دراسات في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

الوقت بنحو وحدة المطلوب الّذي لازمه احتياج الوجوب في خارج الوقت إلى دليل آخر ، أو بنحو تعدد المطلوب لأن لا يحتاج إلى ذلك ، وعليه فلا جامع بين المسألتين أصلا.

ثم ليعلم امران :

الأول : انّ القول بالاجزاء يتوقّف على ان لا يكون لدليل الواجب الواقعي إطلاق يقتضي بقاء الوجوب حتى بعد الإتيان بما هو المأمور به بالأمر الظاهري أو الاضطراري ، وإلّا فلا مجال للاجزاء لقصور المقتضي من أول الأمر.

الثاني : انّ القول بعدم الاجتزاء يبتني على ان لا يكون للأمر الظاهري أو الاضطراري إطلاق يستفاد منه البدليّة المطلقة وكون متعلّقه وافيا بالغرض الواقعي ، وإلّا فلا مجال للقول بالاجزاء أيضا ، وعليه فعمدة البحث عن المقام مبتن على هذين الأمرين ، وانّ المستفاد من الدليل بحسب الفهم العرفي أي منهما.

وبالجملة : لا يعقل النزاع في اجزاء الإتيان بالمأمور به الواقعي بما له من الخصوصيات عن الأمر الواقعي فانّ الاجزاء حينئذ يكون ضروريا ، وهكذا اجزاء المأمور به الظاهري أو الاضطراري عن أمره.

نعم يمكن النزاع في اجزاء الإتيان بما هو المأمور به بالأمر الظاهري أو الاضطراري عن الأمر الواقعي ، وعليه فيكون الفرق بين مسألتنا ومسألة التكرار أو تبعيّة القضاء للأداء واضح ، فانّ البحث في تلك المسألة انما هو عما يستفاد من الدليل من المرّة والتكرار ، وفيما نحن فيه بعد وضوح مدلول الدليل يبحث عن وفاء المأمور به الاضطراري أو الظاهري بالغرض والمصلحة الواقعية وعدمه ، وفي مسألة تبعيّة القضاء للأداء يبحث عن كفاية الأمر الأول في وجوب العمل في خارج الوقت بعد فوت الواقع في الوقت ، فلا جامع بين هذه المسائل ليبحث عن وجه الفرق بينهما.

٢٢١

نعم بعد وضوح اجزاء الإتيان بالمأمور به الواقعي عن الأمر الواقعي وجواز الاكتفاء به يبقى الكلام في جواز تبديل الامتثال ، وانه هل يمكن ذلك أو انّ الاجزاء والاكتفاء بالامتثال الأول واجب؟

وقد ذكرنا في بحث المرّة والتكرار انه لا يعقل جواز تبديل الامتثال ، لأنه بعد الامتثال الأول ان كان الأمر باقيا فالامتثال الثاني واجب ، وان سقط الأمر فلا معنى للامتثال الثاني.

وما ذكره في الكفاية (١) من المثال العرفي وجواز تبديل الامتثال فيه لبقاء الغرض ففيه:

أولا : انّ الغرض من فعل المأمور به ليس إلّا ما يترتّب عليه من تمكّن المولى من رفع عطشه من تلك الناحية في المثال ، وليس الغرض منه رفع العطش ، وهو حاصل بمجرد الإتيان بالماء.

وثانيا : انّ بقاء الغرض بعد الامتثال على فرض تسليمه انّما يتصوّر في الموالي العرفية فيما إذا كان الغرض من الأمر مصلحة عائدة إلى الأمر فيمكن القول ببقاء الفرض ما لم يستوف الأمر مصلحته وان امتثل العبد ، وهذا بخلاف المولى الحقيقي فانّ المصلحة في موارد امره انما تكون عائدة إلى المكلفين ، وتحصل لا محالة بمجرد الامتثال.

وامّا الموارد التي توهم فيها ذلك في الشريعة كإعادة صلاة الآيات ما دامت الآية باقية ، واستحباب إعادة الصلاة جماعة إذا صلى المكلف منفردا ، أو صلى إماما وطلب منه الإمامة ثانيا ، أو صلى مأموما فأريد منه ان يصلى بهم إماما ، فلا بد من حملها على أحد وجهين على سبيل منع الخلو.

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ١٢٧.

٢٢٢

اما على استحباب الصلاة الثانية كما هو المتيقّن في إعادة صلاة الآيات ، وامّا على كون الثانية قضائية لما فات منه يقينا أو احتمالا ، والروايات الواردة في إعادة الفريضة في الموارد المذكورة قابلة الانطباق على ذلك ، فانّ في بعضها ذكر عنوان الفريضة فقط ، وفي بعضها صرّح بعنوان القضاء ، فيكون ذلك مبيّنا لما أريد من الفريضة في غيرها ، وامّا ما ورد في بعضها من انّ الله يختار له أحبهما فانما هو في مقام الاحتساب والكتابة في الديوان ، ولا مانع من ان يكتب غير الفريضة مكان الفريضة تفضلا إذا كانت أكمل كما يكتب عمل المغتاب لكن في ديوان المغتاب ـ بالفتح ـ وبالجملة ليس في الروايات ظهور في كون الإعادة من باب تبديل الامتثال أصلا. ثم لا يتوهّم انّ الجماعة غير مشروعة في الصلوات المستحبة ، فان ذلك انما هو في المستحبات الذاتيّة لا العرضية إذا قام الدليل على مشروعيتها فيها.

إذا عرفت ذلك ، فلنشرع في المطلب ، ويقع البحث في مقامين :

الأول : في اجزاء الاضطراري عن الواقع.

الثاني : في اجزاء الظاهري عن الواقع.

وفي المقام الأول : يقع الكلام في موردين :

أحدهما : في الاجزاء من حيث القضاء فيما إذا زال العذر بعد الوقت.

الثاني : في الاجزاء من حيث الأداء.

اما المورد الأول : فالظاهر هو الاجزاء ، وقد وقع التسالم عليه ، والوجه فيه هو انّ القضاء لو كان تابعا لفوت الفريضة الواقعية ففيما نحن فيه لم تفت الفريضة من المضطر ، لأنّ فريضته انما كان الوظيفة العذرية وغيرها لم تكن فريضة عليه كما يستفاد ذلك من الأدلة ، فانّ ظاهر قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا)(١) انّ

__________________

(١) النساء ـ ٤٣.

٢٢٣

الوضوء فريضة على الواجد دون غيره.

وان كان تابعا لفوت ملاك الواقع فهو في المقام مشكوك فيه ، إذا يحتمل كون المأمور به الاضطراري وافيا بتمام ملاك الواقع ومصلحته ، فموضوع وجوب القضاء غير محرز. هذا مضافا إلى انّ ظاهر الأدلة الاضطرارية وفاء متعلقاتها بتمام الغرض بالإضافة إلى المضطر كما عرفت.

هذا كلّه في المورد الأول.

وأما المورد الثاني : وهو اجزاء الاضطراري عن الأمر الواقعي بالإضافة إلى الأداء فيما إذا ارتفع العذر في الوقت ، فبالنسبة إلى خصوص التقية قد ورد الدليل عليه ، بل على أفضليّته. وامّا النزاع في ذلك بالنسبة إلى بقية الاعذار فهو مبتن على القول بجواز البدار الّذي هو فرع فقهي ، فانه على القول بعدم جواز البدار لا معنى للبحث عن الاجزاء ، إذ البحث عن ذلك انما هو في اجزاء المأمور به ، وعلى القول بعدم جواز البدار لا يكون المأتي به مصداقا للمأمور به أصلا حتى يبحث عن كونه مجزيا عن الواقع أو غير مجز.

نعم على القول بجواز ذلك يبحث عن الأجزاء إذا زال العذر والوقت باق.

وذهب السيد في العروة (١) إلى جواز البدار في خصوص التيمّم ، تمسّكا بالرواية الظاهرة في ذلك دون غيره ، وذهب بعض إلى جواز البدار في غير التيمم من العبادات ، تقديما لما ورد في عدم جواز البدار في خصوص التيمم.

والتحقيق : انّ مقتضى القاعدة عدم جواز البدار ، لأنّ الأمر إذا تعلق بإيجاد الطبيعي بين المبدأ والمنتهى فان كان جميع افراده الطولية متساوية الإقدام من حيث الوجدان للاجزاء والشرائط وفقدانه لها فلا محالة يحكم العقل بالتخيير بين جميع

__________________

(١) العروة الوثقى ـ ج ١ ـ ص ٣٥٥ ـ طبعة مدينة العلم ـ عام ١٤١٣ ه‍.

٢٢٤

الأفراد.

وأما إذا لم تكن جميع الأفراد متساوية ، كما إذا فرضنا انّ بعض افراد الطبيعي كان فاقدا لبعض ما اعتبر في المأمور به دون بعض ، فلا يحكم العقل حينئذ بالتخيير الا بين خصوص الافراد الواجدة ، فلا يكون غيرها مأمورا به أصلا ، مثلا لو فرضنا انّ المكلّف غير قادر على الصلاة الواجدة لما اعتبر فيها في ساعة من آخر النهار ، فلا محالة يتقيّد المأمور به بالنسبة إليه إلى غير ذاك الحد ، وهكذا من حيث المبدأ ، فإذا فرض انّ المكلّف عاجز عن الطهارة المائية مقدار من أول الزوال ، ولكنه تمكن منها في وسط الوقت فيتعيّن المأمور به في ما يؤتي به في ذاك الوقت ، فلا يكون غيره مأمورا به ، وهذا معنى عدم جواز البدار ، فجوازه لا بدّ وان يكون مستندا إلى أحد أمور ثلاثة :

اما ان يدل دليل خاص على ذلك ، فيكون جواز البدار حينئذ جوازا واقعيّا ، كما في التيمم والصلاة عن جلوس لمقتضى ظاهر قوله عليه‌السلام : «إذا قوي فليقم» (١).

وأما ان يطمئنّ المكلف ببقاء العذر واستمراره إلى آخر الوقت ، فيكون جواز البدار حينئذ بحكم العقل واعتقاديا.

واما ان يشك المكلف في استمرار عذره ، فيستصحب ذلك ، فيكون جواز البدار حينئذ ظاهريا بحكم الاستصحاب.

اما ما كان جواز البدار فيه من قبيل الثالث ثم ارتفع العذر في أثناء الوقت وانكشف الخلاف فلا إشكال في خروجه عما نحن فيه ، إذ عليه بانكشاف الخلاف يعلم انه لم يكن مضطرا ، وما أتى به لم يكن مأمورا به بالأمر الاضطراري ، وانما كان مأمورا به بالأمر الظاهري ، فيكون داخلا في المسألة الآتية.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ـ ج ٢ ـ ص ١٦٩.

٢٢٥

وامّا لو كان المستند في جواز البدار الاطمئنان وكان من قبيل القسم الثاني ، فلا إشكال حينئذ في عدم الاجزاء وخروج ذلك عن مورد النزاع ، لأنّ ما أتى به لم يكن مأمورا به واقعا أصلا ، وانما اعتقد وتخيّل كونه مأمورا به ، فلا وجه فيه للاجزاء.

واما فيما كان مستند الجواز الدليل الخاصّ وكان جواز البدار واقعيا ، ففي خصوص الصلاة اليومية التي دل الدليل من الإجماع وغيره على عدم وجوب كل من الصلوات الخمس في اليوم والليلة إلّا مرة واحدة يحكم بالاجزاء ، وذلك لأنه إذا قام الدليل على جواز البدار وان احتمل زوال العذر كاشف عن انّ وظيفة المضطر ما لم يرتفع اضطراره انما هو الأمر الاضطراري واقعا وزوال العذر يكون من قبيل تبدل العنوان ، نظير ما إذا صار المسافر حاضرا في أثناء الوقت ، فلو أتى المضطر بوظيفته في أول الوقت فقد سقط تكليفه وليس عليه الإعادة بعد ذلك.

وهذا معنى الاجزاء ، إلّا انه مختص بالصلوات اليوميّة ، مما دلّ الدليل على عدم وجوب أزيد من خمس صلوات على المكلف في كل يوم وليلة.

واما في غيرها مما يحتمل فيه ثبوت التكليف الواقعي بعد زوال العذر ، إذا لم يكن المأتي به الفاقد لبعض الاجزاء أو الشرائط اضطرارا وافيا بتمام المصلحة الملزمة فلا يجري ذلك.

والصحيح فيه انّ كلا من الاجزاء وعدمه ممكن فيه ثبوتا ، إذ لا مانع من ان يكون المأمور به الاضطراري وافيا بتمام المصلحة الواقعية فيجزي ، كما يمكن ان لا يكون وافيا بتمامها ويبقى منها بمقدار ملزم فيجب استيفائها إذا ارتفع العذر ، واما في مقام الإثبات ، فان كان للأمر الاضطراري إطلاق من حيث عدم لزوم الإعادة فيما إذا ارتفع العذر في أثناء الوقت ، ولو بترك الاستفصال فيتمسك به ويحكم بالاجزاء ، واما لو لم يكن لذاك الدليل إطلاق فتصل النوبة إلى الأصل العملي وهو البراءة لأنّ

٢٢٦

الشك انما هو في حدوث تكليف جديد بعد زوال العذر ، إذ التكليف الثابت بنحو الطلاق قد امتثل وسقط بذلك ، ودليل تقيّده بالقيد الفاقد انما كان يقيده به في حال التمكّن دون حال الاضطرار ، فلا يكون وافيا لإثبات التكليف بعد زوال العذر ، وعليه فبعد الاضطرار يكون الشك في حدوث تكليف آخر ، والأصل هو البراءة عنه.

ونمثل لذلك مثالا عرفيا ، وهو ما إذا امر المولى عبيده بان يأتوه في يوم الجمعة ، ثم أمرهم بان يلبس كل منهم العمامة حال مجيئه إلّا من لم يكن متمكّنا من ذلك فانه يأتي بلا عمامة ، فإذا فرضنا انّ بعضهم لم يكن متمكّنا فأتاه بلا عمامة ، ثم زال عذره وتمكن ، فهل يمكن توهم وجوب الإتيان عليه ثانيا بنفس ذاك الأمر الأول؟! والمقام من هذا القبيل.

ثم لا يخفى انه لا ينتقض ما ذكرنا بما إذا عجّز المكلف نفسه اختيارا فأتى بما هو وظيفة العاجز ثم زال عذره ولم يقل أحد فيه بالاجزاء ، وذلك لأنّ أدلة الاضطرار كقوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا)(١) لا يعم إلّا العاجز بطبعه دون من عجّز نفسه اختيارا ، فأدلة الاضطرار غير شامل لمثل ذلك.

وفي العرف لو امر المولى عبده بضيافة أحد فقال له ان كنت متمكّنا فأطعمه طبيخا وإلّا فتمّنا ، فإذا كان العبد قادرا على الأول وكان عنده ما يلزم طبخ التمن ولكن أتلفه اختيارا ، فأطعم الضيف الخبز لا يكون عرفا ممتثلا.

هذا كلّه في أجزاء الأمر الاضطراري عن الواقع.

المقام الثاني : في اجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي.

كما إذا فرضنا انّ الأمارة قامت على عدم وجوب السورة في الصلاة فأتى بها

__________________

(١) النساء ـ ٤٣.

٢٢٧

المكلف بلا سورة ، ثم انكشف الخلاف ، اما في الوقت واما في خارجه ، فهل يكتفي بما أتى به أم لا؟

وانكشاف الخلاف تارة : يكون قطعيا ، وأخرى : يكون بأمارة أخرى أقوى كما في تبدل رأي المجتهد مثلا ، فالكلام يقع في موردين :

المورد الأول : في ما لو انكشف الخلاف قطعا.

وقد ادّعى الإجماع على عدم الاجزاء في الفرض ، بل جعل القول بالاجزاء فيه من فروع القول بالتصويب المجمع على بطلانه.

والإنصاف : انّ ما ذكره من عدم الاجزاء في غاية المتانة من غير فرق بين موارد الشبهة الحكمية كما في المثال المتقدم ، وبين موارد الشبهة الموضوعيّة كما لو قامت البيّنة على طهارة ثوب فصلّى فيه ثم انكشف مخالفتها للواقع. وذلك لأنه لو فرضنا بقاء الواقع على حاله وعدم انقلابه بقيام الأمارة على خلافه ـ بناء على ما هو الحق من الطريقية أو المصلحة السلوكية ـ فسقوطه لا يكون إلّا بأحد أمرين :

امّا الإتيان بما هو المأمور به واقعا ، وامّا بقيام الدليل على الاجتزاء بغيره عنه ، وكلاهما مفقود في المقام ، فالقول بالأجزاء فيما نحن فيه في موارد الشبهات الحكمية مستلزم للتصويب واختصاص الأحكام الواقعية بالعالمين بها.

وأما في الشبهات الموضوعيّة ، فأخذ العلم في موضوعات الأحكام بان يكون معلوم البولية نجسا أو معلوم الخمرية حراما ، وان كان في نفسه ممكنا ، وعليه فيمكن القول بالأجزاء في موارد الشبهات الموضوعيّة ، إلّا انه يدفع ذلك امران :

أحدهما ـ انّ ظاهر الأدلة ثبوت الأحكام للعناوين الواقعية من غير دخل لعلم المكلف وجهله فيها ، فنفس البول نجس لا ما علم بوليّته.

ثانيهما ـ انّ دليل حجّية الأمارة وارد على نهج واحد ، فاما ان يستفاد منه الطريقية مطلقا ، أو يستفاد منه السببية مطلقا ، والتفصيل لا وجه له.

٢٢٨

وبعبارة أخرى : القول بالأجزاء فيها ان كان من جهة أخذ العلم في الموضوعات فيدفعه إطلاقات الأدلة ، وان كان من جهة قيام الأمارة ففيه : انّ لسان دليل حجّيتها لسان واحد ، فلا معنى لأن يدل على الطريقيّة في بعض الموارد ، وعلى السببية في بعضها.

هذا كلّه فيما إذا كان مستند الحكم الظاهري هو الأمارة.

واما ان كان مستنده الأصل العملي ، فهل يجري فيه ما تقدّم أم لا؟

ظاهر الكفاية (١) هو التفصيل ، ولنقدّم أولا ما أفاده في وجه ذلك ثم نذكر ما فيه ، وحاصل ما أفاد : ان الأمارة تكون ناظرة إلى وجود الواقع في باب الاجزاء والشرائط أو عدمه كما في موارد الموانع ، فمفاد الأمارة القائمة على طهارة الثوب مثلا هو الاخبار عن الطهارة الواقعية بحيث لو انكشف الخلاف يستكشف انه لم يكن هناك شيء أصلا بل كان المخبر مخطئا في اخباره ، وهذا بخلاف الأصل العملي ، فانّ مفاده جعل الحكم بعنوان الشاك نظير جعل الأحكام الواقعية على موضوعاتها النّفس الأمرية ، فكأنه هناك حكمان ، أحدهما : ثابت للعنوان الواقعي ، وثانيهما : لعنوان الشاك ، ونتيجة ذلك هو التوسعة في دليل الشرطية بالحكومة ، كقوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلّا بطهور» فيكون المراد من الطهور فيه الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية.

وعليه فلو اعتمد المكلّف على قاعدة الطهارة أو استصحابها ـ على القول بكونه من الأصول ـ وصلّى في الثوب المحتمل نجاسته مثلا ، فصلاته مشتمل على ما هو الشرط واقعا غايته الشرط الظاهري لا الواقعي ، وهذا بخلاف كشف الخلاف في باب الأمارات ، فانه يعلم منه انه لم يكن هناك شرط أصلا ، ولذا التزم بالأجزاء في

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ١٣٣ وما بعدها.

٢٢٩

موارد الأصول دون الأمارات.

وقد أورد عليه المحقق النائيني (١) بوجوه على ما في التقريرات ، ونحن نتعرّض لوجهين منها :

أحدهما ـ النقض بأمور.

منها : إذا طهّرنا الشيء المتنجّس بماء طاهر بحكم القاعدة ، ثم انكشف نجاسته ، فان لازم القول بحكومة الأصل العملي على دليل الشرطية هو ثبوت شرط المطهرية في الماء ، أعني الطهارة ، ولازمه ان يكون المغسول به طاهرا حتى بعد انكشاف الخلاف.

وبعبارة أخرى : لا فرق بين شرطية طهارة الثوب والبدن في الصلاة وبين شرطية طهارة الماء في باب الغسل ، فان اقتضى قيام الأصل على طهارة الثوب أو البدن تحقق الشرط في الصلاة حتى لو انكشف الخلاف لزم اقتضائه لذلك فيما إذا استندنا إلى الأصل في طهارة الماء المغسول به المتنجس ، وان كان اقتضاؤه للطهارة محدودة إلى زمان انكشاف الخلاف لجرى ذلك في الموردين.

ومنها : ما إذا لاقى شيء مع النجس الواقعي المحكوم بالطهارة بحكم الأصل ، فانّ لازم ذلك ان لا يكون الملاقي محكوما بالنجاسة حتى بعد انكشاف نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ في زمان تحقق الملاقاة ، وذلك لأنّ في وقت الملاقاة كان الملاقي محكوما بالطهارة على الفرض وبعد ما علم نجاسته لم تتحقق ملاقاة ، فلا تصدق ملاقاة هذا الشيء مع النجس.

ومنها : ما إذا بعنا الدهن المتنجس واقعا تمسكا بالأصل في طهارته ، ثم انكشف نجاسته ، فانّ لازم ما تقدم صحّة البيع حتى على القول باعتبار الطهارة في

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ٢٠٠.

٢٣٠

صحة بيع الدهن ، لأنه حين تحقق البيع كان محكوما بالطهارة ، ولا يضر بها ثبوت نجاسته بعد ذلك بانكشاف الخلاف ، كما يحكم بالاكتفاء بالصلاة المأتي بها في الثوب المتنجس ، أو مع نجاسة البدن مستندا في طهارته إلى الأصل عند انكشاف الخلاف في الوقت وقابلية التكليف للاستمرار ، إلى غير ذلك مما ينتقض به في المقام.

وثانيهما ـ الحل ، وهو انّ الحكومة على قسمين ، فانّ الدليل الحاكم تارة : يوجب التوسعة أو التضييق في الدليل المحكوم واقعا كما في حكومة قوله عليه‌السلام : «كل مسكر خمر» على قوله عليه‌السلام : «الخمر حرام» ، ويعبر عنه : «بالحكومة الواقعية» ، وأخرى : يوجب التوسعة أو التضييق في المحكوم ما دام الشك موجودا ، ويعبر عن ذلك «بالحكومة الظاهرية» ، والمقام من قبيل الثاني ، وعليه فبعد انكشاف الخلاف تنعدم الحكومة ، فيكون التكليف بالطبيعي الواجد للشرط باقيا على حاله ، فتجب الإعادة.

ثم انّ الاجتزاء بالصلاة في الثوب المتنجس انما هو من جهة النص الخاصّ لا لكون الاستناد في طهارته على الأصل العملي ، ولذا يحكم بالاجزاء في ذلك أيضا وان كان المستند في الطهارة غير الأصل من البيّنة والقطع الوجداني وغير ذلك بل في فرض الغفلة أيضا ، فينكشف من ذلك انّ المانع من الصلاة انما هو العلم بالنجاسة لا النجاسة الواقعيّة.

المورد الثاني : أعني ما إذا كان انكشاف الخلاف بقيام الأمارة على خلاف الحكم الظاهري لا بالقطع الوجداني.

وتارة : يتصوّر ذلك في الشبهة الموضوعية ، كما لو اعتمد المصلي في الثوب النجس أو المتوضئ بماء متنجس واقعا على القاعدة ، أو على قول ذي اليد فقامت البينة على نجاسته ، أو استند المتوضئ في حلّية الماء على أصالة الحل ـ بناء على ما هو المختار من اعتبار الحلّية الواقعية في ما يتوضّأ به ـ ثم قامت حجّة أقوى على كونه

٢٣١

مغصوبا.

وأخرى : يتصوّر في الشبهة الحكمية ، كما في موارد تبدل رأي المجتهد الّذي هو مورد بحثنا هنا.

والمشهور ذهبوا إلى عدم الاجزاء في الأول ، والاجزاء في الثاني.

والصحيح : انه لا وجه للتفصيل ، وذلك :

أولا ـ فلأنّ دليل حجّية الطرق والأمارات واحد بلسان واحد ، فكيف يستفاد منه الاجزاء في الشبهة الحكمية وعدمه في الشبهات الموضوعية؟! وهذا هو النقض.

وثانيا ـ وهو الحل ، انّ الاكتفاء بالمأتي به في مقام الامتثال يكون بأحد أمرين : أما الإتيان بما هو المأمور به واقعا ، وحينئذ يكون الاجزاء عقليا. وأما ورود الدليل على اكتفاء الشارع بالمأتي به في مقام الامتثال كما وقع ذلك في موارد قاعدة التجاوز والفراغ ، وإلّا فالعقل يحكم بالاشتغال لا محالة.

ثم انّ ما ذكرناه مستمر حدوثا وبقاء ، فكما نحتاج إلى أحد الأمرين في الاجتزاء بالمأتي به والحكم بحصول الامتثال حدوثا نحتاج إلى ذلك في مرحلة البقاء أيضا ، فإذا انكشف الخلاف في الحكم الظاهري المعتمد عليه في مقام الامتثال لا بدّ من الحكم بعدم حصول الامتثال بقاء من غير فرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية ، فيجب الإعادة أو القضاء.

توضيح ذلك : انّ المجتهد تارة : يستند في مقام الفتيا على قطعه الوجداني ، ثم ينكشف له الخلاف في ذلك ، كما لو اعتقد ظهور لفظ الصعيد في مطلق وجه الأرض فقام بعد ذلك عنده دليل على انه خصوص التراب ، أو اعتقد انّ الراوي الفلاني ثقة عدل ، ثم ظهر خلافه ، وهذا الفرض خارج عما نحن فيه ، إذ لم يكن هناك حكم ظاهري أصلا ، وانما تخيل المجتهد ثبوته.

٢٣٢

وأخرى : يستند في مقام الفتيا إلى أصل لفظي ، كأصالة العموم بعد الفحص عن المخصص وعدم الظفر به ، أو أصل عملي ، ثم عثر على المخصص بعد ذلك ، أو قامت عنده أمارة على خلاف مؤدى الأصل العملي ، وفي مثل ذلك وان كان الامتثال ثابتا بحكم الشارع حدوثا لثبوت الحكم الظاهري واقعا ما دام الجهل موجودا ولذا لا تعقل الشبهة المصداقية في الأحكام الظاهرية بخلاف الحكم الواقعي ، إلّا انّ ذلك يرتفع بقاء بانكشاف الخلاف على ما بيّناه ، فتجب الإعادة ان كان في الوقت ، والقضاء ان كان في خارج الوقت.

وان شئت فقل : تبدل رأى الفقيه يكون على أقسام ثلاثة :

الأول : ان يكون فتواه الأولى ناشئة من تطبيقه الكبرى على الصغرى باعتقاده انها من افرادها ، مثلا اعتقد كون اللفظ الخاصّ ظاهرا في المعنى المخصوص ، كما كان أكثر العلماء فيما تقدم يعتقدون ظهور كلمة «ما» الموصولة في العموم ، أو اعتقد قيام حجة على حكم ، أو كون راوي الحديث الكذائي هو «أبو بصير» الثقة ، ثم بعد العمل على طبق قطعه انكشف له الخلاف ، وفي هذا القسم لا مجال لتوهم الاجزاء أصلا ، لأنه لم يكن هناك حكم لا ظاهري ولا واقعي ، بل كان تخيّل لثبوت الحكم.

الثاني : ان يكون المستند في فتواه الأولى حجة شرعية ، كما لو فرضنا انه ظفر على رواية معتبرة دالة على حكم شرعي وبعد الفحص لم يعثر على ما يعارضها ، فأفتى على طبقها ، ثم ظفر بعد ذلك على ما يسقطها عن الحجيّة ، كما لو فرضنا انه بعد مدّة ظفر على معارض لها بحيث سقطا معا عن الحجّية ، فرفع المجتهد يده عن فتواه الأولى من دون ان يعدل إلى ما يوافق مؤدى الحجة الثانية لسقوطها بالمعارضة والتعبير بتبدل الرّأي في الموردين غير خال عن المسامحة أيضا.

الثالث : ان يكون في فتواه الأولى مستندا إلى حجّة شرعيّة ثم عثر على حجّة

٢٣٣

أقوى منها من دليل مخصص أو حاكم أو وارد على الدليل الأول ، بحيث عدل إلى مفادها ، مثلا كان معتمدا على عموم «حرم الرّبا» ولم يكن عاثرا على قوله عليه‌السلام : (لا ربا بين الوالد والولد) ، وكان بانيا على حرمة الرّبا بينهما مدّة ، وكان عاملا على ذلك إلى أن ظفر بالمخصص فتبدل رأيه.

فعلى الأول لا مجال للقول بالاجزاء كما عرفت.

وعلى الثاني لا بد من التفصيل بين انكشاف الخلاف في الوقت وخارجه أي بين القضاء والأداء ، فان انكشف الخلاف في الوقت تجب الإعادة بمقتضى حكم العقل بقاعدة الاشتغال لكون الشك في الامتثال بقاء بعد العلم بالتكليف ، واما لو انكشف الخلاف بعد انقضاء الوقت فالتكليف الثابت في الوقت سقط قطعا ، لأنّ الصحيح انّ القضاء يكون بأمر جديد لا بالأمر الأول ، وثبوت الأمر بالقضاء في حق هذا الشخص مشكوك لعدم إحراز موضوعه ، وهو فوت الواقع ، لأنه يحتمل وجدانا كون ما أتى به موافقا للواقع وان سقطت الحجّة القائمة على ذلك بقاء ، إذ لم تقم حجّة على خلافه أيضا كما هو المفروض ، فيدفع احتمال التكليف بالقضاء بالبراءة.

وأما على الثالث ، فالصحيح هو عدم الاجزاء مطلقا ، وسواء انكشف الخلاف في الوقت أو في خارجه. اما في الوقت ، فواضح ، واما في خارج الوقت ، فلأنّ مفاد الحجّة الأقوى القائمة على خلاف الحجّة الأولى انما هو كون الواقع من أول الأمر مطابقا لمؤداها ، فغاية الأمر كان الحكم الظاهري ثابتا إلى زمان وصول الحجّة الثانية ، فإذا كان الحكم الواقعي من أول الأمر كذلك والمفروض انه لم يأت به ، ففاته ذلك ، فيتحقق موضوع القضاء وهو الفوت لا محالة من دون حاجة إلى الاستصحاب ولا إلى غيره.

وحاصل الكلام في المقام هو انّ منشأ رأي المجتهد الّذي ينكشف له فيه

٢٣٤

الخلاف تارة : يكون هو القطع الوجداني فيرى بعد مدة خطأه في ذلك ، وفي الحقيقة يكون التعبير حينئذ بتبدل الرّأي غير خال عن المسامحة ، وأخرى : يكون حجّة شرعيّة ، ثم يعارضها حجّة أخرى بحيث تسقط كلاهما عن الحجّية من دون ان يستلزم قيام الحجّة الثانية تبدل رأي الفقيه على طبق مؤداها ، وثالثة : يكون قيام الحجّة الثانية موجبا لذلك ، كما إذا كانت الحجّة الثانية مخصّصة للدليل الأول ، أو واردا أو حاكما عليه.

امّا على الأول ، فلا مجال للبحث عن الاجزاء أصلا ، لانتفاء كل من الحكم الواقعي والظاهري في مورده.

وامّا على الثاني ، فيفصل بين كون الانكشاف في الوقت أو في خارجه ، فإذا كان الانكشاف في الوقت تجب الإعادة ، لأنّ الحجّة الثانية وان لم توجب عدم حجّية الدليل الأول حدوثا إلّا انها توجب سقوطها عن الحجيّة بقاء فمن حيث البقاء ليس له دليل شرعي على اكتفاء الشارع بما أتى به ولو لم يكن موافقا للواقع ، فكما يحتمل حصول الامتثال لاحتماله مطابقة ما أتى به مع الواقع كذلك يحتمل عدم حصوله لاحتماله عدم المطابقة ، ومقتضى حكم العقل بالاشتغال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم هو الإتيان بما يحرز معه الامتثال ولا يخفى انّ هذا انما يكون فيما إذا كان التبدل في رأي المجتهد واجتهاده لا فيما إذا كان التبدل في المدرك من دون حصول تبدل في الرّأي ، كما لو فرضنا انه كان بانيا على عدم وجوب السورة في الصلاة معتمدا على الروايات الواردة في ذلك ، ثم عثر على معارضها ، ولكن كان مستمرا على رأيه معتمدا على البراءة ، ففي مثل ذلك لا تجب الإعادة في الوقت أيضا ، لثبوت الحجّة على الاجتزاء بقاء أيضا ، وهذا واضح.

وامّا إذا كان الانكشاف في خارج الوقت ، فحيث انه يعلم بسقوط التكليف السابق ، امّا بالامتثال لو كان المأتي به موافقا مع الواقع ، وامّا بخروج الوقت لو لم

٢٣٥

يكن الأمر كذلك ، وتعلق التكليف بالقضاء به مشكوك لعدم إحرازه الفوت ، فيدفع بالبراءة ، وقد عرفت انّ استصحاب عدم الإتيان بالواقع لا يثبت عنوان الفوت.

وامّا في القسم الثالث ، فلا يفرق بين القضاء والأداء ، فيحكم بعدم الاجزاء فيهما ، اما فيما إذا انكشف الخلاف في الوقت فواضح ، واما إذا انكشف الخلاف في خارج الوقت ، فلأنّ نفس الحجّة الثانية المفروض كونها أقوى تثبت انّ الحكم الواقعي من أول الأمر كان على طبق مؤداها ، غاية الأمر انّ المكلّف كان ممتثلا بحكم الشارع إلى الآن ، والمفروض انه لم يمتثل الواقع الثابت بمقتضى الحجة الثانية وفاته ذلك فيجب القضاء.

وان شئت فقل : انّ لازم قيام الحجّة الأقوى تحقق الفوت ، وهي حجّة في لوازمها العقلية ، لأنها من الأمارات ، فيتحقق موضوع القضاء.

هذا كله بناء على الطريقية المحضة.

واما على السببية ، فتارة : يقع الكلام فيما يمكن الالتزام به من اقسامها ، وأخرى : في ما يترتب عليها من الأجزاء وعدمه.

فنقول : امّا السببية المنسوبة إلى جملة من الأشاعرة ، وهي كون الواقع تابعا لرأي المجتهد ، فهو غير معقول كما أفاد العلّامة ، إذ لو لم يكن في الواقع حكم فعمّا يفحص المجتهد؟ وبما ذا يتعلّق رأيه؟

واما السببية المنسوبة إلى المعتزلة ، فهي وان لم تكن بهذه المثابة من الفساد ، ولا تكون مستحيلة ، إذ يمكن ان يتبدل الواقع بقيام الأمارة على خلافه كما تتبدل الأحكام بطرو العناوين الثانوية ، كنذر الأمر المباح والشرط في ضمن العقد وأمثال ذلك ، فلا مانع من ان يكون خبر العادل مثلا لموضوعيّته في نظر الشارع موجبا لانقلاب الواقع ، إلّا انه مخالف للإجماع وللاخبار ، مثل قوله عليه‌السلام : «للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد» أي أجر الانقياد فقط ، فعلى الأول لا مجال للبحث عن

٢٣٦

الاجزاء أصلا ، لأنه ليس هناك حكم واقعي غير مؤدى الأمارة ليبحث عن اجزاء امر آخر عنه.

وامّا على الثاني ، وان كان مجال للنزاع إلّا انه لا بدّ فيه أيضا من القول بالأجزاء ، لأنّ ما أتى به كان هو الواقع بالنسبة إليه حين الإتيان بالعمل ، فما أفاده الشهيد من كون القول بالأجزاء من فروع التصويب تام لا شبهة فيه.

بقي الكلام في القسم الثالث من أقسام السببية ، وهو ما ذهب إليه بعض الإمامية على ما يستفاد من كلام الشيخ قدس‌سره ، من الالتزام بالمصلحة السلوكية ، ويقع الكلام تارة : في بيان ذلك واستلزامه للقول بالاجزاء وعدمه ، وأخرى : من حيث صحّة الالتزام به وعدمها.

فنقول : تختلف السببية بهذا المعنى من حيث السعة والضيق ، أعني الطول والقصر ، فانّ المصلحة السلوكية التي يتدارك بها ما يفوت من المكلّف من المصلحة الواقعية لا بدّ وان تكون بالمقدار الّذي يكون فواته مستندا إلى سلوك الطريق ، فإذا فرضنا ثبوت انكشاف مخالفة الأمارة للواقع بعد فوات وقت الفضيلة فقط لا محالة يكون السلوك بذاك المقدار ، فتكون المصلحة السلوكية أيضا كذلك ، وإذا فرضنا تحقق انكشاف الخلاف بعد انقضاء أصل الوقت فالترك في الوقت يكون مستندا إلى سلوك الطريق دون ترك القضاء في خارجه ، فيتدارك بالمصلحة السلوكية مصلحة أصل الوقت ، كما انه ربما لا ينكشف الخلاف إلّا في وقت لا يمكنه القضاء أيضا ، فيوصي ذلك إلى وصيه ، فلا بدّ وان يتدارك ذلك المقدار من المصلحة ، وربما لا ينكشف الخلاف إلى الأبد ، فتمام مصلحة الواقع تتدارك بالمصلحة السلوكية بسبب الانقياد.

وبالجملة فالمصلحة السلوكية لا يتدارك بها أصل المصلحة الواقعية ، وعليه فمهما انكشف الخلاف يكون الواقع باقيا على حاله من اشتماله على المصلحة ، غاية

٢٣٧

الأمر المقدار الفائت من المصلحة بسبب السلوك يكون متداركا ، فيجب الإتيان به من غير فرق بين كون انكشاف الخلاف في الوقت أو في خارجه ، فعدم الاجزاء واضح على القول بالسببية بهذا المعنى بخلاف القول بالسببية بالمعنيين المتقدمين المستلزمة للاجزاء والتأمل يقتضي التفصيل في الأجزاء وعدمه بين القضاء والأداء على السببية بهذا المعنى أيضا ، وذلك لأنه لو كان وجوب الصلاة في الوقت مثلا بتعدد الأمر أمكن ان يقال فيما إذا انكشف الخلاف بعد الوقت انّ مصلحة الوقت متداركة بالسلوك ومصلحة أصل الواجب باقية غير متداركة فيجب تداركها ، وامّا على المختار من كون القضاء بأمر جديد وانّ الصلاة في الوقت قد تعلّق بها تكليف واحد ، فلا معنى لاستيفاء مصلحة الوقت وبقاء مصلحة أصل الواجب ، إذ لا معنى للتفصيل ، بل لا بدّ حينئذ من الالتزام ببقاء تمام المصلحة وعدم تداركها أصلا ، وهو خلف ، أو الالتزام باستيفائها جميعها ، أي مصلحة أصل الواجب ، وهو المتعيّن ، وعليه فلا يبقى مجال للإعادة ، فيجري ما أتى به عن القضاء ، وهذا بخلاف الانكشاف في الوقت ، فتأمّل.

هذا كلّه في بيان السببية بالمعنى الثالث.

واما الالتزام بها فالظاهر انه غير ممكن وذلك لاستلزامها التصويب وانقلاب الواقع خلافا للمحقق النائيني ، لأنه لو كان هناك فعلان وكان كل منهما وافيا بالمصلحة نفرضهما صلاة الجمعة وصلاة الظهر ، لا يمكن للشارع جعل الوجوب لأحدهما تعيينا ، بل لا بدّ له من إيجاب أحدهما بنحو التخيير ، وفيما نحن فيه إذا فرضنا انّ قيام الأمارة على الخلاف أوجب حدوث مصلحة في مؤداها بالقياس إلى الجاهل بالواقع فلا بدّ من ان يكون التكليف الواقعي بالقياس إليه تخييريا ، اما التكليف الاستحبابي فيما إذا كان السلوك في مقدار فوت فضيلة الوقت ، واما التكليف الأدائي فيما إذا كان السلوك في تمامه ، وامّا أصل التكليف حتى القضائي لو

٢٣٨

كان السلوك إلى آخر العمر ، وهذا هو التصويب المجمع على بطلانه ، غاية الأمر انه فرق بين الانقلاب اللازم من هذه السببية والسببية على النحوين المتقدّمين ، إذ عليهما يكون الانقلاب في أصل الحكم وفي المقام في خصوصيّته ، أعني التعينيّة وانقلابها إلى التخيير فلا يمكن الالتزام به.

ثم لو تنزّلنا عن ذلك وقلنا بإمكانها ثبوتا ، فمن الواضح عدم كفاية الإمكان الثبوتي في الحكم بالواقع ، بل لا بدّ له من قيام دليل في مقام الإثبات ، ولا دليل عليه ، وذلك لأنه لو كنت هذه الطرق والأمارات أمور تأسيسية من الشارع لأمكن استظهار السببية من أدلة حجيّتها بدعوى ظهورها في الموضوعية ، ولكن الأمر ليس كذلك ، بل جميعها طرق عقلائية قد أمضاها الشارع كما هي عند العقلاء ، ومن الواضح انه ليس للعقلاء جعل حكم في مواردها ، بل انما يرونها طرقا محضة وبنوا على طريقيتها حفظا للناظم ، فالإمضاء الشرعي أيضا يكون كذلك.

فالصحيح انّ السببية بجميع معانيها مما لا يمكن الالتزام بها.

والجواب عن شبهة ابن قبة ، يكون بأمور أخر تعرّضنا لها في مجالها.

٢٣٩

تنبيهات

التنبيه الأول : فصل المحقق الخراسانيّ في الكفاية (١) على القول بالسببية المستلزمة للإجزاء بين ما إذا قامت الأمارة على الحكم ثم انكشف الخلاف ، وبين ما إذا قامت على بيان متعلق التكليف فانكشف خلافها ، فذهب إلى القول بالاجزاء في الثاني دون الأول بتخيل انه لا مانع من ثبوت تكليفين بعد قيام الأمارة ، أحدهما مشترك بين العالم والجاهل وهو الحكم الواقعي ، والآخر ثابت للجاهل الّذي قامت الأمارة عنده على الخلاف بعنوان ثانوي ، فلا تنافي بينهما ، وعليه فبعد انكشاف الخلاف يكون الواقع باقيا على حاله ، فيجب الخروج عن عهدته ، وهذا بخلاف ما إذا قامت على تعيين متعلّق التكليف.

وفيه ـ انه لو كانت الأمارة ناظرة إلى تعيين الواقع المجهول إلى مؤداها فلا بدّ من القول بالاجزاء من غير فرق بين الصورتين ، وذلك لأنها حينئذ بالدلالة الالتزامية تدل على نفي الواقع عن غير مؤداها ، مثلا لو قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة فبالدلالة الالتزامية يعيّن المعلوم وهو وجوب إحدى الصلاتين في مؤداها ، وينفى وجوب صلاة الظهر ، فيسقط لا محالة وينقلب كما هو المفروض ، كما انه ينقلب الواجب فيما إذا قامت الأمارة على متعلق التكليف ، مثل كون الواجب للمسافر إلى أربع فراسخ هو القصر مثلا ، فينفي بالالتزام وجوب التمام عنه ، فيجزي المأتي به لا محالة.

واما لو لم تكن ناظرة إلى تعيين الواقع المجهول في المؤدى ، فلا وجه للاجزاء على الفرضين ، إذ كما يحتمل ثبوت تكليفين عند قيام الأمارة على الخلاف فيما إذا

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ١٣٤.

٢٤٠