منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-609-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٢٩٢

بيان : لأنّ الأنفس الإنسانيّة وإن كانت حين كونها منغمرة في البدن ، غير مدركة للذّاتها العقليّة وآلامها العقليّة حقّ الإدراك ، إلّا أنّها بعد انفصالها عن البدن ومفارقتها عنه ، تكون مدركة حقّ الإدراك لتلك اللذّات ، ملتذّة بها ، متألّمة بتلك الآلام.

وبيان ذلك في الألم أنّ النفس الإنسانيّة إذا انفصلت عن البدن ، وكانت تنبّهت في البدن لكمالها الذي هو معشوقها ولم تحصّله وهي بالطبع نازعة إليه ، مشتاقة إليه ، إذ عقلت بالفعل أنّ ذلك الكمال موجود لها ، إلّا أنّ اشتغالها بالبدن ـ كما قلنا ـ قد أنساها ذاتها ومعشوقها ، كما ينسي المرض الحاجة إلى بدل ما يتحلّل ، وكما تنسي الأمراض الاستلذاذ بالحلو واشتهاءه ، وتميل بالشهوة من المريض إلى المكروهات في الحقيقة كما تقرّر في الأصول المتقدمة ، عرض لها حينئذ من الألم بفقدان ذلك الكمال كفاء ما يعرض من اللذّة العقليّة التي أوجبنا وجودها لها إن كانت لها ، ودلّلنا على عظم منزلتها ، فيكون ذلك الألم هو الشقاوة العقليّة والعقوبة التي لا يعد لها شقاوة حسّيّة كتفريق النار للاتّصال وتبديل الزمهرير للمزاج ، بل أيّة نسبة للنار الروحانيّة التي هي (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) إلى النار الجسمانيّة؟ فيكون مثلنا حينئذ في عدم إدراكنا لذلك الألم الروحانيّ حين كوننا في البدن ، مثل الخدر الذي أومأنا إليه فيما سلف من الأصول ، أو الذي قد عمل فيه نار أو زمهرير ، فمنعت المادّة الملابسة وجه الحسّ عن الشعور به ، فلم يتأذّ ، ثمّ عرض أن زال العائق فشعر بالبلاء العظيم.

وأمّا بيان ذلك في اللذّة ، فلأنّ النفس الإنسانيّة إذا انفصلت عن البدن ، وكانت القوّة العقليّة بلغت من النفس حدّا من الكمال ، يمكنها به إذا فارقت البدن أن تستكمل الاستكمال التامّ الذي لها أن تبلغه ، أي أن تكون بحصول ذلك الكمال لها كاملة بحسب ذاتها كمالا مناسبا لها ومن شأنها أن تبلغه ، بلغته بعد مفارقة البدن وأدركته والتذّت به لذّة عظيمة أعظم من كلّ لذّة حسّيّة. ومثلها في أنّها لا تدرك تلك اللذّة في البدن وتدركها بعد المفارقة عنه ، مثل الخدر الذي أذيق المطعم الألذّ وعرض لحالته أن لا يشتهيه ، وكان لا يشعر به ، فزال عنه الخدر ، فطالع اللذّة العظيمة دفعة.

ولا سترة في أنّ تلك اللذّة العقليّة الحاصلة للنفس بعد مفارقتها عن البدن ، لذّة لا من

٨١

جنس اللذّة الحسّيّة والحيوانيّة بوجه ، بل لذّة تشاكل الحال الطيّبة التي هي للجواهر الحيّة المحضة والملائكة المقرّبين ، وهي أجلّ من كلّ لذّة وأشرف. فهذه هي السعادة الحقيقيّة العقليّة ، وتلك هي الشقاوة الحقيقيّة العقليّة.

وقوله : «وتلك الشقاوة ليست تكون لكلّ واحد من الناقصين الخ» غرضه منه أنّ تلك الشقاوة ليست تكون لكلّ واحد من الناقصين ، بل لبعضهم ، وأنّها فيمن تكون له مختلفة المراتب أيضا.

وبيانه أنّ تلك الشقاوة التي ذكر أنّها تكون بفقدان النفس لكمالها الخاصّ بها الذي هو معشوق لها ، ليست لكلّ واحد من الناقصين غير الكاملين ، بل للناقصين الذين اكتسبوا في ضمن البدن ، للقوّة العقليّة التشوّق إلى كمالها ، ثمّ حرموا من ذلك الكمال ، وذلك الاكتساب للتشوّق أو التشوّق هو عند ما تبرهن لهم وتحقّق عندهم أن من شأن النفس إدراك ماهيّة الكلّ ، أي كلّ الموجودات بكسب المجهول من المعلوم والاستكمال بالفعل ، فإنّ ذلك الاكتساب للتشوّق أو التشوّق ليس في النفس من حيث هي نفس بالطبع الأوّل ، وإلّا لكانت كلّ نفس مكتسبة لذلك متشوّقة إليه ، وهو خلاف الواقع ، حيث إنّ بعض النفوس الناقصة نفوس ساذجة صرفة ، لم تكتسب تشوّقا أصلا. كما أنّ كسب المجهول من المعلوم والاستكمال بالفعل ليس فيها بالطبع الأوّل أيضا ، وهو ظاهر ؛ ولا أيضا ذلك الاكتساب للتشوّق أو التشوّق في سائر قوى النفس بالطبع الأوّل ، حتّى يكون كونه فيها بالطبع سببا لتشوّق النفس إلى كمالها الخاصّ بها من دون اكتساب لذلك ، لأنّ تشوّق تلك القوى إلى كمالاتها وشعورها بها إنّما يكون أيضا بعد حصول أسباب ذلك التشوّق والشعور لا بالطبع ، مع أنّ تشوّقها إلى كمالاتها كيف يكون سببا لتشوّق النفس إلى كمالها ، والحال أنّ كمالاتها مخالفة لكمال النفس وليس بينهما رباط ليكون التشوّق إلى أحدهما سببا لحصول التشوّق بالآخر.

فظهر من هذا أنّ الاكتساب للتشوّق أو التشوّق إنّما يكون للنفس التي كانت في ضمن البدن في مرتبة العقل بالملكة بالنسبة إلى كمالها المعشوق لها ، وإن كانت بالنسبة إلى غير ذلك الكمال في المراتب الأخر. وأمّا النفوس والقوى الناقصة الساذجة الصرفة التي

٨٢

في مرتبة العقل الهيولانيّ بالنسبة إلى حصول الكمال الخاصّ المعشوق لها ، كنفوس البله والمجانين والأطفال التي لم تدرك أنّ لها كمالات ولذّات ، فكأنّها هيولى محضة موضوعة لم تكتسب البتّة هذا الشوق ، لأنّ هذا الشوق إنّما يحدث حدوثا وينطبع في جوهر النفس ، إذا تبرهن للقوّة أنّ هاهنا أمورا يكتسب العلم بها بالحدود الوسطى على ما علمت.

وبالجملة ، إذا تحقّق عندها أنّ هاهنا أمورا كذلك ، وعرفت إنّيّتها وكذا ماهيّاتها من وجه في الجملة ، وإن لم تعرفها من الوجه الآخر الذي تكون معرفتها منه بالاكتساب ، وأمّا قبل ذلك التبرهن وكون النفس في مرتبة العقل الهيولانيّ بالنسبة إلى ذلك الكمال الخاص وإن كانت بالنسبة إلى غير ذلك في المراتب التي بعد العقل الهيولانيّ فلا يكون لها هذا التشوّق ، لأنّ هذا التشوق يتبع رأيا ، إذ كلّ شوق يتبع رأيا ، فما لم يحصل الرأي لم يحصل الشوق ، وليس هذا الرأي للنفس رأيا أوّليّا ، بل رأيا مكتسبا كما عرفت ، فليس لهذه النفس الساذجة الصرفة شوق إلى كمالها الخاص ، فليس لها ألم وتأذّي بسبب فقدانها إيّاه ، ولا شقاوة من هذه الجهة. ومثلها حينئذ مثل العنّين بالقياس إلى لذّة الجماع ، والأكمه عند الصور الجميلة ، والأصمّ عند الألحان المنتظمة ، فإنّهم لا يتأذّون بفقدان هذه اللذّات لعدم شوقهم إليها ، بل النسبة أبعد بكثير ، بل لا نسبة أصلا.

وأمّا هؤلاء المكتسبون للرأي المستتبع للشوق إلى الكمال الخاصّ للنفس ، فهم إذا اكتسبوا هذا الرأي ، لزم النفس ضرورة هذا الشوق ، فإذا فارقت عن البدن ولم يحصل معها ما تبلغ به بعد الانفصال عن البدن الكمال والتمام الذي من شأنها أن تبلغه لو استكملت ، حرمت من الوصول إلى ذلك الكمال المعشوق لها ، ولم تنل ما رجت منه ، فخابت وخسرت ووقعت في هذا النوع من الشقاء الأبديّ الذي تختلف مراتبه بحسب اختلاف مراتب الشوق إلى ذلك الكمال وحرمانها منه ، وكذا بحسب اختلاف مراتب الكمالات المعدّة لكلّ نفس ، فكلّما كان الشوق أعظم والكمال المعدّ أكمل والحرمان أبلغ ، كان الألم أشدّ والحسرة أدوم وأعظم ، وإنّما كان هذا الشقاء أبديّا لا يزول لأنّه لا يجبر ولا يزول سببه ، فإنّ أوائل الملكة العلميّة التي بها يمكن اكتساب المجهول من المعلوم والاستكمال بالفعل ، لا شكّ أنّها تكتسب بالبدن لا غير ، وإن فرضنا أنّ لها في ضمن البدن إدراكا

٨٣

مخصوصا بها من دون مشاركة البدن ومعاونته لها في ذلك ، وقد فرض أنّها فارقت البدن ، فلم يكن لها اكتساب تلك الملكة ثانيا حتّى يمكن لها الاستكمال مرّة أخرى ، وزوال ما هو سبب لهذا الشقاء ، ويتيسّر لها انقطاعه مع ظهور أنّ حصول العلم بتلك المعلومات التي فقدت النفس العلم بها ، ليس ضروريّا حتّى يحصل لها العلم بها مرّة أخرى ويزول عنها الشقاء ، فإنّه لو كان ضروريّا بعد الموت ، لكان ضروريّا حين كونها في البدن أيضا ، فكان حاصلا ، والمفروض خلافه.

في أصناف الناقصين بحسب القوّة النظريّة

ثمّ إنّ هؤلاء الناقصين الذين تكون لهم هذه الشقاوة الأبديّة ، بحسب الجليل من النظر صنفان :

صنف هم مقصّرون عن السعي في كسب الكمال الإنسيّ ، أي في كسب الكمال الخاصّ بالنفس الإنسانيّة ، وهذا بإطلاقه شامل للمعرضين والمهملين جميعا.

أمّا المعرضون فهم الذين كان تقصيرهم ذلك بسبب أنّهم مع اكتسابهم للتشوّق إلى ذلك الكمال. ومعرفتهم باكتسابهم النظريّ القاصر أنّ لهم كمالا خاصّا بهم ، لم يشتغلوا باكتسابه ، فلم يكتسبوه ولا اكتسبوا ما يضادّ ذلك الكمال أيضا ، إلّا أنّهم اشتغلوا بما يصرفهم عن اكتساب الكمال ، ممّا ليس بمضادّ له كبعض الأمور الدنيويّة ، فصاروا معرضين عنه مقصّرين فيه.

وأمّا المهملون فهم الذين كان تقصيرهم ذلك بسبب أنّهم مع اكتسابهم لذلك التشوق لم يشتغلوا لا بكسب الكمال ولا بكسب ما يضادّه وتكاسلوا في اقتناء الكمال ، فصاروا مقصّرين فيه ، سواء تكاسلوا في اقتناء غير الكمال أيضا مطلقا ، أم لم يتكاسلوا فيه بل اشتغلوا في الجملة بما ليس بمضادّ له ولا بصارف عنه من الأمور الدنيويّة.

وصنف هم المعاندون الجاحدون المتعصّبون لآراء فاسدة مضادّة للآراء الحقّة ، وهذا أيضا بإطلاقه يشمل ما إذا كانت تلك الآراء الفاسدة سفسطيّة أو مشاغبيّة أو جدليّة ، سواء

٨٤

كانت ناشئة عن رأي ذلك الجاحد نفسه ، أو كانت مبنيّة على التقليد لغيره. وما إذا كان الجحود لمحض العناد ، أو طلبا للرئاسة والشهرة ونحو ذلك ، وما إذا كان الجاحد مع اكتسابه للشوق إلى كماله منذ أوّل فطرته واعترافه بإنّيّته ، بحيث يكون له اعتراف بهميّته أيضا في الجملة باطنا ، لكنّه كان جاحدا لماهيّة ذلك الكمال ظاهرا رأسا لا تفصيلا ولا إجمالا ، كما قال تعالى في شأن بعض الجاحدين : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (١). أو لم يكن اعتراف بمهيّة أصلا ، كما في صورة الجهل المركب.

وبالجملة ، فالمستفاد من كلامه أنّ كلّ هؤلاء الناقصين من الأصناف المذكورة يتعذّبون دائما بنقصانهم لاشتياقهم إلى الكمال الفائت عنهم ، وأنّه إنّما حصل ذلك الشوق لهم باكتساب نظريّ قاصر عن الوصول إلى المشتاق إليه ، وهو فطانتهم البتراء ، وإنّما حصل القصور لهم من حيث قوّتهم النظريّة ، ومن حيث طروء حالة عليها جعلت قوّتهم النظريّة قاصرة ، وتلك الحالة أوّلا هي في المعرضين هيئة وجوديّة صارفة عن اكتساب الكمال ، وإن لم تكن مضادّة له ، وفي الجاحدين هيئة وجوديّة مضادّة له ، وأمّا في المهملين فلا هذه ولا تلك ، بل هي التكاسل ، سواء اعتبرته أمرا وجوديّا أو أمرا عدميّا.

ثمّ أنّه تستتبع تلك الحالات حالات أخر هي في المعرضين والمهملين حالة الجهل البسيط بالمعلومات الحقّة ، وهي حالة عدميّة تقابل العلم تقابل العدم والملكة ، وفي الجاحدين اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه اعتقادا جازما ، سواء كان مستند إلى شبهة أو تقليد أو عناد أو نحو ذلك ، وهذا هو حالة وجوديّة تقابل العلم تقابل التضادّ ، أي الحالة التي تسمّى جهلا مركّبا ، لأنّها جهل بما في الواقع مع الجهل بأنّه جاهل ، سواء كان الجهل باطنا وظاهرا جميعا كما في بعض الجاحدين ، أو ظاهرا فقط كما في بعضهم ، كما أشرنا إلى ذلك.

ثمّ إنّ أسوأ هؤلاء الأصناف الثلاثة حالا هم الجاحدون ، لما اكتسبوا من هيآت مضادّة للكمال ، سواء كانت تلك الهيئات هيئات أوّليّة أو ثانويّة ، ثمّ المعرضون ، ثمّ

__________________

(١) النمل (٢٧) : ١٤.

٨٥

المهملون. وكلّ هؤلاء الأصناف أيضا مختلفون في التعذّب بحسب اختلاف مراتب الجحود والإعراض والإهمال.

وحيث كان المفروض في الكلّ التعذّب دائما ، يجب أن تكون تلك الحالة الطارئة على القوّة النظريّة التي هي سبب لقصورها ونقصانها ولتألّمها وتعذّبها حالة مستحكمة مستمرّة راسخة ، صارت هي صورة لجوهر النفس باقية ببقائها ، إلّا لم يكن التعذّب دائما ، بل يمكن أن يكون ذلك الشقاء الذي بسببها منقطعا منجبرا بزوال تلك الحالة شيئا فشيئا ، ويشهد بما ذكرناه ما ذكره المحقّق الطوسيّ (ره) في شرح كلام الشيخ في «الإشارات».

قال الشيخ : «ثمّ اعلم أنّ ما كان من رذيلة النفس من جنس نقصان الاستعداد للكمال الذي يرجى بعد المفارقة فهو غير مجبور ، وما كان بسبب غواش غريبة فيزول ولا يدوم بها التعذّب». (١)

وقال المحقّق الطوسيّ في شرحه هكذا : «يريد بيان مراتب الأشقياء ؛ ونقدّم لذلك مقدّمة ، وهي أن نقول : فوات كمالات النفس يكون لا محالة لعدم استعدادها ، وعدم الاستعداد يكون إمّا لأمر عدميّ ، كنقصان غريزة العقل ، أو وجوديّ ، كوجود الأمور المضادّة للكمالات فيها ، وهي إمّا راسخة ، أو غير راسخة ، فهذه أقسام ثلاثة تشترك في كونها رذائل وهي أسباب النقصان ، وكلّ واحد منها إمّا بحسب القوّة النظريّة ، وإمّا بحسب القوّة العمليّة فتصير ستّة. فالذي يكون بسبب نقصان الغريزة بحسب القوّتين معا فهو غير مجبور بعد الموت ، ولا يكون بسببها تعذّب ، وهو الذي ذكره الشيخ. والذي يكون بحسب القوّة النظريّة ويكون راسخا فهو أيضا غير مجبور ، لكن يدوم بها التعذيب (٢) ، لأنّه الجهل المركّب المضادّ لليقين ، الذي صار صورة للنفس غير مفارقة عنه. والشيخ لم يتعرّض لذكر هذا القسم صريحا في هذا الفصل ، لكنّه أيضا بوجه تحت النقصان ، الذي حكم الشيخ عليه بأنه غير مجبور ، والثلاثة الباقية ، أعني النظريّة غير الراسخة ، كاعتقادات العوامّ والمقلّدة ، والعمليّة الراسخة وغير الراسخة ، كالأخلاق والملكات الرديّة المستحكمة

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ / ٣٥٠.

(٢) في المصدر : ... يدوم به التعذّب.

٨٦

وغير المستحكمة ، وهي التي تكون بسبب غواش غريبة ، وجميعها يزول بعد الموت ، إمّا لعدم رسوخها ، وإمّا لكونها هيئات مستفادة من الأفعال والأمزجة ، فتزول بزوالها لكنّها تختلف في شدّة الرداءة وضعفها وفي سرعة الزوال وبطئه ، ويختلف التعذّب بها بعد الموت في الكمّ والكيف بحسب الاختلافين». (١) انتهى كلامه (ره).

والشاهد وإن كان في بعض ما ذكره ، كالنظريّة غير الراسخة ، إلّا أنّا نقلنا كلامه بتمامه لاشتماله على فوائد أخر وشواهد أخرى فيما نحن بصدد بيانه ، فتبصر.

وحيث عرفت أنّ ما ذكره الشيخ هاهنا إنّما هو قصور من حيث القوّة النظريّة بسبب طروء حالة عليها مع كون الغريزة تامّة سليمة في كسب الكمال ، وأنّ المستفاد منه الفرق بين الحالة الراسخة وغير الراسخة كما يظهر ذلك ممّا نقلنا من كلام المحقّق الطوسيّ أيضا ، ظهر لك أنّه لو كان القصور من حيث القوّة النظريّة ، لكن من جهة نقصان الغريزة من كسب الكمال بعد أن كانت الغريزة منذ أوّل الفطرة سليمة تامّة في الجملة ، بحيث اكتسبت الشوق إلى الكمال المعشوق لها في الجملة ، لكن لم تكتسبه لنقصانها ، فذلك النقصان أيضا إن استتبع هيئة راسخة كانت صورة للنفس باقية ببقائها مضادة لها منافية لحقيقتها ، يكون التعذّب بها أيضا دائما كما في صورة الجهل المركّب المضادّ لليقين الذي صار صورة للنفس غير مفارقة عنها ، وإن لم يكن كذلك فيمكن انقطاع ذلك التعذّب وانجباره ، بل ربّما لم يكن به تعذّب أيضا.

ثمّ إنّ قول الشيخ : «وأمّا أنّه كم ينبغي أن يحصل عند الإنسان من تصوّر المعقولات ، حتّى يجاوز به الحدّ الذي في مثله تقع هذه الشقاوة ، وفي تعدّيه وجوازه ترجى هذه السعادة ، فليس يمكنني أنصّ عليه الخ».

لمّا بيّن سابقا كيفيّة السعادة والشقاوة العقليّتين من جهة القوّة النظريّة ، وأنّ السعادة العقليّة تحصل بالشعور بحصول الكمال الخاصّ للنفس الإنسانيّة ، والشقاوة تحصل بالشعور بضدّه ، أراد أن يبيّن أنّ ذلك الكمال ما ذا؟ وأن أيّة مرتبة من الكمال العلميّ يكون

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ / ٣٥١ ـ ٣٥٢.

٨٧

حصولها للنفس منشأ للسعادة العقليّة ، وحصول ضدّها لها منشأ للشقاوة العقليّة؟ فقال : «وأمّا أنّه كم ينبغي أن يحصل عند الإنسان من تصوّر المعقولات» أي من التصوّر بالمعنى الأعمّ الشامل للتصديق بالمعقولات ، التي إدراكها كمال خاصّ بالنفس الإنسانيّة ، حتّى يجاوز الإنسان بسبب ذلك الكمال الحدّ الذي في مثل ذلك الحدّ تقع هذه الشقاوة ، وفي تعدّيه وجوازه والترقّي منه إلى حدّ آخر فوقه ترجى هذه السعادة ، فليس يمكنني أنصّ عليه وأصرّح به ، وأعيّنه تعيينا لخفائه ولإشكاله ، إلّا نصّا بالتقريب ، وأظنّ أنّ ذلك أن تتصوّر نفس الإنسان المبادئ المفارقة التي هي مباد فاعليّة ، لوجودها ولوجود غيرها من الأشياء التي تلك المبادي مباد لها ، تصوّرا حقيقيّا بالكنه إن أمكن ، وإلّا فبوجه يمتاز به عمّا عداه ، وتصدّق أيضا بها تصديقا يقينيّا بوجودها عنده بالبرهان ، وأن تعرف العلل الغائيّة للأمور الواقعة في الحركات الكليّة ، دون الحركات الجزئيّة التي لا تتناهى ، وبذلك يعسر معرفتها ، وأن يتقرّر عندها هيئة الكلّ ونسب أجزائه بعضها إلى بعض ، والنظام الآخذ من المبدأ الأوّل إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه ، وأن تتصوّر العناية الأزليّة التي نظام الكلّ على طبقها ، وتتصوّر كيفيّة تلك العناية ، وأن تتحقّق أنّ الذات المتقدّمة للكلّ ، أي ذات المبدأ الأوّل تعالى شأنه ، أيّ وجود يخصّ ذاته ، وأيّة وحدة تخصّ ذاته؟ وكيف ينبغي أن تعرف تلك الذات المقدّسة عن التغيّر ، حتّى يلحقها تكثّر وتغيّر بوجه من الوجوه في أسمائه وصفاته وأفعاله؟ وكيفيّة صدور الكثرة من تلك الذات المقدّسة الواحدة بالذات ، وكيف ترتيب نسبة الموجودات إليها؟

وبالجملة ، أن يتحقّق عند النفس الإنسانيّة وجود المبدأ الأوّل تعالى شأنه وصفاته وأفعاله ، على ما هو الواقع ويقتضيه البرهان.

ولا يخفى أنّ ما ذكره الشيخ في تحديد ذلك الكمال مع كونه تحديدا بالتقريب كما ذكره ، فيه إشكال أيضا يعرف بالتأمّل الصادق.

والأظهر أن يقال في تحديده مطابقا لما دلّ عليه العقل ونطق به الشرع ، إنّه هو الإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله ، وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبجميع ما جاء الرّسل به من عند الله تعالى ، أي الإيمان والتصديق بذلك ، بحيث يعدّ

٨٨

المصدّق به مؤمنا.

وكيفما كان ، فبعد حصول أصل ذلك الكمال على ما حدّه الشيخ أو حدّدناه ، إذا ازداد الناظر استبصارا فيه ازداد للسعادة استعدادا ، كما أنّه كلّما ازداد عمى (١) عن ذلك الكمال ، ازداد بعدا من السعادة وقربا من الشقاوة ، وكأنّه ليس يتبرّأ الإنسان عن هذا العالم الأدنى الحسّيّ وعلائقه حتّى يحصل له تلك السعادة ، إلّا أن يكون شديد العلاقة مع ذلك العالم الأعلى العقليّ ، كما فيما بعد مفارقة النفس عن البدن ، وكذا في ضمن البدن لبعض النفوس الكاملة ، فصار له بسبب تلك الشدّة من العلاقة شوق إلى ما هناك ، أي في العالم العقليّ ، وعشق لما هناك ، فصدّه ذلك عن الالتفات إلى ما خلفه ، أي ممّا في العالم الحسّيّ جملة ، فحصلت له السعادة حينئذ. رزقنا الله تعالى إيّاه وسائر المؤمنين ، إنّه جواد كريم.

حال السعادة والشقاوة العقليّتين من جهة القوّة العمليّة

وقوله «ونقول أيضا : إنّ هذه السعادة الحقيقيّة لا تتمّ إلّا بإصلاح الجزء العمليّ من النفس ، ونقدّم لذلك مقدّمة كأنّا قد ذكرناها فيما سلف.

فنقول : إنّ الخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال بسهولة ما الخ».

لمّا بيّن سابقا حال السعادة والشقاوة العقليّتين بحسب القوّة النظريّة للنفس ، أي حال السعادة بحسب الهيئة العمليّة ، وحال الشقاوة بحسب الجهالات ، أراد أن يبيّن هنا حالها بحسب القوّة العمليّة لها ، أي حال السعادة بحسب الملكات والأخلاق الحسنة ، وحال الشقاوة بحسب الملكات الرديّة ، فذكر أوّلا : أنّ هذه السعادة الحقيقيّة لا تتمّ إلّا بإصلاح الجزء العمليّ من النفس ، يعني أنّ السعادة العقليّة كما أنّها تكون بإصلاح الجزء العلميّ من النفس ، وبكمال قوّتها النظريّة ، أي حصول العلوم الواقعيّة الحقيقيّة لها ، وأنّ الشقاوة العقليّة بخلافها كما ذكر ، كذلك تكون السعادة العقليّة بإصلاح الجزء العمليّ منها وبكمال قوّتها العمليّة ، وحصول الأخلاق الحسنة لها أيضا ، والشقاوة العقلية بخلافها. وأنّه

__________________

(١) «عميا» خ ل.

٨٩

بحصول هاتين السعادتين العقليّتين جميعا تحصل السعادة الحقيقيّة التامّة الكاملة ، فإنّها السعادة التي بحصول كلا قسمي كمال النفس جميعا ، وأنّه بحصول واحدة منهما فقط ، وإن كان تحصل السعادة لكنّها تكون غير حقيقيّة وغير تامّة ، فإنّها بحصول أحد قسمي كمالها دون الآخر ، ولا شكّ أنّ ما هو بحصول الجميع أتمّ وأكمل ممّا هو بحصول البعض. فحينئذ فالسعادة الحقيقيّة إنّما هي للكاملين في العلم والعمل ، والمستكملين في القوّة النظريّة والعمليّة جميعا ، دون الكاملين في أحدهما فقط ، فإنّهم ناقصون أيضا باعتبار.

ومنه يعلم حال الشقاوة الحقيقيّة ، أي أنّها تكون للناقصين في العلم والعمل جميعا ، دون الناقصين في أحدهما خاصّة.

ثمّ قدّم مقدّمة تتضمّن معنى إصلاح الجزء العمليّ وإفساده.

وبيانها : أنّ الخلق ملكة تصدر بها من النفس أفعال ما بالسهولة من غير تقدّم رويّة ، وقد أمر في كتب الأخلاق بأن يستعمل التوسّط بين الخلقين الضدّين ، كالتوسّط بين البخل والإسراف ، الذي هو الكرم ، لا بأن يفعل أفعال التوسّط دون أن تحصل ملكة التوسّط ، بل مع حصول تلك الملكة للنفس ، ولا يخفى أن ملكة التوسّط كأنّها موجودة للقوى الناطقة وللقوى الحيوانيّة جميعا ، أمّا للقوّة الحيوانيّة ، فبأن يحصل فيها هيئة الإذعان والانقهار والانفعال من القوّة الناطقة بعد أن قويت القوّة الناطقة وحصلت فيها ملكة التوسّط ، وأثّرت هي في القوّة الحيوانيّة وقهرته ، فصارت القوّة الحيوانيّة منقهرة عندها مذعنة لها منفعلة منها.

وأمّا للقوّة الناطقة ، فبأن تقوى هي وتحصل فيها هيئة الاستعلاء على القوّة الحيوانيّة وهيئة الانفعال والإذعان من المبادئ العالية. وهذا كما أنّ ملكة الإفراط والتفريط موجدة للقوّة الناطقة وللقوى الحيوانيّة جميعا ، ولكن بعكس هذه النسبة ، إذ من المعلوم أنّه كما أنّ ملكة التوسط التي يتبعها الخيرات ، وهي أمارة قوّة القوّة الناطقة ، ومقتضى النفس الإنسانيّة التي في جبلّتها الخيرات ، وكذا هي أمارة استعلائها على القوى الحيوانيّة التي في جبلّتها الشرور ، تحدث هي أوّلا في الناطقة ثمّ في الحيوانيّة بانقهارها منها ، كذلك ملكة الإفراط والتفريط التي يتبعها الشرور ، وهي أمارة قوّة القوى الحيوانيّة التي في

٩٠

جبلّتها الشرور ، وكذا هي أمارة استعلائها على القوّة الناطقة وانقهارها منها تحدث أولا في القوى الحيوانيّة ، ثمّ في الناطقة بإذعانها منها وانقهارها دونها.

وبالجملة ، أنّه من المعلوم أنّ الإفراط والتفريط مقتضيا القوى الحيوانيّة. وأنّه إذا قويت القوى الحيوانيّة وحصلت لها ملكة استعلائية على القوّة الناطقة ، ضعفت الناطقة وانقهرت دونها ، فحدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانيّة وأثر انفعاليّ قد رسخ في النفس الناطقة ، من شأن تلك الهيئة أن تجعل النفس الناطقة قويّة العلاقة مع البدن ، شديدة الانصراف إليه ؛ وذلك مضادّ لجوهر النفس الناطقة مؤلم مؤذ لها ، لأنّ حقيقتها تستدعي أن تكون لها هيئة استعلائية قهريّة على البدن وقواه الحيوانيّة كالقوى الشهوانيّة والغضبيّة مثلا ، فإذا انقهرت منها وانقادت وخدمت إيّاها في تحصيل مآربها الدنيّة الدنيويّة ، كان ذلك مضادّا لجوهرها مؤلما لها وموجبا لحسرتها وشقاوتها.

وأمّا ملكة التوسّط ، فالمراد منها هيئة راسخة شأنها تنزيه النفس الناطقة عن الهيئات الانقياديّة الانقهاريّة من القوى الحيوانيّة ، وكذا شأنها بتقيّة النفس الناطقة على جبلّتها الأصليّة ، مع إفادة هيئة الاستعلاء على القوى الحيوانيّة ، وذلك غير مضادّ لجوهر النفس ، ولا مائل إلى جهة البدن ، بل عن جهته ، فإنّ التوسّط يسلب عنه الطرفين المتضادّين دائما ، بل هو مقتضى جوهرها وحقيقتها كما مرّ.

ثمّ إنّه حيث قرّر هذه المقدّمة ، شرع في بيان كيفيّة حصول السعادة باعتبار صلاح الجزء العمليّ من النفس وحصول الشقاوة باعتبار فساده ، فقال : «ثمّ جوهر النفس الذي ملكة التوسّط من مقتضياتها وملائمة لها وكمال لها من جهة القوّة العمليّة ، إنّما كان البدن هو الذي يغمره ويلهيه ويغفله عن الشوق الذي يخصّه عن طلب الكمال ، وعن الشعور بلذّة الكمال ـ إن حصل له ـ والشعور بألم الكمال إن قصر عنه ، وليس تلك الغفلة بسبب أنّ النفس منطبعة في البدن ، أو منغمسة فيه حتّى ينافي ذلك تجرّدها في ذاتها عن المادّة وتوابعها ، ولكن للعلاقة التي كانت بينهما ، وهي الشوق الجبلّي الذي أودعه الله تعالى في حقيقتها ، والميل الذاتيّ إلى تدبير البدن والاشتغال بآثاره وبما يورده من عوارضه وبما يتقرّر فيها من ملكات مبدؤها البدن ، وسواء كانت ملكة التوسّط أو ملكة الإفراط

٩١

والتفريط ، حيث إنّ تلك الملكات كلّها إنّما تحصل بتكرّر أفعال مبدؤها البدن ، فإذا فارقت النفس البدن وفيها الملكة الحاصلة بسبب الاتّصال بالبدن ، أي ملكة الإفراط والتفريط ، حيث إنّها هي الحاصلة بسبب اتّصال النفس بالبدن المائلة لها إلى جهة ، فإنّ ملكة التوسّط وإن كان مبدؤها البدن أيضا ، إلّا أنّها ليست حاصلة لها بسبب الاتّصال به ، ولا مائلة لها إلى جهة ، بل عن جهته كما ذكر.

وبالجملة ، إذا فارقت النفس البدن وفيها تلك الملكة المائلة لها إلى جهة البدن ، أي ملكة الإفراط والتفريط ، سواء كانت تلك الملكة الحاصلة ملكة إفراط وتفريط في كلّ الأفعال ، أو في بعضها دون بعض ، كانت النفس من جهة تلك الملكة الحاصلة في كلّ الأفعال أو بعضها ـ التي هي من آثار الاتّصال بالبدن فيها ـ قريبة الشبه أو قريبة النسبة من حال النفس وهي في البدن ، حيث إنّ الآثار البدنيّة كلّها أو بعضها تكون باقية فيها حينئذ كما كانت قبل المفارقة ، وحيث إنّ تلك الآثار كما كانت شاغلة لها عن الشوق إلى الكمال وعن الشعور بلذّة الكمال قبل المفارقة تكون شاغلة أيضا لها عنه حينئذ ، إلّا أنّ تلك الملكة حيث كانت في معرض الزوال حيث إنّ مبدأها وهو البدن قد هلك وتلاشى وحصل للنفس المفارقة عنه وسببها ، وهو استعلاء القوى الحيوانيّة على النفس قد بطل ، حيث إنّه بتلاشي البدن بطل استعلاؤها وقوّتها ، بل انعدمت أنفسها أيضا ، لكنّ تلك الملكة حينئذ لم تزل بعد بالكلّيّة ، حيث إنّها رسخت في النفس وانطبعت فيها كانطباع الرّين في المرآة الصافية في ذاتها المتدرّنة بالدرن (١) الغريب عن حقيقتها ، ولا يكفي في زوالها بالكلّيّة بطلان مبدئها وانعدام سببها ، بل ينبغي أن يكون هناك مع ذلك تصفية ما وتصقيل لقابلها وهو النفس ، حتّى تنمحي تلك الملكة عنها بالكليّة.

وبالجملة ، حيث كانت تلك الملكة باقية في الجملة ، وكانت في معرض الزوال فهي تزول شيئا فشيئا بقدر استعداد قابلها للصفاء وحصول الصفاء له ، فبأيّ قدر ينقص من تلك الملكة الملهية للنفس عن الشوق إلى كمالها عن النفس تزول غفلتها عن حركة

__________________

(١) الرّين : الطبع والدنس : والدرن : محرّكة : الوسخ.

٩٢

الشوق الذي لها إلى كمال المعشوق لها ، علميّا كان ـ وهو العلم بحقائق الموجودات كما هي ـ أم عمليّا ـ وهو ملكة التوسّط ـ فتشعر بها. وبأيّ قدر يبقى من تلك الملكة مع النفس تكون محجوبة النسبة والشبه عن الاتّصال الصرف بمحلّ سعادتها ، لأنّ ذلك الاتّصال بمحلّ سعادتها ـ أي سعادتها العلميّة والعمليّة ـ موقوف على أن لا يبقى فيها من الآثار البدنيّة الشاغلة لها عنه شيء ، والمفروض أنّه قد بقي. أو المعنى أنّه بسبب النقصان من تلك الملكة تزول غفلتها عن حركة الشوق الذي لها إلى كمالها ، وبسبب بقائها في الجملة تكون محجوبة النسبة عن ذلك الاتّصال ، والحاصل أنّه حينئذ يحصل للنفس شعور وشوق إلى كمالها المعشوق لها مع كونها محجوبة عنه ، فيحدث هناك من الحركات المتشوّقة ما يعظم أذاها ، حيث إنّ الحركة إلى معشوق ما مع حصول مانع عن نيله أذى وألم ، وإن كان يختلف حاله بحسب اختلاف مراتب تلك الحركات الشوقيّة ومراتب تلك الموانع.

ثمّ إنّ نفس تلك الهيئة البدنيّة المنطبعة في النفس ، حيث إنّها هيئة غريبة عن جوهر النفس بمنزلة الرّين والدرن لها ، مضادّة بنفسها لجوهر النفس أيضا ، موذية لها دائما ، كان يلهيها عنها وعن مضادّتها وإيلامها أيضا البدن وتمام انغماسها فيه ، فإذا فارقت عنه وارتفع الشاغل ، أحسّت بتلك المضادّة العظيمة وتأذّت بها أذى عظيما ، فيحصل لها حينئذ الأذى والألم من وجهين : أحدهما ، من جهة تلك الحركات المتشوّقة ، والآخر من جهة تلك الهيئة نفسها ، فيتضاعف الأذى والألم. لكنّ هذا الأذى والألم ، ليس لأمر لازم للنفس الناطقة كما في صورة نقصانها من جهة قوّتها النظريّة ، بل لأمر عظيم غريب عن حقيقتها ، والأمر العارض الغريب لا يدوم ولا يبقى ، بل يزول ويبطل مع زوال الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة الغريبة البدنيّة بتكرّرها ، أي الأفعال التي كان مبدؤها قوّة القوى الحيوانيّة واستعلاءها على النفس الناطقة ، وكان تكرّر تلك الافعال منشئا لثبوت تلك الهيئة وانطباعها في النفس ، وقد زالت تلك الأفعال بمفارقة النفس عن البدن ، وكذا زال مبدؤها ومنشؤها ، وأفضى زوالها إلى زوال تلك الهيئة المسبّبة عنها ، مع كون النفس بجوهرها وحقيقتها تقتضي زوال تلك الهيئة عنها لكونها غريبة عنها مضادّة لها.

وبالجملة ، فالمبدأ الفاعليّ لتلك الهيئة قد زال ، والقابل لها أي النفس مستعدّة لزوالها

٩٣

عنها استعدادا تامّا ، فكلّما تأمّلت منها قرب استعدادها لزوالها عنها ، فلهذا تزول وتنمحي شيئا فشيئا بحسب مراتب استعدادها لزوالها عنها ، فيلزم إذن أن يكون العقوبة التي بحسب حصول الهيئة الغريبة غير خالدة ، بل قد تزول وتنمحي قليلا قليلا بحسب انمحاء تلك الهيئة شيئا فشيئا. حتّى تزكو النفس عن تلك الهيئة وتصفو بمصفاة العقوبة وتنجلي بمصقل الألم والأذى ، وتبلغ حينئذ السعادة التي تخصّها من السعادة العلميّة إن كانت لها ، وكذا السعادة العمليّة الحاصلة لها بالنسبة إلى هيئة وملكة أخرى من ملكات التوسّط إن كانت أيضا لها. وهذا حال تلك الهيئة البدنيّة الغريبة إذا كانت ملكة راسخة.

ومنه يعلم حالها ، إذا لم تكن راسخة أيضا ، فإنّها تزول بالطريق الأولى.

وبالجملة ، فتلك الهيئات الردّية البدنيّة ، سواء كانت مستحكمة أو غير مستحكمة ، وكلّها إنّما تكون بسبب غواش غريبة ، فجميعها يمكن أن تزول بعد الموت ، إمّا لعدم رسوخها ، وإمّا لكونها هيئات مستفادة من الأفعال والأمزجة ، فتزول بزوالها. وإن كانت تختلف في شدة الرداءة وضعفها ، وفي سرعة الزوال وبطئه ، وفي كونها بالنسبة إلى كلّ الأعمال والأفعال أو بعضها ، ويختلف التعذّب بها بعد الموت في الكمّ والكيف بحسب ذلك الاختلاف.

وبما ذكر يظهر سرّ ما ورد في الأخبار من أنّ المؤمن الفاسق لا يخلد في النار. ووجه ما اتّفق عليه أهل الحقّ من أنّ عذاب صاحب الكبيرة منقطع.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكر إنّما هو بيان حال فساد الجزء العمليّ والشقاوة بحسبه ، إذا كان ذلك بحسب طروء حالة رديّة غريبة على النفس ، بعد أن كانت في قوّتها القريبة تحصيل ملكة التوسّط ، ولم تحصّلها ، بل فرّطت وقصّرت في تحصيلها وحصّلت ملكة الإفراط والتفريط.

ومنه يعلم بيان حاله ، إذا كان من جهة نقصان الغريزة أيضا بحسب الجزء العمليّ ، أي إذا كان عدم تحصيل ملكة التوسّط ، لا لأجل أنّها فرّطت فيها وقصّرت ، بل لأجل أنّه كانت غريزتها بحسب الجزء العمليّ ناقصة عن تحصيلها ، بعد أن كانت من شأنها إمكان تحصيلها في الجملة ولو بعيدا ، وأنّها بسبب ذلك النقصان في الغريزة ، كما لم تحصّل ملكة

٩٤

التوسّط ، لم تحصّل ملكة الإفراط والتفريط أيضا ، ولم تطرأ على تلك النفس تلك الحالة الغريبة الرديّة ، سواء كانت راسخة أو غير راسخة ، فإنّ هذه النفس أيضا بسبب عدم تحصيلها ملكة التوسّط في كلّ أفعالها أو بعضها ، سواء حصلت لها هيئة راسخة أو غير راسخة غير هيئة الإفراط والتفريط ، أو لم تحصل ، لا تكون عقوبتها خالدة ، بل إنّ بعض تلك النفوس ممّا لا تتعذّب بذلك أصلا ، كما في النفوس الساذجة بالقياس إلى الهيئة العلميّة ؛ وبعضها وإن كانت تتعذّب بذلك ، إلّا أنّ عذابها أدون من عذاب من حصّلت ملكة الإفراط والتفريط من وجه ، حيث إنّها وإن كانت تتعذّب بفقدان ملكة التوسّط إذا كان لها شوق إليها ، لكنّها لا تتعذّب من جهة نفس تلك الهيئة الغريبة الموذية المؤلمة الحاصلة فيها ، أي هيئة الإفراط والتفريط ، حيث إنّها لم تكن فيها.

ثمّ إنّ الذي ذكرنا كلّه ، إنّما هو بيان كيفيّة الشقاوة بحسب فساد الجزء العمليّ من النفس ، ومنه يعلم بيان حال السعادة بحسب صلاحه ، وأنّ السعادة بحسبه تكون خالدة دائمة.

أمّا بيان حصول أصل السعادة بحسبه ، أي بحسب حصول ملكة التوسّط لها ، فظاهر بتقريب ما سبق ، لأنّ ملكة التوسّط ، حيث كانت كمالا للنفس الإنسانيّة من جهة قوّتها العمليّة ، وكانت هيئة مناسبة موافقة لجوهرها غير مضادّة لحقيقتها ، كان إدراكها والشعور بها لذّة وسعادة ، وإنّما كانت النفس لا تشعر بها ولا تستلذّها قبل المفارقة عن البدن ، لأنّ البدن هو الذي كان يغمرها ويلهيها ويغفلها عن الشوق الذي يخصّها عن طلب كمالها ، وحيث فارقت البدن زالت تلك الغفلة وحصل لها الشعور بها على أكمل وجه ، فحصلت لها بسببها السعادة العظيمة من جهة الشعور بها واستلذاذها ، بل من جهة الشعور بكمالها العمليّ أيضا إن كان لها ، لأنّه كما أنّ ملكة الإفراط والتفريط ، التي هي هيئة مضادّة للنفس ، كانت شاغلة لها عن إدراكها لكمالها العلميّ ، وكانت هي بسبب ذلك محجوبة النسبة عن الاتّصال الصرف بمحلّ سعادتها ، كذلك ملكة التوسّط التي هي هيئة موافقة للنفس ، وهي بخلاف هيئة الإفراط والتفريط لا تكون شاغلة وحاجبة لها عن ذلك ، بل هي معينة ومشوّقة إلى إدراك كمالها العلميّ أيضا ، فتكون لها السعادة من وجهين : أحدهما من جهة

٩٥

الشعور بأصل تلك الملكة التوسطيّة التي هي كمال عمليّ لها ، والآخرة من جهة إعانتها للشعور بكمالها العلميّ ، فيتضاعف لذّتها وسعادتها ، وإن كانت تختلف بحسب اختلاف مراتب تلك الملكة في الكيف والكمّ.

في بيان خلود السعادة من جهة صلاح الجزء العمليّ

وأمّا بيان خلود تلك السعادة ودوامها فلأنّ ملكة التوسّط أيضا ، وإن كانت هيئة عارضة للنفس منطبعة فيها بسبب تكرّر الأفعال البدنيّة التي تزول ، ومقتضى ذلك أن تزول تلك الهيئة المسبّبة عنها أيضا بزوال مبدئها وسببها ، إلّا أنّ تلك الهيئة لمّا كانت هيئة مناسبة بجوهر النفس ومن مقتضى حقيقتها ، وكانت هيئة غير غريبة عنها ؛ لم يكن فيها استعداد ما لزوالها عنها أصلا ، بل كان فيها استعداد تامّ لاستثباتها فيها وبقائها ، فتكون باقية خالدة بفيضان الوجود عليها من المبدأ الفيّاض.

وبالجملة فمبدؤها ، وإن كان زائلا إلّا أنّ القابل لها ـ وهو النفس الإنسانيّة ـ ليس فيه استعداد لزوالها عنه ، بل استعداده إنّما هو لاستثباتها فيه ، وحيث كان مستعدّا لبقائها فيه ، تكون باقية بإفاضة الوجود عليها من المبدأ الفيّاض ، بعد أن كان حدوثها من تكرّر الأفعال البدنيّة ، ومن إفاضة الوجود عليها من المبدأ الفيّاض أيضا ، وحيث كانت تلك الملكة خالدة كانت السعادة بحسبها أيضا خالدة ، وخلود هذه السعادة كما هو مقتضى الدليل العقليّ ، كذلك هو مطابق لما نطق به الشرع ، فتبصّر.

ثمّ إنّه بقي هنا شكّ ، وهو : أنّه لقائل أن يقول : ما الفرق بين الهيئة الرديّة الحاصلة من جهة فساد الجزء العمليّ من النفس وقوّتها العمليّة وبين تلك الهيئة الرديّة الحاصلة من جهة فساد الجزء العلميّ وقوتها النظريّة؟ حيث حكمتم بزوال الأولى عن النفس شيئا فشيئا وبانقطاع الشقاوة التي من أجلها ، كما دلّ عليه كلام الشيخ هنا صريحا ، وحكمتم ببقاء الثانيّة فيها وعدم زوالها عنها وعدم انقطاع الشقاوة التي من أجلها ، كما أشعر به كلام الشيخ ثمّة ، وأشرتم إلى وجهه هنالك مع كون الهيئتين سواء في كونهما هيئتين غريبتين

٩٦

عن جوهر النفس ، مضادّتين لحقيقتها ، وفي كونهما هيئتين راسختين ، وفي كون مبدئهما الأفعال البدنيّة التي تزول بعد مفارقة النفس عن البدن ، فإنّ الهيئة الثانية أيضا إنّما تحصل إمّا بالإهمال أو بالإعراض أو بالجحود ، وكلّ منها إنّما يحصل بغلبة القوى الحيوانيّة على النفس الناطقة ، وانقهار الناطقة عند الحيوانيّة كما في الهيئة الأولى.

ويمكن الجواب عن هذا الشكّ ، بأنه : لعلّ الفرق بينهما بما أشرنا إليه سابقا ، من أنّ الهيئة الرديّة الحاصلة من جهة فساد الجزء النظريّ ، التي هي سبب قريب للتألّم والتعذّب ، إنّما هي هيئة الجهل البسيط أو الجهل المركّب بالقياس إلى حقائق الأشياء التي كان للنفس الناطقة شوق إلى العلم بها ولم تكتسبه ، إمّا لإعراضه أو لإهماله أو لجحوده ، وتلك الهيئة لا يمكن زوالها عن النفس بعد الموت ، لأنّ زوالها إنّما يكون بحصول العلم النظريّ للنفس بالنسبة إلى حقائق تلك الأشياء التي حصل لها الجهل بها ، وبانقلاب الجهل علما ، وقد عرفت أنّه لا يمكن ذلك ، لأنّ أوائل الملكة العلميّة التي بها يمكن اكتساب المجهول من المعلوم والاستكمال بالفعل لا شكّ أنّها تكتسب بالبدن لا غير ، والمفروض أنّ النفس فارقت البدن ، فلم يمكن لها اكتساب تلك الملكة ثانيا والاستكمال مرّة أخرى ، مع أنّ المفروض أن ليس حصول هذا العلم ضروريّا حتّى يحصل للنفس ويزول عنها الشقاء ، وإلّا لكان ضروريّا حين كون النفس في البدن أيضا ، والمفروض خلافه. وإذا لم يكن زوال تلك الهيئة الجهليّة التي هي سبب قريب لتألّم النفس بها عن النفس ، فلم يمكن زوال الشقاوة التي بحسبها عنها ، فتكون خالدة. وأيضا إنّ تلك الهيئة الجهليّة ، وإن كان مبدؤها الإهمال والإعراض والجحود ، إلّا أنّ تلك الأفعال ليست أفعالا بدنيّة يمكن زوالها ببطلان البدن ، بل هي أفعال نفسانيّة صدرت عن النفس بذاتها ، وإن كان مبدؤها نوع غلبة للقوى البدنيّة الحيوانيّة على القوّة العقلية الإنسانيّة ، وما تصدر عن النفس بذاتها يكون أثره باقيا فيها ، فلا يكون حينئذ مبدأ تلك الهيئة الجهليّة المؤلمة الموذية أفعالا بدنيّة زائلة بزوال البدن ، حتّى يمكن زوال تلك الهيئة عن النفس.

ويعلم ممّا ذكرنا أنّ تلك الهيئة لا يمكن زوالها لا من جهة القابل لها ، ولا من جهة المبدأ القريب لها ، فتكون باقية في النفس من جهتين. وأمّا المبدأ البعيد لها فهو وإن كان

٩٧

يمكن زواله ، إلّا أنّه يمكن أن يخلف وينوب عنه مبدأ آخر ، وهذا بخلاف الهيئة الرديّة الحاصلة من جهة فساد الجزء العمليّ كما عرفت بيان حالها.

فإن قلت : إنّ ما أشعر به كلام الشيخ ثمّة ، ودلّ عليه ما نقلنا من كلام المحقّق الطوسيّ صريحا من الحكم بزوال اعتقادات العوامّ والمقلّدة عن النفس ، وعدم خلود الشقاء بسببها للنفس ، كيف يجتمع مع ما نطق به الشرع وأجمع عليه أهل الحقّ من خلود الكافرين والمشركين ونظرائهم في النار ، والحال أنّ أكثرهم عوامّ ومقلّدة ، كانوا يقلّدون آباءهم ورؤساءهم في الكفر والشرك والجحود.

قلت : لعلّ من نطق الشرع الشريف بخلودهم في النار من العوامّ والمقلّدة منهم محمول على من حصل له اعتقاد راسخ في الكفر والشرك والجحود ، وإن كان مبدأ حصول ذلك الاعتقاد تقليدا أو أمرا آخر من الأمور الخسيسة والأعراض الدنيويّة ، بخلاف من دلّ كلام الشيخ والمحقّق الطوسيّ (ره) على عدم خلودهم ، فإنّه محمول على من لم يحصّل ذلك الاعتقاد الراسخ.

فإن قلت : إنّ من هؤلاء من لم يحصّل ذلك الاعتقاد الراسخ واتّبع ظنّه ، بل هوى نفسه أيضا ، وقد نطق الشرع بخلودهم في النار ، كما قال تعالى في شأن بعض المشركين : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى). (١)

قلت : لعلّ المراد بهؤلاء أيضا من حصل له ذلك الاعتقاد الراسخ أيضا كما دلّ عليه قوله تعالى (إِنْ يَتَّبِعُونَ ...) وإن كان مبدأ ذلك الاعتقاد نوع ظنّ أو هوى نفسانيّ أو تقليد الآباء ، وأنّهم بذلك الاتّباع المبنيّ على حصول الاعتقاد الراسخ لهم في الشرك ، خصوصا مع قيام الحجّة ووضوح الدليل على خلافه ، كما يدلّ عليه قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (٢) مخلّدون في النار.

وبالجملة فما تضمّنه كلام الشيخ والمحقّق الطوسيّ من الحكم بزوال اعتقادات

__________________

(١) النجم (٥٣) : ٢٣.

(٢) نفس الآية.

٩٨

العوامّ والمقلّدة ، يمكن أن يحمل على زوال اعتقاداتهم التي ليست راسخة ، سواء كانت اعتقادات غير راسخة بل حالّة ، أو لم تكن اعتقادا أيضا ، بل ظنّا أو هوى نفس ، أو نحو ذلك ، وسمّيت اعتقادا مجازا. وتلك الاعتقادات والحالات مثل الحالات الطارئة على نفوس المستضعفين منهم ، الذين لا اعتقاد لهم في الكفر والشرك ولا في الإيمان ، وهم عوامّ ومقلّدة ، فإنّ تلك الحالات لعدم كونها هيئة راسخة في نفوسهم ، يمكن أن تزول عنها وينقطع الشقاء بسببها خاصّة ، ومع ذلك فليس لهم السعادة أيضا ، بل إنّهم لو كانوا ممّن اكتسبوا الشوق إلى كمالاتهم النفسانيّة ولم يكتسبوها ، فهم معذّبون بترك الإيمان وبفقدهم كمالاتهم تعذيبا دائميّا كما دلّ عليه كلام الشيخ ، وإن لم يكونوا ممّن اكتسبوا الشوق إلى كمالاتهم ، كالنفوس الساذجة فلا شقاء لهم من هذه الجهة أيضا ، وإن لم تكن لهم سعادة أيضا بالشعور بكمالاتهم. والله تعالى أعلم بحقائق الحال.

في بيان حال النفوس البله

ثمّ إنّ قول الشيخ : «وأمّا النفوس البله التي لم تكتسب الشوق ، فإنّها إذا فارقت البدن .. إلى آخر ما ذكره في الفصل» بيان لكيفيّة حال النفوس الساذجة الصرفة ، بعد مفارقتها عن الأبدان ، كما سيأتي تحريره.

وتقييد النفوس البله ، بقوله : «التي لم تكتسب الشوق» يدلّ على أنّه أراد بالنفوس البله النفوس الساذجة مطلقا ، أعمّ من البله والمجانين والصبيان. كما أنّ قوله سابقا «وأمّا النفوس والقوى الساذجة الصرفة فكأنّها هيولى موضوعة لم تكتسب البتّة هذا الشوق» يدلّ على هذا التعميم أيضا.

وبالجملة ، فكلامه هنا قرينة على أنّه أراد في كلامه في «الإشارات» بالبله هذا المعنى الأعم أيضا ، كما أشرنا إليه فيما سلف من مبحث التناسخ.

ثمّ إنّ في كلامه مع الدلالة على هذا التعميم ، دلالة على تخصيص النفوس «البله بالنفوس الخالية عن الكمالات العلميّة خاصّة ، وعمّا يضادّها لا عن الكمالات العمليّة

٩٩

أيضا وعمّا يضادّها.

وبيان ذلك ، أنّه حيث قيّد النفوس البله بالّتي لم تكتسب الشوق ، وأراد بالشوق الشوق إلى الكمال الخاصّ بالنفس الإنسانيّة ، وقد فسّره فيما سبق بأنّه أن تصير النفس عالما عقليّا مرتسما فيه صور الكلّ ، أي الكمال من جهة القوّة النظريّة ، يستفاد منه أنّ النفوس البله ، هي التي تكون خالية عن الكمال العلميّ وعمّا يضادّه ، وأنّها لو اكتسبت كمالا عمليّا أو ما يضادّه ، أي ما هو بحسب القوّة العمليّة ، فلا ينافي ذلك كونها نفوسا ساذجة خالية عن الكمال العلميّ وعمّا يضادّه ، ولأجل ذلك قسّم النفوس البله إلى قسمين : قسم هو كان غير مكتسب للهيئات الرديّة ، وقسم كان مكتسبا للهيئات البدنيّة الرديّة ، التي أراد بها هيئة الإفراط والتفريط ، كما يدلّ عليه كلامه آنفا. وحينئذ فلا يرد عليه أنّ النفوس البله إذا كان معناها النفوس الخالية عن الكمال وعمّا يضادّه ، فكيف تكون مكتسبة للهيئات الرديّة البدنيّة التي هي مضادّة للكمال العمليّ؟

إلّا أنّه يرد عليه أنّ هاهنا قسما آخر ينبغي أن يذكره ويبيّن حاله ، وهو لم يتعرّض له ، وهو أن تكون قد اكتسبت الهيئة الفاضلة الملائمة الموافقة البدنيّة ، أي هيئة التوسّط مع كون هؤلاء أحسن حالا من الذين لم يكتسبوا الهيئات الرديّة أصلا ، وقد تعرّض لبيان حالهم.

ويمكن دفع هذا الايراد عنه أيضا بأنّ هذا القسم لعلّه داخل تحت قوله : «وكانت غير مكتسبة للهيئات الرديّة» فإنّ عدم الاكتساب للهيئات الرديّة أعمّ من أن يكون هناك اكتساب للهيئات الفاضلة أم لا.

ثمّ إنّ هذا التخصيص كما أنّه هو مفاد كلام الشيخ ، كذلك هو مفاد كلام ذلك البعض من العلماء الذي نقل كلامه هنا ، حيث إنّه أيضا في قوله : «إنّ النفوس البله إذا فارقوا الأبدان ، ولم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي هي فوقهم ، لا كمال فيسعدوا تلك السعادة ، ولا شوق كمال فيشقوا تلك الشقاوة الخ» أراد هذا المعنى الذي يفهم من كلام الشيخ ، وهو أنّ النفوس البله هم الذين ليس كمال من جهة القوّة النظريّة ولا شوق إليه ، فيفهم منه أيضا أنّ النفوس البله هي النفوس الخالية عن الكمال العلميّ وما يضادّه.

١٠٠