دراسات في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

الأمر الثاني :

في تعريف علم الأصول

عرّفه القوم بأنه : «القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية» وقد ذهب المحقق الخراسانيّ (١) إلى قصور هذا التعريف ، وأضاف إليه قوله : «أو التي ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل» فيقع الكلام في جهتين :

إحداهما : في وجه الإشكال على تعريف القوم وإضافة هذا الذيل إليه.

والأخرى : في تحقيق أصل المطلب.

[الجهة الأولى :

الظاهر ان الإشكال ناشئ من تخيّل كون المراد من الأحكام في التعريف خصوص الأحكام الواقعيّة كما هو المراد من الحكم في كلام الشيخ في أول الرسائل وهو قوله : «اعلم ان المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي» (٢) فانه لو لم يكن المراد منه خصوص الواقعي لم يكن وجه لجعله مقسما للاقسام الثلاثة ، إذ الحكم الظاهري دائما يكون متيقنا إلّا في موارد نادرة مثل موارد الأصول العقليّة والظن الانسدادي

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٩.

(٢) الرسائل ـ ص ٣.

٢١

على الحكومة.

وبالجملة فحيث رأى أن المراد من الحكم خصوص الواقعي أشكل عليه الأمر في كثير من المسائل الأصولية التي لا يستنبط منها حكم شرعي واقعي أصلا ، كمباحث الأصول العملية فانها وظائف مقرّرة للشاك في مقام التحير ، وكذا مبحث الظن الانسدادي على الحكومة ، فان من تمّت عنده المقدّمات كذلك إذا سئل هل تعرف الحكم؟ يقول : لا ، ولكن أعرف وظيفتي وان العقل حاكم لي بجواز العمل بالظن ولذلك أضاف إليه القيد ، وعليه فتكون المسائل الأصولية هي الجامع بين الأمرين ، أي أحدهما كما لا يخفى.

الجهة الثانية :

التحقيق : ان القيد الّذي أضافه قدس‌سره لغو وغير محتاج إليه ، فتعريف القوم لا قصور فيه ، وذلك لأنهم قد عرفوا الفقه بأنه «العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيليّة» فأخذوا في تعريفه العلم ، ويكشف ذلك عن ان مرادهم بالاحكام الأعم من الظاهرية والواقعية لا خصوص الواقعية ، وإلّا لم يكن لأخذ العلم في تعريفه وجه أصلا ، إذ الأحكام الواقعية لا تكون معلومة غالبا في الفقه ، والأصول قواعد ممهدة لاستنباط تلك الأحكام ومقدّمة للفقه.

فالمراد من الحكم في تعريفه أيضا هو الأعم فندفع الإشكال المزبور ولا يخفى انه ليس غرضنا مما قلناه من كون المراد من الأحكام أعم من الواقعية والظاهرية إدخال موارد قيام الحجج والأمارات في العلم بالحكم الظاهري ليقال انه على مختاركم ليس المجعول في تلك الموارد إلّا الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات فأين هناك علم بالحكم الظاهري؟! بل الغرض إدخال موارد الأصول العملية التي هي وظائف

٢٢

مجعولة للمتحير تحت تلك الكبرى ، واما في موارد الحجج فيعلم بالواقع غايته بالعلم التعبدي لا الوجداني على ما هو البحث.

ولا يخرج عن التعريف الا قبح العقاب بلا بيان ، ووجوب دفع الضرر المحتمل في أطراف العلم الإجمالي ، ومسألة التخيير في دوران الأمر بين محذورين ، ومسألة حجية الظن الانسدادي على الحكومة ، فان قبح العقاب بلا بيان ليس إلّا حكم العقل بعدم استحقاق العقاب عند عدم البيان ، كما ان وجوب دفع الضرر المحتمل إدراك صحته عند عدم ثبوت المؤمن ، والتخيير حقيقته حكم العقل بقبح الترجيح من دون مرجّح.

أما قبح العقاب بلا بيان فهو ليس من المسائل الأصوليّة ، بل هو مما اتفق عليه الاخباري والأصولي ، وانما النزاع في تماميّة اخبار الاحتياط وعدمها ، فلو تمّت الأخبار ينتفي موضوع قبح العقاب بلا بيان ، كما انه لو لم تتم لا يكون نزاع في جريانه.

وهكذا وجوب دفع الضرر المحتمل بهذا العنوان لا يكون معنونا في الأصول بل هو أمر مفروغ عنه في علم الكلام ، وانما يبحث في الأصول عن جريان أصالة البراءة في أطراف العلم الإجمالي ، أما تعينا واما تخييرا.

وهكذا في التخيير لا يبحث في علم الأصول عن قبح الترجيح بلا مرجح ، وانما يبحث عن جريان البراءة عند دوران الأمر بين محذورين أو تقدم جانب الحرمة من جهة تقدم دفع الضرر على جلب المنفعة أو العكس.

وأما حجّية الظن على الحكومة فليست مبحوثا عنها بهذا العنوان ، وانما يبحث عن انه بعد تماميّة مقدمات الانسداد هل تكون هناك حجّة لنا أم لا؟ وعلى الأول هل يستكشف العقل من المقدمات ان الشارع جعل الظن حينئذ حجّة ، أو لا يستكشف ذلك وانما يحكم بالتنزل إلى الامتثال الظنّي؟ ويترتب الاستنباط على هذه المسألة ولو بعض تقاديره دون بعض ، ولا يلزم في المسألة الأصولية ان يترتب

٢٣

الاستنباط على جميع تقاديرها كما ان في مسألة حجّية الخبر لا يترتب الاستنباط إلّا على تقدير ثبوت الحجّية لا على فرض عدم الحجّية ، وهذا ظاهر.

اذن لا قصور في تعريف القوم من هذه الجهة.

يبقى في التعريف إشكال آخر عليه وهو : انه ان كان المراد من الممهدة للاستنباط ان يترتب ذلك على المسائل الأصولية مستقلا ومن دون انضمام مسألة أخرى إليها فقلّما توجد مسألة من المسائل الأصولية تكون كذلك ، وإذا أريد منها دخلها في تحقيق الاستنباط فمبادئ الاستنباط كعلم اللغة والنحو والصرف جميعهما كذلك.

والجواب عن ذلك : انه لا بد وان يترتب الاستنباط على المسألة الأصولية مستقلا ودون حاجة إلى ضم ضميمة لكن لا مطلقا ودائما بل في الجملة وموجبة جزئية ولو في مورد واحد ، وجميع المسائل الأصولية كذلك ، مثلا مبحث حجّية الخبر يترتّب عليه الاستنباط كذلك فيما لو فرضنا قيام خبر قطعي الدلالة غير مبتلى بالمعارض على وجوب شيء أو حرمته فانه حينئذ يترتّب الاستنباط على نفس مسألة حجّية الخبر حينئذ من دون حاجة إلى ضم ضميمة.

واما حجّية الظواهر فليست من مسائل الأصول ، وانما هي من المسلمات ، وإلّا لانهدم أساس الشرائع ، وانما المبحوث عنه في الأصول بعض خصوصياتها مثل اختصاص حجيّة الظاهر بعدم الظن على خلافه ، أو بخصوص من قصد افهامه ، أو بغير الكتاب ، أما بدعوى ان الكتاب ليس له ظاهر أو انّ ظاهره غير حجّة لقرائن على ذلك ، ويترتب الاستنباط بالنحو المذكور على كل من هذه المسائل ، هذا في الحجج.

وأما مباحث الألفاظ كمبحث الأمر والنهي فكذلك ، إذ يترتب عليه الاستنباط فيما لو ورد أمر قطعي السند والدلالة غير مبتلى بالمعارض ، واما بعض

٢٤

مباحث الألفاظ مثل جواز تخصيص العام الكتابي بالخبر وعدمه ، ففي الحقيقة مرجعه إلى البحث عن السند وحجّية الخبر في هذا الفرض ، فيكون داخلا في ذلك المبحث ، وقد عرفت انطباق ما ذكرناه عليه.

وأما المباحث العقلية كمبحث الضد والترتب واجتماع الأمر والنهي ومقدمة الواجب فالأمر فيها واضح ، فجميع المسائل الأصولية تكون كذلك ، وهذا بخلاف غيرها من العلوم كمسائل اللغة مثلا فلا يمكن استنباط حكم واحد من شيء منها مستقلا وبلا ضم ضميمة ، ففي اللغة يبحث عن معنى الصعيد فهل يمكن استنباط الحكم من ذلك حتى فيما لو كان الدليل المشتمل عليه قطعي السند والدلالة ولم يكن مبتلى بالمعارض؟ لا يمكن ذلك ، وسره ظاهر ، فان الأحكام دائما تكون مستفادة من الهيئات ، واللغة انما تتكفّل بيان الموضوعات فقط ، ولذا لا يمكن استنباط الحكم منها مطلقا مستقلا ، وهكذا غير اللغة من العلوم ، وقد ألغى المتأخرون جملة من المباحث هي حاصلة في الكبرى التي ذكرناها من جهة وضوح فسادها ، كمبحث حجّية القياس الّذي كان موردا للنزاع إلى زمان العلّامة بل وبعده أيضا ، ومبحث الملازمة وان كل ما حكم به العقل حكم به الشرع وهذا غير حجّية القطع كما سنعرفه إن شاء الله تعالى.

وبالجملة فالميزان في المسألة الأصولية ان تكون بحيث لو انضم إليها صغراها أنتجت حكما فرعيا كليا ولو في الجملة قابلا للإلقاء إلى المقلدين ويكون تطبيقه على جزئياته بيدهم ، وعلى هذا تكون قاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية داخلة في المباحث الأصوليّة.

واما القواعد الفقهية ، فهي بنفسها أحكام كلية قابلة للإلقاء إلى المقلدين ، ومن ضم صغرياتها إليها تستفاد الأحكام الجزئية الشخصية كما هو ظاهر فظهر ان مثل قاعدة التجاوز والفراغ وقاعدة اليد وقاعدة ما يضمن ، ونظائرها جميعها

٢٥

داخلة في القواعد الفقهيّة ، لأنها بأنفسها قابلة لأن تلقى إلى المقلدين كما هو واضح.

فتخلص : ان تعريف القوم صحيح لا إشكال فيه ، وظهر بما بيناه أيضا انه لا حاجة لنا إلى تأويل لفظ الاستنباط المذكور في التعريف كما عن بعض أعاظم مشايخنا قدس‌سره ، حيث جعله بمعنى تحصيل الحجّة (١) بمعنى المنجز والمعذر ليدخل فيه البراءة العقلية ووجوب دفع الضرر المحتمل والتخيير العقلي ، فان التعريف المشهور يتم لو جعلنا الحكم أعم من الظاهري والواقعي من دون حاجة إلى التأويل وما ذكره قدس‌سره وان كان جامعا كما أفاد إلّا انه :

أولا : خلاف ظاهر لفظ الاستنباط ، فان كلامنا في توجيه ذلك التعريف ، وإلّا فلا ننكر إمكان تعريف الأصول بوجه آخر يكون مطردا ومنعكسا.

وثانيا : ان ذلك انما يتم فيما إذا كان الحكم الواقعي إلزاميا وقامت الحجّة على وفقه أو على خلافه ، وأما لو فرض ان الواقع كان هو الإباحة فحينئذ لا معنى لتحصيل المعذر والمنجز أصلا.

هذا تمام الكلام في الأمر الثاني.

__________________

(١) نهاية الدراية ـ ج ١ ـ ص ٤٢.

٢٦

الأمر الثالث :

في الوضع

اختلفوا في أن دلالة اللفظ على معناه هل هي ذاتية أم هي جعليّة؟ ذهب بعضهم إلى الأول.

وفيه : لو أريد من الذاتيّة ان تكون تلك المناسبة الذاتيّة كالعلة التامة لدلالة اللفظ على معناه فلازمه ان يكون كل شخص عالما بكل لغة ، لوجود علة الدلالة حينئذ دائما ، وهذا لا يمكن الالتزام به.

ولو أريد من ذلك علّة اختيار الواضع كل لفظ خاص لمعنى مخصوص بمعنى المرجح لاختباره ، فهذا وان كان ممكنا إلّا ان الجزم به يحتاج إلى دليل ولا ، دليل عليه ، والاستدلال عليه بأنه لو لا ذلك لزم الترجيح بلا مرجّح وهو قبيح ، ففيه :

أوّلا : انه لا قبح في الترجيح بلا مرجّح بين الأفراد بعد ما كان أصل الجامع راجحا ، مثلا لو فرضنا ان أصل المشي فيه مصلحة للشخص لمرض ونحوه فاختيار المشي إلى جانب اليمين دون الشمال أو العكس لا يلزم أن يكون فيه مرجح أيضا.

وثانيا : لو سلمنا قبح الترجيح بلا مرجح حتى في الافراد فنقول : لا يلزم لأن يكون المرجح هو المناسبة الذاتيّة ، بل ربما يكون المرجح الأمور الخارجية ، ونظير ذلك في وضع الاعلام الشخصية ، مثلا يضع الوالد لفظ محمد لولده لكونه متولدا في يوم الجمعة مثلا أو لأن اسم جده كان ذلك وهكذا.

٢٧

وبالجملة فلا معنى لكون المناسبة بين اللفظ والمعنى ذاتية أصلا. هذا كله في الدلالة.

في حقيقة الوضع :

وأما الوضع فيظهر مما ذكره في الكفاية (١) بقوله : «الوضع نحو اختصاص بين اللفظ والمعنى ناشئ ... إلخ» ، ان الوضع عنده أمر واقعي ينشأ من وضع الواضع تارة ومن كثرة الاستعمال أخرى ، وهذا غير صحيح ، وذلك لأن الأمور الحقيقية لا تخلو عن أمور ثلاثة :

أحدها : أن تكون من الأمور النّفس الأمرية ، بمعنى يدرك العقل تحققه من دون فرض فارض واعتبار معتبر ، ويكون الخارج ظرف نفسه لا ظرف وجوده ، كنفس الوجود ولوازم الماهيات ، كالزوجية للأربعة والإمكان للماهيات الممكنة والاستحالة لاجتماع النقيضين وأمثال ذلك ، فان الوجود ثابت في الخارج لكن بنفسه لا بوجود آخر وهكذا بقية المذكورات.

ثانيها : أن تكون من قبيل الجواهر أي الوجودات المستقلة في الخارج.

ثالثها : أن تكون من قبيل الاعراض.

والارتباط الناشئ من الوضع أو من كثرة الاستعمال غير داخل في شيء من ذلك ، أما عدم كونه من قبيل الأول ، فلأنه لو كان من قبيل الملازمة الثابتة بين الأربعة والزوجية فلا معنى لكونه ناشئا من الوضع أو كثرة الاستعمال ، لأن الملازمة بين لوازم الماهية ونفسها تكون قديمة أزلية ، فأي حاجة إلى الوضع؟ هذا أولا.

وثانيا : يلزم من ذلك أن يكون كل أحد عالم بكل لغة كما عرفت.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلّد الأول ـ ص ١٠.

٢٨

وأما عدم كونه من الجواهر فلاحتياجه في وجوده إلى الموضوع ، فانه لو لم يكن هناك لفظ ومعنى لم يكن مجال لوجود الارتباط ، والجوهر غير محتاج في وجوده خارجا إلى موضوع.

وأما عدم كونه من الاعراض فلأنّ العرض متقوم خارجا بالموضوع الخارجي ، وليس الارتباط بين اللفظ والمعنى كذلك ، فان الارتباط ثابت بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى مع عدم وجودهما في الخارج ، ولذا ترى ثبوته بين اللفظ والمعنى الممتنع ، مثلا إذا فرضنا وضع لفظ مفرد لاجتماع النقيضين أو لشريك الباري يكون الارتباط بين ذلك اللفظ وهذا المعنى موجودا مع كون المعنى من المستحيلات.

وبالجملة ، فلا يمكن ان يكون الوضع من الأمور الحقيقية بهذا المعنى أصلا ، بل هو من الأمور الاعتبارية.

وبالجملة الوجوه المحتملة في حقيقة الوضع ثلاثة :

الأول ـ أن يكون أمرا واقعيّا حادثا.

الثاني ـ أن يكون أمرا اعتباريا.

الثالث ـ أن يكون وسطا بين الأمرين.

ويقرب الثاني أي الاعتبارية بوجهين :

أحدهما : أن يكون عبارة عن تنزيل اللفظ منزلة المعنى بان يكون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى بحيث لو أريد إراءة المعنى يؤتى باللفظ ، ويكون اللفظ وجودا حقيقيا للكيف المسموع وفردا منه ووجودا تنزيليا للمعنى ، وهذا مأخوذ مما ذكره أهل المعقول وأثبتوه من الوجود اللفظي للأشياء في مقابل الوجود العيني والذهني والكتبي.

وفيه : أوّلا : أن التنزيل وان كان خفيف المئونة إلّا انه لا يحسن إلّا فيما كان

٢٩

بين المنزل والمنزل عليه مناسبة تامة ، مثلا في باب الكنايات والاستعارات كثيرا ما يقع ذلك مثلا بتنزيل الرّجل الشجاع منزلة الحيوان المفترس فيقال : زيد أسد لكونه مشابها معه في أظهر خواصه وهو الشجاعة ، ولكن لا معنى لتنزيل البعوضة منزلة الأسد من غير مناسبة ، وهذا واضح ، فنقول : أيّ مناسبة تكون بين اللفظ والمعنى قبل الوضع ليكون التنزيل بتلك المناسبة؟

وثانيا : ان هذا المعنى بعيد عن ذهن عامة الناس مع ان الوضع يتحقق خصوصا في الاعلام الشخصية من جميع الناس بل من الأطفال بل من كثير من الحيوانات أيضا كما هو ظاهر.

وثالثا : التنزيل لا بدّ وأن يكون بلحاظ ثبوت آثار المنزل عليه على المنزل ، كما نرى ذلك في جميع موارد ثبوت التنزيل ، وفي المقام لا يثبت شيء من خواص المعنى للفظ ، مثلا لفظ العدم موضوع لهذا المفهوم الممتنع تحقّقه في الخارج ، فهل يثبت هذا الأثر للفظ العين والدال والميم وتكون مستحيلة أيضا؟! من الواضح عدمه ، فاذن هذا أيضا غير ثابت في المقام ، فالاعتبارية بهذا المعنى واضحة الفساد.

ثانيهما : أن يكون حقيقة الوضع اعتبار الوضع الحقيقي ، فان الوضع الخارجي عبارة عن المعنى المعروف المعبر عنه في الفارسي (گذشتن) فالواضع يعتبر هذا المعنى أي وضع اللفظ على المعنى في عالم اعتباره ليدل عليه ، كما ان في الخارج يوضع العلائم على بعض الأمكنة للدلالة على أمور ، مثلا وضع العمود على رأس الفرسخ للدلالة على المسافة ، أو العلم على الباب لكي يدل على انعقاد مجلس التعزية ، وغير ذلك :

وفيه : أولا : انه أيضا بعيد عن ذهن العامّة.

وثانيا : ان في الوضع الخارجي تكون أمور ثلاثة : الموضوع والموضوع عليه ، والموضوع له أعنى غاية الوضع ، وفي المقام ليس إلّا أمران ، فالموضوع عليه

٣٠

والموضوع له متحدان ، فليست كيفية الوضع فيه ككيفيّة الوضع هناك ، مضافا إلى انه على هذا لا بدّ وان يكون إطلاق الموضوع عليه على المعنى صحيحا من دون عناية مع انه غلط واضح ، فالاعتبارية بكلا معنيها غير تام.

والصحيح : ان الوضع أمر واقعي محض غايته من قبل الأفعال النفسانيّة ، فهو فعل النّفس ، وهو التعهّد والالتزام بذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، كما يتّفق هذا المعنى في الأفعال أيضا ، نظير ما لو تعهّد المولى وقال لخادمه : بأني متى رفعت العمامة من رأسي فانا أريد الشاي ، ففي الألفاظ أيضا كذلك لأجل تسهيل الإفادة والاستفادة يلتزم الواضع ويتعهد بذكر اللفظ الخارجي عند إرادة المعنى المخصوص ، وهذا هو حقيقة الوضع.

وأما ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره من ان الوضع وسط بين التكوين والجعل ، فبيانه : ان الأمور تكون على نحوين منها ما لا تحقق بها إلّا بالجعل والاعتبار كالاحكام والشرائع ، وهي التي تحتاج إلى بعث رسل وإنزال كتب ، ومنها ما لا تحتاج إلى ذلك أصلا كالجواهر والأعراض الموجودة في الخارج ، ومنها ما لا يكون من الأول لتحتاج إلى إرسال رسل ولا من الثاني ليكون تكوينيا محضا ، بل يكون وسطا بينهما ، والوضع من هذا القبيل ، فلما اقتضت الحكمة الإلهية أن يعلّم الإنسان البيان وقد أشير إليه في الآية المباركة (عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(١) فألهم جلّ شأنه واضع كل لغة ان يوضع كل لفظ خاص لمعنى مخصوص بمناسبة بينهما ذاتية تكوينيّة مجهولة عندنا ، وهذا هو السر فيما يقال من ان الواضع هو الله تعالى ، فحقيقة الوضع ليست تكوينيّة محضة لأن لا يحتاج إلى شيء ، ولا جعلية صرفة لتكون محتاجة إلى البعث

__________________

(١) الرحمن ـ ٤.

٣١

والإرسال (١) ، انتهى.

وفيه : أولا : قد عرفت ان المناسبة بين اللفظ والمعنى تكوينا مما لا دليل عليه في مقام الإثبات.

وثانيا : لا معنى للواسطة بين التكوين والجعل ، فانه لو كان للشيء مطابق في الخارج فهو من الأمور التكوينيّة ، وإلّا فهو من الأمور الاعتبارية.

وثالثا : ما المراد من الإلهام في المقام؟ ان أريد منه ان الله تعالى أعطى الإنسان قوة الإدراك وفهّمه كيفيّة استكشاف المجهولات ، وسهّل له مقدماته فهذا موجود بالقياس إلى مطلق المعلومات ، ولذا يقول جلّ شأنه : (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)(٢) فجميع المعلومات بالنهاية تنجلي إليه تعالى وان أريد ثبوت معنى آخر في الوضع غير ذلك فلا نتعقّله.

فالصحيح : ما ذكرناه ، وعليه فيكون معنى اللفظ ومدلوله إرادة تفهيم المعنى لا ذات المعنى ، وانسباق ذات المعنى إلى الذهن لا يكون مستندا إلى الوضع ، بل يكون من جهة أنس الذهن كما يكون ذلك ثابتا في موارد يقطع بعدم إرادته ، مثلا لو قال المتكلّم : رأيت أسدا في الحمام فلا يكون الحيوان المفترس مرادا له قطعا ولكن مع ذلك ينتقل الذهن إليه من جهة أنس الذهن بذلك ، فالدلالة الوضعيّة منحصرة بما عرفت ، والظاهر ان هذا هو مراد الشيخ النائيني قدس‌سره من كون الدلالة تابعة للإرادة ، وإلّا ففي الدلالة التصوّرية الناشئة من الأنس لا مجال لتوهم ذلك لعاقل فضلا عن مثله قدس‌سره.

ويشهد على المختار ان فعل الإنسان لا بدّ وان يتعلّق بما يكون مقدورا له ،

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ١١ ـ ١٢.

(٢) العلق ـ ٥.

٣٢

وليس ذلك إلّا التعهّد والالتزام.

ويؤيّده أيضا ان الغرض من الوضع لا يقتضي في الوضع أكثر من ذلك ، فان الغرض انما هو سهولة تفهيم المرادات وتفهمه ، وهذا لا يقتضي إلّا ان يوضع اللفظ لتفهيم إرادة المتكلّم ذلك ، فالتوسعة لغير المرادات أيضا بحيث تثبت الدلالة الوضعيّة فيما لو صدر اللفظ عن لافظ بلا شعور يكون لغوا ولا يصدر من الحكيم.

هذا ، وانما أطلنا الكلام في حقيقة الوضع لأنه يترتب عليه ثمرات مهمة ، في صحّة استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، إذ على ما ذكرناه يكون جوازه من الواضحات ، إذ ليس معنى الاستعمال الا العمل على وفق التعهّد وإعماله خارجا ، وكما يمكن ان يجعل الفعل الواحد علامة لأمرين إذا تعهد المولى بإيجاده إذا أراد كلّا منهما كذلك في اللفظ يمكن ان يجعل لفظ واحد علامة لإرادة تفهيم أمرين ، ويأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

ويترتّب عليه أيضا تبعيّة الدلالة للإرادة ، وان الموضوع له ليس هو ذات المعنى بل هو قصد تفهيمه كما عرفت ، وعلى هذا فالوضع غير مختص بالواضع ، بل كل أحد من أهل اللغة يكون ملتزما ومتعهدا كالواضع ، غايته ان تعهد الواضع والتزامه بذكر اللفظ عند إرادة المعنى ابتكاري وابتدائي ، وتعهد تابعيه يكون بالتبع وبالارتكاز.

وبهذا ظهر انه لا فرق بين الوضع التعييني والتعيّني الحاصل بكثرة الاستعمال من حيث كونه في كليهما بمعنى التعهّد ، إلّا ان المبرز لذلك في الأول هو قول الواضع ، وفي الثاني كثرة الاستعمال.

هذا كلّه في حقيقة الوضع.

واما اقسامه ، فلا ريب في ان الواضع لا بدّ له من تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى عند إرادته الوضع ، اما تصور اللفظ فسيأتي الكلام فيه ، واما تصور المعنى ولحاظه

٣٣

فيعبر عنه اصطلاحا بالوضع ، فتارة يكون الوضع عاما وكليّا ، وأخرى يكون خاصّا وجزئيّا ، وعلى كل من التقديرين تارة يكون الموضوع له عاما ، وأخرى خاصا ، فالأقسام أربعة.

أما الوضع الخاصّ والموضوع له كذلك ، فلا إشكال في وقوعه ، كوضع أعلام الأشخاص ، وهكذا الوضع عام والموضوع له عام وأما الوضع العام والموضوع له الخاصّ ، فيقع الكلام فيه في مقامين :

المقام الأول : في إمكانه ، وقد أنكر إمكانه جماعة بدعوى انه لا بدّ في الوضع من تصور المعنى بجميع خصوصياته ، وتصور العام والكليّ لا يكون وافيا بلحاظ افراده كذلك. وأثبته جمع آخر ، ولكن قاسوا عليه القسم الرابع ، أعني الوضع خاص والموضوع له عام ، وذكروا انه لو كان لحاظ المعنى بالوجه والعنوان كافيا في مقام الوضع فيصح كلا القسمين ، إذا كما يكون لحاظ الكلّي لحاظ افراده بالوجه كذلك يكون لحاظ الفرد تصوّر كلّيه بالعنوان ، وان لم يكن ذلك كافيا فلا يكفي في كليهما ، فانه كما لا يكون تصوّر الفرد عين لحاظ الكلّي بما هو كلّي ، كذلك لحاظ العام والكلّي ليس لحاظ الفرد بجميع خصوصياته.

هذا وفي كلا الأمرين ما لا يخفى : فان الكلّي تارة : يلحظ من حيث هو أي الطبيعة المهملة ، ولا يحمل عليه حينئذ الا الأحكام المختصّة به المعبّر عنها بالمعقولات الثانويّة ، مثلا يقال الإنسان نوع أو الحيوان جنس ، ولا يحمل هذه الأحكام على افراده ، فلا يقال زيد إنسان والإنسان نوع فزيد نوع كما هو واضح.

وأخرى : يلحظ بنحو السريان أي الكلّي الموجود ، وحينئذ لا يحمل عليه إلّا أحكام الافراد ، ويعبّر عنه في اصطلاح الأصوليّين باللابشرط القسمي كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقيّة ، فيكون الحكم المترتّب عليه مترتّبا على افراده ، مثلا لو قيل الخمر حرام فمعناه ان هذا الفرد منه حرام وذلك الفرد حرام وهكذا ، ولذا ذكرنا

٣٤

انه لو قال أحد كل مسلم فاسق فهو يعاقب بعدد أفراد المسلمين ، لأنه اغتابهم ، أو افترى عليهم.

وبالجملة فكما يأتي القسمان في غير الوضع يتصوّر في الوضع أيضا فإذا تصوّر الواضع المعنى بنحو السريان يكون متصوّرا للفرد ، وإذا وضع اللفظ له كذلك يكون الموضوع له ذوات الأفراد مثلا يتصوّر عنوان المتولد في يوم الجمعة ويضع اللفظ لمصاديقه وأفراده ، وهذا المعنى غير جار في تصوّر الخاصّ والجزئي ، فانه لو الغي عنه في مقام الوضع الخصوصيات الشخصية حتى الوجود فلا محالة يكون المتصور عاما وكليا أي نفس الطبيعي ، وإلّا فيكون الموضوع له خاصا كالوضع.

وما قيل : من انه ربما لا يكون إلغاء الخصوصية أيضا موجبا للحاظ الطبيعي ، كما لو فرضنا انه يرى من بعيد جسما ولا يميّزه ، وبمعرفيّته يضع اللفظ لطبيعي هذا الفرد ، فان الطبيعي حينئذ لا يكون معلوما للواضع ليتصوره ، فمغالطة ظاهرة ، وذلك لأن الطبيعي في هذا الفرض أيضا ملحوظا غايته بعنوان كلي هذا الفرد المعلوم عند الله سبحانه وتعالى المجهول لديه ، فالمعنى العام ملحوظ ولكنه غير مميّز عنده.

فالصحيح : إمكان الوضع العام والموضوع له الخاصّ بخلاف العكس.

المقام الثاني : في وقوعه ، وربما يقال : ان وضع الحروف وما شابهها من الموصولات وأسماء الإشارة ونظائرها من هذا القبيل ، فلا بدّ من البحث عن المعاني الحرفيّة ، وبيان ذلك والفارق بينها وبين المعاني الاسمية ليعلم انها من هذا القبيل أم لا؟ فنقول : المحتمل في المعاني الحرفية وجوه :

الأول : ما نسب إلى الرضي من انها ليست إلّا علائم لكيفيّة استعمال المعاني الاسمية ولحاظها كالإعراب والتقدّم والتأخّر ، فان المعنى الاسمي تارة : يلاحظ بما انه عين ومن حيث هو فيقال : «الدار قيمتها كذا» وأخرى : يلاحظ بما هو أين وظرف مكان فيقال : «زيد في الدار» فلفظ «في» يكون علامة على ان الدار

٣٥

ملحوظة ظرفا لا استقلالا كما ان الرفع يؤتى به ليكون علامة على الابتداء ، أو على الفاعلية إلى غير ذلك ، ففي الحقيقة ليس للحروف معنى أصلا.

وفيه : انا نرى بالوجدان ان دلالة الحروف على تلك الخصوصيّات ليست دلالة طبعية ولا دلالة عقلية وإلّا لما اختصت بأهل اللسان ، ولعرفها الجاهل باللغة أيضا ، وقد نرى ان الجاهل باللغة لا يميّز ما أريد من كلمة «من» عما أريد من كلمة «إلى» في قولك «سرت من البصرة إلى الكوفة» كما ان الأمر في الإعراب والتقديم والتأخر أيضا كذلك ، فالجاهل باللغة لا يعرف من تقديم موسى على عيسى في قولك «ضرب موسى عيسى» ان الأول فاعل والمتأخّر مفعول ، فلا بدّ وان يكون للحروف وللحركات وللتقدم والتأخر معنى ووضعا كما في الأسماء.

ويقابل هذا القول ويكون على طرف نقيضه ما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ (١) من اتحاد المعاني الاسميّة مع المعاني الحرفيّة ، وان اختلافهما يكون في ناحية الاستعمال وناشئا من اشتراط الواضع ، فانه وضع الأسماء كلفظ الابتداء ليستعمل في الابتداء الملحوظ استقلالا ، ووضع لفظ «من» ليستعمل في الابتداء الملحوظ آليا ، فالفرق بينهما يكون من ناحية الاستعمال واشتراط الواضع ، وإلّا فكل من الآلية والاستقلالية يكون خارجا عن حريم المعنى الموضوع له.

هذا ويرد عليه :

أولا : انه لو كان المعنى الحرفي متّحدا مع المعنى الاسمي وكان الموضوع له في الأسماء والحروف معنى واحد للزم صحّة استعمال الحرف في موضع الاسم وبالعكس ، لأن شرط الواضع ليس لازم الاتباع حتى على نفسه ، إذ لم يكن في ضمن عقد لازم ، وليس له ولاية على غيره ليجب اتباعه.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ١٣.

٣٦

وعلى تسليم ذلك فلتكن مخالفته موجبا للعقاب ومحرما ، مع انا نرى ان ذلك من أفحش الأغلاط ، مثلا لو يقال بدل «سرت من البصرة إلى الكوفة» ، «سرت ابتداء التعريف الانتهاء التعريف الكوفة» يكون فساده من أوضح الواضحات ، وهكذا لو يقال بدل ابتداء البصرة من البصرة.

وقد وجه بعض الأعاظم كلامه بما حاصله :

ان المعاني تارة تكون ملحوظة باللحاظ الاستقلالي ، وأخرى تلاحظ آليا ، كما انه تارة ينظر في المرآة بما هي ويراد بذلك تمييز خصوصيات المرآة من طولها وعرضها ، وأخرى ينظر فيها ليرى صورته.

وفي الأول يكون النّظر إلى المرآة استقلاليا ، وفي الثاني يكون آليا ، والحروف تكون موضوعة لذوات الحصص الملحوظة باللحاظ الآلي ، والأسماء موضوعة للحصص الملحوظة باللحاظ الاستقلالي بنحو يكون التقيد داخلا والقيد خارجا لأن لا يلزم المحاذير المذكورة في كلامه ، وعليه فيكون اتحادهما بالذات وبالنوع أي يكون المعنى الاسمي والمعنى الحرفي من نوع واحد ، فالمراد من اتحادهما هذا المعنى.

وفيه : أولا ـ ان لازم ذلك ان يكون الوضع فيها عاما والموضوع له خاصا ، إذ يكون الملحوظ حال الوضع المعنى الملحوظ استقلاليا أو آليا والموضوع له يكون افراد المعنى الملحوظة كذلك ومصاديقه بمشيرية ذلك العنوان ، وهذا مخالف لمبناه.

وثانيا ـ يلزم عدم صدقه على الخارج ، وذلك لأن في باب المقيّدات وان لم يكن القيد داخلا فيها إلّا ان التقيد يكون داخلا في المقيد ، ومأخوذا فيه لا محالة ، مثلا لو قال : «أكرم العالم العادل» فان نفس العدالة وان لم تكن مأخوذة في الموضوع ولكن التخصص والتقيد بها يكون داخلا فيه ، وفي المقام التقيد باللحاظ لا محالة يكون داخلا في الموضوع له على هذا والمعنى المقيد باللحاظ يكون من

٣٧

الأمور الذهنيّة وحسب قوله قدس‌سره هو من الكلّيات العقليّة ، وهي لا تصدق على الخارج.

والّذي ينبغي ان يقال : في توجيه كلامه ، بل يظهر ذلك مما يذكره في المشتق من انه لو استعمل الأسماء في موضع الحروف لما كان مجازا واستعمالا في غير ما وضع له وان كان بغير ما وضع له ، ان الواضع جعل اعتباره أو التزامه بذكر لفظ «من» مثلا في الحروف عند إرادة تفهيم الابتداء مشروطا بكونه ملحوظا آليا ، وجعل اعتباره على المشهور أو التزامه على المختار وضع لفظ الابتداء مشروطا بان يكون ملحوظا استقلالا ، وعليه فتكون العلقة الوضعيّة ثابتة في حال دون حال ، ويكون أصل الوضع مشروطا ، وفي غيره لا محالة يكون الاستعمال غلطا وبلا علقة وضعية ، وعلى هذا فيسلم ما أفاده من الإشكالات المذكورة ، وبما ذكرنا ظهر انه لا مجال لما أورده المحقق النائيني عليه (١).

ثانيا : من انه لا معنى لإلغاء الآلية والاستقلالية معا ونفي كلا الأمرين عن الموضوع له ، مع ان المعنى لا يخلو اما ان يكون آليا واما استقلاليا ، فيكون ذلك من قبيل ارتفاع النقيضين ، وذلك لأن المنفي في كلامه ليس آلية المعني واستقلاليته ، وانما المنفي تعلق اللحاظ الآلي واللحاظ الاستقلالي به وان الموضوع له ذات المعنى من دون دخل اللحاظ فيه أصلا ، ومن الواضح ان بين الملحوظ آليا والملحوظ استقلاليا لهما واسطة وثالث وهو ذات المعنى كما عرفت ، فنفي كلا الأمرين ليس مثل نفي القيام واللاقيام والموجودية واللاموجودية ليكون ارتفاع النقيضين عن زيد مثلا ، بل يكون كنفي العلم والجهل عن شيء واحد فلا إشكال فيه.

وبالجملة فالذي يستفاد من ما ذكره قدس‌سره ان مراده من الاشتراط هو

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ١٥.

٣٨

اختصاص ثبوت العلقة الوضعيّة بين اللفظ وذات الحروف بما إذا كان المعنى ملحوظا آلة وحالة للغير ، فالوضع يكون مشروطا.

هذا ويرد عليه : انه ما المراد من الآلية والحالية؟

أما الآلية فان كان المراد منها كون المعنى الحرفي آلة للحاظ طرفيه كالسير والبصرة في المثال المعروف ، فيستحيل ان يكون الابتداء مرآتا لما هو مباين معه ويلحظ فانيا فيه ، إذ لا مناسبة بين المتباينين ليجعل أحدهما مرآتا للآخر ، وان أريد منه آلية لحاظ الكلي للحاظ أفراده ومصاديقه ، فان الكلي كما عرفت تارة يلحظ بما هو ويحمل عليه المعقولات الثانوية ، وأخرى يلحظ مرآتا لافراده وساريا فيها ، ويحمل عليه الأحكام الثابتة للافراد فيقال «النار حارة» أو «الماء يرفع العطش» وعليه فيلزم ان تكون المعاني الاسمية حرفيا إذا لوحظت مرآتا لمصاديقها ، وفانية فيها ، ولا يمكن الالتزام بشيء من ذلك.

وأما كون المعاني الحرفية حالة للغير فالحالية هي التي تكون فارقة بين المعنى المصدري والمعنى الاسم المصدري ، فان الاعراض حيث ان وجودها لنفسها عين وجودها لموضوعاتها فيمكن لحاظها بما هي موجودات مستقلة ، ويمكن لحاظها بما هي أوصاف لغيرها ، والأول هو المعنى الاسم المصدري كالحمرة ، ولذا لا يشتق منها الأفعال ، لأنها تكون من الجوامد بهذا اللحاظ ، فلا يقال حمر يحمر. والثاني هو المصدر كالاحمرار ، وعليه فيلزم ان يكون الاعراض الملحوظة بما هي صفات للغير أي المصادر معاني حرفية ، ولذا ذهب بعض الإعظام إلى الاحتمال الثالث في المعاني الحرفية ، وذكر ان الحروف لا تكون علائم محضة ، بل لها معنى هي موضوعة لها ، وهو النسب والربط ، إذ كما تقتضي حكمة الوضع ان يوضع الألفاظ لتفهيم المعاني المستقلة كذلك تقتضي ان يوضع اللفظ لتفهيم النسب الموجودة بينها ، فان الضرب مثلا تارة ينسب إلى الفاعل ، وأخرى إلى المفعول ، وثالثة إلى الآلة ، ورابعة إلى

٣٩

الظرف فيقال : «ضرب زيدا عمرا بالعصا في الدار» فما يدل على ثبوت النسبة بين العصي والضرب بالآلة انما هو لفظ «ب» وما يدل على النسبة بينه وبين الدار بالظرفية انما هو لفظ «في».

وهذه النسب وجودها وجود ربطي ولا في نفسه ، وقد عبّر بعض الفلاسفة بأنها متدليات بأنفسها والدال عليها هو الحروف ، وعليه فتكون مباينة مع الأسماء رأسا ونقول : ان هذا الوجه كان جميلا لو لا صحّة استعمال الحروف في غير الجواهر والأعراض مما هو فوقها ودونها ، مثلا يستعمل في البارئ ويقال : «قال الله تعالى لموسى» ويستعمل بين الشيء ونفسه فيقال : «زيد في نفسه عادل» ويستعمل فيما دون الجواهر والأعراض من الاعتبارات فيقال : «الإنسان ممكن في الخارج» أو المستحيلات فيقال : «اجتماع النقيضين مستحيل في الخارج» إلى غير ذلك ، ومن الواضح انه لا معنى لوجود النسبة خارجا في هذه الموارد أصلا ، فهذا الوجه أيضا لا يتم.

وبالجملة بناء على ثبوت المعنى للحروف وكون معانيها مباينة مع الأسماء قد قيل في تعيين ذلك وجهان :

الأول : ما تقدم من بعض أعاظم مشايخنا قدس‌سرهم من كون الحروف موضوعة لحقيقة النسب النّفس الأمرية ، وقد عرفت ما فيه.

الثاني : ما أفاده المحقق النائيني (١) ، وحاصله : ان الأسماء كلها معانيها إخطارية وينتقل الذهن من سماعها إلى معانيها ، مثلا ينتقل من لفظ زيد إلى تلك الذات ويكون حاكيا عنها ، وأما الحروف فهي إيجادية ويوجد به الربط بين الألفاظ.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ١٨.

٤٠