منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-609-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٢٩٢

١
٢

٣
٤

الباب الرابع

وفيه مطالب

٥
٦

المطلب الأوّل

في حدوث النفس

بحدوث البدن ، وفي عدم جواز التناسخ ونحوه عليها ،

وفي بيان حالها بعد خراب البدن ، فهاهنا مطالب

في حدوث النفس بحدوث البدن

اعلم أنّهم اختلفوا في ذلك ، فقال بعضهم بقدمها ، وقد أسند هذا القول إلى أفلاطون ومن قبله ، وهو الموافق لما ذهب إليه الفلاسفة القائلون بقدم العالم.

وقال بعضهم بحدوثها. وقد أسند هذا القول إلى أرسطو وأتباعه ، وهو الموافق لما ذهب إليه المليون القائلون بحدوث العالم ، إلّا أنّهم افترقوا فرقتين ؛ ففرقة قالت بحدوثها قبل حدوث البدن ، وقد ذهب إليه جمع من الملّيّين ، وفرقة قالت بحدوثها بحدوثه ، وقد ذهب إليه كثير من الملّيّين ، وهو الموافق لما ذهب إليه الشيخ الرئيس وأتباعه ، فهاهنا مذاهب ثلاثة متناقضة ، وحيث كانت متناقضة فبإثبات المذهب الأخير يبطل المذهبان الأوّلان ، مع أنّ المذهب الأوّل يبطله ما يبطل قدم العالم من دلائل حدوثه ، وقد أفردنا في ذلك رسالة على حدة (١). فلنتكلّم فيما ذكروه دليلا على المذهب الأخير ، ونتبعه بشرحه إن احتيج إليه مع الإشارة إلى نقض المذهبين الآخرين.

__________________

(١) نسختها موجودة في مكتبة آية الله المرعشيّ (ره) بقمّ.

٧

فنقول : قال الشيخ في الشفاء : «إنّ النفس الإنسانيّة لم تكن مفارقة (١) للأبدان ثمّ حصلت في البدن ، لأن الأنفس الإنسانيّة متّفقة في النوع والمعنى ، وإذا فرض أنّ لها وجودا ما ليس حادثا مع حدوث الأبدان ، بل هو وجود مفرد ، لم يجز أن تكون النفس في ذلك (٢) متكثّرة ، وذلك لأنّ تكثّر (٣) الأشياء إمّا أن يكون من جهة الماهيّة والصورة ، وإمّا أن يكون من جهة النسبة إلى العنصر والمادّة المتكثّرة ممّا (٤) يتكثّر به من الأمكنة التي تشتمل على كلّ مادّة في جهة ، والأزمنة التي تختصّ بكلّ واحد منها في حدوثه ، والعلل القاسمة إيّاها ، وليست مغايرة بالماهيّة والصورة ، لأنّ صورتها واحدة ، فإذن إنّما تتغاير من جهة قابل الماهيّة ، المنسوب إليه الماهيّة بالاختصاص ، وهذا هو البدن.

وأمّا إذا أمكن أن تكون النفس موجودة ولا بدن ، فليس يمكن أن يغاير نفس نفسا بالعدد. وهذا مطلق في كلّ شيء فإنّ الأشياء التي ذواتها معان فقط وقد تكثّر نوعيّاتها بأشخاصها ، فإنّما تكثّرها بالحوامل والقوابل والمنفعلات عنها أو ما بنسبة ما (٥) إليها ، وإلى أزمنتها فقط ، وإذا كانت مجرّدة أصلا لم تتفرّق ممّا قلنا (٦) فمحال أن تكون ، ولا بينها مغايرة وتكثّر ، فقد بطل أن تكون (٧) النفس قبل دخولها الأبدان متكثّرة الذات بالعدد.

وأقول : لا يجوز أن تكون واحدة الذّات بالعدد ، لأنّه إذا حصل بدنان ، حصل في البدنين نفسان ، فإمّا أن تكونا قسمي النفس الواحدة (٨) ، فيكون الشيء الواحد الذي ليس له عظم وحجم منقسما بالقوّة ، وهذا ظاهر البطلان بالأصول المتقرّرة (٩) في الطبيعيّات

__________________

(١) في المصدر : لم يكن قائمة مفارقة.

(٢) في المصدر : في ذلك الوجود.

(٣) في المصدر : لأنّ كثرة.

(٤) في المصدر : بما.

(٥) في المصدر : أو بنسبة ما.

(٦) في المصدر : بما قلنا.

(٧) في المصدر : أن تكون بينها مغايرة وكثرة ، فقد يكون أن يكون.

(٨) في المصدر : فإمّا أن تكونا قسمي تلك النفس الواحدة.

(٩) في المصدر : بالأصول المقرّرة.

٨

وغيرها ، وإمّا ان تكون النّفس الواحدة بالعدد في بدنين ، وهذا لا يحتاج أيضا إلى كثير تكلّف في إبطاله.

ونقول بعبارة أخرى : إنّ هذه الأنفس إنّما تتشخّص نفسا واحدة من جملة نوعها بأحوال تلحقها ليست لازمة لها بما هي نفس ، وإلّا لاشتركت فيها جميعا ، والأعراض اللاحقة بها تلحق عن ابتداء لا محالة زمانيّ ، لأنّها تتبع سببا عرض لبعضها دون بعض ، فيكون تشخّص الأنفس أيضا أمرا حادثا ، فلا تكون قديمة لم تزل ، ويكون حدوثها مع بدن.

فقد صحّ إذن أنّ الأنفس تحدث كما تحدث مادّة بدنيّة صالحة لاستعمالها إيّاها ، ويكون البدن الحادث مملكتها وآلتها ، ويكون في جوهر النفس الحادثة مع بدن ما ذلك البدن ، استحقّ حدوثها من المبادئ الأول ، هيئة نزاع طبيعيّ إلى الاشتغال به واستعماله ، والاهتمام بأحواله والانجذاب إليه ، تخصّها وتصرفها عن كلّ الأجسام غيره ، فلا بدّ أنّها إذا وجدت متشخّصة ، فإنّ مبدأ تشخّصها يلحق بها من الهيئات ما تتعيّن به شخصا. وتلك الهيئة تكون مقتضية لاختصاصها بذلك البدن ، ومناسبة لصلوح أحدهما للآخر ، وإن خفي علينا تلك الحالة وتلك المناسبة ، وقد تكون مبادي الاستكمال متوقّفة لها بوساطة ، ويكون هو بدنها.

ولقائل أن يقول.

إنّ هذه الشبهة تلزمكم في النفوس إذا فارقت الأبدان ، فإنّها إمّا أن تفسد ولا تقولون به ، وإمّا أن تتّحد وهو عين ما شنّعتم به ، وإمّا أن تبقى متكثّرة وهي عندكم مفارقة للموادّ ، فكيف تكون متكثّرة؟

فنقول : أمّا بعد مفارقة الأنفس للأبدان ، فإنّ الأنفس قد وجد كلّ واحد منها ذاتا منفردة باختلاف موادّها التي كانت ، وباختلاف أزمنة حدوثها ، واختلاف هيئاتها التي لها بحسب أبدانها المختلفة لا محالة ، فإنّا نعلم يقينا أنّ موجد المعنى الكلّيّ شخصا مشارا إليه لا يمكن أن يوجده شخصا ، أو يزيد له معنى على نوعيّته ، به يصير شخصا من المعاني التي تلحقه عند حدوثه وتلزمه ، علمناها أو لم نعلم. ونحن نعلم أنّ النّفس ليست واحدة

٩

في الأبدان كلّها ، ولو كانت واحدة وكثيرة بالإضافة ، لكانت عالمة فيها أو جاهلة ، ولما خفي على زيد ما في نفس عمرو ؛ لأنّ الواحد المضاف إلى كثيرين يجوز أن يختلف بحسب الإضافة.

وأمّا الأمور الموجودة له في ذاته فلا يختلف فيها حتّى إذا كان أبا لأولاد كثيرين وهو شابّ ، لم يكن شابّا إلّا بحسب الكلّ ، إذا الشباب له في نفسه ، فيدخل في كلّ إضافة ، وكذلك العلم والجهل والظنّ وما أشبه ذلك إنّما يكون في ذات النفس في كلّ إضافة (١) ، فإذن ليست النّفس واحدة ، فهي كثيرة بالعدد ، ونوعها واحد ، وهي حادثة كما بيّنّاه ، فلا شكّ أنّها بأمر تشخّصت ، وأنّ ذلك الأمر في النفس الإنسانيّة ليس هو الانطباع في المادّة ، فقد علم به بطلان القول بذلك ، بل ذلك الأمر هيئة من الهيئات ، وقوّة من القوى ، وعرض من الأعراض الروحانيّة ، أو جملة منها تشخّصها باجتماعها وإن جهلناها ، وبعد أن تشخّصت مفردة ، فلا يجوز أن تكون هي والنفس الأخرى بالعدد ذاتا واحدة ، فقد أكثرنا القول في امتناع هذا في عدّة مواضع ، لكنّا نتيقّن أنّه يجوز أن تكون النّفس إذا حدثت مع حدوث مزاج ما ، أن يحدث لها هيئة بعده في الأفعال النطقيّة والانفعالات النطقيّة تكون على جملة متميّزة عن الهيئة المناظرة لها في أخرى ، تميّز المزاجين في البدنين ، وأن تكون الهيئة المكتسبة التي تسمّى عقلا بالفعل أيضا على حدّ ما تتميّز به عن نفس أخرى ، وأنّها يقع لها شعور بذاتها الجزئيّة ، وذلك الشعور هيئة ما فيها أيضا خاصّة ليس لغيرها ، ويجوز أن يحدث فيها من جهة القوى البدنيّة هيئة خاصّة أيضا ، وتلك الهيئة تتعلّق بالهيئة الخلقيّة ، أو تكون هي هي ، أو تكون أيضا خصوصيّات أخرى تخفى علينا تلزم النفوس مع حدوثها وبعده ، كما يلزم من أمثالها أشخاص الأنواع الجسمانيّة ، لتتمايز بها (٢) ما بقيت وتكون الأنفس كذلك تتميّز بمخصّصاتها فيها ، كانت الأبدان أو لم تكن أبدان ، عرفنا تلك الأحوال أو لم نعرف ، أو عرفنا بعضها. انتهى كلامه (٣).

__________________

(١) في المصدر : في ذات النفس ، ويدخل مع النفس في كلّ إضافة.

(٢) في المصدر : الأنواع الجسمانيّة فتمايز بها.

(٣) الشفاء ، الطبيعيّات / ٣٥٣ ـ ٣٥٢ ، ط طهران.

١٠

وأقول : وتحرير ما ذكره من الدليل على هذا المطلب أنّ النّفس الإنسانيّة لا يجوز أن تكون موجودة قبل الأبدان ، لأنّها لو كانت موجودة قبل الأبدان ، فإمّا أن تكون متكثّرة بالعدد ، أو واحدة بالعدد ، وكلّ منهما باطل.

أمّا الأوّل ، فلأنّها إذا كانت موجودة قبل الأبدان وجودا مفردا ، وكانت متكثّرة بالعدد ، فتكثّرها لا يكون إلّا بأن تكون ممتازة بعضها عن بعض ، فامتيازها إمّا أن يكون بصورها وماهيّاتها ، أو بفاعلها ، أو بغايتها ، أو من جهة النسبة إلى موادّها المنطبعة هي فيها المتكثّرة ممّا تتكثّر به من الأمكنة التي تشتمل على كلّ مادّة في جهة ، والأزمنة التي تختصّ بكلّ واحدة منها في حدوثه ، والعلل القاسمة إيّاها ، أو بما في حكم تلك الموادّ من القوابل والمنفعلات عنها كالأبدان ، والعلل منحصرة في هذه ، ولا يجوز أن يكون امتيازها بصورها وماهيّاتها وذواتها ، لأنّ النفوس الإنسانيّة متّفقة في النوع والمعنى ، وما له حدّ نوعيّ فصورتها وذاتها واحدة لا اختلاف فيها ولا تكثّر من حيث الماهيّة والذات ، وكذلك لا يجوز أن يكون امتيازها بفاعلها أو بغايتها ، لأنّ فاعلها واحد وهو المبدأ الفيّاض تعالى شأنه. وكذا غايتها ، وهي التشبّه بالفاعل والاتّصال به والقرب إليه. فبقي أن يكون امتيازها بموادّها المنطبعة هي فيه ، أو بما هو في حكمها كالأبدان ، وهذا أيضا باطل ، لأنّ النفوس الإنسانيّة قد فرضت مفارقة عن الموادّ ، أمّا عن المنطبعة فيها ، فلأنّ المفروض تجرّدها عن المادّة في ذاتها ، كما ظهر من الدلائل الدالّة على تجرّدها ، وأمّا عمّا في حكمها ، فلأنّ المفروض وجودها قبل الأبدان وجودا مفردا ، هذا خلف.

ومن هذا يظهر أنّ المجرّدات عن المادّة إذا كانت متكثّرة بالعدد ، فإنّما يكون تكثّرها بأن يكون كلّ منها نوعا على حدة منحصرة في فرد ، لا أن تكون تلك الأفراد المتكثّرة أفرادا من نوع واحد ، ولذلك قالوا به في العقول التي أثبتوها.

وهذا الذي ذكرنا هو محصّل مرامه ، وإنّما لم يشر إلى إبطال كون امتياز تلك النفوس بفاعلها أو بغايتها إحالة على الظّهور ، كما إنّه لم يذكر دليلا على كون النفوس الإنسانيّة متّفقة في النوع والمعنى ، إحالة عليه أيضا.

وربما ينبّه على ذلك ، بأنّه كما أنّ الحكم بأنّ بعض الأشياء ـ كالإنسان والفرس

١١

والحمار مثلا ـ مختلفة بالنّوع والذّات ، وإنّما اشتراكها في معنى جنسيّ كالحيوانيّة ، وأنّ بعضها ـ كزيد وعمرو وبكر مثلا متّفقة في النوع والذات ، واشتراكها في معنى نوعيّ هو الإنسانيّة ، واختلافها بحسب العوارض الشخصيّة الخارجة عن الذّات ، وأنّ بعضها كالرّوميّ والزنجيّ والتّركيّ مثلا ـ متّفقة في النوع ، وهو الإنسان أيضا ، واختلافها في معنى عرضيّ كلّيّ صنفيّ خارج عن الذّات ليس عليه دليل ، إلّا أنّ الحدس الصائب يحكم بذلك ، حيث يجد الاختلاف في الأشياء الأوليّة شديدا جدّا ، فيحكم بأنّ اختلافها ذاتيّ ، بخلاف الأخيرين ، فإنّ الاختلاف فيهما ليس بتلك المثابة ، بل أقلّ من الأوّل بكثير ، فيحكم باتّفاقها في الذّات ، واختلافها بحسب العوارض ، أمّا بالعوارض الشّخصية ، كما في الثّانية ، أو الكليّة كما في الثّالثة.

كذلك الحدس الصّائب يحكم بأنّ النفوس الإنسانيّة متّفقة في النّوع والمعنى ، واختلافها إنّما هو بحسب العوارض الشخصيّة ، مثل الذّكاء والبلادة والسّخاوة والبخل والشّجاعة والجبن وأمثال ذلك ، بل الحكم بأنّ أفراد الإنسان متّفقة في المعنى والنّوع ومختلفة بحسب العوارض الشخصيّة يستلزم الحكم بأنّ النفوس الإنسانيّة أيضا كذلك ، فإنّ الأفراد الإنسانيّة ليست إلّا عبارة عن مجموع النّفوس والأبدان. وهذا الذي ذكرنا ظاهر عند من له حدس صائب.

وحيث عرفت ما ذكرنا علمت أنّ ما ذكره بعض المحقّقين ـ كالمحقّق الطوسيّ رحمه‌الله في التّجريد (١) من أنّ دخول النّفس الإنسانيّة تحت حدّ واحد يقتضي وحدتها ـ أي وحدتها نوعا ـ يمكن حمله على ما ذكرنا ، يعني أنّ الحدس الصائب يحكم بذلك.

والحاصل أنّا نجد دخول النّفوس الإنسانيّة تحت حدّ واحد نوعيّ مثل قولهم : النّفس كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالقوّة من جهة ما تدرك الأمور الكليّة وتفعل الأفعال الفكريّة ، وكذا نجد دخول أفراد الإنسان تحت حدّ واحد نوعيّ ، مثل قولهم : الإنسان حيوان ناطق ، أي أن يكون الحدّ الأوّل مقولا في جواب السؤال بما هو عن كلّ

__________________

(١) في الفصل الرابع من المقصد الثاني في الجواهر المجرّدة ، حيث قال : ودخولها تحت حدّ واحد يقتضي وحدتها. شرح التجريد للقوشجيّ / ٢٢٧ ، ط تبريز.

١٢

فرد من أفراد النّفوس الإنسانيّة ، وعن أيّة طائفة تفرض ، وعن مجموع تلك النّفوس ، وكذا أن يكون الحدّ الثاني مقولا في جواب السؤال بما هو عن كلّ فرد من أفراد الإنسان ، وعن كلّ طائفة ، وعن المجموع ؛ وذلك أمارة أنّ ذينك الحدّين حدّان نوعيّان ، وأنّ الأفراد الداخلة تحتهما متّفقة بحسب النّوع ، مختلفة بحسب العوارض. وعلى هذا فمنع كون الحدّ هنا حدّا نوعيّا واحتمال كونه حدّا جنسيّا ـ كما ذكره بعضهم ـ كأنّه مكابرة ينبغي أن لا يرتكبه ذو حدس صائب.

ثمّ إنّه من جملة المنبّهات على هذا المطلب ، بل من أعظمها ، أنّه لو كانت النّفوس الإنسانيّة مختلفة في النّوع والحقيقة ، لجاز أن يصدر عن بعضها من الأفعال ما لا يمكن أن يصدر عن بعض آخر مخالف له في الحقيقة ، بحيث يعدّ عنده خارقا للعادة. وحينئذ يلزم إفحام الأنبياء عليه‌السلام فيما يدّعونه من النّبوّة ، ويظهرونه من المعجزة ، لأنّ للرعيّة أن يقولوا إنّ نفوس الأنبياء عليه‌السلام يمكن أن تكون مخالفة بالحقيقة لنفوسنا ، ويجوز أن يصدر عن نفوسهم عليه‌السلام ما يعجز عنه نفوسنا.

وحينئذ فلا يظهر أنّ ما يصدر عنهم عليه‌السلام معجزات صادرات من عند الله تعالى دلائل على صدقهم في نبوّتهم ، فيلزم إفحامهم عليه‌السلام ، وإنّما يكون ما يظهرونه عليه‌السلام معجزة لو كانت نفوسهم عليه‌السلام متّفقة بحسب الحقيقة لنفوس الرعيّة ، إذ حينئذ يظهر كون ما يجري على أيديهم عليه‌السلام معجزات خوارق للعادة ، حيث إنّ النفوس كلّها إذا كانت متّفقة بحسب الحقيقة والذّات ، وصدر عن بعضها ما يعجز عنه الآخر كان ذلك معجزة ؛ وهذا أيضا ظاهر عند أولي الألباب.

وبالجملة ، هذا المذهب الذي ذهب إليه الشيخ من كون أفراد النّفوس الإنسانيّة متّفقة في المعنى والنّوع هو المذهب الذي دلّ عليه الدليل ، واختاره المحقّقون ، وهو المنسوب إلى جمع كثير من الحكماء كأرسطو وأتباعه ، حيث إنّ المنقول عنهم أيضا أنّ النّفوس البشريّة متّحدة بالنوع ، وإنّما تختلف بالصّفات والملكات واختلاف الأمزجة والأدوات.

وقد ذهب بعضهم ـ كالإمام الرازيّ ـ إلى أنّها مختلفة بالماهيّة ، بمعنى أنّها جنس تحته أنواع مختلفة تحت كلّ نوع أفراد متّحدة بالماهيّة.

١٣

وقيل : يشبه أن يكون قوله عليه‌السلام : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة» (١) ، وقوله عليه‌السلام : «الأرواح جنود مجنّدة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف» (١) إشارة إلى هذا.

وأنت بعد التّدبّر فيما ذكرنا يظهر لك بطلان هذا المذهب ، وأنّ الخبرين وأمثالهما يمكن حملها على اختلاف بالصّفات والملكات ونحوها ؛ فتدبّر.

وأما القول بكون كلّ فرد من أفراد النفوس الإنسانيّة مخالفا بالماهيّة لسائر النّفوس حتّى لا يشترك اثنان منها في الحقيقة ، فالظاهر أنّه لم يقل به أحد. والله أعلم بالصّواب.

وأمّا الثاني ، فلأنّه لو كانت النّفس الإنسانيّة قبل التعلّق بالأبدان واحدة الذّات بالعدد ، فبعد حصول الأبدان.

أمّا أن تكون النّفس الواحدة بالعدد في بدنين مثلا فهذا ظاهر البطلان ، لأنّه يلزم حينئذ أن يكون نفس زيد بعينها نفس عمرو ، ونفس من اتّصف بالجبن والبخل بعينها نفس من اتّصف بالإسراف والتهوّر ، ونفس من اتّصف بالعلم بعينها نفس من اتّصف بالجهل ، فيلزم اجتماع الضّدّين ، وأن لا يخفى على زيد ما في نفس عمرو مثلا.

وأمّا أن تحصل في كلّ من البدنين نفس واحدة بالعدد ، أي أن تحصل في البدنين نفسان ، وتتكثّر النّفوس بحسب تكثّر الأبدان.

فهذا إمّا أن يكون ببطلان الواحدة الأولى وزوالها وحدوث النفوس المتكثّرة بحسب تكثّر الأبدان ، فهذا باطل.

أمّا أوّلا فلأنّه يستلزم زوال النّفس الأولى التي هي المجرّدة عن المادّة بالفرض ، وقد تقرّر عندهم أنّ المجرّد لا يجوز زواله كما عرفت ممّا ذكرنا سابقا في مبحث بقاء النّفس بعد خراب البدن. وأيضا يستلزم زوال القديم على تقدير أن تكون النّفس الواحدة الأولى قديمة ، كما هو مذهب بعض القائلين بوجود النّفس قبل البدن ، وهو ممتنع.

وأمّا ثانيا ، فلأنّه يستلزم حدوث النفس بحدوث البدن ، وهو خلاف الفرض على هذا التّقدير ، بل هو المطلوب.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ، ٤ / ٣٨٠ ، ط طهران ، (من الألفاظ الموجزة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

١٤

وأمّا أن يكون بتكثّر تلك النّفس الواحدة وتجزّيها وانقسامها إلى تلك النفوس المتعدّدة ، فهذا أيضا باطل ، لأنّ ذلك إنّما هو من خواصّ ما له عظم وحجم ومقدار ومادّة يحلّ هو فيها ، تقبل تلك المادة الانقسام إلى الأقسام ، كما تقرّر في الأصول المتقرّرة في الطبيعيات وغيرها ، فما ليس كذلك كالنّفس ، حيث لا يكون له مقدار وعظم وحجم ومادّة تنطبع هي فيها يمتنع فيها ذلك ، ولذلك قالوا : إنّ العقول حيث لا يكون لها مادّة منطبعة هي فيها لا يمكن تجزّيها وانقسامها ، وكذلك النّفوس المنطبعة الفلكيّة والكواكبيّة ، لأنّها وإن كانت لها مادّة منطبعة هي فيها ؛ إلّا أن تلك الموادّ لمّا لم تكن قابلة للانقسام والتجزّي ، امتنع التكثّر فيها ، بل كان نوعها منحصرا في فرد.

وهذا الذي ذكرنا هو محصّل تحرير كلامه في الدّليل على هذا المطلب ، مع زوائد ومزايا.

وقوله : «ونقول بعبارة أخرى : إنّ هذه الأنفس إنّما تتشخّص نفسا واحدة» الخ.

هذا بظاهره وإن كان دليلا آخر بعبارة أخرى على إبطال كون النّفس موجودة قبل البدن وواحدة ، لكنّه في التحقيق دليل آخر بعبارة اخرى على إبطال كونها موجودة قبل البدن مطلقا واحدة كانت أم متكثّرة ، وحاصله أنّا نعلم بالضرورة أنّ تشخّص النّفوس البشريّة وحصولها نفسا واحدة متشخّصة من جملة نوعها ، إنّما هو بأحوال تلحقها ، وأنّ تلك الأحوال ليست لازمة لذات النّفس بما هي نفس ومعنى واحد نوعيّ ، وإلّا لاشتركت فيها جميعا وكان لجميعها تشخّص واحد ، فلم تكن متكثّرة اصلا ؛ هذا خلف. بل إنّما هي تلحقها من جهة البدن من الهيئات والمناسبات التي لها بالنسبة إلى البدن ، وتكون تلك الهيئة والمناسبة ممّا يتعيّن به النفس شخصا واحدا ومقتضية لاختصاصها بذلك البدن ، ومناسبة لصلوح أحدهما للآخر ، وإن خفي علينا تلك المناسبة والحالة والهيئة ، سواء قلنا بأنّ المشخّص في الحقيقة ومبدأ التشخّص بالذات هو تلك الهيئة ، أو قلنا بأنّه نحو من الوجود الخاصّ ، وأنّ تلك الهيئة والحالة أمارة وعلامة لازمة له ، على اختلافهم في المشخّص الحقيقيّ. فيظهر من هذا أنّ تشخّص النفوس إنّما يحدث البدن ، وليس لها تشخّص قبل الأبدان ، فإذا فرضنا وجود النّفس قبل البدن ، سواء فرضناها واحدة أم

١٥

متكثّرة ، لم تكن لها تشخّص أصلا فلم تكن موجودة أيضا ، إذ كلّ موجود بالعدد يجب أن يكون متشخّصا ، هذا خلف. فيظهر من هذا أنّ تشخّصها إنّما يحدث بحدوث الأبدان وكذلك وجودها وحدوثها بحدوثها وكذلك تكثّرها بتكثّرها ، وأنّ الأبدان وإن لم تكن بالنسبة إلى النّفوس مادّة منطبعة هي فيها ، لكنّها بالنسبة إليها في حكم الموادّ في ذلك.

ثمّ إنّ قوله : «ولقائل أن يقول : إنّ هذه الشبهة» الخ ، هذه شبهة على هذا المقام ، وحاصلها أنّ النفس إذا فارقت الأبدان ، فإمّا أن تفسد وأنتم لا تقولون به. وأيضا يلزم فساد المجرّد ، وهو ممتنع عندكم. وإمّا أن تبقى متّحدة وهو عين ما شنّعتم به ، بل أشنع ، لأنّه يلزم ـ مع ما يلزم على تقدير الاتّحاد ـ من أن تكون نفس زيد بعينها نفس عمرو ، ومن اجتماع الضدّين ـ أنّ هذا الاتحاد بعد تكثّرها كما هو المفروض إمّا أن يكون بأن تفسد النفوس المتكثّرة وتحدث نفس أخرى واحدة ، فيلزم أيضا فساد النفس ، وكذا حدوثها بدون حدوث البدن ، وأنتم لا تقولون بذلك. وإمّا أن يكون بأن تركّبت تلك المتكثّرة وامتزجت بعضها مع بعض ، فحصل منها نفس واحدة ، ففيه ـ مع لزوم فساد تلك النفوس أيضا ـ أنّ التركب والامتزاج لا يكون إلّا لما له مادّة مستعدّة قابلة له ، وهي منفيّة عنها عندكم. وإمّا أن تبقى متكثّرة كما كانت مع الأبدان ، وفيه أنّ النّفس عندكم مفارقة للأبدان فكيف تكون متكثّرة ، يعني أنّ هذا البقاء متكثّرة إمّا أن يكون تكثّرها بتكثّر تلك الموادّ المتكثّرة التي هي منطبعة فيها فهذا باطل ، لأنّ النفس ليست كذلك ، لكونها مجرّدة عن المادّة عندكم ، وإمّا أن يكون بتكثّر الأبدان التي هي في حكم الموادّ بالنسبة إليها فهذا أيضا باطل ، لكون المفروض فساد الأبدان وفناؤها. وهذا هو تقرير الشبهة.

وأمّا ما ذكره في حلّها ، فحاصله اختيار أنّ النّفس بعد مفارقة الأبدان تبقى متكثّرة كما كانت ، لكن هذا البقاء متكثّرة إنّما يكون بتلك الحالة والهيئة والمناسبة التي قلنا إنّها مشخّصة للنفوس مقتضية لاختصاص كلّ نفس ببدن ، ومناسبة لصلوح أحدهما للآخر وإن لم نعلم ماهيّة تلك الهيئة ، فإنّ تلك الهيئة كما تلزم النّفوس مع حدوثها ، كذلك تلزمها بعد حدوثها ، ولو بعد مفارقتها عن الأبدان فهي بعد فساد الأبدان ، أيضا مشخّصة للنفوس مميّزة لبعضها عن بعض ، وهي بذلك التشخّص موجودة باقية متكثّرة.

١٦

وأمّا تحرير كلامه في ذلك ، فهو أنّ بعد مفارقة الأنفس للأبدان ، فإنّ الأنفس مع حدوث الأبدان وقبل المفارقة قد وجد كلّ واحد منها ذاتا منفردة باختلاف موادّها التي كانت ، أي باختلاف ما هو كالموادّ لها ، وهي الأبدان التي كانت لها باختلاف أزمنة حدوثها ، واختلاف هيئاتها التي لها بحسب أبدانها المختلفة لا محالة ، فإنّا نعلم يقينا أنّ موجد المعنى الكلّي شخصا مشار إليه لا يمكنه أن يوجده شخصا أو يزيد له ، أي إلّا أن يزيد له معنى على نوعيّته به يصير شخصا من المعاني التي تلحقه عند حدوثه وتلزمه ، سواء علمنا حقيقة تلك المعاني المشخّصة أو لم نعلمها ، وسواء حكمنا بأنّها هي المشخّصة في الحقيقة أم هي أمارة المشخّص وعلامته. ونحن نعلم أيضا أنّ النفس ليست واحدة في الأبدان كلّها ، أي ليست متشخّصة بتشخّص واحد بالعدد في الأبدان كلّها ، إذ لو كانت واحدة بالعدد وبالذات في الأبدان كلّها وكثيرة بالاعتبار وبالإضافة إلى الأبدان ، لكانت عالمة في الأبدان كلّها أو جاهلة فيها كلّها ، وامتنع أن تكون في بعضها عالمة وفي بعضها جاهلة ؛ ولما خفي على زيد ما في نفس عمرو ، لأنّ الواحد المضاف إلى كثيرين ، وإن جاز أن يختلف بحسب الإضافة إليها فيما هو حاصل له بحسب الإضافة ، لكنّ الأمور الموجودة لذلك الواحد في ذاته لا يجوز أن يختلف هو فيها. وهذا كما أنّ زيدا مثلا إذا كان أبا لأولاد كثيرين وهو شابّ ، لم يكن حصول الشّباب له إلّا بحسب الكلّ ، إذ الشّباب له في نفسه موجود له في ذاته فيدخل في كلّ إضافة ، ولا يجوز أن يختلف هو فيها ـ أي في تلك الإضافات ـ وكذلك العلم والجهل والظّن وما أشبه ذلك ، إنّما هي أمور موجودة لذات النّفس في نفسها ، فيجب أن تدخل في كلّ إضافة ولا تختلف هي فيها ، ويلزم ما ذكرنا من أنّها لو كانت واحدة بالذّات كثيرة بحسب الإضافة إلى الأبدان ، لزم أن تكون عالمة فيها كلّها أو جاهلة فيها ، ولما خفي على نفس زيد ما في نفس عمرو ، فإذن ثبت أنّ النفس ليست واحدة بالعدد ، بل هي كثيرة بالعدد. وقد ثبت أيضا أنّ نوعها واحد وهي حادثة. وحينئذ نقول : لا شكّ أنّها بأمر ما تشخّصت تشخّصا متكثّرا ، لأنّ المعنى النوعي يحتاج في تشخّصه إلى مشخّص ، ولا شكّ أيضا أنّ ذلك الأمر في النفس الإنسانيّة ليس هو الانطباع في المادّة ، فقد علم بطلان القول بذلك ، حيث ثبت تجرّدها عن المادّة. ولا شكّ

١٧

أيضا أنّ ذلك الأمر ليس أمرا لازما لذات النفس التي هي معنى نوعيّ ، إذ لو كان كذلك لاشتركت النّفوس فيه ، ولكان كلّها شخصا واحدا ، ولم تكن متكثّرة. فبقي أن يكون ذلك الأمر هيئة من الهيئات وقوّة من القوى وعرضا من الأعراض الروحانيّة غير الجسمانيّة أو جملة منها يكون تشخّصها باجتماعها وإن جهلناها ، وبعد أن تشخّصت النفس مفردة ، فلا يجوز أن تكون هي والنفس الأخرى بالعدد ذاتا واحدة ، فقد أكثرنا القول في امتناع هذا في عدّة ، لأنّه حينئذ ، إمّا أن يبقى تشخّص كلّ من النّفسين بحاله فيلزم أن يكون الاثنان مع اثنينيّتهما واحدا بالعدد ، وهذا محال بالضرورة ، وإمّا أن لا يبقى تشخّص لهما ، فحينئذ إمّا أن يبطل النفسان وتحدث أخرى واحدة بالعدد ، ففيه بطلان النّفس مع كونها مجرّدة ، وهو محال كما مرّ. وأيضا ففيه حدوث نفس من كتم العدم لا صيرورة النفسين واحدة بالعدد ؛ هذا خلف. وإمّا أن يمتزج النّفسان وتتركّبا وتصيرا واحدة بالعدد ، فهذا فرع وجود المادّة على ما عرفت ، وهو منتف هنا.

وبالجملة فبعد ما تشخّصت النفس مفردة يستحيل كونها والنّفس الأخرى المتشخّصة واحدة بالعدد ، بل يجب أن تكونا اثنتين. وأن يكون كلّ واحدة منهما متشخّصة بتشخّص منفرد ، باقيتين على ذينك التشخّصين الاثنين. لكنّا نتيقّن أنّه يجوز [أن تكون] النفس إذا حدثت مع حدوث مزاج ما كما عرفت الدّليل عليه ، أن يحدث هيئة بعد حدوث المزاج ، ويكون حدوث تلك الهيئة في الأفعال النطقية والانفعالات النّطقية ، التي تكون للنفس بذاتها ، وتكون تلك الهيئة على جملة من تلك الأفعال والانفعالات متميّزة عن الهيئة الأخرى المناظرة لها الحاصلة في نفس أخرى ، مثل تميّز المزاجين في البدنين اللذين يتعلّق بهما النّفسان ، وأن يكون الهيئة المكتسبة التي تسمّى عقلا بالفعل أيضا. وبالجملة الهيئة الحاصلة للنّفس من جهة تأثرها عمّا فوقها من المبادي كالعقل بالفعل أيضا على حدّ ما يتميّز به نفس عن نفس أخرى ، فإنّها حين كونها في مرتبة العقل بالفعل يقع لها شعور بذاتها الجزئيّة الشخصيّة وذلك الشعور هيئة ما فيها أيضا خاصّة ليس لغيرها وبه تتميّز عن أخرى ونتيقّن أيضا أنّه يجوز أن يحدث فيها من جهة القوى البدنيّة ، أي من جهة تأثيرها فيما دونها من البدن وقواه ، هيئة خاصّة أيضا وتلك الهيئة تتعلّق

١٨

بالهيئة الخلقيّة ، أو تكون هي هي ، أي نفس الهيئة الخلقيّة ، وكذلك يجوز أن يكون أيضا هناك خصوصيّات أخرى سوى تلك الهيئات ، تخفى تلك الخصوصيات علينا وتلزم النفوس مع حدوثها ، ويكون تميّزها بها كما تلزم أمثال تلك الخصوصيات أشخاص الأنواع الجسمانيّة لتتمايز بها ما بقيت.

وحينئذ فيجوز أن يكون الأنفس التي هي أشخاص لنوع مجرّد كذلك تتميّز هي بمخصّصاتها ومميّزاتها التي فيها ، سواء كانت الأبدان أم لم تكن ، وسواء عرفنا حقيقة تلك الأحوال التي هي المخصّصات أو لم نعرف ، أو عرفنا بعضها.

والحاصل أنّه يجوز حين حدوث النّفس مع مزاج ما ، أن يحدث لها هيئة من جهة تأثّرها عمّا فوقها من المبادي العالية أو من جهة تأثيرها فيما دونها من البدن وقواه أو خصوصيّات أخرى تخفى علينا ، تكون تلك الهيئات والخصوصيّات مخصّصات ومميّزات لها تلزمها حين الحدوث وبعده ، فتبقى بها النّفس موجودة متكثّرة بعد خراب البدن أيضا كما هي في حال حدوثه ، ولو لم يكن لها من المميّزات إلّا شعور كلّ منها بهويّتها الجزئيّة لكفى مميّزا ، فضلا عن الصّفات والملكات والهيئات والأنوار الفائضة عليها من المبادي العالية. وحينئذ فلا تلزم أن تفسد النّفوس بعد خراب الأبدان ولا أن تتّحد ، مع أنّ الاتحاد ممتنع كما عرفت ، وكذا الفساد ، حيث عرفت أنّ الفساد ممتنع على المجرّد ، وقد عرفت أيضا أنّ الدليل يدلّ على تجرّد النفس مطلقا ، فكلّ هذه النفوس بعد وجودها وحدوثها بحدوث أبدانها تبقى بعد خراب أبدانها أيضا ببقاء مبدئها ومعيدها. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

الإشارة إلى أنّ مذهب الشيخ في الشفاء بقاء النفوس مطلقا

حتّى نفوس غير المستكملة بعد خراب البدن

وهذا الذي ذكرناه هو تحرير كلامه وتوضيح مرامه ، ومنه يظهر أنّ مذهبه في «الشفاء» بقاء النفوس مطلقا بعد خراب البدن ، حتّى نفوس غير المستكملين من البله

١٩

والصّبيان والمجانين وأمثالهم ، والقرينة عليه أنّه جعل شعورها بذاتها أيضا مميّزا ، والحال أنّه عامّ يعمّ المستكملين وغيرهم. وأيضا جعل من المميّزات لها الهيئات التي تحصل لها من جهة قواها النظريّة ، وهي أيضا عامّة تعمّ الهيئة الحاصلة من جهة العقل الهيولانيّ الذي يعمّهم أيضا ، وكذا الهيئات التي تحصل لها من جهة قواها العمليّة ، وهي أيضا عامّة كما لا يخفى مع أنّ الأدلّة التي أقامها على تجرّد النفس ـ كما نقلنا بعضها وذكرنا توجيهها ـ تجري في نفوس غير المستكملين أيضا وتعمّ المستكملين وغيرهم. وهذا الذي يظهر من كلامه هنا هو الحقّ الحقيق بالقبول ، ويدلّ عليه العقل كما عرفت ، بل النقل أيضا ، كما نقلنا فيما سلف أخبارا عن الصادقين عليه‌السلام دالّة على ذلك فتذكّر.

ثمّ إنّ هاهنا كلاما آخر ، وهو أنّه قد نقل عن بعض أعاظم المتأخّرين أنّه قال في بيان كيفيّة زيارة القبور وإجابة الدعوات : «إنّ للنّفس الإنسانيّة نوعين من التعلّق بالبدن : أحدهما من حيث المادّة ، والثاني من حيث الصورة ، وإنّ الموت وإن كان سببا لزوال تعلّق الثاني ، لكنّه لا يكون سببا لزوال الأوّل ، ومن هنا يظهر سرّ زيارة القبور وإجابة الدعوات» (١) انتهى.

وقد ذكر صدر الأفاضل رحمه‌الله في الشواهد الربوبيّة كلاما بهذه العبارة : «الإشراق الثامن في الأمر الباقي من أجزاء الإنسان مع نفسه والإشارة إلى عذاب القبر. اعلم أنّ الروح إذا فارق البدن العنصريّ ، يبقى معه أمر ضعيف الوجود من هذا البدن قد عبّر عنه في الحديث بعجب الذّنب. وقد اختلفوا في معناه ، قيل : هو العقل الهيولانيّ. وقيل : بل الهيولى الأولى. وقيل : الأجزاء الأصليّة. وقال أبو حامد الغزاليّ : إنّما هو النفس وعليها تنشأ النشأة الآخرة. وقال أبو يزيد الوقواقيّ : هو جوهر فرد يبقى من هذه النشأة لا يتغيّر ينشأ عليه النشأة الثانية. وعند الشيخ الغزاليّ هي أعيان الجواهر الثابتة. ولكلّ وجه ، لكنّ البرهان منّا دلّ على بقاء القوّة الخياليّة التي هي آخر هذه النشأة الأولى وأوّل النشأة الثانية.

فالنفس إذا فارقت البدن وحملت المتخيّلة المدركة للصور الجسمانيّة فلها أن تدرك

__________________

(١) والقائل هو السيّد الداماد رحمه‌الله.

٢٠