى إمكان ذلك أيضا.

وقد أفاد في وجهه بما وحاصله : انّ الأمور الخارجية يستحيل دخلها بما هي خارجية في الأفعال الاختيارية وإلّا لخرجت عن الاختيارية فيما إذا كانت تلك الأمور خارجة عن الاختيار ، بل المؤثر في الفعل الاختياري انما هو الأشياء بوجوداتها العلمية ، أي لحاظها ، ولذا كثيرا ما يتخلف من الطرفين ، مثلا يكرم زيدا باعتقاده انه هو الّذي أكرمه سابقا والحال انه لم يكن ذاك الشخص ، وربما ينعكس الأمر ، فالمؤثر انما هو الوجود العلمي ، وكما يمكن تعلق العلم واللحاظ بالوجود المقارن يمكن تعلقه بالأمر السابق أو المتأخر ، مثلا يكرم زيدا بلحاظ انه كان قد أكرمه سابقا ، أو يكرمه باعتقاد انه يعطيه المال بعد ذلك ، ومن الواضح انّ الأحكام من الأمور الاختيارية ، فلا يؤثر فيها الأمور الخارجية ، وانما المؤثر فيها هو اللحاظ ، فيلحظ البيع المتعقب بالإجازة فيحكم بكونه موردا للملكية.

وبالجملة : ارجع صاحب الكفاية شرائط الحكم بأجمعها إلى شرطية اللحاظ ، بدعوى : استحالة دخل الأمور الخارجية في الأفعال الاختيارية سوى ما يكون دخيلا في القدرة عليها ، نظير دخل الحبل الخارجي في الاستقاء ، والشاهد عليه ما نراه من التخلف من طرفين.

ونقول : ما أفاده وان كان متينا في نفسه ، إلّا انه لا يرتفع به الإشكال ، وذلك لأنّ للحكم بأيّ معنى كان مقامين : مقام الجعل ، ويعبر عنه بمقام الإنشاء. ومقام المجعول المعبر عنه بمرحلة الفعلية.

والحكم في مقام جعله كما أفاده لا يعقل ان تكون الأمور الخارجية بوجوداتها الواقعية دخيلة فيه ، وانما المؤثر فيه هو الأمور النفسانيّة من التصور

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ١٤٦.

٢٦٤

واللحاظ والتصديق بالفائدة والعزم والجزم والإرادة ونحوها ، وتأثير تلك الأمور فيه تأثير حقيقي ، فإطلاق الشرط على لحاظ المتعلق بما له من القيود إطلاق حقيقي لا مسامحي فيلاحظ المولى الحج ، ويلاحظ المستطيع من حيث الزاد والراحلة وبقية الأمور ، فيجعل وجوب الحج على المستطيع ، وارتفاع ذلك لا يكون إلّا بالنسخ.

وهذا بخلاف الحكم في مقام الفعلية ، فانّ ما يكون دخيلا في فعلية الحكم انما هو تحقق موضوعه وما أخذ فيه خارجا ، كما انّ ارتفاعها يكون بارتفاعه ، ولا يكفي فيها مجرد اللحاظ ، ولذلك ترى انّ وجوب الحج مثلا يكون فعليا بالإضافة إلى من تحققت له الاستطاعة ولا يكون فعليا في حق غيره ، مع انّ نسبة اللحاظ إلى الجميع على حد سواء. على انه لو كان اللحاظ هو الموجب لفعلية الحكم لزم ان يكون وجوب الحج فعليا حين جعله قبل ألف وأربعمائة سنة تقريبا.

والحاصل : لا يعقل ان تكون نجاسة الملاقي للنجس فعلية قبل حصول الملاقاة ، كما لا يعقل فعلية حرمة شرب الخمر قبل وجوده في العالم ، ولا يعقل فعلية الحج قبل حصول الاستطاعة ، وانما تكون فعلية الحكم بفعلية موضوعه بماله من القيود.

ولا يخفى انّ التعبير بالموضوع في بعض الموارد وبالشرط في بعض الموارد الأخر وبالسبب في غير ذلك ليس مبنيا على ملاك ، ولم نفهم إلى الآن وجها لتعبيرهم بهذه العناوين في الموارد المختلفة ، ولذا يصح لك التعبير بأي منها شئت ، وسر ذلك واضح ، فانّ جميع هذه الأمور دخيلة في فعلية الحكم ، فلا مانع مع التعبير عنها بالموضوع ، أو بالسبب ، أو بالشرط.

وأوضح مثال يتضح به الفرق بين مرحلة الجعل ومقام المجعول ، ما إذا أوصى أحد ان يكون داره لزيد بعد موته ، فانّ الملكية في مقام الجعل قد تحققت بمجرد ذلك ، ولكن لا تثبت الملكية الفعلية لزيد إلّا بعد تحقق الموت ، فانّ المنشأ انما كان

٢٦٥

مقيدا بذلك.

إذا عرفت هذا نقول : جعل الشارع الملكية في التجارة عن تراض بقوله عزّ شأنه : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ)(١) فالملكية الجعلية تمّت بذلك ، ولكن لا معنى للقول بثبوت الملكية الفعلية قبل تحقق التجارة خارجا ، أو قبل حصول شرطها وهو التراضي ، فإذا وقع العقد الفضولي يستحيل ثبوت الملكية الفعلية قبل تحقق رضاء المالك الّذي فرض دخله فيها ، ومن هذه الجهة التزم المحقق النائيني بالكشف الحكمي في العقد الفضولي دون الحقيقي ، ورفع اليد عن ظاهر تلك الآية.

وتوضيح ما تقدم هو : انه تارة يكون الحكم مجعولا بنحو القضايا الخارجية الشخصية ، مثلا يلاحظ فقر زيد فيقول لعبده أعط زيدا درهما ، وأخرى يكون الحكم مجعولا بنحو القضايا الحقيقية بان يجعل الحكم على العنوان من دون ان يلحظ الخارج أصلا ، بل ربما يكون جاهلا أو غافلا بما ينطبق عليه ، مثلا يقول لا تدخل في سفرك على كافر مثلا مع انه لا يدري كيفية سفره ومنازله ومن يرد عليه في أثناء الطريق أصلا.

اما ما كان من قبيل الأول ، فليس له مرتبتان ، لأنه بنفس الجعل يكون فعليا لا محالة ، كما انه لا يكون للموجود الخارجي دخل فيه أصلا ، بل جميع مباديه تكون من الأصول النفسانيّة من اللحاظ ونحوه ، ولذا يكون انتفاء الشرط المتأخر فيه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع.

واما ما كان من قيل الثاني ، فنفس الجعل فيه لا يتوقف الا على لحاظ الموضوع بما له من القيود والخصوصيات ، واما فعليته فمتوقّفة على وجود

__________________

(١) النساء ـ ٢٩.

٢٦٦

موضوعه ، خارجا إذ لا معنى للبعث الفعلي من غير وجود المبعوث ، فيستحيل التخلف بينهما كما يستحيل تخلف العلّة عن المعلول وبالعكس.

وحيث انّ القيود المأخوذة في الحكم بأجمعها ترجع إلى الموضوع كما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره ففعلية الحكم تتوقف على فعلية قيود الموضوع وشرائطه أيضا ، مثلا كما لا يمكن فعلية الحكم المجعول بقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(١) بدون تحقق عقد خارجا هكذا تستحيل فعليته من دون تحقق التراضي أيضا.

وكيف كان فالنزاع في الشرط المتأخر للحكم انما هو في المرحلة الثانية كما صرح به في الفصول وغيره ، ولهذا مثلوا لذلك بالإجازة في بيع الفضولي ، وذهب جماعة ممن يرى استحالة الشرط المتأخر إلى الكشف الحكمي في ذلك دون الكشف الحقيقي.

تلخص من جميع ما ذكر انّ الوجه في استحالة الشرط المتأخر هو ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره من انّ كل قيد أخذ في الحكم يرجع إلى الموضوع لا محالة ، فإذا أمكن فعلية الحكم من دون تحقق شرطه لزم تحقق الحكم من دون فعلية موضوعه ، وهو نظير تحقق المعلول من دون حصول علّته التامة. وان شئت قلت : انّ الشرط المتأخر ان لم يكن دخيلا في الموضوع فهو خلف ، وان كان دخيلا فيه ومع ذلك تحقق الحكم الفعلي من دون تحققه يلزم فعلية الحكم مع عدم فعلية الموضوع.

والجواب عنه انّ فعلية الموضوع بقيوده وان كانت معتبرة في فعلية الحكم لأخذها مفروضة التحقق فيه ، إلّا انّ كيفية الأخذ مختلفة ، فانه كما يمكن أخذ بعض القيود مفروض التحقق في الحكم بنحو التقارن كما هو الغالب ، يمكن أخذ القيد

__________________

(١) النساء ـ ٢٩.

٢٦٧

مفروض الوجود في الزمان المتقدم أو في الزمان المتأخر.

وبعبارة أخرى : تارة يكون المفروض هو الوجود المتقدم ، وأخرى الوجود المقارن ، وثالثة الوجود المتأخر. ففي مرحلة الإمكان كل ذلك ممكن ، مثلا يحكم المولى بوجوب الحج متسكعا على من كان عاصيا للتكليف بالحج عن الاستطاعة في ظرفها ، ومن الواضح انّ العصيان امر حدث وانعدم في ظرفه ، وليس له بقاء حين إيجاب الحج متسكعا أصلا ، وهكذا من فات منه الصوم يجب عليه القضاء وان لم يكن الفوت مقارنا ، وكذلك الحال في جميع الأمور التي يكفي حدوثها لثبوت الحكم بقاء أيضا كالحد بالقياس إلى رد الشهادة أو عدم جواز الائتمام به ، إلى غير ذلك ، فإذا أمكن أخذ الأمر المتقدم وفرضه في الموضوع ، أمكن فرض تحقق الأمر المتأخر في ظرفه في الموضوع أيضا ، ومثاله الواضح عرفا انّ مالك الحمام يكون راضيا فعلا بدخول الرّجل في الحمام وتصرفه فيه إذا دفع الأجرة إليه بعد فراغه وحين خروجه من الحمام ، فتعلق رضائه بعنوان من يدفع الأجرة حين الخروج وعدم رضائه بمن لا يدفع ذلك ، ومثاله الواضح ما إذا أوصى الميت بدفع ثلثه إلى ولده الصغير إذا اشتغل بالتحصيل بعد بلوغه ، فانه يملك المال من حين موت الموصي لو كان محصلا حين بلوغه فيما بعد ، ولذا يدخل نماء ذلك المال في ملكه من حين موت الموصي ، وهذا الّذي ذكرنا تصويره في القضايا الخارجية يكون أوضح من القضايا الحقيقية.

وعلى أي حال فإذا كان الشرط مفروض الوجود في الزمان المتأخر فلا محالة يكون الحكم فعليا لو تحقق ذلك الشرط في ظرف وجوده.

هذا كله في مرحلة الإمكان.

واما في مقام الإثبات ، ففي جملة من الموارد لا بدّ من الالتزام بالشرط المتأخر ، لظهور الدليل في ذلك ، كما في موت المورث الّذي له ولد وهو حمل في بطن أمه ، فانه يرث أباه ، إلّا انه مشروط بان يولد حيا ، فإذا ولد حيا يكشف عن كونه

٢٦٨

مالكا من أول الأمر ولذا يملك نماء الإرث أيضا. ومن ذلك إسلام الوارث قبل قسمة الإرث ، فانه يملك من أول الأمر لو أسلم قبل القسمة.

وفي جملة من الموارد لا بدّ من الالتزام بذلك عقلا كما في الواجبات التدريجية كالصلاة والصيام ، فانّ الصلاة حيث انها مركبة من أمور تدريجية ارتباطية فوجوب الجزء الأول منها مشروط بحياة المكلف وقدرته على آخر جزء من اجزائه ، فلو مات في أول الوقت قبل مضي مقدار من الوقت يتمكن فيه من إتمام الصلاة يكشف ذلك عن عدم كونه مكلفا بالصلاة من أول الأمر ، وهكذا في الصوم ، فالحائض في أثناء النهار لا تكون مكلفة بالصوم أصلا ، فأمرها بالإمساك في أول النهار مشروط بتمكنها من الصوم إلى آخر الغروب.

وفي بقية الموارد لا بدّ من مراجعة الأدلة والاستظهار منها ، كالإجازة ونحوها ولا بأس بتوضيح المقال في الإجازة.

فنقول : ظاهر قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(١) هو اعتبار الرضا المقارن للملكية ، كما هو ظاهر دليل اعتبار القبض في بيع الصرف والهبة ، فانّ الملكية الفعلية في الموردين لا تتحقق إلّا بعد تحقق القبض ، إلّا انه فرق بين الرضا والقبض ، فانّ الرضا حيث انه من الأمور النفسانيّة التعلقية ذات الإضافة كما يمكن تعلقه بأمر مقارن يمكن تعلقه بأمر متأخر وبأمر سابق.

ففي العقد الفضولي يتعلق الرضا والإجازة المتأخرة بالعقد السابق ، فذاك العقد من حين تعلق الإجازة به يستند إلى المجيز ، ويكون عقده ، فيتوجه إليه خطاب (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) أي بعقودكم ، ومعنى ذلك لزوم ترتيب آثار العقد

__________________

(١) النساء ـ ٢٩.

(٢) المائدة ـ ١.

٢٦٩

السابق عليه والحكم بثبوت الملكية السابقة من حين تحقق الإجازة بان يعتبر من حين تحققها الملكية السابقة للمشتري على المبيع ، وللبائع على الثمن.

وهذا هو معنى الكشف ، وبه يجمع بين الأخبار الواردة في ذلك ، مثل ما ورد في ما إذا وقع النكاح الفضولي بين صغيرين فمات أحدهما وكبر الآخر فأجازا العقد من انه يستحلف المجيز على رضائه بالزوجية ، فإذا حلف يرث من الطرف ، وينتقل إليه الإرث منه من حين موته.

ولكنه قد أورد على ما ذكرناه بوجوه ثلاثة :

الأول : ما ذكره الشيخ وتبعه النائيني قدس‌سره (١) من أنّ الملكية المنشأة بعقد البيع الواقع فضوليا لم تكن ملكية مقيّدة بكونها من حين العقد وانما هي طبيعي الملكية ، فالرضا بها وإجازتها غير مستلزم لثبوت الملكية السابقة أصلا.

وفيه : أولا : إنا ننقل الكلام فيما إذا كان العقد الواقع فضولة إجارة ، بان آجر أحد دار زيد من أول الشهر فأجازه المالك في آخره مثلا ، فانّ المنشأ بالإجارة انما هو تمليك المنفعة المقيدة بزمان سابق ، فلا يجري الإشكال فيه.

وثانيا : انّ الملكية المنشأة بالبيع وان لم تكن مقيدة ، إلّا انها لم تكن مقيدة بالعدم أيضا ، فلا بدّ وان تكون مطلقة ، لاستحالة الإهمال النّفس الأمري ، ولازم إطلاقها ثبوتها من حين العقد ، والمفروض انّ الإجازة قد تعلقت بتلك الملكية المطلقة ، فلا بدّ من الحكم بثبوتها كلها.

الثاني : انّ هذا مستلزم للانقلاب وكون المملوك الواحد ملكا لشخصين في زمان واحد.

وفيه : انه لا ضير في ذلك إذا كان زمان الاعتبارين متعددا وان كان زمان

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ٢٢٩.

٢٧٠

المعتبرين وظرفه متحدا ، إذ لا يلزم منه حينئذ اجتماع الضدّين وثبوت مالكين لمملوك واحد في زمان واحد كما هو واضح.

الثالث : ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره (١) من انه إذا أمكن ثبوت الملكية السابقة بالإجازة لأمكن إنشائها ابتداء أيضا بان يبيع أحد ماله لشخص من قبل سنة.

وفيه : انه لا مانع من ذلك عقلا لو كان عليه دليل في مقام الإثبات ، فالمنع عن ذلك انما هو لانصراف دليل صحّة البيع عن مثل ذلك لا من جهة امتناعه عقلا ، فالحق ما قدمناه ، وتمام الكلام به موكول إلى محله.

ثم لا يخفى انّ لكاشفية الإجازة معنيان :

أحدهما : ان تكون الملكية متحققة من حين العقد لكنها تكون مراعاة إلى زمان حصول الإجازة ، نظير اشتراط التكليف بأول جزء من اجزاء الواجب التدريجي بالقدرة على الإتيان بآخر اجزائه ، فانّ ثبوت القدرة على ذلك في ظرفه يكشف عن ثبوت التكليف وتعلقه به من أول الأمر.

ثانيهما : ما اخترناه من ثبوت الملكية السابقة من حين العقد واعتبارها عند تحقق الإجازة ، وقد عرفت انه لا يرد عليه إشكال إلّا من حيث اجتماع اعتبار ملكيتين لشخصين في آن واحد لمملوك واحد ، وقد أجبنا عنه بأنّ الاعتبار لا يزيد عن الأوصاف الحقيقية ، فكما يمكن تعلق الرضا والسخط في زمانين بأمر واحد في زمان واحد ، وتعلق الجهل والعلم به ، كذلك يمكن تعلق اعتبارين به في زمانين ، ولا إشكال في ذلك ، لأنه يعتبر في التناقض وحدة الزمان كما هو ظاهر.

هذا كله في الشرط المتأخر.

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٧١

الواجب المطلق والواجب المشروط

قسموا الواجب إلى القسمين. وقد اختلفت كلماتهم في بيان معنى الإطلاق والاشتراط ، والظاهر انه ليس لهم في العبارتين اصطلاح خاص ، وانما أرادوا منهما معناهما اللغوي ، فالإطلاق بمعنى الإرسال ، والاشتراط بمعنى الارتباط ومن ثمّ أطلق الشريط على الخيط الّذي يربط به بين شيئين.

ثم انّ التعبير بالواجب المطلق والواجب المشروط في المقام غير خال عن المسامحة ، لأنه يكون من الوصف للشيء بحال متعلقه ، إذ ليس المراد منه اشتراط الواجب وإطلاقه كاشتراط الصلاة بالقبلة وإطلاقه من بعض الجهات الأخر ، وانما المراد إطلاق الحكم أعني الوجوب أو الحرمة أو الإباحة واشتراطها بحيث لا يكون الحكم ثابتا من دون تحقق الشرط.

ثم انّ الإطلاق والاشتراط يكونان من الأمور الإضافية ، وإلّا فلا معنى لكون الحكم مطلقا حقيقة ، إذ لا أقل من اشتراطه بالشرائط العامة من العقل والبلوغ والحياة والقدرة ، كما انه قد يكون الوجوب مشروطا بشيء مطلق بالقياس إلى شيء آخر ، ويكون الشيء الواحد شرطا لواجب ولا يكون شرطا لواجب آخر كالوقت بالقياس إلى وجوب الصلاة وبالقياس إلى وجوب الزكاة ، فانه شرط في الأول دون الثاني ، وتمام الحول على عكس الوقت.

وكيف كان حيث عرفت انّ المراد في المقام الواجب المشروط أو المطلق هو الوجوب كذلك نقول : وقع الخلاف في انّ القيود المأخوذة في الكلام هل ترجع إلى الحكم أعني الهيئة أو ترجع إلى المادة أعني الواجب؟ نسب الثاني إلى الشيخ في

٢٧٢

تقريراته ، وقد حكى الميرزا قدس‌سره (١) عن السيد الشيرازي كذب هذه النسبة ، ويظهر ذلك أيضا من ما ذكره قدس‌سره في بحث التعليق في العقد حيث التزم برجوع القيد في العقد المعلق إلى المنشأ أعني الملكية ، ولذا تمسك في بطلان التعليق في البيع إلى الإجماع ، كما يظهر ذلك أيضا من بعض كلماته في مبحث الاستصحاب ، وعلى أي حال فالمسألة ذات قولين قال الشيخ بذلك أم لم يقل.

ثم انّ القول برجوع القيود إلى المادة دون الهيئة تارة يكون من جهة توهم استحالة رجوعها إلى الهيئة ، وأخرى لضرورية رجوعها إلى المادة.

وبالجملة ما ذكره الشيخ قدس‌سره من لزوم رجوع القيد مطلقا إلى المادّة دون الحكم وجهين على ما حكى في تقرير بحثه ، والأول منهما أخص من المدعى ، لاختصاصه بما إذا كان الحكم أعم من ان يكون وجوبا ، أو حرمة ، أو إباحة مستفادا من الهيئة التي هي معنى حرفي كصيغة الأمر ، أو بسائر الهيئات المستعملة في مقام الطلب من هيئة الماضي والمضارع ونحوها. ولا يعم ما إذا كان مستفادا من المادة أعني المعنى الاسمي ، كما في قوله عليه‌السلام : «إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاة والطهور» [١].

ثم انّ ما ذكره من رجوع القيد إلى المادّة لا يلازم كون القيود المأخوذة في الحكم بأجمعها واجبة التحصيل ، فانه قدس‌سره يدعي ان القيود سنخان : فبعض منها واجب التحصيل كالطهارة بالقياس إلى الصلاة التي ثبت وجوب تحصيلها ، وبعضها غير لازم التحصيل ، ولا يستفاد من نفس القضية لزوم تحصيل القيد أصلا ، إذ لا معنى لوجوب تحصيل ما أخذ مفروض الوجود في الواجب.

وكيف كان فالوجه الأول : من الوجهين هو انّ معنى الهيئة حيث انه من

__________________

[١] وفي التهذيب ـ ج ٢ ـ ص ١٤٠ عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة».

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ١٣٠.

٢٧٣

المعاني الحرفية فلا محالة يكون جزئيا ، ولا معنى للإطلاق والتقييد في الجزئي أصلا ، فلا بدّ من رجوع القيود المأخوذة في القضية إلى المادة.

والظاهر انّ ما ذكره لا يتم سواء أراد من الجزئي الجزئي الخارجي ، أو الذهني ، أو الإضافي.

بيان ذلك : انه ان أراد انّ المعاني الحرفية جزئيات حقيقية ولذا لا تكون قابلة للإطلاق ولا للتقييد.

ففيه : أولا : انّ المعاني الحرفية لا يلزم ان تكون جزئيات خارجية ، إذ قد تكون معاني كلية ، وليس الفرق بين المعنى الاسمي والحرفي بالكلية والجزئية ، بل الفرق بينهما بالاستقلال وعدمه على ما بين في محله.

وثانيا : انّ الجزئي الخارجي أيضا قابل للتقييد من حيث الحالات ، وانما لا يكون قابلا للتقييد من حيث الافراد ومن ثم نقول : «زيد الجائي أكرمه».

وثالثا : لو سلّمنا كون المعاني الحرفية التي منها مفاد الهيئات جزئيات خارجية ، وسلمنا استحالة تقييد الجزئي حتى من حيث الحالات نقول : انّ ما ذكر من استحالة تقييد الجزئي مغالطة منشأها مجرد الاشتراك في الاسم ، إذ الإطلاق أو التقييد المستحيل في الجزئي ما يكون بمعنى السعة والضيق لا ما يراد منه الإرسال والارتباط ، فانّ من الواضح إمكان ارتباط الموجود الخارجي بشيء حتى في الخارج ، ولا مانع من ان يقال انّ تمام الموجودات الممكنة مربوطة بخالقها وغير مستغنية عنه.

فالتقييد بمعنى الربط وعدمه امر ممكن في الجزئي وغيره ، نعم لا معنى فيه للسعة والتضيق كما هو واضح.

وان أراد من الجزئي الجزئي اللحاظي وعدم استقلال المعاني الحرفية في اللحاظ لكونها آلية ، فهو ان سلم من الإيرادات الثلاثة المتقدمة كما لا يخفى إلّا انه

٢٧٤

أيضا غير تام.

وبالجملة الوجوه المذكورة لاستحالة رجوع القيد إلى الهيئة أمور :

الوجه الأول : ما ذكر من كون المعاني الحرفية جزئيات خارجية ، فلا تكون قابلة للتقييد.

وقد عرفت انّ الجزئي لا يكون قابلا للتقييد بمعنى التضييق من حيث الافراد ، لا للتقييد من حيث الحالات.

الوجه الثاني : ما ذكره النائيني قدس‌سره (١) من ان المعاني الحرفية ملحوظات آلية وتبعية لا استقلالية ، فهي كالمغفول عنها ، ومعه كيف يمكن تقييدها؟

وفيه : أولا : قد عرفت فيما تقدم انّ المعاني الحرفية قابلة للحاظ الاستقلالي ، بل ربما تكون متعلقا للغرض ، كما لو أريد السؤال عن وقوع صلاة زيد في المسجد فيقال : «زيد صلّى في المسجد» فليس الفرق بين المعنى الحرفي والاسمي من حيث تبعية اللحاظ واستقلاليته ، بل المعنى الحرفي بنفسه معنى تبعي بخلاف المعنى الاسمي.

وثانيا : لو سلمنا كون المعاني الحرفية ملحوظات باللحاظ التبعي ، فاللحاظ التبعي وان لم يكن مصححا للإطلاق والتقييد إلّا انّ الملحوظ بذاك اللحاظ لا بدّ وان يكون مطلقا ، أو مقيدا في مرتبة سابقة على اللحاظ ، لاستحالة الإهمال النّفس الأمري.

فهذا الوجه أيضا غير تام.

الوجه الثالث : هو تخلّف الإنشاء عن المنشأ ببيان : انّ الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى في الوعاء المناسب له ، وعليه فإذا تحقق الإنشاء ، فاما ان يوجد المنشأ أيضا أعني الحكم ويكون متعلقه امر تقديريا فهو المطلوب ، واما ان لا يوجد المنشأ

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ١٣١.

٢٧٥

فيلزم تخلف الإنشاء عن المنشأ ، وهو بمنزلة تخلف الإيجاد عن الوجود ، وهو خلف واضح ، فانّ الإيجاد والوجود حقيقة أمر واحد والفرق بينهما اعتباري.

وقد أجاب عن الإشكال في الكفاية (١) بما حاصله : انّ الإنشاء انما هو كالاخبار ، فكما يمكن الاخبار والحكاية عن أمر متأخر تقديري لحكاية المنجز الجزمي مثلا تارة نقول «زيد ابن عمر» وأخرى نقول «مات زيد ان شرب السم» كذلك الإنشاء تارة يتعلق بأمر منجز فينشأ الحكم المنجز كما لو قال «أكرم زيدا» ، وأخرى يتعلق بثبوت الحكم على تقدير دون تقدير فيقال «أكرم زيدا ان جاءك» ، فعلى الثاني لا بدّ وان يتأخر المنشأ عن الإنشاء وإلّا يلزم الخلف ، لأنّ المنشأ بهذا الإنشاء كان امرا تقديريا لا منجزا ، والمفروض انه لم يتعلق إنشاء بالمنشإ الفعلي المنجز.

هذا والظاهر انه ليس جوابا عن الإشكال ، فانه انما كان من حيث استحالة تخلف الإيجاد عن الوجود وامتناع تعلق الإنشاء الفعلي بالمنشإ التقديري.

نعم لو كان ذلك ممكنا فالتخلف يكون خلفا ، إلّا انّ الكلام فعلا في إمكانه واستحالته ، ولا وجه لقياس الإنشاء بالأخبار ، إذ الاخبار ليس بابه باب الإيجاد وانما هو حكاية ، فيمكن تعلقه بأمر استقبالي أو سابق أو مقارن.

فالصحيح ان يقال : ان الإنشاء على ما عرفت ليس إلّا إبراز الاعتبار النفسانيّ ، كما انّ الاخبار أيضا كاشف عن قصد الحكاية لا عن النسبة الخارجية ، بداهة عدم استلزامه التصديق بالمخبر به أصلا ، ولذا لو أخبر أحد بعدم الصانع لا نتيقن من اخباره بذلك وانما نحكم بكفره وقد ذكرنا انه غير متّصف بالصدق والكذب إلّا من جهة كون المبرز به متعلقا بما في الخارج ، فالصدق والكذب فيه انما

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ١٥٤.

٢٧٦

يكون من حيث مطابقة المخبر به مع الخارج وعدمه ، وهذا بخلاف الإنشاء ، فانّ المبرز به ليس له تعلق بأمر خارجي أصلا.

وعليه فإذا أبرز اعتبار اللابدية الفعلية يكون الإبراز والمبرز والمبرز ومتعلق الاعتبار جميعها موجودة فعلا ، وإذا أبرز الاعتبار المتعلق باللابدية على تقدير فالإبراز والمبرز والمبرز بأجمعها موجودة فعلا إلّا انّ متعلق المبرز أعني الاعتبار امر تقديري بلا مانع من ذلك.

ويتّضح ما ذكرناه بملاحظة الأحكام الوضعيّة ، كاعتبار الملكية واقسامها عند العقلاء حتى مع قطع النّظر عن ورود الشرع ، فانه تارة : يعتبر الملكية الفعلية المتعلقة بمال فعلي ويبرزه في الخارج كما في الهبة ، وأخرى : يكون الإبراز فعليا والاعتبار أيضا فعليا والمعتبر أيضا كذلك إلّا انّ متعلق المعتبر يكون امرا متأخرا ، كما في الإجارة المتعلقة بالمنافع المتأخرة ، فانّ المستأجر بالإجارة يملك جميع تلك المنافع بالفعل ولذا يجوز نقلها إلى الغير وتورث منه ، فيكون المعتبر في باب الإجارة أعني الملكيّة فعلية إلّا انها متعلقة بالمنافع المتأخرة. وثالثة : يكون الإبراز والمبرز والمبرز أعني الاعتبار فعليا فقط دون المعتبر ودون متعلقه بحيث يكون الاعتبار متعلقا بالملكية المتأخرة كما في الوصية ، فانّ الموصي إذا أوصى بمنافع أملاكه لشخص بعد موته لا تكون الملكية موجودة وانما توجد الملكية للموصى إليه بعد موت الوصي ، وانما الموجود بالفعل اعتبار الملكية المتأخرة المتعلقة بأمر متأخر ولا مانع في شيء من ذلك ، لأن الاعتبار يكون كالبناء الّذي هو قابل للمتعلق بأمر متأخر ، فيبني الإنسان على الإتيان بعمل خاص في الغد أو بعده.

فإذا أمكن ذلك في الأحكام الوضعيّة أمكن في التكاليف أيضا ، فلا مانع من ان يعتبر المولى فعلا اللابدية على تقدير على ذمة المكلف كالدين على تقدير.

والحاصل انّ إشكال تخلف الإيجاد عن الوجود متفرع على ان يكون الإنشاء

٢٧٧

إيجادا للمعنى ، فيقال حينئذ انه لا فرق بين التكوينيات والتشريعيات في استحالة تخلف الإيجاد فيها عن الوجود ، وقد عرفت انّ الإنشاء انما هو اعتبار نفساني ، فيصح تعلقه بأمر متأخر كما يصح تعلق سائر الصفات التعلقية به من التصور واللحاظ والرضا والبناء ونحو ذلك.

الوجه الرابع : لاستحالة رجوع القيد إلى الهيئة ما ذكره المحقق النائيني (١) من انّ أهل الأدب ذكروا انّ أداة الشرط موضوعة لربط جملة بجملة ، فالشرط في قولك «ان كانت الشمس طالعة فالنهار موجود» يعلق مفاد التالي وهو وجود النهار على مفاد المقدم وهو طلوع الشمس ، وهكذا لو قال «إذا زالت الشمس فصلّ» فمفاد صلّ أعني وجوب الصلاة أو اتصافها بالوجوب معلق على زوال الشمس ، وعليه فالقيود لا ترجع إلى المادة ولا إلى الهيئة ، وانما ترجع إلى مفاد الجملة وهي النسبة الإيقاعية.

هذا ويرد عليه.

أولا : انّ هذا عين ما أنكره من رجوع القيد إلى الهيئة غايته بتقريب آخر ، فانّ القائل برجوع القيد إليها لا يقول برجوعه إلى طبيعي الوجوب مطلقا ، وانما يدعي رجوعه إلى الوجوب الخاصّ المتعلق بما ذكر في القضية كوجوب الصلاة في المثال ، فعلى القولين يكون المعلق وجوب الصلاة ، فليس بينهما فرق إلّا لفظي.

وثانيا : انّ مفاد الجملة لا محالة يكون مستفاد من مجموعها المركب من المعنى الاسمي والحرفي ، والمتحصل منهما لا بدّ وان يكون معنى حرفيا غير قابل للحاظ الاستقلالي على مسلكهم ، فكيف يكون قابلا للتقييد ، فلا محصل له.

الوجه الخامس : ما ذكره الشيخ قدس‌سره من الرجوع إلى الوجدان ، فانّ من تصور

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ١٣١.

٢٧٨

امرا ، فأما ان لا يطلبه أصلا ، أو يطلبه مطلقا ، ولا كلام لنا فيهما ، أو يطلبه على تقدير دون تقدير ، وعليه فاما ان لا يكون ذاك التقدير اختياريا للمكلف ، أو يكون تحت اختياره ، وعلى الثاني فامّا يكون ذاك القيد مما يجب تحصيله على المكلف كالطهارة في الصلاة فيكون واجب التحصيل فعلا كنفس العمل ، أو لا يكون واجب التحصيل فحينئذ يطلبه فعلا على تقدير تحقق ذاك القيد خارجا ، ففي جميع الصور يكون الطلب فعليا بالوجدان.

هذا وأجاب عنه في الكفاية (١) بما حاصله : تسليم ذلك من حيث المقتضي وتمامية الحصر لو لا المانع ، إلّا انه ذكر انه ربما يكون في البين مانع عن الطلب الفعلي ، فلا محالة يكون الطلب مشروطا ، كما في الأحكام الواقعية إذا أدى الأصل والأمارة على خلافها ، فانّ ذلك يمنع عن فعليتها مع تمامية المقتضي لفعليتها ، وكما في الأحكام التي لم تبين وأخر بيانها إلى امام العصر (عجل الله فرجه) ، فانّ المقتضي فيها تام ولم يبيّن لمانع.

والتحقيق : عدم تمامية ما أفاده ، لأنا نرى بالوجدان انّ واجباتنا المشروطة ليست تعليقية الطلب في جميعها مستندا إلى وجود المانع عن الطلب فعلا مع تمامية مقتضية ، كما في طلب ترك العبادة عن الحائض ، فانّ الحيض هو المقتضي لترك عبادتها فطلبه قبل ذلك لا بدّ وان يكون مشروطا بالحيض مع كونه مقتضيا له وهكذا اشتراط التكليف بالبلوغ والعقل ونحوهما مقتضيا له.

واما المثالان فلا ربط لهما بالمقام. اما الأحكام الواقعية فهي فعلية ، غاية الأمر انها لا تكون منجزة للجهل بها ، فيكون المكلف معذورا فيها ، وإلّا لزم التصويب المجمع على بطلانه. واما ما أخر بيانه إلى زمان الحضور فكما يحتمل فيه ان يكون التأخير لمانع عن الفعلية يحتمل ان يكون ذلك لعدم المقتضي لها فعلا ، لإمكان

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ١٥٢ ـ ١٥٣.

٢٧٩

ان يكون أبناء هذه الأزمنة بالنسبة إلى اشخاص ذاك الزمان نظير غير البالغ بالإضافة إلى البالغين ، فلا يكون عدم فعليتها لوجود المانع عن ذلك ، كما يحتمل ان يكون بعضها من هذا القبيل وبعضها من قبيل الأول.

وأجاب المحقق النائيني (١) عما نسب إلى الشيخ قدس‌سره بأنّ الطلب في جميع هذه الصور وان كان فعليا إلّا انّ الطلب سنخان : فعلي ، وتقديري.

وفيه : انه لا معنى للوجود التعليقي في التكوينيات أصلا ، فان الشيء ان تحققت علّة وجوده يكون موجودا لا محالة ، وإلّا فيكون معدوما.

نعم الوجود التعليقي بمعنى الوجود الشأني الاقتضائي بمعنى الاستعداد والقابلية ثابت ، فانّ النواة شجر اقتضاء ، بمعنى انّ فيه الاستعداد والقابلية لأن يكون نخلا مثمرا بخلاف الحصاة التي ليس فيها تلك القابلية ، ولكن الثابت في ذلك أيضا فعلي وهو القابلية دون غيرها ، فاذن لا معنى للطلب التعليقي الموجود بالفعل.

فالذي ينبغي ان يقال : انّ لنا في مقام الطلب أمور ثلاثة : الشوق والإرادة بمعنى إعمال القدرة في تحريك العضلات ، والاعتبار ، فنفتّش عن كل منها لنرى أي منها قابل للتعليق.

اما الشوق فليس قابلا للتعليق أصلا ، بداهة انّ الإنسان إذا توجه نحو شيء ولو كان امرا متأخرا ان كان ملائما لقواه يشتاقه بالفعل كاشتياقنا إلى الجنة ، وإلّا فلا يشتاقه أصلا فما أفاده الشيخ قدس‌سره من فعلية الطلب على كل تقدير تام فيه إلّا انه غير الطلب ، لأنّ الشوق من صفات النّفس بخلاف الطلب فانه من الأفعال القائمة بالفاعل.

واما إعمال القدرة في تحريك العضلات فهو أيضا لا بدّ وان يتعلق بأمر فعلي ،

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ١٣٠.

٢٨٠