منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-609-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٢٩٢

فتنقلب عالما معقولا موازيا للعالم الموجود كلّه ، مشاهدا لما هو الحسن المطلق والخير المطلق والجمال الحقّ ، ومتّحدا به ومنتقلة بمثاله وهيئته ، ومنخرطة في سلكه ، وصائرة من جوهره ، وإذا قيس هذا بالكمالات المعشوقة التي للقوى الأخرى توجد في المرتبة بحيث يصحّ (١) معها أن يقال إنّه أفضل وأتمّ منها ، بل لا نسبة إليها بوجه من الوجوه فضيلة وتماما وكثرة وسائر ما يتمّ بدوام (٢) إلذاذ المدركات كما ذكرناه.

وأمّا الدوام ، فكيف يقاس الدوام الأبديّ بدوام المتغيّر الفاسد. وأمّا شدّة الوصول ، فكيف يكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح بالقياس إلى ما هو سار في جوهر قابله حتّى يكون كأنّه هو بلا انفصال ، إذ العاقل والمعقول شيء واحد أو قريب من الواحد. وأمّا أنّ المدرك في نفسه أكمل ، فأمر لا يخفى. وأمّا أنّه أشدّ إدراكا فأمر أيضا تعرفه بأدنى تأمّل وتذكّر منك لما سلف بيانه ، فإنّ النفس النطقيّة أكثر عدد مدركات وأشدّ تقصّيا للمدرك وأشدّ تجريدا له عن الزوائد الغير الداخلة في معناه إلّا بالعرض ، ولها الخوض في بطن المدرك وظاهره ، بل كيف يقاس هذا الإدراك بذلك الإدراك ، وكيف يقاس هذه اللذّة باللذّة الحسّيّة والوهميّة والغضبيّة؟ ولكنّا في عالمنا وبدننا هذين وانغمارنا في الرذائل لا نحسّ بتلك اللذّة إذا حصل عندنا شيء من أسبابها كما أومأنا إليه في بعض ما قدّمناه من الأصول ، ولذلك لا نطلبها ولا نحنّ إليها. اللهمّ إلّا أن نكون قد خلعنا ربقة الشهوة والغضب وأخواتهما من أعناقنا وطالعنا شيئا من تلك اللذّة ، فحينئذ ربّما تخيّلنا منها خيالا طفيفا ضعيفا (٣) وخصوصا عند انحلال المشكلات واستيضاح المطلوبات اليقينيّة (٤) ونسبة التذاذنا ذلك نسبة التذاذ الحسّ بتنشّق روائح المذاقات اللذيذة إلى الالتذاذ بتطفّفها ، بل أبعد من ذلك بعدا غير محدود.

وأنت تعلم إذا تأمّلت عويصا يهمّك وعرضت عليك شهوة وخيّرت بين الظفرين

__________________

(١) في المصدر : بحيث يقبح معها ...

(٢) في المصدر : وسائر ما يتم به إلذاذ ...

(٣) في المصدر : خيالا طفيفا وخصوصا ...

(٤) في المصدر : النفسيّة ...

٦١

استخففت بالشهوة ، إن كنت كريم النفس ، والأنفس العاميّة أيضا فإنّها تترك الشهوات المعترضة وتؤثر الغرامات والآلام الفادحة بسبب افتضاح أو خجل أو تغيّر أو سوء قالة (١) ، وهذه كلّها أحوال عقليّة بعضها أضداد بعضها ، يؤثر على ما يؤثر في أضدادها على المؤثّرات الطبيعيّة ، ويصبر لها على المكروهات الطبيعيّة ، فيعلم من ذلك أنّ الغايات العقليّة أكرم على الأنفس في محقّرات الأشياء ، فكيف في النبيهة (٢) العالية ، إلّا أن الأنفس الخسيسة تحسّ بما يلحق المحقّرات من الخير والشرّ ولا يحسّ بما يلحق الأمور النبيهة ، لما قيل من المعاذير. وأمّا إذا انفصلنا عن البدن وكانت النفس منّا تنبّهت في البدن لكمالها الذي هو معشوقها ولم تحصّله ، وهي بالطبع نازعة إليه إذ عقلت بالعقل أنّه موجود ، إلّا أنّ اشتغالها بالبدن كما قلنا قد أنساها ذاتها ومعشوقها ، كما ينسي المرض الحاجة إلى بدل ما يتحلّل ، وكما تنسي الأمراض الاستلذاذ بالحلو واشتهاءه ، وتميل بالشهوة من المريض إلى المكروهات في الحقيقة عرض لها حينئذ من الألم بفقدانه كفاء ما يعرض من اللذّة التي أوجبنا وجودها ودلّلنا على عظم منزلتها ، فيكون ذلك هو الشقاوة والعقوبة التي لا يعد لها تفريق النار للاتّصال وتبديل الزمهرير للمزاج ، فيكون مثلنا مثل الخدر الذي أومأنا إليه فيما سلف ، أو الذي عمل فيه نار أو زمهرير ، فمنعت المادّة الملابسة وجه الحسّ عن الشعور به ، فلم يتأذّ ، ثمّ عرض أن زال العائق فشعر بالبلاء العظيم.

وأمّا إذا كانت القوّة العقليّة بلغت من النفس حدّا من الكمال يمكنها به إذا فارقت البدن أن تستكمل الاستكمال التامّ الذي لها أن تبلغه ، كان مثلها (٣) الخدر الذي أذيق المطعم الألذّ ، وعرض لحالته أن لا يشتهي ، وكان لا يشعر به ، فزال عنه الخدر فطالع اللذّة العظيمة دفعة ، ويكون تلك اللذّة لا من جنس اللذّة الحسّيّة والحيوانيّة بوجه ، بل لذّة تشاكل الحال الطيّبة التي للجواهر الحيّة المحضة ، وهي أجلّ من كلّ لذة وأشرف. فهذه هي السعادة ، وتلك هي الشقاوة. وتلك الشقاوة ليست تكون لكلّ واحد من الناقصين ، بل

__________________

(١) في المصدر : استقباح أو خجل أو تغيّر أو سوء قالة ....

(٢) في المصدر : .. في الأمور البهيّة العالية ...

(٣) في المصدر : .. مثل الخدر.

٦٢

للذين اكتسبوا القوّة العقليّة التشوّق إلى كمالها ، وذلك عند ما تبرهن لهم أنّ من شأن النفس إدراك ماهيّة الكلّ بكسب المجهول من المعلوم والاستكمال بالفعل ، فإن ذلك ليس فيها بالطبع الأوّل ، ولا أيضا في سائر القوى ، بل شعور أكثر القوى بكمالاتها إنّما يحدث بعد أسباب ، وأمّا النفوس والقوى الساذجة الصرفة ، فكأنّها هيولى موضوعة لم تكتسب البتة هذا الشوق ، لأنّ هذا الشوق إنّما يحدث حدوثا وينطبع في جوهر النفس إذا تبرهن للقوة النفسانيّة أنّ هاهنا أمورا يكتسب العلم بها ، بالحدود الوسطى على ما علمت.

وأمّا قبل ذلك فلا يكون ، لأنّ هذا الشوق يتبع رأيا ، إذ كلّ شوق يتبع رأيا ، وليس هذا الرأي للنفس رأيا أوّليّا بل رأيا مكتسبا ؛ فهؤلاء إذا اكتسبوا هذا الرأي لزم النفس ضرورة هذا الشوق ، فإذا فارقت ولم يحصل معها ما يبلغ به بعد الانفصال التمام ، وقعت في هذا النوع من الشقاء الأبديّ ، لأنّ أوائل الملكة العلميّة ، إنّما كانت تكتسب بالبدن لا غير وقد فارقت ، وهؤلاء إمّا مقصّرون عن السعي في كسب الكمال الإنسيّ ، وإمّا معاندون جاحدون متعصّبون لآراء فاسدة مضادّة للآراء الحقّة ، والجاحدون أسوأ حالا لما اكتسبوا من هيئات مضادّة للكمال. وأمّا أنّه كم ينبغي أن يحصل عند الإنسان من تصوّر المعقولات حتّى يجاوز به الحدّ الذي في مثله تقع هذه الشقاوة ، وفي تعدّيه وجوازه ترجى هذه السعادة ، فليس يمكنني أنصّ عليه نصّا إلّا بالتقريب ، وأظنّ أنّ ذلك أن تتصوّر نفس الإنسان المبادي المفارقة تصوّرا حقيقيّا ، وتصدّق بها تصديقا يقينيّا بوجودها عنده بالبرهان ، وتعرف العلل الغائيّة للأمور الواقعة في الحركات الكلّيّة دون الجزئيّة التي لا تتناهى ويتقرّر عندها هيئة الكلّ ونسب أجزائه بعضها إلى بعض ، والنظام الآخذ من المبدأ الأوّل إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه ، وتتصوّر العناية وكيفيّتها ، وتتحقّق الذات المتقدّمة للكلّ أيّ وجود يخصّها ذاتها ، وأيّة وحدة يخصّها ذاتها كيف يعرف حتّى يلحقها تكثّر وتغيّر بوجه من الوجوه ، وكيف ترتيب نسبة الموجودات إليها.

ثمّ إذا (١) ازداد الناظر استبصارا ازداد للسعادة استعدادا ، وكأنّه ليس يتبرأ الإنسان عن

__________________

(١) في المصدر : ... ثمّ كلّما ازداد.

٦٣

هذا العالم وعلائقه إلّا أن يكون أشدّ العلاقة مع ذلك العالم ، فصار له شوق إلى ما هناك وعشق لما هناك ، فصدّه عن الالتفات إلى ما خلفه جملة.

ونقول أيضا : إنّ هذه السعادة الحقيقية لا تتمّ إلّا بإصلاح الجزء العمليّ من النفس ، ونقدّم لذلك مقدّمة ، وكأنّا قد ذكرناها فيما سلف.

فنقول : إنّ الخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال ما بسهولة من غير تقدّم رويّة ، وقد أمر في كتب الأخلاق بأن يستعمل التوسّط بين الخلقين الضدّين ، لا بأن يفعل أفعال التوسّط دون أن تحصل ملكة التوسّط ، بل أن تحصل ملكة التوسط ، وملكة التوسّط كأنّها موجودة للقوى الناطقة وللقوى الحيوانيّة معا ، أمّا للقوّة الحيوانيّة فبأن يحصل فيها هيئة الإذعان ، وأمّا للقوّة الناطقة فبأن يحصل فيها هيئة الاستعلاء والانفعال ، كما أنّ ملكة الإفراط والتفريط موجودة للقوّة الناطقة وللقوّة الحيوانيّة ولكن بعكس هذه النسبة ، ومعلوم أنّ الإفراط والتفريط مقتضيا القوى الحيوانيّة ، وإذا قويت القوى الحيوانيّة وحصل له ملكة استعلائيّة ، حدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانيّة ، وأثر انفعاليّ قد رسخ في النفس الناطقة من شأنها أن تجعلها قويّة العلاقة مع البدن شديدة الانصراف إليه.

وأمّا ملكة التوسّط فالمراد منها التنزيه عن الهيئات الانقياديّة وتبقية النفس على جبلّتها مع إفادة هيئة الاستعلاء والتنزّه ، وذلك غير مضادّ لجوهرها ولا مائل لها إلى جهة البدن بل عن جهته ، فإنّ التوسط يسلب عنه الطرفين (١) دائما. ثمّ جوهر النفس إنّما كان البدن هو الذي يغمره ويلهيه ويغفله عن الشوق الذي يخصّه عن طلب الكمال له. وعن الشعور بلذّة الكمال إن حصل له ، والشعور بألم الكمال إن قصر عنه ، لا بأنّ النفس منطبعة في البدن أو منغمسة فيه ولكن للعلاقة التي كانت بينها وهي الشوق الجبليّ إلى تدبيره والاشتغال بآثاره ، فربّما يورده عليها من عوارضه وبما يتقرّر فيها من ملكات مبدؤها البدن ، فإذا فارقت وفيها الملكة الحاصلة بسبب الاتّصال به كانت قريبة الشبه من حالها وهي فيه ، فبما تنقص من ذلك تزول غفلتها عن حركة الشوق الذي لها إلى كمالها ، وربّما

__________________

(١) في المصدر : الطرفان.

٦٤

يبقى منه معها تكون محجوبة النسبة عن الاتّصال الصرف بمحلّ سعادتها ويحدث هناك من الحركات المتشوّقة ما يعظم أذاها. ثمّ إنّ تلك الهيئة البدنيّة مضادّة لجوهرها موذية لها ، وإنّما كان يلهيها عنها أيضا البدن وتمام انغماسها فيه ، فإذا فارقت النفس البدن أحسّت بتلك المضادّة العظيمة وتأذّت بها أذى عظيما ، لكنّ هذا الأذى وهذا الألم ليس لأمر لازم بل لأمر عظيم (١) غريب ، والأمر العارض الغريب لا يدوم ولا يبقى ، ويزول ويبطل مع زوال (٢) الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة بتكرّرها ، فيلزم إذن أن تكون العقوبة التي بحسب ذلك غير خالدة ، بل تزول وتنمحي قليلا قليلا حتّى تزكو النفس وتبلغ السعادة التي تخصّها.

وأمّا النفوس البله التي لم تكتسب الشوق ، فإنّها إذا فارقت البدن وكانت غير مكتسبة للهيئات الرديّة صارت إلى سعة من رحمة الله ونوع من الراحة. وإن كانت مكتسبة للهيئات البدنيّة الرديّة وليس فيها هيئة غير ذلك ولا معنى يضادّه ولا ما ينافيه ، فتكون ـ لا محالة ـ ممنوّة بشوقها إلى مقتضاها فتتعذّب عذابا شديدا بفقد البدن ومقتضيات البدن ، من غير أن يحصل المشتاق إليه ، لأنّ آلة ذلك قد بطلت وخلق التعلّق بالبدن قد بقي.

ويشبه أيضا أن يكون ما قاله بعض العلماء حقّا ، وهو : أنّ هذه الأنفس إن كانت زكيّة وفارقت البدن وقد رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة التي تكون لأمثالهم على سبيل ما يمكن أن يخاطب به العامّة ، وتصوّر من ذلك في أنفسهم ، فإنّهم إذا فارقوا الأبدان ولم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي هي فوقهم ، لا كمال فيسعدوا تلك السعادة ، ولا شوق كمال ليشقوا تلك الشقاوة ، بل جميع هيآتهم النفسانيّة متوجّهة نحو الأسفل ، منجذبة إلى الأجسام ؛ ولا منع في المواد السماويّة عن أن تكون موضوعة لفعل نفس فيها. قالوا : فإنّها تتخيّل جميع ما كانت اعتقدته من الأحوال الأخرويّة ، وتكون الآلة التي يمكنها بها التخيّل شيء من الأجرام السماويّة ، فتشاهد جميع ما قيل لها في الدنيا من أحوال القبر والبعث والخيرات الأخرويّة ، وتكون الأنفس الرديّة أيضا تشاهد العقاب بحسب ذلك

__________________

(١) في المصدر : بل لأمر عارض قريب.

(٢) في المصدر : مع ترك الأفعال ...

٦٥

المصوّر لهم في الدنيا وتقاسيه ، فإنّ الصور الخياليّة ليست تضعف عن الحسّيّة ، بل تزداد عليها تأثيرا وصفاء كما يشاهد في المنام ، فربّما كان المحلوم به أعظم شأنا في بابه من المحسوس ؛ على أن الأخرويّ (١) أشدّ استقرارا من الموجودة في المنام بحسب قلّة العوائق وتجرّد النفس وصفاء القابل. وليست الصورة التي ترى في المنام ، بل والتي تحسّ في اليقظة كما علمت ، إلّا المرتسمة في النفس ، إلّا أنّ أحدهما يبتدئ من باطن وينحدر إليه ، والثاني يبتدئ من خارج ويرتفع إليه. فإذا ارتسم في النفس (٢) فعل فعلها هناك الإدراك المشاهد وإنّما يلذّذ ويؤذي بالحقيقة هذا المرتسم في النفس لا الموجود في الخارج ، وكلّما ارتسم في النفس فعل فعله وإن لم يكن له سبب من خارج ، فإنّ السبب الذاتيّ هو هذا المرتسم ، والخارج سبب بالعرض أو سبب السبب ، فهذه هي السعادة والشقاوة الخسيستان اللتان بالقياس إلى الأنفس الخسيسة ، وأمّا الأنفس المقدّسة ، فإنّها تبعد عن مثل هذه الأحوال وتتّصل لكمالها بالذات وتنغمس في اللذّة الحقيقيّة وتتبرّأ عن النظر إلى ما خلفها والى المملكة التي كانت لها كلّ التبرّؤ ، إذ لو كان قد بقي (٣) فيها من ذلك أثر اعتقاديّ أو خلق تأذّت به وتخلّفت لأجله عن درجة العلّيين إلى أن ينفسخ ويزول (٤). انتهى كلامه.

وأقول : ومثله كلامه في «الإشارات» في كثير من تلك المطالب التي بيّنها ، ولعلّنا نذكر فيما بعد بعض كلامه فيه. فلنتكلّم أوّلا في شرح ما نقلنا عنه في هذا الفصل ، ثمّ نتكلّم في المقصد.

فنقول : إنّ ما ذكره أوّلا بقوله : «يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو مقبول من الشرع الخ» غرضه ظاهرا أنّ المعاد على قسمين :

قسم هو مقبول من الشرع ولا سبيل إلى إثباته إلّا من طريق الشريعة وتصديق

__________________

(١) في المصدر : الأخرى.

(٢) في المصدر : في النفس ثمّ هناك الإدراك.

(٣) في المصدر : ولو كان بقي ...

(٤) الشفاء ، الإلهيّات ، فصل المعاد.

٦٦

النبيّ عليه‌السلام وهو المعاد للبدن ، أي إعادة هذا البدن العنصريّ عند البعث وإعادة الروح إليه مرّة أخرى ، وحيث كان هذا القسم من المعاد لا استقلال للعقل في إثباته ، وكانت خيرات البدن وشروره اللتان كان الغرض من إثبات هذا القسم من المعاد إثباتهما معلومة لا تحتاج إلى أن تعلم بالقياس البرهانيّ ، وكان مع ذلك قد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا سيّدنا ونبيّنا ومولانا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حال السعادة والشقاوة اللّتين بحسب البدن وحال تلك الخيرات والشرور البدنيّة ، فلذا لم نتعرّض لإثبات هذا القسم من المعاد.

وقسم هو مدرك بالعقل والقياس البرهانيّ ، وللعقل سبيل إلى إثباته ، وقد صدقته النبوّة ، أي إخبار النبيّ عليه‌السلام أيضا ، وهو المعاد الروحانيّ ، والسعادة والشقاوة الثابتتان بالقياس البرهانيّ اللّتان هما حاصلتان للأنفس بحسب ذواتها وحقائقها. وإن كانت الأوهام منّا تقصر عن تصوّرهما وإدراكهما الآن ، أي حين كوننا متعلّقين بالبدن العنصريّ الدنيويّ ، منغمسين فيه كما سنوضّح في الأصول الآتية من العلل على عدم تصوّر ذلك ، والحكماء الإلهيّون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنيّة ، بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك السعادة البدنيّة لخسّتها بالنسبة إلى السعادة الروحانيّة العقليّة ، ولا يتوجّهون إليها وإن أعطوها ، ولا يستعظمونها في جنب هذه السعادة العقليّة التي هي مقارنة الحقّ الأوّل تعالى شأنه على ما سنصفه عن قريب. وحيث كان الحال كذلك ، فلا بدّ من إثبات هذا القسم من المعاد بالقياس البرهانيّ فلنعرف أوّلا حال هذه السعادة والشقاوة المضادّة لها ، أي العقليّتين ، ثمّ نتعرّض لإثباتهما للأنفس ، فإنّ السعادة والشقاوة البدنيّتين مفروغ عنهما في الشرع الشريف ، فلا علينا أنّ نتكلّم فيها ، وهذا بيان مراده.

كلام مع كثير من الحكماء

وأقول : وفيه نظر قد أومأنا إليه في صدر الرسالة ، وهو أنّه إن كان المراد أنّ المعاد الجسمانيّ ممّا لا يستقلّ في إثباته العقل أصلا ، فهو ليس كذلك ، لأنّا سنقيم فيما بعد

٦٧

إن شاء الله تعالى الدليل على إثبات أصله ، ونبيّن أنّ للعقل استقلالا في أنّه يجب أن يعود النفس الإنسانيّة بعينها إلى بدنها الأوّل الباقي بعينه من حيث الأجزاء الأصليّة لأجل وقوع الثواب والعقاب البدنيّين الحسّيّين.

وإن كان المراد أنّ المعاد الجسمانيّ وإن كان ممّا يستقلّ العقل في إثبات أصله ، لكن لا استقلال له في إثبات ما ورد في الشرع من خصوصيّات الثواب والعقاب الحسّيّين الأخرويّين ، وكذا في خصوصيّات ما ورد فيه من الأمور الحسّيّة الواقعة في الآخرة ، وفي أنّه يجب أن يقع الثواب والعقاب البدنيّان على تلك الأنحاء والأنهاج والكيفيّات المخصوصة الواردة فيه ، بل إنّ إثبات ذلك موكول على الشرع كما هي مبيّنة فيه ، أي أنّ بيان تفاصيل تلك إنّما هو في الشرع ، وإن كان العلم بها من حيث الخصوصيّة والوجه الجزئيّ موقوفا على العيان والمشاهدة ، فهذا الاحتمال وإن كان له وجه في الجملة ، لكنّه خلاف ظاهر كلامهم ، بل هو بعيد عنه بمراحل.

ثمّ إنّ الحكماء الإلهيّين الذين أهملوا إثبات المعاد الجسمانيّ وقصروا النظر على إثبات الروحانيّ منه فقط ، لكون السعادة العقليّة أعظم من البدنيّة ؛

إن كان المراد أنّه حيث كانت السعادة العقليّة أعظم من البدنيّة ، وكانت البدنيّة مفروغا عنها في الشرع الشريف ، فلذلك أهمل الحكماء الإلهيّون إثبات الجسمانيّ ، وحاصله التصديق بالجسمانيّ من المعاد والروحانيّ منه جميعا ، إلّا أنّ الجسمانيّ منه لما كان مبيّنا في الشرع ، وكانت السعادة العقليّة أعظم ، فلذا تعرّضوا لإثبات الروحانيّ ، وأهملوا إثبات الجسمانيّ ، وأحالوا إثباته على الشرع كما فعله الشيخ ، فله وجه في الجملة إلّا أنّه خلاف ظواهر كلماتهم ، لأنّ حوالة إثبات الجسمانيّ منه على الشرع غير ظاهرة من كلماتهم المنقولة عنهم في ذلك ، كما نقلنا جملة منها في صدر الرسالة ، حتّى ممّا حكاه الشيخ هنا عنهم.

وإن كان المراد أنّهم تعرضوا لإثبات الروحانيّ وأهملوا إثبات الجسمانيّ مطلقا ، ولو على سبيل الحوالة على الشرع ، لكون السعادة العقليّة أعظم من البدنيّة كما هو ظاهر كلامهم ، ومنه ما حكاه الشيخ عنهم ، ففيه مخالفة للشرع ، لا من أجل إنكارهم للجسمانيّ ،

٦٨

بل لأجل إهمالهم له ، مع كونه ممّا نطق به الشرع وضروريّا في الدين كما بيّناه في صدر الرسالة.

وقد عرفت أيضا ثمّة أن في مفهوم لفظ «المعاد» الذي قالوا به دلالة على ثبوت الجسمانيّ ، فتذكر.

وأيضا أنّا سلّمنا أنّ السعادة العقليّة أعظم من البدنيّة ـ كما يظهر ذلك ممّا سيذكره الشيخ ـ إلّا أنّ تلك الأعظميّة لا تكون منشأ لإهمال البدنيّة مطلقا ، كيف وأكثر ما نطق به الشرع فيه دلالة على البدنيّة خاصّة ، وما نطق به في العقليّة هو أقلّ قليل منه كما يظهر على من تتّبع الآيات والأخبار. والقول بأنّ الخطاب فيما يدلّ على البدنيّة ، إنّما هو للعامّة خاصّة دون الخاصّة من العقلاء خلاف الظاهر جدّا. كما أنّ القول بأنّ السعادة البدنيّة حيث كانت خسيسة جدّا وليست لذّة في الحقيقة ، بل إنّما هي رفع آلام ، فلذا ينبغي أن لا يلتفت إليها ، بل ينبغي أن يلتفت إلى ما هو لذّة حقيقة وهي اللذّة العقليّة لا يكاد يصحّ ، لأنّ كون البدنيّة رفع آلام إنّما يسلّم في اللذّات الحسّيّة الدنيويّة ، ولا يسلّم في اللذّات الحسّيّة الأخرويّة ، وقياس الأخرويّة على الدنيويّة غير معقول.

في حال السعادة والشقاوة العقليّين

فهذه جملة من النظر الذي يرد على كلام الشيخ هنا فيما قال هو به ، وفيما حكاه عن الحكماء الإلهيّين ، فتبصّر.

ثمّ أنّه تعرّض لتعرّف حال السعادة والشقاوة العقليّتين ، وقرّر أوّلا لذلك أصولا خمسة.

والذي ذكره في الأصل الأوّل من تلك الأصول بقوله : «يجب أن يعلم أنّ لكلّ قوّة نفسانيّة لذّة وخيرا ... الخ» فيه تنبيه على أنّ لكلّ قوّة نفسانيّة لذّة وخيرا يخصّها ، وأذى وشرّا وألما يخصّها ، وإنّما أورد في المثال اللذّات والآلام التي للقوّة الحيوانيّة تنبيها على ظهورها ، حيث أنّه لا ينكر أحد وجودها ، حتّى إنّه قصر بعض الأوهام العامّيّة اللذّات

٦٩

والآلام على اللذّات والآلام الحسّيّة الحيوانيّة ، كما يشعر به كلامه الآتي ، ويدلّ عليه كلامه في «الإشارات» كما سننقله.

وكذلك فيه تنبيه على أنّ لكلّ هذه القوى النفسانيّة ، وكذا كلّ اللذّات والآلام تشترك نوعا من الشركة في أنّ شعور تلك القوّة بموافقة تلك الأمور وملائمتها هو الخير واللذّة الخاصّة بها ، وأنّ موافق كلّ واحد منها بالذات والحقيقة هو حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل ، وكذلك الحال في الألم ، فإنّه بضدّ ذلك. وإنّما قال : «فإنّ الشعور بموافقتها هو الخير واللذّة الخاصّة بها» ، تنبيها على أنّه إذا لم يكن هناك شعور بموافقتها وملائمتها لم يكن هناك لذّة ولا خير بالنسبة إلى تلك القوّة ، وأنّه إذا كان لها شعور بها كانت هناك لذّة ، ويعبّر عنها بالخير أيضا.

وإنّما قال : «وموافق كلّ واحد منها بالذات والحقيقة هو حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل» ، تنبيها على أنّ الشعور بموافقة الموافق الذي هو اللذيذ والكمال للملتذّ إنّما يكون لذة إذا كان لها شعور بحصول ذلك اللذيذ والكمال ووصوله إليه ، وعلى أنّ ذلك الكمال أيضا يختلف ، فقد يكون كمالا في الواقع أو مقيسا إلى غير ذلك الملتذّ ، فحينئذ لا يكون الشعور بحصوله له لذّة ولا خيرا له ، وقد يكون كمالا بالقياس إليه بأن يعتقد كونه كمالا له ، سواء كان كمالا له في الواقع أو لم يكن ، فحينئذ يكون الشعور بحصوله له لذّة ، وعلى أنّ الكمال الذي يكون الشعور بحصوله له لذّة ينبغي أن يكون كمالا بالفعل لا بالقوّة. ومنه يتلخّص التنبيه على ماهيّة اللذّة ، حيث تلخّص أنّ اللذّة ـ ويعبّر عنها بالخير أيضا ـ هو الشعور بموافقة الموافق الذي هو حصول الكمال الذي هو كمال بالقياس إليه ، وهو كمال بالفعل. وكذلك يتلخّص منه التنبيه على ماهيّة الألم ، فإنّه بخلاف ذلك. وهذا الذي يظهر منه التنبيه على ماهيّة اللذّة والألم قريب ممّا ذكره في «الإشارات» في التنبيه على ماهيّتهما.

قال : «تنبيه أنّ اللذّة هي إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث

٧٠

هو كذلك ، والألم هو إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك آفة وشرّ». (١)

وقد قال المحقّق الطوسيّ في شرحه : «أمّا الإدراك فقد مرّ شرح اسمه ، وأمّا النيل فهو الإصابة والوجدان. وإنّما لم يقتصر على الإدراك ، لأنّ إدراك الشيء قد يكون بحصول صورة تساويه ، ونيله لا يكون إلّا بحصول ذاته ، واللذّة لا تتمّ بحصول ما يساوى اللذيذ ، بل إنّما تتمّ بحصول ذاته. وإنّما لم يقتصر على النيل لأنّه لا يدلّ على الإدراك إلّا بالمجاز. وإنّما أوردهما معا لفقدان لفظ يدلّ على المعنى المقصود بالمطابقة ، فقدّم الأعمّ الدالّ بالحقيقة وأردفه بالمخصّص الدالّ بالمجاز.

وإنّما قال «لوصول ما هو عند المدرك» ولم يقل «لما هو عند المدرك» لأنّ اللذّة ليست هي إدراك اللذيذ ، فقط بل هي إدراك حصول اللذيذ عند الملتذّ ووصوله إليه.

وإنّما قال : «ما هو عند المدرك كمال وخير» لأنّ الشيء قد يكون كمالا وخيرا بالقياس إلى شيء وهو لا يعتقد كماليّته وخيريّته فلا يلتذّ به ، وقد لا يكون كذلك وهو يعتقده فيلتذّ به ، فالمعتبر كماليّته وخيريّته عند المدرك لا في نفس الأمر ، والكمال والخير هنا ـ أعني المقيسين إلى الغير ـ هما حصول شيء لما من شأنه أن يكون ذلك الشيء له ، أي حصول شيء يناسب شيئا ويصلح له ، أو يليق به بالقياس إلى ذلك الشيء.

والفرق بينهما أنّ ذلك الحصول يقتضي لا محالة براءة من القوة لذلك الشيء ، فهو بذلك الاعتبار فقط كمال ، وباعتبار كونه مؤثّرا خير ؛ والشيخ إنّما ذكرهما لتعلّق معنى اللذّة بهما ، وأخّر ذكر الخير لأنّه يفيد تخصيصا ما بذلك المعنى. وإنّما قال : «من حيث هو كذلك» لأنّ الشيء قد يكون كمالا وخيرا من جهة دون جهة ، والالتذاذ به يختص بالجهة التي هو معها كمال وخير.

فهذه ماهيّة اللذّة ، ويقابلها ماهيّة الألم كما ذكره. وهما أقرب إلى التحصيل من قولهم: «اللذّة إدراك الملائم ، والألم إدراك المنافي». ولذلك عدل الشيخ منه إلى ما ذكره في هذا الموضع (٢) ، انتهى كلامه.

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ / ٣٣٧.

(٢) شرح الإشارات ٣ / ٣٣٧ ـ ٣٣٩.

٧١

وأنت بعد ما أحطت بما ذكره المحقّق الطوسيّ (ره) في شرحه ، يظهر لك بيان تقارب ما ذكره الشيخ في الكتابين في المعنى المحصّل لماهيّة اللذّة والألم ، وإن كان بين ما في الكتابين تغاير ما في بعض العبارات ، ومن جملته أنّه أطلق في «الشفاء» لفظ الخير على اللذّة ، وفي «الإشارات» على الكمال ، والأمر فيه سهل.

وأما ما ذكره في الأصل الثاني ، فهو تنبيه على أنّ مراتب اللذّات ، وكذا مراتب الآلام مختلفة متفاوتة باعتبار تفاوت الكمالات التي حصولها لذّة وفقدانها ألم ، فبعضها أفضل وأتمّ ، وبعضها أكثر ، وبعضها أدوم ، وبعضها أوصل ، وبعضها أكمل ، وبعضها أشدّ ، إلى غير ذلك من وجوه التفاوت والاختلاف التي كلّها بيّنة لا سترة فيها.

وما ذكره في الأصل الثالث هو بالحقيقة تفريع على ما ذكره في الأصل الأوّل ، من التقييد بالشعور بالموافقة والتقييد بحصول الكمال ، وتنبيه على فائدة القيدين في تعريف اللذّة ، ويعلم منه فائدتهما في تعريف الألم بالمقايسة وتنبيه على أنّه قد يكون الخروج إلى الفعل في كمال بحيث يعلم أنّه كائن ولذيذ ، لكن لا يتصوّر كيفيّته ولا يشعر بالتذاذه ما لم يحصل ، وما لم يشعر به لم يشتق إليه ولم ينزع نحوه ، كما في العنّين بالنسبة إلى لذّة الجماع ، والأكمه عند الصور الجميلة ، والأصمّ عند الألحان المنتظمة ، فإنّه وإن كان يتيقّن أنّ في هذه الأمور لذّة ، إلّا أنّ هؤلاء لا يلتذّون بها لأجل عدم شعورهم بها وعدم حصولها لهم.

ومنه يعلم أنّ الوجه في أنّا لا نلتذّ بالصحّة والسلامة مع كونهما كمالا حاصلا لنا ، أنّ الشعور بحصول الكمال الذي هو المعتبر في حصول اللذّة غير حاصل هناك ، حيث استمرار المحسوسات يذهل النفس عن إحساسها. وبالجملة ، فسواء انتفى الشعور والحصول جميعا ـ كما في الصور الأوّلة ـ أو انتفى الشعور فقط كما في الصورة الأخيرة ينتفي اللذّة ، فلذا قيّد في مفهوم اللذّة قيد الحصول والشعور.

ومنه يعلم وجه التقييد بضدّ ذلك في مفهوم الألم أيضا ، فإنّ صاحب الحميّة مثلا إذا لم يقاس وصب (أي المرض) الأسقام ولم يعرضه آفاتها ، ربّما يتألّم عن تناول المتناولات الرديّة ولم يحترز عنه لعدم شعوره بها مع العلم بكونها مؤلمة. ومن ذلك يظهر

٧٢

أنّه يجب أن لا يتوهّم العاقل أنّ كلّ لذّة فهو كما للحمار في بطنه وفرجه ، وأنّ المبادي الأولى والملائكة المقرّبين عادمو اللذّة.

وبالجملة ، يجب أن لا يتوهّم العاقل أنّ اللذّات مقصورة على اللذّات الحسّيّة الخسيسة ، وأن ليس في الوجود لذّة عقليّة ، وأنّ الملأ الأعلى ليس لهم لذّة ، فإنّ من يتوهّم ذلك فحاله كحال العنّين والأكمه والأصمّ ، بل كحال الحمار ، حيث أنّه إنّما يجد تلك اللذّة الخسيسة في بطنه وفرجه فقط ولا يشعر بلذّة أخرى أعلى منها عقليّة ، ولم يحصل له ذلك الكمال ، مع أنّه لا نسبة للّذّة العقليّة إلى هذه اللذّة الخسيسة ، فإنّ اللّذات ـ كما ذكره في الأصل الثاني ـ متفاوتة ، واللذّة العقليّة أعلى من الحسّيّة من كلّ وجه كما سيأتي بيانه.

وهذا المطلوب الذي بيّنه الشيخ هنا بعبارة وجيزة ، قد بيّنه في «الإشارات» بكلام أبسط ، قال : «وهم وتنبيه ، إنّه قد سبق إلى الأوهام العامّيّة أنّ اللذّات القويّة المستعلية هي الحسّيّة وأنّ ما عداها لذّات ضعيفة ، وكلّها خيالات غير حقيقيّة ، وقد يمكن أن ينبّه من جملتهم من له تميّز ما ، فيقال له : أليس ألذّ ما تصفونه من هذا القبيل هو المنكوحات والمطعومات وأمور تجرى مجراها ، وأنتم تعلمون أنّ المتمكّن من غلبة ما ـ ولو في أمر خسيس كالشطرنج والنرد ـ قد يعرض له مطعوم ومنكوح لطالب العفّة والرئاسة مع صحّة جسمه في الغلبة الوهميّة ، وقد يعرض مطعوم ومنكوح لطالب العفّة والرئاسة مع صحّة جسمه في صحّة (حشمة ن د) حسّيّة فيقبض اليد منهما مراعاة للحشمة ، فتكون مراعاة الحشمة آثر وألذّ لا محالة هناك من المنكوح والمطعوم ، وإذا عرض للكرام من الناس الالتذاذ بانعام يصيبون موضعه آثروه على الالتذاذ بمشتهى حيوانيّ متنافس فيه ، وآثروا فيه غيرهم على أنفسهم مسرعين إلى الإنعام به.

وكذلك فإنّ كبير النفس يستصغر الجوع والعطش عند المحافظة على ماء الوجه ، ويستحقر هول الموت ومفاجآت العطب (١) عند مناجزة المبادرين ، وربّما اقتحم (٢) الواحد

__________________

(١) العطب : الهلاك.

(٢) اقتحم : دخل بلا رويّة.

٧٣

منهم على عدد دهم (١) ممتطيا ظهر الخطر لما يتوقّعه من لذّة الحمد ولو بعد الموت ، كأنّ ذلك يصل إليه وهو ميّت. فقد بان أنّ اللذّات الباطنة مستعلية على اللذّات الجسميّة ، وليس ذلك في العاقل فقط ، بل وفي العجم من الحيوانات ، فإنّ من كلاب الصيد ما يقبض على الجوع ثمّ يمسكه على صاحبه وربّما حمله إليه ، والمرضعة من الحيوانات تؤثر ما ولدته على نفسها ، وربّما خاطرت محامية عليه أعظم من مخاطرتها في ذات حمايتها نفسها ، فإذا كانت اللذّات الباطنة أعظم من الظاهرة وإن لم تكن عقليّة ، فما قولك في العقليّة. (٢)

«تذنيب : فلا ينبغي لنا أن نسمع إلى قول من يقول : إنّا لو حصلنا على جملة لا نأكل ولا نشرب ولا ننكح ، فأيّة سعادة تكون لنا؟ والذي يقول هذا ، فيجب أن يبصّر ويقال له : يا مسكين ، لعلّ الحال التي للملائكة وما فوقها ألذّ وأبهج وأنعم من حال الأنعام ، بل كيف يمكن أن يكون لأحدهما إلى الآخر نسبة يعتدّ بها». (٣) انتهى كلامه.

وبالجملة ، فيعلم ممّا ذكره في الكتابين أنّ اللذّات العقليّة أعظم من اللذّات الحسّيّة ، وهو المطلوب.

وما ذكره في الأصل الرابع هو بالحقيقة تفريع على ما ذكره في الأصل الأوّل أيضا ، من التقييد بحصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل ، وتنبيه على فائدة هذا القيد في تعريف اللذّة ، بل تفريع عليه وعلى ما ذكره فيه من التقييد بالشعور أيضا في تعريف اللذّة.

وبالجملة فهو تنبيه على أنّه قد يتيسّر للقوّة الدرّاكة الكمال والأمر الملائم لها ، إلّا أنّها لا تستلذّه لحصول مانع أو شاغل هناك للنفس ، فتكرهه وتؤثر ضدّه عليه ، مثل كراهيّة

__________________

(١) الدهم : العدد الكثير.

(٢) شرح الإشارات ٣ / ٣٣٤ ـ ٣٣٥ ، وفيه : إنّه قد سبق إلى ... من له تمييز فيقال ... والنرد ونحوهما ... في صحبة فيقبض اليد ... مناجزة الأقران المبارزين ... الواحد على عدد ... على اللذّات الحسّيّة ... ما تقتنص على الجوع ... والواضعة من الحيوانات ...

(٣) شرح الإشارات ٣ / ٣٣٦ ـ ٣٣٧.

٧٤

بعض المرضى للطعم الحلو وشهوتهم للطعوم الرديّة الكريهة بالذات ، وربّما لم تكرهه ولا تستلذّه أيضا ، كالخائف يجد الغلبة واللذّة فلا يستلذّها.

وما ذكره في الأصل الخامس هو بالحقيقة تفريع على ما ذكره في الأصل الأوّل أيضا من التقييد بالشعور ، وتنبيه على فائدة ذلك القيد في تعريف الألم ، بل تنبيه على فائدة ذلك القيد وقيد حصول ضدّ الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال جميعا في تعريف الألم ، حيث ظهر فيه أنّ المعتبر في الألم هو الشعور بحصول ضدّ ما هو الكمال بالقياس إليه ، وهذا ظاهر في المثال الذي ذكره أوّلا وثالثا ، ويظهر منه في مثاله الثاني أنّ ذلك تنبيه على فائدة ذلك القيد أو ذينك القيدين في تعريف اللذّة والألم جميعا. وكيفما كان ، فهو تنبيه على أنّه قد يكون القوّة الدرّاكة ممنوّة لضدّ ما هو كمال لها ، لكن لا تحسّ به ولا تتنفّر عنه ولا تتألّم منه لحصول عائق عن ذلك ، حتّى إذا زال العائق ورجعت إلى غريزتها تأذّت به وتألّمت ، مثل الممرور فإنّه ربّما لم يحسّ بمرارة فمه إلى أن يصلح مزاجه ويستنقي أعضاءه ، فحينئذ تنفر عن الحالة العارضة له. وكذلك قد يكون الحيوان غير مشته للغذاء البتة بل كارها له ، وهو أوفق شيء له ويبقى عليه مدّة طويلة فلا يلتذّ بالغذاء ، فإذا زال العائق عاد إلى واجبة في طبعه واشتدّ جوعه وشهوته للغذاء ، فيتألّم من فقدان الغذاء حتّى لا يصبر عنه ويهلك عند فقدانه ، وقد يحصل سبب الألم العظيم ، مثل إحراق النار وتبريد الزمهرير ، إلّا أنّ الحسّ مئوف فلا يتأذّى البدن به ولا يتألّم حتّى تزول الآفة فيحسّ حينئذ بالألم العظيم.

والحاصل أنّه بتلك القيود التي اعتبرت في ماهيّة اللذّة والألم ، لا يرد نقض لا على تعريف اللذّة ولا على تعريف الألم. وقد زاد في «الإشارات» في البيان ، وزاد قيدا آخر به يندفع النقوض عن تعريف اللذّة والألم.

قال : «تنبيه ، إذا أردنا أن نستظهر في البيان مع غناء ما سلف عنه إذا لطف لفهمه ، زدنا فقلنا : إنّ اللذّة هي إدراك كذا من حيث هو كذا ولا شاغل ولا مضادّ للمدرك ، فإنّه إذا لم يكن سالما فارغا أمكن أن لا يشعر بالشرط ، أمّا غير السالم فمثل عليل المعدة إذا زال مانعه عادت لذّته وشهوته وتأذّى بتأخّر ما هو الآن يكرهه.

٧٥

تنبيه : وكذلك قد يحضر السبب المؤلم ويكون القوة الدرّاكة ساقطة ، كما في قرب الموت من المرضى ، أو معوّقة كما في الخدر فلا يتألّم ، فإذا انبعثت القوّة أو زال العائق عظم الألم» (١). انتهى.

وهذا الذي ذكرناه إنّما هو الكلام في بيان الأصول الخمسة التي أصّلها.

في بيان اللذّة العقليّة للنفس وأنّها أعلى من الحسّيّة وكذلك الألم

ثمّ أنّ الشيخ بعد ما قرّر تلك الأصول قال : «فإذا تقرّرت هذه الأصول ، فيجب أن ننصرف إلى الغرض الذي نؤمّه ، فنقول : إنّ النفس الناطقة كما لها الخاصّ بها أن تصير عالما عقليّا إلى آخر ما ذكره» ومقصوده من ذلك أنّه حيث تقرّرت هذه الأصول وتقرّر أنّ مراتب اللذّة متفاوتة بعضها أعلى من بعض ، وأنّ في الوجود لذّة عقليّة هي أعلى من اللذّة الحسّيّة ، فيجب أن نبيّن أنّ اللذّة العقليّة للنفس الناطقة الإنسانيّة ما ذا؟ وأنّها بأيّة جهة وأيّ سبب أعلى من الحسّيّة؟ حتّى يعلم منه بالمقايسة وجود ألم عقليّ لها أيضا وأنّه أشدّ من الحسّيّ.

بيان الأوّل أنّ معنى اللذّة هو الشعور بحصول الكمال الذي هو بالقياس إلى المدرك كمال بالفعل ، فشعور النفس الإنسانيّة أيضا بحصول الكمال الخاصّ لها يكون لذّة لها ، وكمالها الخاصّ بها من حيث هي ذات مجردة أن تصير عالما عقليّا مرتسما فيها صور الكمال والنظام المعقول في الكلّ والخير الفائض في الكلّ مبتديا مبدئا من الكلّ وسالكا إلى الجواهر الشريفة الروحانيّة المطلقة ، ثمّ الروحانيّة المتعلّقة نوعا من التعلّق بالأبدان ، ثمّ الأجسام المعلمة بهيئاتها وقواها ، ثمّ كذلك حتّى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كلّه ، فتنقلب عالما معقولا موازيا للعالم الموجود كلّه ، فتصير مع كونه عالما صغيرا منطويا فيها العالم الأكبر ، مشاهدا لما هو الحسن المطلق والخير المطلق والكمال الحقّ ، ومتّحدا به ومنتقلة بمثاله وهيئته ومنخرطة في سلكه وصائرة من جوهره.

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ / ٣٤٣ ، وفيه : فلا يتألّم به ، فإذا انتعشت بالقوّة ...

٧٦

وبعبارة أخرى كما ذكره في «الإشارات» أنّ الكمال الخاص بالجوهر العاقل من الإنسان أن يتمثّل فيه جلية الحقّ الأوّل قدر ما يمكنه أن ينال منه ببهائه الذي يخصّه ، ثمّ يمثل فيه الوجود كلّه على ما هو عليه ، مجرّدا عن الشوب مبتدئا فيه بعد الحقّ الأوّل بالجواهر العقليّة العالية ، ثمّ الروحانيّة السماويّة والأجرام السماويّة ، ثمّ ما بعد بذلك تمثّلا لا يمايز الذات ، وحيث كان كمالها الخاصّ بها ما ذكر ، يكون شعورها به هو لذّتها العقليّة ، والشعور بضدّه ألمها العقليّ.

وبيان الثاني أنّه لا سترة في أنّه إذا قيس هذا الكمال الخاصّ بها بالكمالات المعشوقة التي للقوى الأخرى الحسّيّة ، كتكيّف العضو الذائق والشامّ واللامس مثلا بالكيفيّة الملائمة المحسوسة الذي هو كمال القوة الشهوانيّة ، وكتكيّف النفس الحيوانيّة بكيفيّة غلبة أو كيفية شعور بأذى يحصل في المغضوب عليه الذي هو كمال القوة الغضبيّة ، وكتكيّفها بكيفيّة ما ترجوه أو ما تذكره الذي (١) الأوّل منهما كمال القوة الواهمة ، والثاني كمال القوة الحافظة ، إلى غير ذلك من الكمالات بالقياس إلى سائر القوى الحسّيّة الجسمانيّة ، كان هذا الكمال الخاصّ بالنسبة إلى تلك الكمالات بحيث يصحّ أن يقال أنّه أفضل وأتمّ منها من جميع الوجوه ، وأقوى كيفيّة وأكثر كمّيّة من جميع الجهات والاعتبارات ، بل لا نسبة له إليها بوجه من الوجوه فضيلة وتماما وكثرة ، وسائر ما يتمّ بدوام إلذاذ المدركات كما ذكرناه في الأصل الثاني.

وأمّا الدوام فكيف يقاس الدوام الأبديّ الحاصل في الكمال العقليّ بدوام المتغيّر الفاسد الحاصل في الكمالات الأخر. وأمّا شدة الوصول فكيف يكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح كما في كمال القوى الحسّيّة ـ حيث أنّ الحسّ لا يدرك إلّا كيفيّات تقوم بسطوح الأجسام التي تحضره ـ بالقياس إلى ما هو سار في جوهر قابله كما في الكمال العقليّ ـ حيث أنّ العقل يصل إلى كنه المعقول فيعقل حقيقته المكتنفة بعوارضها كما هي ، وليرى في جوهر معقوله حتّى يكون كأنّه هو بلا انفصال ، إذ العاقل والمعقول شيء واحد

__________________

(١) «اللّذين» خ ل.

٧٧

أو قريب من الواحد.

وأمّا أنّ المدرك في نفسه في الإدراك العقليّ أكمل فأمر لا يخفى. وأمّا أنّه أشدّ إدراكا فأمر أيضا تعرفه بأدنى تأمّل وتذكّر منك لما سلف بيانه ، فإنّ النفس الناطقة أكثر عدادا للمدركات ، حيث أنّ عدد تفاصيل المعقولات لا يكاد يتناهى ، وذلك لأنّ أجناس الوجودات وأنواعها غير متناهية ، وكذلك المناسبات الواقعة بينهما والمدركات بالحواس محصورة في أجناس قليلة ، وإن تكثّرت فإنّما تكثّرت بالأشدّ والأضعف ، كالحلاوتين المختلفتين ، وكذلك هي أشدّ تقصّيا للمدرك وأشدّ تجريدا له عن الزوائد الغير الداخلة في معناه إلّا بالعرض ، ولها الخوض في بطن المدرك وظاهره. فإذا كانت حال الكمالات العقليّة هذه ، وحال الكمالات الحسّيّة بخلافه ، وكانت اللذّة التابعة لهما بتينك الحالتين أيضا ، حيث أنّ نسبة اللذّة إلى اللذّة نسبة الكمال إلى الكمال ، والإدراك إلى الإدراك ، كانت اللذّة العقليّة أقوى كيفيّة وأكثر كمّيّة من جميع الجهات من الحسّيّة. بل كيف يقاس هذا الإدراك بذلك الإدراك ، وكيف يقاس هذه اللذّة العقليّة باللذّة الحسّيّة والوهميّة والغضبيّة مثلا ، وكيف يقاس الألم العقليّ بالألم الحسّيّ أيضا؟ وبذلك تمّ بيان ما رامه هنا.

وقوله : «ولكنّا في عالمنا وبدننا هذين وانغمارنا في الرذائل لا نحسّ بتلك اللذّة ... إلى آخر ما قاله» تنبيه على حلّ إشكال يرد على هذا الموضع.

بيان الإشكال أنّ كلّ قوّة تشتاق إلى كمالها الخاصّ بها وتتألّم بحصول ضدّه لها ، كالباصرة مثلا فإنّها تشتاق إلى النور وتلتذّ بالشعور بحصوله لها ، وتنفر عن الظلمة وتتألّم منها ، فإن كانت المعقولات كمالات للنفس الإنسانيّة ، فما بالها لا تشتاق إلى حصولها ولا تتألّم لحصول الجهل بها المضاد لها؟

وبيان الحلّ أنّ سبب ذلك هو انتفاء شرط اللذّة هنا وكذا شرط الألم ، من الشروط المتقدّمة في الأصول المتقرّرة. أمّا شرط اللذّة فمن جهة أنّه قد تقرّر فيها أنّه قد يتيسّر للقوّة الدرّاكة كمال وأمر ملائم ، وهناك مانع أو شاغل للنفس ، فلا تلتذّ به ، بل ربّما تكرهه ، وهذا فيما نحن فيه متحقّق ، حيث أنّ اشتغال النفس بالمحسوسات حال كونها في ضمن البدن يمنعها إلى الالتفات إلى المعقولات ، وانغمارها في الرذائل البدنيّة يشغلها عن

٧٨

الاقبال إلى المعقولات والشعور بها ، ولأجل ذلك لا تلتذّ بتلك المعقولات وإن كانت حاصلة لها ، فإنّها ما لم تقبل إليها لم تجد ذوقا منها ، فلم يحصل لها شوق إليها فلم تلتذّ بالشعور بحصولها لها.

وأمّا شرط الألم ، فمن جهة أنّه قد تقرّر في تلك الأصول أيضا أنّه قد يحصل للقوّة الدرّاكة سبب الأذى والألم ، لكنّها لا تتأذّى منه لحصول عائق منه ، وهذا أيضا حاصل هنا ، فإنّ أضداد الكمالات العقليّة وهي الجهالات بها لما كانت مستمرّة الوجود غير متجدّدة ، وكانت النفس الإنسانيّة مشتغلة بغيرها غير شاعرة بها ، كما أنّها غير شاعرة بتلك الكمالات أيضا ، فلم تكن مدركة لتلك الأضداد ، فلم تكن تتألّم منها. وهذا بيان محصّل مرامه.

وأمّا تحرير كلامه ، فهو أن يقال : ولكنّا في عالمنا وبدننا هذين وانغمارنا في الرذائل الحسّيّة البدنيّة لا نحسّ بتلك اللذّة العقليّة إذا حصل عندنا شيء من أسباب تلك اللذّة لأجل فقدان شرطها كما أومأنا إليه في بعض ما قدّمناه من الأصول الخمسة ، ولذلك لا نطلب تلك اللذّة ولا نحنّ إليها ولا نشتاق إليها. اللهمّ إلّا أن نكون قد خلعنا ربقة الشهوة والغضب وأخواتهما عن أعناقنا ، ونفضنا تلك الرذائل عن جواهر نفسنا ، وشعرنا بتلك الكمالات ولذّاتها نوعا من الشعور ، وطالعنا شيئا من تلك اللذّة ، فحينئذ حيث كان الخلع غير تامّ والنفض غير كامل ، لم ندرك تلك اللذّة إدراكا كاملا أيضا ، بل ربّما تخيّلنا منها خيالا طفيفا ضعيفا ، وخصوصا عند انحلال المشكلات العقليّة واستيضاح المطلوبات اليقينيّة ، ونسبة التذاذنا ذلك إلى الالتذاذ بإدراك حقائق تلك المعقولات والوصول إلى كنهها نسبة التذاذ الحسّ بتنشّق الروائح المذاقات اللذيذة الطيّبة أنفسها ، إلى الالتذاذ بتطفّفها وتخيّلها ، بل أبعد من ذلك بعدا غير محدود غير متناه.

ويشهد بما ذكرنا أنّك إذا تأمّلت أمرا عويصا عقليّا يهمّك ، وعرضت عليك شهوة بدنيّة جسمانيّة ، وخيّرت بين الظفرين ، أيّ الظفر بذلك الأمر العويص والظفر بتلك الشهوة ، استخففت بالشهوة وآثرت الظفر بالأمر العويص على الظفر بها إن كنت كريم النفس عالي الهمّة. فمن هذا يعلم أنّ لك في ضمن هذا البدن أيضا لذّة عقليّة وأنت تدركها وتؤثرها

٧٩

على اللذّة الحسّيّة. بل الأنفس العامّيّة الغير الكريمة أيضا تكون لها تلك الحالة ، فإنّها أيضا قد تترك الشهوات المعترضة لها التي هي لذّات حسّيّة وتؤثر الغرامات والآلام الفادحة بسبب افتضاح أو خجل أو تغير ، التي كلّها آلام عقليّة.

وبالجملة ، فالأحوال العقليّة تؤثّر على أضدادها الجسمانيّة ويصبر لها على المكروهات الطبيعيّة ، فيعلم من ذلك أنّ الغايات العقليّة أكرم على الأنفس في محقّرات الأشياء ، فكيف في الأشياء النبيهة العالية ، إلّا أنّ الأنفس الخسيسة تحسّ بما يلحق المحقّرات من الخير والشرّ ، ولا تحسّ بما يلحق الأمور النبيهة ، لما قيل من المعاذير. وهذا شرح كلامه هنا.

وقد أشار في «الإشارات» إلى أنّه قد يوجد حظّ وافر من اللذّة الحقيقيّة العقليّة للنفس وهي في ضمن البدن.

قال : وليس هذا الالتذاذ مفقودا من كلّ وجه والنفس في البدن ، بل المنغمسون في تأمّل الجبروت ، المعروضون عن الشواغل يصيبون وهم في الأبدان من هذا اللذّة حظّا وافرا قد يتمكّن منهم فيشغلهم عن كلّ شيء».

ثمّ قال : «والنفوس السليمة التي هي على الفطرة ولم يفظّظها مباشرة الأمور الأرضيّة الخاصّة ، إذا سمعت ذكرا روحانيّا يشير إلى أحوال المفارقات غشيها غاش شائق لا تعرف سببه ، وأصابها وجد مبرّح مع لذّة مفرجة (مفرّحة خ) يفضي بها ذلك إلى حيرة ودهش ، وذلك للمناسبة وقد جرّب هذا تجريبا شديدا». (١) انتهى كلامه.

في بيان السعادة والشقاوة العقليّين من جهة القوّة

النظرية للنفس بعد مفارقتها عن البدن

وقوله : «وأمّا إذا انفصلنا عن البدن ، وكانت النفس منّا تنبّهت في البدن لكمالها الذي هو معشوقها ولم تحصّله ... إلى آخر ما ذكره».

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ / ٣٥٤.

٨٠