دراسات في علم الأصول - ج ١

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

المقام الثالث

في دلالة الأمر على التعبّدية والتوصّلية

وقد فرّق في الكفاية (١) بينهما بأنّ التعبّدي ما لا يحصل الغرض منه إلّا بإضافته إلى المولى بخلاف التوصّلي ، وكلامه غير خال عن المسامحة ، فانّ في موارد الأمر غرضان : أحدهما في طول الآخر ، فالآمر الملتفت العاقل إذا رأى المصلحة في فعل عبيده لا محالة يشتاقها ، فتكون هي الغرض الأولي ، وحيث انه مترتّب على فعل العبد الصادر باختياره فينقدح له غرض آخر وهو إيجاد الداعي ولو إمكانا في نفس العبد وبعثه وتحريكه ، وهذا هو الغرض الثاني ، وهو مترتّب على نفس الإيجاب وفعل المولى.

وفي هذا الغرض لا يفرّق بين التوصّليات والتعبّديات ، وانما اختلافهما يكون في الغرض المترتّب على فعل العبد وهو المصلحة ، ففي التعبّدي لا يترتّب ذلك إلّا إذا أضيف العمل إلى المولى وجيء به خضوعا وعبوديّة كالإمساك مثلا ، وفي الثاني يترتّب على مجرّد تحقق الفعل في الخارج كإعطاء الماء للعطشان ، أو الخبز للجائع ليشبع.

وقد فسّر التعبّدي بمعنى آخر وهو : انّ التعبدي ما اعتبر فيه الشارع أمورا ثلاثة ، المباشرة والاختيار وإيجاد العمل في ضمن الفرد المباح ، وفي قباله التوصّلي

__________________

(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ١٠٧.

١٨١

ما لم يعتبر فيه ذلك.

وبين التفسيرين عموم من وجه ، ومادّة الافتراق من ناحية المعنى الأول على الظاهر منحصر بقضاء الولي صلاة والديه ، فانه مما يعتبر فيه الخضوع والإضافة إلى المولى ولكنه يسقط بفعل الغير بالاستنابة أو بالتبرّع ، فلا يعتبر فيه المباشرة ولا الاختيار.

ومورد الافتراق من ناحية المعنى الثاني على الظاهر هو ردّ السلام ، فانه لا يعتبر فيه التقرّب ولكنه لا يسقط بفعل الغير وبغير الاختيار وبالفرد المحرم فتأمّل.

ثم إذا شك في تعبّدية واجب وتوصّليّته ، فهل مقتضى الأصل هو الأول أو الثاني؟

لا يخفى أنه تارة : يعلم من الخارج اعتبار القصد والاختيار في متعلّق تكليف المولى بان يعلم بكون المأمور به من العناوين القصديّة كعنوان التعظيم الّذي لا يتحقّق إلّا بقصده ، أو يعلم اعتبار قصد القربة في الواجب كما في الإمساك ، فانّ مجرّد ترك الأكل والشرب وبقيّة المفطرات لا يكون واجبا إلّا إذا انضمّ إليها قصد القربة ، ولا ريب في خروج ذلك عن حريم النزاع.

وأخرى : يعلم بعدم دخل القصد والاختيار ولا الخضوع في المأمور به كالأمر بغسل الجسد عن الخبث للصلاة ، وهو أيضا خارج عن مورد النزاع ، فانّ الواجب في غسل الثوب يحصل ، ولو بفعل الغير أو بالوقوع في البحر ولو عن إكراه أو سهو ، وانما البحث فيما إذا لم يعلم ذلك وشك بعد الإتيان بالعمل ، اما عن غير اختيار ، أو بدون قصد القربة في كونه مسقطا للواجب يمكن الأجزاء به وعدمه ، وهذا بحث كثير الفائدة في الفقه ، فهنا فيما إذا شك يمكن الاجزاء به وعدمه ، ويقع الكلام فيه في مقامين ، الأول في ما يقتضيه الأصل اللفظي ، والثاني في مقتضى الأصل العملي.

أما النقطة الأولى فقد استدل على اعتبار الاختيار في المأمور به بوجوه.

١٨٢

الأول : انّ الهيئة منصرفة إلى إسناد الفعل الاختياري إلى الفاعل ، فهيئة «ضرب زيد» ظاهرة في ثبوت النسبة الاختيارية بين الضرب وفاعله ، وهكذا الهيئة في صيغة افعل فانها موضوعة للنسبة الإيقاعية الاختيارية.

وفيه : انّ الاختيار والقصد خارج عن مفاد الهيئة على جميع الأقوال فيها ، سواء كانت موضوعة لثبوت النسبة ، أو للحكاية عنه ، فكون المحكي اختياريا أو غير اختياري لا يستفاد من الهيئة أصلا ، ولذا يمكن استعماله في كلامين مثل «أكل زيد» الّذي هو فعل اختياري ومثل «مات عمر» والّذي هو أمر غير اختياري.

الثاني : انّ المادة منصرفة إلى الحدث الصادر عن الاختيار.

وفيه : انّ الانصراف لا يكون بلا وجه وبلا ملاك ، وملاكه انما هو خروج الفرد عن كونه مصداقا للطبيعة بنظر العرف ، ولو كان فردا لها حقيقة ، اما لضعفه ، واما لقوّته ، والأول مثل انصراف الغصب عن مثل دقّ باب الغير ومس حائطه ، والثاني مثل انصراف الحيوان عن الإنسان الكامل مع انه مصداقه حقيقة ، وليس شيء من الأمرين متحقّق فيما نحن فيه ، فانّ نسبة الطبيعي إلى الفرد الاختياري والغير الاختياري تكون على حدّ سواء ، مثلا الحركة التي هي القسم للاختيارية والقسرية والطبعية تكون كليا متواطئا لا مشككا ، وهكذا عنوان الضرب.

وقد استدل المحقق النائيني (١) على كون المأمور به اختياريا بوجهين :

أحدهما : أنّ ملاك الوجوب الّذي يتّبعه ليس هو الحسن العقلي الثابت في الاختياري منه والاضطراري ، وانما هو الحسن الفاعلي المتقوّم بالاختيار ، فالمأمور به دائما يكون هو الفعل الاختياري.

وفيه : أولا : انّ كون ملاك الوجوب هو الحسن الفاعلي لا العقلي هو أول

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ١٠١ ـ ١٠٢.

١٨٣

الكلام ، وقول بلا دليل.

وثانيا : على ذلك يلزم سد باب التوصليّات بالكلّية ، فانّ الإتيان بالواجب التوصّلي كالإنفاق على الزوجة بغير قصد القربة لا يوجب حسن فاعله ، فليس فيه ملاك الوجوب ليكون مصداقا للواجب.

ثانيهما : انّ نفس البعث والتحريك يقتضي إمكان الانبعاث والتحرك ، إذ لا معنى للبعث نحو الأمر الغير المقدور ، فالقدرة على المأمور به تكون من مقتضيات نفس الأمر ، فالأمر بالدلالة الالتزامية يدل على كون متعلّقه خصوص الحصّة الاختياريّة.

وبعبارة أخرى : كما ان البعث التكويني لا يعقل نحو غير المقدور ، مثل ان يبعث تكوينا أحد إنسانا إلى الطيران إلى السماء ، كذلك لا يعقل البعث التشريعي نحو امر غير مقدور للمكلّف ، وعليه فمقتضى إطلاق دليل الواجب لو كان له إطلاق هو الإتيان بالفرد الاختياري حتى في فرض تحقق الفرد الغير الاختياري ، ولو لم يكن للدليل إطلاق فالاستصحاب أو الاشتغال يقتضي ذلك.

هذا ونقول : لا يتم ما أفاده من اعتبار القدرة في الأمر مطلقا على جميع الأقوال في حقيقة الأمر ، فانّ ذلك انما يتم لو قلنا بأنّ حقيقة الأمر ومدلول الصيغة هو البعث والتحريك ، أو قلنا بأنه الطلب ، أو قلنا بأنه النسبة الإيقاعيّة بداعي التحريك ، فانّ جميع ذلك يقتضي إمكان التحرك والانبعاث ، وأما لو قلنا بأنّ الأمر هو اعتبار اللابدية فلا وجه لاعتبار القدرة فيه أصلا.

بيان ذلك : انه تارة يكون الطبيعي خارجا عن اختيار المكلّف بجميع افراده بحيث لا يكون له فرد مقدور أصلا ، وأخرى يكون بعض افراده مقدورا دون بعض.

امّا على الأول ، فاعتبار لابدّيته وان كان ممكنا في نفسه إلّا انه لغو لا يصدر

١٨٤

من الحكيم ، فلو امر المولى عبده بالطيران إلى السماء بغير آلة يقال له انك مجنون.

وأما الثاني ، فان كان الغرض مترتّبا على خصوص الحصّة الاختياريّة من الطبيعي ، فهو خارج عن محل الكلام ، واما ان كان الغرض مترتبا على الجامع وكان كل من الفرد الاختياري وغير الاختياري متساوي الأقدام من حيث الوفاء بغرض المولى فتقييد أمره حينئذ بخصوص الحصّة الاختياريّة يكون بلا موجب ، فلا محالة يأمر بالطبيعي على الإطلاق والسريان بمعنى رفض القيود وهو الإطلاق اللحاظي ، فتبقى جهة لغوية ذلك ويدفعها انّ ذلك يكون للتوسعة على العبيد فيما إذا صدر منهم الفعل بغير اختياره فانه لو كان المأمور به مطلق الطبيعي لحصل الامتثال بذلك ولم يحتج إلى الإعادة.

وهذا بخلاف ما إذا كان متعلّق التكليف خصوص الفرد الاختياري ، فانّ الاجتزاء بغير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل.

والحاصل على هذا فلو كان للآمر إطلاق نتمسّك به لنفي تقيد المأمور به بالاختيار ، فالمتيقّن هو تعلّق التكليف بالجامع ، وتقييده بخصوصيّة الاختيارية مشكوك ، فيكون من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، والأصل عدم تقيّد المأمور به بذلك.

ويترتّب على ما ذكرناه من عدم اعتبار القدرة في جميع متعلّق افراد التكليف ثمر مهم في باب التزاحم على القول بعدم الترتب ، فانّ تصحيح العبادة المهم من ناحية الملاك يتوقّف على عدم اعتبار القدرة في متعلّق الأمر وثبوت إطلاق له ليعم الفرد الغير المقدور أيضا ، وإلّا فليس لنا طريق لإثبات الملاك في الفرد المزاحم بواجب أهم.

المسألة الثانية : إذا صدر الواجب وتحقّق خارجا عن غير المكلّف وشككنا في كونه مسقطا للواجب عن ذمّة المكلّف فهناك صور ، فانه تارة يكون صدور

١٨٥

الفعل عن غير المكلّف أجنبيا عن المكلف من دون ان يقصد به إتيانه عن المكلّف أو يتبرّع عنه ، وأخرى يأتي بالفعل من قبل المكلّف.

أما على الأول ، فلا وجه للقول بسقوط الواجب عن المكلّف بمجرد عمل شخص آخر أجنبي عنه ، كما لو فرضنا انّ زيدا مديون لعمر بعشرة دراهم فدفع بكر إليه عشرة دراهم من غير ان يقصد به النيابة عن زيد ، أو إبراء ذمّته ، فهل يتوهّم في مثل ذلك سقوط الدين عن ذمّة المديون بلا وجه؟!

والسرّ فيه هو انّ سقوط التكليف عن ذمّة المكلّف بفعل غيره انما يتصوّر في فرضين ، الأول : ان يكون الواجب مشروطا بان لا يأتي به غيره ، الثاني : ان يكون الواجب كفائيا ، وإطلاق الأمر يدفع كلا الأمرين ومع عدم الإطلاق فحيث انّ ثبوت التكليف الجامع بين الكفائي والعيني كان متيقّنا ، فيشك في سقوطه بفعل الغير فمقتضى الاستصحاب والاشتغال عدمه ولزوم الإتيان بالواجب.

وأما على الثاني ، وهو ما إذا قصد التبرّع أو النيابة ، فان قلنا باعتبار القدرة في متعلّق الأمر ، أمّا عقلا واما لكونه من مقتضيات نفس الأمر ، فلا محالة بكون الواجب هو خصوص الحصّة المباشرية من الفعل ، فانّ فعل الغير خارج عن تحت اختيار المكلّف فلا يكون مأمورا به ، والاجتزاء به عن المأمور به يحتاج إلى دليل ، وأما على المختار من عدم اعتبار كون طبيعي المأمور به مقدورا بجميع افراده فإمكانا تعلق التكليف بالجامع بين الفعل المباشري والصادر من قبله وان كان ممكنا ، كما هو الحال في وجوب أداء الدين حتى بنظر العرف والعقلاء ، فكأنّ المديون ملزم بدفع الدين اما مباشرة ، واما من قبله إلّا انّ ظاهر الأمر عرفا هو المباشرة ولذا لو قال المولى لعبده تعال ، فلم يأت العبد بنفسه بل بعث غيره على الإتيان من قبله يعاقب على ذلك ويقال للغير الآتي انك لم تكن مأمورا بالإتيان فلما ذا أتيت.

فمقتضى الظهور اللفظي عدم الاجتزاء بفعل الغير.

١٨٦

وأما لو لم يكن هناك إطلاق لفظي في صورة الاستنابة وكان دليل الواجب منحصرا بإجماع ونحوه ، فمقتضى القاعدة هو الاجتزاء بفعل النائب ، فانّ المتيقّن وجوبه انما هو الجامع بين فعل المكلّف بالمباشرة أو بالاستنابة ، وخصوصيّة المباشرة تكون اعتبارها مشكوكا ، والأصل عدمه.

وملخّص الكلام انا ذكرنا انّ التوصّلية والتعبّدية تستعملان بمعنيين : تارة بمعنى اعتبار قصد القربة وعدمه ، وأخرى بمعنى اعتبار المباشرة والاختيار وإتيان العمل في ضمن الفرد المباح وعدم اعتبار ذلك.

أما الشك في التوصّلية بالمعنى الثاني ففيه فروع ثلاثة :

الأول : ما إذا صدر الفعل من المكلف من دون اختياره وشك في سقوط التكليف بالفرد الغير الاختياري وعدمه ، فان قلنا بأنّ الإيجاب ليس بمعنى البعث والتحريك وانما هو بمعنى اعتبار ما فيه الثقل على ذمّة المكلّف كاعتبار الدين ، فلا يقتضي مقدوريّة متعلّقة ، بل يمكن تعلّقه بالطبيعي بنحو الإطلاق ولو كان بعض افراده خارجا عن تحت اختيار المكلّف وقدرته ، ولا يلزم تقييده بخصوص الحصّة الاختياريّة ، وعليه فمقتضى إطلاق الدليل هو الاجتزاء بالفرد الغير الاختياري ، وهكذا مقتضى الأصل العملي.

الفرع الثاني : ما إذا أتى بالواجب غير الشخص المكلّف وشك في سقوط تكليفه بفعل الغير وعدمه ، فتارة يكون الغير آتيا بالفعل بعنوان نفسه ، وأخرى قد أتى به من قبل المكلّف ، اما تبرعا واما نيابة ، وعلى الأول لا مجال لتوهّم سقوط التكليف عن المكلّف أصلا ، وذلك لأنّ سقوطه عنه بذلك لا يكون إلّا بأحد وجهين ، اما بان يكون الواجب كفائيا أو يكون مشروطا بعدم إتيان الغير بذلك العمل ، وإطلاق الأمر ينفي كلا الأمرين.

وأما إذا لم يكن في البين إطلاق ، فيختلف مقتضى الأصل العملي باختلاف

١٨٧

كيفيّة اشتراط الواجب ، فانّ الواجب المشروط تارة : يكون مشروطا بشيء حدوثا وبقاء بان يكون حدوث الشرط في كل آن موجبا لفعليّة التكليف في ذلك الزمان فإذا انتفى بعد ذلك تنتفي فعليّة التكليف حين انتفاء الشرط ، وذلك كاشتراط وجوب الستر وغيره مما يعتبر في الصلاة بالتمكن منه ففي كل زمان كان التمكن ثابتا يكون الوجوب فعليّا ، فإذا لم يأت المكلّف بالصلاة حتى فات التمكن يسقط الوجوب عن الفعلية.

وأخرى : يكون التكليف مشروطا بوجود الشرط في مجموع الزمان المعيّن ، بحيث لو انعدم الشرط في آخر الوقت كشف ذلك عن عدم تحقق الوجوب من أول الأمر ، وهذا نظير اشتراط وجوب الصوم على المرأة بان لا تحيض إلى آخر اليوم ، فإذا حاضت قبل الغروب بآن يكشف ذلك عن عدم فعليّة وجوب الصوم عليها أصلا.

ويختلف الأصل الجاري عند الشك في بقاء التكليف على اختلاف الكيفيّتين ، فلو شك المكلف في بقاء التكلف عند فقدان الشرط لدوران الأمر بين كون التكليف مطلقا أو مشروطا على النحو الأول ، فحيث انّ ثبوت التكليف الفعلي كان متيقّنا على التقديرين لكون الشرط حاصلا سابقا فالشك يكون مجرى للاستصحاب ، فيستصحب بقاء التكليف أو يرجع إلى الاشتغال.

وأما على الثاني ، فالمرجع هو البراءة ، لأنّ ثبوت التكليف الفعلي لم يكن متيقّنا ، لاحتمال كونه مشروطا بشرط غير حاصل ، وهذا هو الميزان الكلّي في جريان الأصل في جميع الواجبات المشروطة ، ومنها ما نحن فيه ، فان كان اشتراط التكليف بعدم فعل الغير المحتمل ثبوته من قبل الأول ، ففعله غير المكلف فالمرجع في ذلك هو استصحاب بقاء التكليف الفعلي المتيقّن سابقا ، وإلّا فالأصل هو البراءة للشك في ثبوت التكليف الفعلي.

١٨٨

واما لو أتى بقصد النيابة عن المكلف والتبرع عنه ، فان كان للواجب دليل لفظي يكون منصرفا إلى الفعل المباشري ، وإلّا فالأصل العملي يقتضي عدم تقيّد الواجب بكونه فعلا مباشريا للمكلّف ، فانّ المقدار المتيقّن من التكليف هو المتعلّق بالجامع بين المباشرة والاستنابة أي صدور الفعل من قبله وهذا النحو من الاعتبار موجود في الاعتبارات العرفيّة فانه ثابت على ذمّة المديون بهذا النحو بحيث يسقط لو تبرّع عنه متبرّع ، وفي هذا الفرض مقتضى القاعدة عدم السقوط إلّا في فرض واحد.

الفرع الثالث : ما إذا أتى المكلّف بطبيعي الواجب في ضمن فرد محرم ، وشك في سقوط التكليف بذلك ، فتارة : يكون إيجاد الطبيعي في ضمن الفرد بحيث يكون لكل منهما وجود مستقل غايته ثبتت بينهما الملازمة خارجا ، ومثاله ما إذا امر المولى بتعظيم زيد ونهى عن تعظيم عمر فأوجدهما المكلف في ضمن قيام واحد. وأخرى : يكون التركيب اتحاديا بان يكون المأمور به والمنهي عنه موجودين بوجود واحد كما في غسل الثوب بالماء المغصوب.

وعلى الأول يبنى الاجتزاء بالفرد المحرم على مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ، فعلى القول به وانّ مجرّد إلصاق المحرم بالواجب وضمّه إليه لا يوجب منقصة في الواجب فيجتزئ به. وأما لو قلنا بعدم جوازه وانّ النهي يسري إلى الواجب ، فيلحق الفرض بالفرض الثاني ولا يمكن الاجتزاء فيه عن الواجب ، فانّ الفرد المبغوض يستحيل ان يكون مطلوبا للشارع فلا محالة تخصص الفعل الطبيعي المأمور به بغير الفرد المحرم والاكتفاء بغير المأمور به عن المأمور به يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك إلّا في بعض الموارد التي يعلم بحصول الغرض فيها ، مثل غسل المني بالماء المغصوب ، فانّ الغرض من الغسل انما كان هو حصول الطهارة وقد تحقّق.

واما الكلام في التعبّدية بالمعنى الآخر فلو شككنا في واجب انه توصّلي أو

١٨٩

تعبّدي فهل يحكم بتوصّليته أو لا؟ ويقع الكلام في ذلك في مقامات ثلاثة :

الأول : في مقتضى الدليل الأول ، أعني دليل وجوب الواجب ، كدليل وجوب الخمس مثلا لو شك في توصّليته.

الثاني : في انه هل يكون في البين عموم يقتضى كون كل واجب تعبّدي إلّا ما خرج بالتخصيص وقام الدليل على توصّليته؟

وليعلم انّ المراد من إطلاق دليل الواجب هو الإطلاق الموجب لتوصّلية الواجب وعدم اعتبار قصد الأمر فيه ، وهكذا المراد من المقام الثاني وجود دليل من الخارج على انّ كل واجب توصّلي إلّا ما خرج لا من نفس دليل الواجب.

الثالث : انه لو لم يكن لدليل الواجب إطلاق فهل يقتضي الأصل العملي عدم تقيّد الواجب بقصد القربة أو لا يقتضي ذلك؟

اما المقام الأول فنسب المحقق النائيني (١) إلى الشيخ قدس‌سره ـ وان لم نعثر على ذلك في كلمات الشيخ ـ انه تمسّك بإطلاق دليل الواجب لإثبات التوصّلية بدعوى انّ الدليل لو لم يكن مقيدا بشيء لا بدّ وان يكون مطلقا بالقياس إليه ، وأورد عليه الميرزا قدس‌سره بأنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة التقيّد ، لأنّ الإطلاق متوقّف على مقدمات منها ان يكون المتكلّم في مقام البيان ، وكان متمكّنا من التقييد ، ولم ينصب قرينة عليه ، فيستكشف من مقام الإثبات انّ الواجب مطلق ثبوتا فإذا لم يمكن التقييد لا يبقى مجال للإطلاق أصلا.

ولكن الشيخ قدس‌سره ادّعى على ما نسبه إليه الميرزا قدس‌سره (٢) انّ استحالة التقييد تستلزم ضرورية الإطلاق.

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ١١٢.

(٢) المصدر السابق ـ ص ١١٣.

١٩٠

وبالجملة عدم إمكان التمسّك بإطلاق دليل الواجب لإثبات التوصّلية مبتن على مقدمتين :

إحداهما : عدم إمكان تقييد الواجب بقصد الأمر.

ثانيهما : عدم إمكان الإطلاق ما لم يمكن التقييد.

وقد ذكروا لاستحالة التقييد وجوها أمتنها وجهان :

أحدهما : ما أفاده المحقق النائيني ، وتوضيحه : انّ للحكم مرحلتين ، مقام الإنشاء ومقام الفعلية ، وفي مقام الإنشاء لا بدّ من فرض وجود الموضوع بجميع قيوده وخصوصيّاته ، وهذا هو الشأن في جميع الأحكام المنشأة على نحو القضية الحقيقية حتى الإخبارات ، مثلا لو أخبر أحد بأنّ بحرا من زئبق بارد بالطبع لا بدّ للحاكم من فرض وجود البحر من زئبق ثم الحكم عليه بأنه بارد ، وهكذا في الأحكام الوضعيّة ففي مثل : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) يفرض المولى البيع ، ثم يحكم بكونه موجبا للملكية وحصول النقل والانتقال ، وكذا الحال في الأحكام التكليفيّة ، فإذا حكم المولى بوجوب حج البيت لا بدّ له من فرض وجوده ثم الحكم بوجوب الحج إليه.

فما لا بدّ منه في مقام الإنشاء ليس إلّا فرض وجود الموضوع ، وامّا وجوده حقيقة فغير معتبر في مقام إنشاء الحكم أصلا ، ولذا يمكن إنشاء وجوب الحج قبل وجود البيت ، ويجوز إنشاء وجوب الصلاة عند الزوال قبل تحقق الزوال ، وهكذا فإذا شكّ في ثبوت الإنشاء وارتفاعه بالنسخ يتمسك بإطلاق الدليل ويحكم ببقائه.

وأما مرحلة الفعليّة فمتوقّفة على فعليّة الموضوع ووجوده حقيقة بما له من القيود والخصوصيات ، فما لم يتحقق الزوال لا يكون وجوب الصلاة عنده فعليّا ،

__________________

(١) البقرة ـ ٢٧٥.

١٩١

وما لم يوجد البيت لا يكون وجوب حجّه فعليّا ، وما لم يتحقق البيع لا يكون النقل والانتقال فعليّا ، وهكذا ، ولا يتحقّق ذلك بفرض وجود الموضوع أصلا ، وهذا هو مراد الشيخ الرئيس من ان الموضوع في القضايا الحقيقية ما صدق عليه عنوانه بالفعل ، وتخلّف أحد المقامين عن الآخر لا بأس به على ما اخترناه من انّ حقيقة الوجوب ليس إلّا الاعتبار ، إذ لا مانع من اعتبار الدين بعد سنة على ذمة المكلّف.

ونظير ذلك باب الوصيّة ، فالموصي يوصي بماله لزيد بعد موته ، فيعتبر المال فعلا ملكا له بعد مماته وهكذا يأمر ابنه فعلا بدفنه في المحل الخاصّ بعد وفاته ، وسيأتي تفصيل الكلام فيه في بحث الواجب المشروط.

هذا كله في موضوع الحكم.

واما متعلقه فنفس متعلّق التكليف لا يعقل ان يجعل مفروض الوجود في مقام التكليف ، وكيف يمكن ذلك مع انه هو المطلوب إيجاده ، ومع فرض وجوده هل يكون طلبه إلّا من قبيل تحصيل الحاصل.

واما قيود المتعلّق فيمكن ان تجعل مفروضة الوجود ، كما في وجوب الوفاء بالنذر ، فانّ النذر بحسب التفاهم العرفي قد جعل مفروض التحقق في الأمر بالوفاء به ، ويمكن ان يتعلّق به الطلب أيضا كما في وجوب الصلاة مع الطهارة ، فانّ الطهارة أيضا واجبة التحصيل.

هذا إذا كان القيد اختياريا ، واما لو لم يكن اختياريا ، فدائما لا بدّ وان يكون مفروض الوجود في مقام إنشاء التكليف ، ولا بدّ وان يكون فعليّا عند فعليّة التكليف.

إذا عرفت هذه الكبرى الكلّية فنقول في تطبيقها على المقام : انه لو قيّد الواجب بقصد الأمر فنفس المأمور به كالصلاة مثلا مقدور للمكلّف ، والقصد أيضا بنفسه مقدور ، واما الأمر فهو غير مقدور له ، لأنه فعل المولى ، فلا بدّ في مقام

١٩٢

الإنشاء من فرض وجوده ثم الأمر بالعمل المقيد به ، وفي مرحلة الفعليّة انما يصير الأمر به فعليّا بعد فعليّة الأمر ، فيلزم تأخّر الشيء عن نفسه ، وهو محال.

وبما بيّناه ظهر انه لا مجال لما ذكره بعض الأساطين ردّا على كلام النائيني قدس‌سره ، من انّ التكليف انما يتوقّف على فرض وجود الموضوع لا وجوده الخارجي ، إذ عرفت انّ فرض الموضوع انما يكتفى به في مقام الإنشاء لا الفعليّة.

وفيه : انّ أخذ الموضوع والقيود المعتبرة فيه ، أو في المتعلّق مفروض الوجود في مقام الحكم وتوقّف فعليّته على فعليّتها انما يكون في موردين.

أحدهما : ان يكون الظهور اللفظي مقتضيا لذلك كما في موارد القضايا الشرطيّة ، فلو قال المولى «ان نمت فتوضّأ» فظاهره ثبوت التالي على تقدير تحقّق المقدّم.

ثانيهما : ان يكون البرهان العقلي قائما على ذلك بان يكون التكليف من دون ثبوت القيد تكليفا بما لا يطاق ، فانّ العقل حينئذ يحكم بكون ذلك القيد مفروض الوجود في مقام الحكم ، لقبح التكليف بغير المقدور ، كما لو أمر المولى بالصلاة إلى القبلة ، فانّ وجود القبلة لا بدّ وان يكون مفروض الوجود في ذلك ، وهكذا فيما لو أمر بالصلاة عند الزوال ، إذ المكلّف غير قادر على إيجاد القبلة أو إيجاد الزوال ، فلا محالة يكون التكليف مشروطا بتحقّقه.

وأما في غير ذلك فلا دليل على اعتبار كون الموضوع وقيوده مفروض الوجود وتأخر الحكم عنها أصلا ، ومن ثم فرقنا في مسألة اللباس المشكوك بين التكاليف الوجوبيّة والتحريميّة ، وذكرنا انّ التكليف التحريمي يمكن ان يكون فعليّا قبل فعليّة موضوعه ، مثلا لا تشرب الخمر فعلي وان لم يكن خمر في الخارج ، ولا يتوقّف فعليّة حرمته على ان يوجد خمر خارجا ، بل يكون شرب الخمر حراما قبل تحقّق الخمر من قبيل التكليف المعلّق ، فانّ الظهور العرفي يساعد على ذلك في

١٩٣

المحرمات دون الواجبات. ويمكن امتثال التكليف بترك مقدّمات شرب الخمر من إيجاد الخمر ونحوه ، فالتكليف به من دون وجود الموضوع ليس تكليفا بغير المقدور فيصح ذلك.

إذا عرفت هذا فنقول : فيما نحن فيه يكون التكليف على الفرض متعلّقا بإتيان العمل بقصد الأمر ، كالأمر بالصلاة بقصد الأمر ، ففي مقام الإنشاء يتمكّن المولى من لحاظ الصلاة ومن لحاظ قصد الأمر وإنشاء وجوب الصلاة بقصد الأمر ، والمكلّف بعد إنشاء ذلك يكون قادرا على إتيان العمل كالصلاة بداعي الأمر أعني المنشأ والمعتبر لا الإنشاء الّذي ليس إلّا مجرد اللفظ ، لأنّ الأمر بذلك يصير فعليّا لو كان المكلف جامعا لشرائط التكليف من البلوغ والعقل ونحوه ، وان لم يكن الأمر فعلا اختياريا للعبد ولم يدل دليل على اشتراط فعليّة التكليف بفعليّة الأمر ليلزم تأخّر الشيء عن نفسه.

وبالجملة فكأنّ المولى أمر بجزءين ، بالصلاة وبإتيانها بقصد الأمر ، وهذا الأمر بمجرّد تحققه مع كون المكلف جامعا للشرائط يصير فعليّا ، فيتمكّن المكلّف من امتثاله.

فما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره وان كان متينا ، إلّا انه مختص بموردين كما ذكرناه ، ولا يجري في المقام ، فهذا الوجه غير تام.

الوجه الثاني : لاستحالة تقييد الأمر بقصد الأمر ما أفاده بعض أعاظم مشايخنا قدس‌سره ، وحاصله : انّ المراد بقصد الأمر كون الأمر داعيا للمكلف ومحركا له على الإتيان بمتعلّقه ، فإذا امر المولى بشيء من غير ان يأخذ فيه قصد الأمر لا محالة يكون الأمر داعيا له نحو العمل ، وأما إذا أخذ قصد الأمر أيضا في المأمور به فالأمر بقصد الأمر انما يدعو إلى داعوية نفسه ويحرّك نحو محرّكية نفسه ، وهذا مستحيل كاستحالة سببية الشيء لسببيّة نفسه ، وعلّية الشيء لعلّية نفسه ، فانّ السبب موجود

١٩٤

في الخارج والمسبب كذلك ، واما السببيّة التي هي أمر انتزاعي فهي ذاتية للسبب وليست مجعولة ، ولا معنى لأن يكون الشيء علّة لعلّية نفسه ، كما لا يعقل ان يكون الشيء علّة لنفسه ، انتهى.

وفيه : انّ المراد بقصد الأمر ان يجعل المكلّف داعيه نحو العمل وغرضه منه امتثال أمر المولى لا سائر الدواعي النفسانيّة ، فانّ الفعل لا يصدر من العاقل الملتفت بغير غرض وداعي ، فقصد الأمر فعل جوانحي فإذا أمر المولى بالصلاة مثلا بقصد الأمر فلا محالة ينحل ذلك الأمر الواحد إلى أمرين ضمنيّين ، ويتعلّق حصّة منه بذات العمل وحصّة أخرى بقصد الأمر ، كما هو الشأن في جميع موارد تعلق الأمر بالمركبات الخارجيّة.

نعم فرق بينهما وبين ما نحن فيه ، فانّ الأمر بالمركّب الخارجي يكون عرضيا من حيث اجزائه ، بخلاف الأمر بإتيان الفعل بقصد الأمر فانه طولي لا من حيث تعلّق الأمر ، بل من حيث انّ مجرد الإتيان بذات العمل بقصد أمره الضمني يوجب امتثال الأمر بقصد الأمر أيضا ، فيسقط ذلك الأمر.

وهذا بخلاف الأمر بالمركب الخارجي ، فانّ الإتيان بكل جزء من إجزاءه لا يكون امتثالا للأمر إلّا إذا انضم إليه بقيّة الأجزاء.

إذا عرفت هذا ففيما نحن فيه بحسب اللب والواقع يكون امران ضمنيّان.

أحدهما : متعلّق بذات العمل ، والآخر : بإتيانه بقصد الأمر الضمني المتعلّق به. فالأمر الثاني انما يدعو إلى داعوية الأمر الأول لا إلى داعوية نفسه ليلزم المحذور ، وان شئت فقل : انّ إحدى الحصّتين تدعوا إلى داعوية الحصّة الأخرى ، فلا محذور.

وبالجملة : عمدة الوجوه المذكورة لاستحالة أخذ قصد الأمر في المتعلق أمور أربعة :

١٩٥

أولها : ما تقدم عن المحقق النائيني قدس‌سره.

ثانيها : ما أفاده بعض مشايخنا المحقّقين قدس‌سرهم ، من انّ كلّ أمر يدعو إلى ما تعلّق به ذاتا ، فإذا فرضنا تعلّقه بالعمل بقصد الأمر فلازمه داعويّته إلى داعوية نفسه ، وهو محال.

ثالثها : ما في الكفاية ، وحاصله : انّ المأمور به انما هو قصد الأمر الحقيقي لا التشريعي ، فانه لا معنى للأمر بالتشريع الّذي هو قبيح عقلا وشرعا ، وقصد الأمر الحقيقي انما يتمكّن منه المكلّف لو تعلّق أمر بذات العمل ، والمفروض انّ الأمر لم يتعلّق بذات العمل وانما تعلّق به مقيدا بقصد الأمر ، فيكون تكليفا بما لا يطاق.

رابعها : ما أفاده بعض أعاظم مشايخنا قدس‌سرهم ، ووضّحه بعض الأساطين من أنّ أخذ قصد الأمر في المتعلّق وان لم يكن مستلزما للدور لعدم ثبوت التوقّف فيه من الطرفين ، وانما التوقّف في ذلك يكون من طرف واحد كما هو واضح ، وليس في البين تأثير وتأثّر ، ولكن لازم ذلك هو الخلف ، وذلك لأنّ لازم الأمر بالعمل المقيد بقصد الأمر هو تعلّق الأمر بذات العمل لأن لا يكون التكليف تكليفا بغير المقدور.

ومعنى الأمر بالعمل المقيّد بقصد الأمر ان ذات العمل لا يكون مأمورا به ، وهذا خلف ظاهر.

وهذه الوجوه الأربعة عمدة ما ذكر في المقام.

والجواب عن جميعها يظهر بالانحلال ، وتوضيح ذلك ببيان مقدّمة ، وهي :

انا نرى بالوجدان انّ غرضنا تارة : يتعلّق بذات العمل كما لو عطش المولى فأراد الماء ليشربه ، وأخرى : يتعلّق الغرض بحصّة خاصّة من العمل ، وأعني العبادة والخضوع وإتيان العمل بقصد الأمر ، فيكون في مقام أمره مظهرا لمولويّته وعبوديّة عبيده ، وحينئذ لا يسقط غرضه بإتيان العمل كيف ما اتفق ، وفي عالم الاعتبار أيضا لا مانع من اعتبار الفعل في ذمّة العبد مطلقا ، ولا مانع من اعتباره بعنوان الخضوع

١٩٦

والعبوديّة ، وفي مرحلة الإبراز يمكن ان يبرز اعتبار العمل بنحو الإطلاق ، كما يمكن ان يبرز اعتباره على النحو الخاصّ ، فجميع هذه المراحل الثلاثة ممكنة ، فلا يبقى ما يوهم استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّقه الا الأمور المتقدمة ، وكلها تندفع بما فصلناه في مبحث الأقل والأكثر من انّ الأمر بالمركب التحليلي العقلي أي بالمقيد ينحل إلى أمرين : الأمر بذات المقيد ، وأمر بتقيده ، كما ينحل الأمر بالمركب الخارجي.

اما إشكال دعوة الأمر إلى داعوية نفسه ، فلأنه على الانحلال يكون هناك امران ضمنيان : امر بذات العمل ، وامر آخر بإتيانه بداعي أمره الضمني ، والأمر الثاني يكون في طول الأمر الأول ، أي ناظرا إليه ، فيدعو إلى داعوية ذلك الأمر لا داعوية نفسه ليلزم المحذور.

وبعبارة أخرى : الأمر الضمني المتعلّق بذات العمل كان بحسب ذاته قابلا للداعوية ، والأمر الضمني الثاني يدعو إلى داعويته الفعليّة.

واما إشكال عدم قدرة المكلف على الامتثال فإنّا قد ذكرنا مرارا انّ القدرة المعتبرة في صحّة التكليف انما هي القدرة حين العمل لا حين الأمر ، وعلى الانحلال يكون المكلّف قادرا على إتيان الفعل بقصد أمره الضمني حين الامتثال.

واما إيراد الخلف فكذلك مندفع على ما بيّناه ، لأنّ ما لا بدّ منه انما هو تعلّق الأمر الضمني بذات العمل في مقام فعليّة التكليف ، ولا يلزم من الأمر بالمقيد انتفائه ، وامّا في مقام إنشاء الأمر بالمقيّد بقصد الأمر فلا يعتبر إلّا تصور الأمر ولحاظه لا وجوده الخارجي ، والتصوّر سهل المئونة.

هذا كله في المقدّمة الأولى.

واما المقدّمة الثانية : وهي كون استحالة التقييد موجبة لاستحالة الإطلاق ،

١٩٧

فهي أيضا ممنوعة ، إذ لا منشأ لها سوى ما ذكره المحقق النائيني (١) من انّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، وقد أفاد في بيان ذلك مقدّمة حاصلها : انّ لكلّ من موضوع التكليف ومتعلّقه انقسامات سابقة ينقسم إليه مع قطع النّظر عن ورود شرع وشريعة ، كانقسام المكلّف إلى الأبيض والأسود ، وإلى الطويل والقصير ، إلى غير ذلك ، وانقسام المشي إلى البطيء والسريع ، وانقسامات لا حقة لا ينقسم إليها الموضوع أو المتعلّق إلّا بعد ثبوت الحكم وتحقّقه ، كانقسام المكلّف إلى العالم بالحكم والجاهل به ، وإهمال الحكم ثبوتا بالنسبة إلى الانقسامات الأولية مستحيل ، إذ لا معنى لأن يكون الحاكم الملتفت إلى تلك الانقسامات جاهلا بما تعلّق به حكمه أو بما رتب حكمه عليه ، فلا مناص فيه من الإطلاق أو التقييد ، نعم إثباتا يمكن الإهمال وان لا يبيّن المولى موضوع حكمه أو متعلّقه.

وامّا بالقياس إلى الانقسامات الثانوية ، فالإهمال ضروري ، ويستحيل كل من الإطلاق والتقييد ، اما استحالة التقييد فلما مر من لزوم الدور وتقدم الشيء على نفسه ، واما استحالة الإطلاق فلأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فانّ الإطلاق انما هو بمعنى عدم التقييد فيما شأنه ذلك ، فإذا لم يكن للتقييد شأنيّة في مورد فلا مجال فيه لعدم تقييد ما من شأنه ذلك وانقسام المأمور به إلى ما يقصد به الأمر وما لا يقصد من الانقسامات الثانوية المتفرّعة على تحقق الأمر.

هذا ونقول : ما أفاده في استحالة إهمال الحكم من حيث الانقسامات الأولية بعينه يجري في الإهمال بالقياس إلى الانقسامات الثانوية ، فانه لا يعقل ان يكون الحاكم الملتفت إلى انقسام متعلّق حكمه ولو في مقام العمل ـ لا في مقام جعل الحكم ـ ان يكون جاهلا بما اراده أو رتّب عليه حكمه ، فانه من قبيل ان يكون الحاكم طالبا

__________________

(١) أجود التقريرات ـ المجلد الأول ـ ص ١٠٣.

١٩٨

للمجهول المطلق ، فيدور الأمر حينئذ بين الإطلاق والتقييد ، فإذا استحال أحدهما يتعيّن الآخر.

وما أفاده من انّ تقابل الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة وان كان صحيحا من حيث الصغرى إلّا انّ الكبرى التي أفادها غير تامّة ، وذلك لأنّ الشأنيّة وان كانت معتبرة في العدم والملكة إلّا انها ليست هي الشأنيّة الشخصية ، بل هي أعم من الشأنية بحسب الصنف أو النوع أو الجنس ، ومن ثم يتّصف العقرب بالعمى مع انه بحسب نوعه غير قابل لأن يبصر ، فالمصحح لذلك ، انما هو شأنيته بحسب جنسه وجهل البارئ مستحيل ، فعلمه ضروري وعلم الإنسان بكنه البارئ وبحقائق أغلب الأمور ممتنع ، فيكون جهله بها ضروري ، والسر ما ذكرناه.

وعليه ففي المقام تقييد المأمور به بخصوص الإتيان به بقصد الأمر وان كان مستحيلا إلّا انه حيث يكون قابلا للتقييد بنوع القيود فإذا استحال تقيّده بقيد خاص لا محالة يكون مطلقا بالقياس إليه بعد ما بيّناه من استحالة الإهمال ، أو مقيدا بضده وقصد الأمر في الصلاة إذا امتنع تقييد الصلاة به مثلا ، فيدور الأمر بين تقييدها بعدمه أو إطلاقها ، وحيث انّ الأول مقطوع العدم ، فيتعين الثاني ويحرم بالإطلاق لا محالة.

فتحصل انه على تقدير تسليم المقدمة الأولى ، فالمقدمة الثانية ممنوعة.

وقد حكى انّ الشيخ قدس‌سره ، كان يتمسّك بهذا الإطلاق.

ولا يخفى انّ الإطلاق المدعى انما هو الإطلاق الثبوتي ، أعني المنكشف ، لا الإطلاق في مقام الكاشف والإثبات ليقال انه لا أثر لهذا الإطلاق. وعدم التقييد الّذي يكون منشؤه عدم تمكن المولى من التقييد ، فانّ ذلك انما يكون في الإطلاق الإثباتي ، فانّ من مقدّماته ان يكون المولى في مقام البيان وقادرا على التقييد ، فإذا لم يقيد يكون ذلك الإطلاق كاشفا عن إطلاق المراد. واما الإطلاق في مرحلة

١٩٩

الثبوت فيترتّب عليه الأثر بعد إثبات استحالة الإهمال واستحالة التقييد ، فيجزم بأنّ المراد الواقعي مطلق ويترتب عليه الأثر.

ثم ليعلم انّ كلتا المقدّمتين المذكورتين في الاستدلال ممنوعتان ، ويترتب على إنكار كل منهما ثبوت إطلاق ، إلّا انّ النتيجة تختلف على إنكار كل منهما. فان أنكرنا المقدمة الأولى وذهبنا إلى جواز تقييد الأمر بقصد الأمر يترتب عليه جواز التمسك بالإطلاق اللفظي في مقام الإثبات ، فيمكن ان يقال : انّ المولى كان في مقام البيان وكان متمكّنا من التقييد ومع ذلك أطلق ولم يقيد امره بالصلاة بقصد الأمر ، فيتمسك بإطلاق كلامه ويثبت به إطلاق المراد الواقعي ، وهذا بخلاف ما إذا سلمنا تلك المقدمة وأبطلنا المقدمة الثانية ، وقلنا انّ استحالة التقييد لا تستدعي استحالة الإطلاق ، فانه عليه لا يمكن التمسك بالإطلاق في مقام الإثبات ، بل يكون المرجع في ذلك عند الشك هو الأصل العملي.

ولكن بعد إثبات استحالة الإهمال النّفس الأمري ثبوتا يدور الأمر بين ان يكون الحكم مقيدا بضد ذلك القيد أو مطلقا ، فإذا علم بعدم تقييده بذلك يقطع ثبوت الإطلاق النّفس الأمري ، وعلى هذا المسلك يلزم ان تكون جميع الواجبات توصّلية إلّا ما دل الدليل الخاصّ على تعبّديته.

هذا كله في أخذ قصد الأمر.

وامّا الكلام في بقيّة الدواعي القربية من قصد المصلحة أو المحبوبية أو أهلية المولى وأمثالها ، فذكروا انّ أخذها في المأمور به وان كان ممكنا إلّا انا نقطع بعدم أخذ شيء منها في العبادات ، وإلّا للزم عدم جواز الاقتصار على قصد الأمر فيها ، وهو بديهي الفساد ، فلا يحتمل دخل تلك الأمور فيها ليمكن التمسك لدفعه بالإطلاق.

وفيه : ان دخل كل من هذه الأمور بشخصه وان كان مقطوع العدم ، إلّا انه يحتمل ان يكون الجامع بينها وبين قصد الأمر ـ ونعبر عنه بالإضافة إلى المولى ، أو

٢٠٠