منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-609-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٢٩٢

وتستسعد بالسعادة المعدّة لهم ، وأنّى للنفوس البله ذلك؟! كيف وهو نفسه قد اعترف فيما سننقله من كلامه في «الشفاء» بأنّ أوائل الملكة العلميّة التي بها يمكن اكتساب المجهول من المعلوم والاستكمال بالفعل لا شكّ أنّها تكتسب بالبدن لا غير ، وقد فرض أنّها فارقت الأبدان. فتدبّر.

وبالجملة ، فهذه المذاهب المنقولة ممّا ليس عليها دليل عقليّ ولا نقليّ أخبر به مخبر صادق من أهل العصمة سلام الله تعالى عليهم أجمعين ، بل كلّها تخمين وجزاف ينبغي أن يتجنّبها من يتجنّب الاعتساف ويبتغي الإنصاف ، وليس المخلص في هذه الأحكام إلّا بالتشبّث بأذيال المخبرين الصادقين المؤيّدين من عند الله تعالى. وكأنّ فيما ذكره المحقّق الطوسيّ رحمه‌الله بعد نقل مذهب الفارابيّ في ذلك بقوله : «ولي في أكثر هذه المواضع نظر» إشارة إلى ما ذكرنا من الأنظار ونظائرها. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

في معاني التناسخ

وحيث عرفت ذلك وبقي إبطال القول بالتناسخ ونحوه ، فلنتكلّم في ذلك.

فنقول أوّلا : إنّ التناسخ كما ذكره صدر الأفاضل ونقلنا كلامه يتصوّر على معاني ووجوه :

والمعنى الأوّل الذي ذكره وقال باستحالته ، هو محلّ النزاع هنا ، ونحن بصدد إبطاله كما سيأتي بيانه ، وهو انتقال نفس في هذه النشأة الدنيويّة من بدن إلى آخر عنصريّ مباين للأوّل منفصل عنه ، بأن تصير تلك النفس نفسا لذلك البدن الثاني مدبّرة له متصرّفة فيه كما للبدن الأوّل ، بأن يموت حيوان وينتقل نفسه إلى بدن حيوان آخر من بدن إنسانيّ ، وهو الذي يسمّونه نسخا ، أو بدن حيوان غير إنسانيّ من البهائم والسباع ونحوهما ، وهو الذي يسمّونه مسخا ، أو بنبات ، وهو الذي يسمّونه فسخا ، أو إلى جماد ، وهو الذي يسمّونه رسخا.

والمعنى الثاني الذي ذكره وجوّزه محصّله : أن يكون في هذه النشأة نفس في بدن

٤١

اكتسبت في ضمنه أخلاقا رذيلة وهيآت رديّة وصفات ذميمة ، ثمّ تظهر في النشأة الأخرويّة بصورة ما غلبت عليها صفاته وتنتقل فيها إلى البدن المناسب لأخلاقها وهيآتها لبدن البهائم والسّباع ونحوهما.

وبالجملة ، أن تكون بواطن النفوس في هذه النشأة ممسوخة من غير أن تظهر صورها في الظاهر ، بل إنّما كان تظهر هي في الآخرة وتحشر النفوس على صور صفاتها ، فترى الصور في هذه النشأة أناسيّ وفي الباطن غير ذلك ، وهذا المعنى لا مانع منه ، ويشهد به التنزيل والأخبار عن الصادقين عليه‌السلام ، وبه يمكن أن يؤوّل كلام بعض أساطين الحكمة كما حمله صدر الأفاضل عليه ، وإن كان في شهادة بعض الشواهد التي ذكرها شاهدة على ذلك نظر ، كما يظهر على المتأمّل. كما أنّ في قوله : «فترى الصور أناسيّ ومن الباطن غير تلك الصور من ملك أو شيطان ... الخ» (١). نظر أيضا ، إذ يستفاد منه أنّ هذا المعنى يكون للنفوس التي اكتسبت الأخلاق الفاضلة أيضا ، وأنّه يمكن أن يكون لبعض تلك النفوس صورة إنسان في الظاهر وفي هذه النشأة ، وصورة ملك في الباطن تظهر في النشأة الأخرويّة ، وأنّه أيضا تناسخ بهذا المعنى. وفيه ما لا يخفى.

والمعنى الثالث الذي ذكره وجوّزه ، وقال أنّه واقع هو كذلك ، ومحصّله : أن يكون في هذه النشأة نفس اكتسبت الرذائل ورسخت فيها وتمكّنت منها حتّى مسخ باطنها وانقلب بصورة حيوان غلبت عليه تلك الرّذائل والصفات ، ثمّ غلبت قوّتها النفسانيّة حتّى صارت قد غيّرت مزاج بدنها وهيئته إلى شكل ما هو بصفتها من حيوان آخر فمسخ ظاهرها أيضا ، أي انقلب ظاهره من صورته التي كانت إلى صورة ما انقلب إليه باطنها من غير أن ينتقل من بدن إلى بدن آخر ، وأن يكون كلّ ذلك بإذن الله تعالى بحسب ما يستحقّه تلك النفوس بسوء عملها.

وهذا المعنى أيضا لا مانع منه ، بل هو واقع في قوم غلبت شقوة نفوسهم وضعفت قوّة عقولهم كما أخبر به التنزيل في بني إسرائيل ؛ قال تعالى : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) (٢) ،

__________________

(١) الشواهد الربوبيّة / ٢٣٣.

(٢) المائدة (٥) : ٦٠.

٤٢

وقال (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١) وقد أخبر به أيضا الصادقون المعصومون عليه‌السلام ، روي مرفوعا عن عليّ عليه‌السلام أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن المسوخ ، فقال : هي ثلاثة عشر : الفيل ، والدّب ، والخنزير ، والقرد ، والجرّيّ ، والضّبّ ، والخفّاش ، والعقرب ، والدعموس ، والعنكبوت ، والأرنب ، وسهيل ، والزهرة. فلمّا سئل عن سبب مسخهم ، قال :

أمّا الفيل فكان رجلا جبّارا لوطيّا لا يدع رطبا ولا يابسا.

والدبّ كان رجلا مؤنّثا يدعو الرجال إليه.

وكان الخنزير رجلا نصرانيّا.

والقرد من الذين اعتدوا في السبت.

والجرّيّ كان رجلا ديّوثا.

والضبّ كان سرّاقا.

والخفّاش كان يسرق الثمار.

والعقرب كان رجلا لذّاعا لا يسلم من لسانه أحد.

والدعموس كان نمّاما يفرّق بين الأحبّة.

والأرنب كانت امرأة لا تطهر من الحيض ولا من غيره.

وسهيل كان رجلا عشّارا.

والزهرة امرأة نصرانيّة (٢).

وقد روي عن دانيال عليه‌السلام ، أنّ بخت النصر مسخ في شبح صورة من السباع (٣).

وكذلك روي عن داود وسليمان وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل عليه‌السلام أمثال ذلك (٤).

إلّا أنّ الحديث المرويّ عن عليّ عليه‌السلام في المسوخ كأنّه مرموز يصعب دركه وفهم معناه على أذهاننا القاصرة. أمّا في خصوص سهيل والزهرة ، فلأنّ الظاهر كما يدلّ عليه سائر

__________________

(١) البقرة (٢) : ٦٥ ، الأعراف (٧) : ١٦٦.

(٢) المجلى : ٥٠٧.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

٤٣

الشواهد على المسخ أنّ المسخ إنّما هو انتقال نفس من بدن أشرف إلى بدن أخسّ لا بالعكس كما في الصورتين ، وخصوصا الانتقال من بدن عنصريّ قابل للكون والفساد إلى بدن فلكيّ كوكبيّ نورانيّ غير قابل لهما على رأي الحكماء.

غايته أن يكون الانتقال من بدن إلى بدن مساو له في الشرف والخسّة مسخا أيضا ، وليس الأمر هنا كذلك ، وأمّا في غير سهيل والزهرة من الحيوانات فلأنّه لا يخلو عن أحد احتمالين :

الأوّل : أن يحمل الحديث على أنّ حدوث تلك الحيوانات بأنواعها وأشخاصها كان على النهج المذكور ، كأن كان حدوث نوع الفيل مثلا بأن كان أوّلا في الوجود رجل لوطيّ جبّار فمسخ إلى صورة الفيل ، فحدث الفيل بنوعه وشخصه. ثمّ استمرّ وجود نوعه في ضمن أشخاصه بالتوالد ، أو انعدم ذلك الفيل فخلق الله تعالى على صورته بعد ذلك فيلا آخر وبقي بنوعه وأشخاصه ، كما يمكن أن يحمل عليه بعض الأخبار المرويّة من أنّ المسوخ بعد مسخه كان يبقى أيّاما قلائل ثمّ انعدم ، فخلق الله تعالى على صورته وهيئته وشكله حيوانا آخر من نوعه.

فهذا الاحتمال على التقديرين وإن كان ظاهر لفظ الحديث إلّا أنّه خلاف الظاهر من معنى المسخ ، كما لا يخفى. وأيضا ينبغي على هذا أن يحمل ما ذكر في معنى التناسخ بهذا المعنى الثالث من أنّه انقلاب الباطن إلى صورة حيوان غلبت عليه صفاته ، ثمّ انقلاب الظاهر من صورته إلى صورة ما ينقلب إليه الباطن ، أعمّ من أن يكون هناك في الوجود حيوان كذلك انقلب المستنسخ إلى صورته ، أو لم يكن هناك في الوجود حيوان كذلك إلّا أن تقتضي صفات تلك النفس انقلابها إلى صورة حيوان كذلك ، فمسخت وانقلبت إلى صورة حيوان كذلك فحدث نوع ذلك الحيوان ، وهذا التعميم خلاف ظاهر هذا المعنى من التناسخ ، بل الظاهر خصوص الشقّ الأوّل من هذين الشقّين ، أي أن يكون هناك في الوجود حيوان آخر ثمّ حصل الانقلاب الباطنيّ فالظاهريّ.

الاحتمال الثاني : أن يحمل على أنّه وإن كان هناك في الوجود أنواع تلك الحيوانات وأشخاصها مستمرّة تلك الأنواع بوجود أشخاصها ، إلّا أنّه كان أيضا هناك مثلا رجل

٤٤

لوطيّ جبّار ، فمسخ إلى صورة الفيل ، فحدث ذلك الفيل أيضا ، سواء كان انعدم بعد أيّام قلائل فخلق على صورته فيل آخر فبقي ذلك أيضا مشاركا في الوجود للأفراد الأخر من الفيل ، كما يمكن أن يحمل عليه بعض الأخبار المأثورة في ذلك المذكورة آنفا ، أو لم ينعدم في ذلك بل بقي هو أيضا مشاركا لها في الوجود ، وكان هو مثل سائر أفراد الفيل ، حيث تبقى إلى زمان انقضاء أجلها وتحدث منها بالتوالد أفراد أخر.

فهذا الاحتمال وإن كان ظاهر معنى المسخ والتناسخ بهذا المعنى الثالث ، إلّا أنّه خلاف ظاهر لفظ الحديث ، فتدبّر.

وبالجملة ، ففهم معنى هذا الحديث الشريف ممّا يعسر علينا وإن كان دلالته على ما هو مطلوبنا هنا من وقوع المسخ في الوجود في الجملة ظاهر ، والله أعلم بحقيقة الحال.

ثمّ إنّ قول صدر الأفاضل : «وأمّا مسخ صورة الباطن دون الظاهر ، فكقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صفة قوم من أمّته «إخوان العلانيّة ... الخ» ، كأنّه إشارة إلى أنّ هنا معنى رابعا للتناسخ واقعا في الوجود.

وأقول : إنّه كما يشهد عليه هذا الحديث الشريف النبويّ الذي ذكره ، كذلك يشهد عليه بعض الأخبار المرويّة عن الصادقين عليه‌السلام روى الراونديّ رحمه‌الله في كتابه الموسوم ب «الخرائج والجرائح» بإسناده عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ، قال : قلت : ما فضلنا على من خالفنا ، فو الله إنّي لأرى الرجل منهم أرخى بالا وأكثر مالا وأنعم عيشا وأحسن حالا وأطمع في الجنّة؟ قال : فسكت عنّي حتّى إذا كنّا بالأبطح من مكّة رأينا الناس يضجون إلى الله ، فقال : يا أبا محمّد هل تسمع ما أسمع ، قلت : أسمع ضجيج الناس إلى الله تعالى. فقال : ما أكثر الضجيج والعجيج وأقلّ الحجيج! والذي بعث بالنبوّة محمّدا وعجّل بروحه إلى الجنّة ، ما يتقبّل الله إلّا منك ومن أصحابك خاصّة. قال : ثمّ مسح عليه‌السلام يده على وجهي فنظرت فإذا أكثر الناس خنازير وحمير وقردة إلّا رجل بعد رجل (١).

وروي عن أبي بصير أيضا ، قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : أنا مولاك وشيعتك ضعيف

__________________

(١) الخرائج ٢ / ٨٢١ ، طبع قم.

٤٥

ضرير اضمن لي الجنّة. فقال : أولا أعطينّك علامة الأئمّة؟ قلت : وما عليك أن تجمعها لي! قال : وتحبّ ذلك؟ قلت : وكيف لا أحبّ؟ فما زاد أن مسح على بصري فأبصرت جميع ما في السقيفة التي كان فيها جالسا. ثمّ قال : يا أبا محمد مدّ بصرك فانظر ما ترى بعينك؟ قال : فو الله ما أبصرت إلّا كلبا أو خنزيرا أو قردا ، فقلت : ما هذا الخلق الممسوخ؟ قال : هذا الذي ترى هذا السواد الأعظم ، لو كشف الغطاء للناس ما نظر الشيعة إلى من خالفهم إلّا في هذه الصور ، ثمّ قال يا أبا محمد! إن أحببت تركتك على حالك هكذا ، وإن أحببت ضمنت لك الجنّة ورددتك إلى حالك الأوّل ، قلت : لا حاجة لي إلى النظر إلى هذا الخلق المنكوس ، ردّني فما للجنّة عوض ، فمسح على عيني فرجعت كما كنت (١).

إلى غير ذلك من الأحاديث الدالّة على هذا المعنى من النسخ.

وأمّا الفرق بينه وبين المعنى الثالث الذي ذكره صدر الأفاضل فظاهر ، لأنّ المفروض في هذا المعنى مسخ الباطن وحده دون الظاهر ، بخلاف المعنى الثالث فإنّ المفروض فيه مسخ الباطن والظاهر جميعا.

وكذلك الفرق بينه وبين المعنى الثاني الذي ذكره ظاهر ، على تقدير حمل هذا المعنى على أنّه انقلاب الباطن وحده دون الظاهر أصلا ، لا في هذه النشأة ولا في النشأة الأخرويّة ، وحينئذ يكون معنى رابعا. وأمّا على تقدير حمله على أنّه انقلاب الباطن وحده دون الظاهر في هذه النشأة ، وأمّا في النشأة الأخرويّة فينقلب الظاهر أيضا إلى صورة الباطن. فعلى هذا يكون هذا المعنى عين المعنى الثاني ، ولا فرق بينهما أصلا فلا يكون معنى رابعا ، والله تعالى يعلم.

وحيث أحطت خبرا بتفاصيل ما جرى ذكره بالتقريب في البين ، فحريّ بنا أن نرجع إلى ما كنّا بصدده من إبطال التناسخ بالمعنى المتنازع فيه ، الذي هو المعنى الأوّل من تلك المعاني.

__________________

(١) الخرائج ٢ / ٨٨٢.

٤٦

في إبطال التناسخ بالمعنى المتنازع فيه

فنقول : إنّهم أقاموا على إبطاله وجوها من الحجج

منها : ما نقلناه عن الشيخ في «الإشارات» من الحجّتين اللتين ذكر الشيخ أولاهما في «الشفاء» على ما نقلنا كلامه فيه. وبيان الأولى منها كما يدلّ عليه كلامه في الكتابين واضح ، وأمّا بيان الثانيّة منهما فقد اختلف فيه الشارحون للإشارات وذكروا فيه وجوها من التقرير.

منها ـ ما ذكره المحقّق الطوسيّ على ما نقلنا كلامه ، ولعلّنا نذكر فيما بعد تلك التقريرات الأخر أيضا. وكيفما كان ، فلا يخفى أنّ هاتين الحجّتين جميعا مبنيّتان على مقدّمة بإتمامها تتمّ الحجّتان ، وتلك المقدّمة هي التي أشار إليها الشيخ في «الإشارات» إشارة إجماليّة بقوله : «وإلّا لاقتضى كلّ مزاج نفسا تفيض إليه» (١).

وذكرها في «الشفاء» بوجه مفصّل وبيان أبسط ، بقوله : «فقد أوضحنا أنّ الأنفس إنّما حدثت وتكثّرت مع تهيّؤ من الأبدان على أنّ تهيّؤ الأبدان يوجب أن يفيض وجود النفس لها من العلل المفارقة ، وظهر من ذلك أنّ هذا لا يكون على سبيل الاتّفاق والبخت» إلى قوله : «فإذا فرضنا أنّ نفسا تناسخها أبدان» (٢).

فلذا قدّم بيان تلك المقدّمة على بيان المطلوب تمهيدا وإشعارا بأنّه لا تتمّ تلك الحجّة إلّا بإتمام تلك المقدّمة.

وحاصل تلك المقدّمة : أنّ حدوث النفس عن العلّة القديمة يتوقّف على حصول استعداد في القابل لها ، أعني البدن ، وعند حصول الاستعداد في القابل يجب حدوث النفس وفيضانها على ذلك القابل ، لما تقرّر عندهم أنّ وجود المعلول لازم عند تمام العلّة. وبعبارة أخرى أنّ العلّة الفاعليّة لفيضان النفس على البدن سواء فرضناها العلّة القديمة ـ كما دلّ عليه كلام الشيخ ـ أو المبدأ الفيّاض تعالى شأنه كما هو الحقّ ، تامّ الفاعليّة لا

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ / ٣٥٦.

(٢) الشفاء ، الطبيعيات / ٣٥٦.

٤٧

نقص في فاعليّته ، والعلّة القابلة له هو البدن باستعداده الخاصّ وقابليّته الخاصّة ، وعند تمام الاستعداد يتمّ قابليّته ، والمفروض حصول كلّ شرط يتوقّف عليه فيضان النفس على البدن ، وكذا ارتفاع كلّ مانع من ذلك. فإذا كانت الحال كذلك ، أي كانت العلّة الفاعليّة تامّة الفاعليّة ، والعلّة القابليّة تامّة الاستعداد ، وحصلت جميع الشروط له وارتفعت جميع الموانع عنه ، تحقّقت العلّة التامّة له. ومن المقرّر الثابت أنّه عند حصول العلّة التامّة يجب وجود المعلول ويمتنع تخلّفه عنها.

فظهر بما ذكرنا إتمام تلك المقدّمة ، وظهر أيضا وجه ما ذكره الشيخ من أنّه عند تهيّؤ الأبدان يجب فيضان وجود النفس لها ، وأنّ ذلك ليس على سبيل الاتّفاق ، وأنّ كلّ بدن يستحقّ مع حدوث مزاج مادّته حدوث نفس له ، وأن ليس بدن يستحقّه وبدن لا يستحقّه ، إذ أشخاص النوع لا تختلف في الأمور التي بها يتقوّم ، فإنّه لو كان بدن إنسانيّ مثلا يستحقّ نفسا يكمل هو بها ، وبدن آخر وهو في حكم مزاجه بالنوع ولا يستحقّ ذلك ، بل إن اتّفق كان ، وإن لم يتّفق لم يكن ذلك البدن الآخر من نوعه ، هذا خلف.

ولا يخفى عليك أنّه بعد ثبوت هذه المقدّمة ، لا سترة في تماميّة تينك المقدّمتين. وقد أورد جمع من المتأخّرين ، منهم الشارح القوشجيّ في «شرح التجريد» على الحجّة الأولى ، بل على هذه المقدّمة ؛ قال : «واعترض عليه بأنّه مع ابتنائه على كون المبدأ موجبا لا مختارا مبنيّ على حدوث النفس ، وقد مرّ أنّه لا يتمّ بيانه إلّا بإبطال التناسخ الموقوف على حدوث النفس ، فيلزم الدور. وأيضا ، انحصار شرط حدوث النفس في حدوث استعداد البدن ممنوع ، لجواز أن يكون مشروطا أيضا بأن لا يصادف استعداد البدن لتعلّق النفس به نفسا موجودة قد بطل بدنها في حال كمال ذلك الاستعداد ، فلا يحدث حينئذ نفس أخرى لانتفاء شرط الحدوث. انتهى. (١)

وأقول : إنّ هذا الاعتراض مركّب من ثلاثة اعتراضات.

بيان أوّلها أنّ ما ذكره من أنّه عند حصول استعداد البدن يجب فيضان النفس عليه

__________________

(١) شرح التجريد للقوشجيّ / ٣٢٩ ، ط تبريز.

٤٨

إنّما يتمّ إذا كان المبدأ الفاعليّ لذلك فاعلا موجبا ، لا يمكن تخلّف فعله عنه ، وأمّا إذا كان فاعلا بالاختيار ـ كما فيما نحن فيه ـ فلا يتمّ ، إذ ربّما كان ذلك الفاعل بالاختيار مع كونه تامّ الفاعليّة لا يريد الفعل ولا يشاؤه ولا يختاره ، فلا يفعله.

وجوابه : أنّ ما ذكرنا من أنّ مبنى تلك المقدّمة ، وهو أنّه عند حصول العلّة التامّة يجب حصول المعلول ، لا فرق فيه بين كون العلّة الفاعليّة فاعلا بالاختيار أو بالايجاب ، إذ الدليل الذي ذكروه على امتناع تخلّف المعلول عن علّته التامّة على تقدير تماميّته ـ كما هو الحقّ ـ يجري في الفاعل الموجب والمختار جميعا.

وبالجملة : فذلك الدليل يدلّ على أنّه عند حصول العلّة التامّة ، يجب أن يريد الفاعل المختار ذلك الفعل ويختاره ويفعله البتّة ، وأنّ العلّة التامّة يجب أن يكون علّة موجبة له.

وبعبارة أخرى أنّا حيث فرضنا تماميّة العلّيّة في ذلك ، فقد فرضنا أنّ العلّة الفاعليّة له إذا كان مختارا قد أراد ذلك الفعل وشاءه أيضا لعلمه بالأصلح في ذلك أو لعنايته الأزليّة ، فمع فرض إرادته لذلك ومشيّته له كيف لا يريده ولا يشاؤه؟ حيث إنّ فرض عدم الإرادة حينئذ ، إمّا أن يكون لحدوث مصلحة في تركه لم يكن ذلك الفاعل يعلم تلك المصلحة قبل ذلك وحين إرادته له فيلزم النقص ، والمبدأ الفيّاض تعالى شأنه منزّه عنه وإمّا أن يكون لا لحدوث مصلحة في تركه ، بل كانت المصلحة في فعله حينئذ كما كانت قبل ، فيلزم ترجيح المرجوح ، أي ترجيح ما لا مصلحة فيه في الواقع على ما فيه مصلحة في الواقع ، وهذا باطل بالضرورة. وإمّا أن يكون لأنّ إرادته جزافيّة لا تكون على وفق المصلحة أصلا ، فتارة يريد الفعل وتارة لا يريد تركه ، فهذا أيضا محال بالضرورة.

وأمّا بيان ثاني تلك الاعتراضات ، فهو أنّ دليل إبطال التناسخ مبنيّ على حدوث النفس ، وبيانه متوقّف على بيانه. وكذا دليل حدوث النفس مبنيّ على إبطال التناسخ ومتوقّف عليه ، فيلزم الدور.

أمّا ابتناء دليل إبطال التناسخ على حدوث النفس كما هو مبنى الحجّتين اللتين أقامهما الشيخ عليه ، فظاهر ، وكذلك ابتناء دليل حدوث النفس على إبطال التناسخ ، حيث إنّ الدليلين اللذين نقلا أخيرا عن القوم على ذلك لا يخفى ابتناؤهما عليه ، بل هو مصرّح

٤٩

به فيهما كما ذكر. وكذا الدليل الأوّل الذي نقل عن الشيخ في «الشفاء» ، إذ هو أيضا لو لم يكن مبنيّا عليه لم يتمّ ، فإنّه لو جاز التناسخ ، جاز أن يكون وجود النفس وتكثّرها وتشخّصها بالأبدان التي قبل هذه الأبدان الإنسانيّة التي كلامنا فيها ، ثمّ تناسخت وتنقّلت إلى هذه الأبدان ، سواء كانت تلك الأبدان الأوّلة ـ قديمة أو حادثة ـ قبل هذه الأبدان ، فلا تكون النفس حادثة بحدوث هذا البدن كما هو المطلوب.

وبالجملة ، فهذا البيان في كلّ من المطلبين دوريّ ، وهو مستحيل.

والجواب عن هذا الاعتراض : إنّ دليل حدوث النفس بحدوث البدن وإن كان متوقّفا على إبطال التناسخ ، إلّا أن إبطال التناسخ ليس متوقّفا عليه ، بل إنّما هو متوقّف على حدوث تعلّق نفس بالبدن ، وهذا المعنى لا يستلزم أن يكون ذات تلك النفس موجودة وحادثة بحدوث البدن ، حتّى يكون البيان دوريّا ، بل يمكن أن يكون ذات تلك النفس موجودة قبل حدوث هذا التعلّق ، ثمّ حدث تعلّقها بالبدن المفروض. مع أنّا سنقيم الحجّة إن شاء الله تعالى على ذلك ، بحيث لا تكون متوقّفة على حدوث النفس ولا على حدوث تعلّقها أصلا ، فانتظر.

وأمّا ثالث تلك الاعتراضات ، فيمكن تقريره على وجهين :

الأوّل : وهو الظاهر من كلام المعترض ، أنّ ما ذكرتموه من أنّه عند حصول استعداد البدن يجب فيضان النفس عليه ، وبنيتموه على أنّه عند حصول العلّة التامّة يجب حصول المعلول ، إنّما يتمّ إذا كان هناك علّة تامة مستجمعة لجميع شرائطها ، ولا نسلّم ذلك فيما نحن فيه ، إذ يجوز أن يكون من جملة الشرائط أن لا يصادف استعداد البدن لتعلّق نفس به نفسا موجودة قد بطل بدنها في حال كمال ذلك الاستعداد ، وحين صادف نفسا موجودة مستنسخة فلا يحدث نفس أخرى لانتفاء شرط حدوثها.

والثاني : أن يقال : إنّ ما ذكرتموه وبنيتموه على امتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة إنّما يتمّ إذا كانت هناك علّة تامة مستجمعة لارتفاع جميع الموانع ، ولا نسلّم ذلك فيما نحن فيه ، إذ من الجائز أن تكون مصادفة لنفس موجودة مستنسخة مانعة عن حدوث نفس أخرى ، فلا تحدث لحصول مانع عنها.

٥٠

وأمّا الجواب عن هذا الاعتراض على التقديرين ، فهو أن يقال : إنّ مبنى هذا الاعتراض ، إمّا على أنّ ذلك البدن المستعدّ لحصول نفس له كان مستعدّا لفيضان النفس الحادثة الأخرى والنفس المستنسخة جميعا ، إلّا أنّه سبق فيضان النفس المستنسخة وصادفها فلم تحدث النفس الأخرى.

فيردّ عليه أوّلا أنّه كيف يمكن أن يكون البدن الواحد بالعدد وبالشخص الذي هو علّة قابليّة لحدوث النفس قابلا لتعلّق نفسين متعدّدتين متكثّرتين بالعدد مختلفتين ، ومن المقرّر عندهم وجوب الموافاة بين المعلول وعلّته ، سواء كانت علّة قابليّة أو فاعليّة ، ووجوب مساواتها ومناسبة بينهما وخصوصيّة لكلّ منهما بالنسبة إلى الآخر ، بها يختصّ أحدهما بالآخر ، وأنّه لو كان الواحد بما هو واحد مناسبا للكثير ، لكان الواحد بما هو واحد كثيرا ، والكثير بما هو كثير واحدا وهذا ، باطل بالضرورة. ومنه يظهر وجه آخر لبطلان التناسخ ، إذ على تقدير جواز تعلّق نفس واحدة بأكثر من بدن يلزم هذا المحال أيضا. فتدبّر.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ سبق تعلّق النفس المستنسخة ، إمّا أن يكون بدون أولويّة ورجحان أو مع أولويّة ، وعلى الأوّل فإمّا أن تكون أولويّة في تعلّق النفس الأخرى ، فيلزم ترجّح المرجوح في الواقع ، وهو باطل ، وإمّا أن لا تكون أولويّة فيه أيضا ، بل كان تعلّق النفسين على السواء ، فيلزم الترجيح من غير مرجّح ، وهذا أيضا باطل.

وعلى الثالث ، فيبقى السؤال عن تلك الأولويّة وأنّها ما ذا؟ ومن المعلوم خلافها فيما نحن فيه.

وأمّا أن يكون مبنى هذا الاعتراض على أنّ ذلك البدن المستعدّ لفيضان نفس عليه كان مستعدّا لنفس واحدة بالعدد ، إلّا أنّه سبق فيضان النفس المستنسخة فلم تحدث نفس أخرى.

فيرد عليه أنّه إذا كان مستعدّا لفيضان نفس واحدة ، فكيف لم يتعلّق به تلك النفس الأخرى المفروض كونه مستعدّا لها وتعلّقت به النفس المستنسخة وسبقت ، والحال أنّ استعداده لها غير معلوم ، وكذلك أولويّة تعلّقها به غير معلومة ، بل الأولويّة في خلافه ،

٥١

حيث يلزم على تقديره جواز تعلّق نفس واحدة بالعدد بأكثر من بدن واحد ، وكون الواحد بما هو واحد مناسبا للكثير بما هو كثير ، وقد عرفت بطلانه.

وأمّا أن يكون مبناه على أنّ ذلك البدن لم يكن له استعداد بالقياس إلى نفس ما ، إلّا أنّه صادف نفسا مستنسخة بحسب الاتّفاق فلم تحدث النفس الأخرى ، فهذا مع كونه خلاف ظاهر كلام المعترض أظهر بطلانا ممّا سبق ، كما لا يخفى.

والحاصل أنّ كلام هذا المعترض يحتمل احتمالات كلّها باطلة. فبقي أن يكون ما ذكروا من أنّه عند حصول كمال استعداد البدن لفيضان نفس عليه يجب فيضانها عليه ، وأنّه إذا تعلّقت به النفس المستنسخة أيضا يكون لبدن واحد نفسان حقّا ، وحينئذ يتمّ الحجّتان كما ذكروه. وحيث عرفت ذلك فلنرجع إلى تقرير الحجّتين.

فنقول : أمّا تقرير الحجّة الأولى ، كما يدلّ عليه كلام الشيخ في «الشفاء» مفصّلا وفي «الإشارات» مجملا ، ويدلّ على تفصيله كلام المحقّق الطوسيّ (ره) في شرحه له ، فظاهر لا احتياج إلى بيانها.

وأمّا الحجّة الثانية في «الإشارات» ، فحيث كان كلام الشيخ في ذلك لا يخلو عن اجمال ما اختلف شارحوه في تقريرها ، وقد عرفت ممّا نقلنا من كلام المحقّق الطوسيّ كيفيّة تقريره لها ، وقد قال صاحب «المحاكمات» ، في قول المحقّق الطوسيّ : «والحجّة الثانيّة أن يقال : النفس المستنسخة ... الخ» (١) هكذا قرّر الإمام هذه الحجّة (٢) لو صحّ عليها التناسخ ، فأمّا أن تتعلّق ببدن آخر كما فارقت ، أو تبقى خالية عن التعلّق زمانا ثمّ تتعلّق ببدن آخر.

والأوّل (٣) يلزمه محالان : أحدهما أنّه مهما فسد يجب أن يحدث بدن آخر. والآخر أنّه إذا فارقت نفوس كثيرة يجب أن توجد أبدان على عدد النفوس ، والّا لتعلّق ببدن واحد أكثر من نفس واحدة ، والقسم الثاني باطل ، لأنّها حينئذ تكون معطّلة ولا معطّل في

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ / ٣٥٧.

(٢) في المصدر : بأنّ النفس لو صح ...

(٣) في المصدر : وعلى الأوّل يلزم ...

٥٢

الطبيعة.

وهذا التقرير فيه زيادة ونقصان ، أمّا الزيادة فهي فرض خلوّ النفس عن التعلّق بالبدن ، فلا أثر منها في الكتاب ولا حاجة إليه ، لأنّ إثبات التناسخ مبنيّ على امتناع التعطيل ، وأمّا النقصان ، فلأنّ قوله : «ولا أن يكون عدّة نفوس مفارقة تستحقّ بدنا واحدا فتتّصل به أو تتدافع عنه» (١) يقتضي أن يكون قسما من الأقسام المفروضة في الدليل ، وليس في هذا التقرير منه أثر ، فلهذا زاد الشارح في الأقسام في تقرير الحجّة : «وإنّما ترك بيان استحالة قسم الثاني ، وهو أن يكون اتصال النفس بالبدن الثاني قبل فساد الأوّل لظهوره ممّا يذكر في الأقسام الأخر. فمن البيّن أنّه يلزم منه تعلّق نفس واحدة ببدنين وهو محال» (٢) انتهى.

وقال في قوله : «ويعود المحالات المذكورة» بهذه العبارة : «إشارة إلى ما لزم من اجتماع النفوس على بدن واحد في الأقسام الثلاثة. لكن يرد عليه وجوه من الاعتراض : أحدها على قوله : «وعلى التقدير الثاني يكون النفوس المجتمعة على بدن واحد إمّا متشابهة ، فإنّ اجتماع النفوس على بدن واحد إن لم يستلزم اتّصالها به ، لم يتمّ الخلف ، لأنّه لم يفرضها حينئذ متّصلة ، وإن استلزمه فالترديد إلى التشابه في الاستحقاق والاختلاف ، ثمّ إلى اتّصالها وتدافعها مستقبح غاية الاستقباح».

وثانيها على قوله : «أو يحدث للبعض الآخر نفوس أخر ، ويلزم منه محالان فإنّ عدم الأولويّة ممنوع ، لجواز أن لا يستعدّ بعض الأبدان إلّا لبعض النفوس ، وإلّا لم يجز أن يتعلّق نفس ببدن أصلا لعدم الأولويّة.

وثالثها على قوله : «وأمّا إن اتّصلت النفس المفارقة بعد المفارقة ، فإنّه زيادة لا حاجة إليها كما في تقرير الإمام».

والتقرير المنطبق على المتن كمال الانطباق أن يقال : لو تعلّقت النفوس بالأبدان على سبيل التناسخ ، فإمّا أن يجوز أن يستحقّ نفوس متعدّدة بدنا واحدا أو لا يجوز ، بل يستحقّ

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ / ٣٥٧ ، كما مرّ واما النقصان ...

(٢) شرح الإشارات ٣ / ٣٥٧ ـ ٣٥٨.

٥٣

كلّ نفس بدنا على حدّة ، فإن استحقّ كلّ نفس بدنا ، يلزم أن يكون بإزاء فساد كلّ بدن كون بدن آخر ، وأن يكون عدد الأبدان الكائنة بعدد النفوس المفارقة ، وليس كذلك لأنّه ربّما يموت ألوف ألوف في يوم واحد لقتل أو وباء أو غير ذلك ، ويعلم بالضرورة أنّه لم يحدث من الأبدان ألوف ألوف ، وإن جاز أن يستحقّ نفوس بدنا واحدا ، فإمّا أن تتّصل به فيلزم أن يكون لبدن واحد نفوس وهو محال ، أو تتدافع فلا يتعلّق به فلا تتناسخ وقد فرضناه ، هذا خلف» انتهى كلامه (١).

وأقول : لا يخفى على المتأمّل المنصف أنّ التقرير المنطبق على كلام الشيخ هو ما ذكره صاحب «المحاكمات» دون تقريري الإمام والمحقّق الطوسيّ ، وأنّ إيراده عليهما ظاهر الورود. وأنّ المطلوب ـ وهو إبطال التناسخ ـ يتمّ على كلّ من التقريرات الثلاثة ، وأنّ ما أورده عليهما لا يقدح في تماميّة الحجّة على ذلك ، فلذا لم نتعرّض للتكلّم في دفع ما أورده عليهما ، وإن كان يمكن دفعه بعناية يطول الكلام ببيانها.

نعم ، ربّما أورد بعض المتأخّرين على ما تضمّنه كلام الشيخ من أنّه على القول بالتناسخ على بعض التقديرات ، يلزم أن يتّصل كلّ فناء بكون ، وأن يكون عدد الكائنات من الأبدان عدد ما يفارقها من النفوس ، وإنّه ليس كذلك ، وقد أخذه شارحوه كلّهم في تقريرهم للحجّة ، بأنّه إنّما يلزم ذلك لو كان التعلّق ببدن آخر لازما البتة وعلى الفور ، وأمّا إذا كان جائزا ـ ولو بعد حين ـ فلا ، لجواز أن لا ينتقل نفوس الهالكين الكثيرين أو ينتقل بعد حدوث الأبدان الكثيرة ، وما ذكر من التعطّل مع أنّه لا حجّة على بطلانه ، فليس بلازم ، لأنّ الابتهاج بالكمالات أو التألّم بالجهالات شغل.

وهذا الإيراد مندفع ، يظهر اندفاعه ممّا أشير إليه سابقا. وبيانه أنّ القائلين بالتناسخ ـ كما ذكره المحقّق الطوسيّ وصاحب «المحاكمات» فيما نقلناه عنهما وكذا غيرهما. ـ إنّما قالوا به لأجل امتناع التعطّل ، فكيف يقولون بجوازه؟ مع أنّ القول بجواز التعطّل في الوجود بديهيّ البطلان ، يحكم ببطلانه كلّ ذي فطرة سليمة ، وما ذكره من أنّ الابتهاج

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ / ٣٥٨.

٥٤

بالكمالات أو التألّم بالجهالات شغل ، هو وإن كان كذلك ، إلّا أنّه إنّما يكون في النفوس الكاملة أو المتوسّطة ، لا في النفوس الساذجة أو الناقصة التي كلامنا فيها ، والقائلون بالتناسخ إنّما قالوا به فيها.

وعلى تقدير تسليم كون ذلك الشغل فيها أيضا فنقول : إنّ النفس الإنسانيّة لمّا كانت بدنيّة يجب أن يكون شغلها بشيء في ضمن بدن ما ، حيث إنّ شغلها وإدراكاتها الجزئيّة لا يكون إلّا بآلات جسمانيّة ، فكيف تكون مجرّدة عن البدن رأسا في أفعالها بعد مفارقتها عنه؟ وكيف تكون تارة محتاجة إلى البدن في أفعالها ، وتارة مجرّدة عنه؟ وهل هذا إلّا تهافت؟

برهان آخر على بطلان التناسخ

وحيث عرفت ذلك ، فاعلم أنّه من جملة البراهين الواضحة على هذا المطلب ـ أي بطلان التناسخ ـ ما أشار إليه بعض الأفاضل ، ونحن نذكر تفصيله :

وهو أن يقال : لا شكّ في أنّ النفس المستنسخة التي الكلام في جواز تناسخها قد حصلت لها في ضمن البدن الأوّل فعليّة ما في كمالاتها ، فهي بعد تعلّقها بالبدن الثاني إمّا أن يبقى لها تلك الفعليّة في الجملة ، أو أن تزول عنها رأسا وتصير هي بالقوّة المحضة.

والأوّل خلاف الواقع وخلاف المشاهد المحسوس ، حيث إنّا نعلم يقينا أنّ النفس في أوّل كونها ليس لها تلك الفعليّة في كمالاتها أصلا ، بل إنّها في أوّل حدوثها درجتها درجة الطبيعة ثمّ تترقّى شيئا فشيئا بحسب استكمالات المادّة ، حتّى تتجاوز درجة النبات والحيوان ، وتحصل لها الدرجة الإنسانيّة.

وأيضا على هذا يلزم أن تكون هي تتذكّر شيئا من أحوال البدن الأوّل وأحوال ذاتها في ضمنه ، لأنّ محلّ العلم والتذكّر هو جوهر النفس الباقي بعينه كما كان ، وهذا أيضا خلاف الواقع والمشاهد.

والقول بأنّ التذكّر إنّما يلزم أن لو لم يكن التعلّق بذلك البدن الأوّل شرطا ،

٥٥

والاستغراق في تدبير البدن الآخر مانعا ، وطول العهد منسيا ، لا يخفى أنّه من قبيل الخرافات والأباطيل ، يشهد بذلك أنّه لو كان ما ذكره هذا القائل حقّا ، لكانت النفس في النشأة البرزخيّة والنشأة الأخرويّة لا تتذكّر شيئا من ذلك ، وقد ورد التنزيل وأخبار المخبرين الصادقين عليهم‌السلام بخلافه.

والثاني : أي زوال تلك الفعليّة عنها وصيرورتها بالقوّة بالنسبة إليها محال أيضا ، إذ يلزم أن تكون تلك النفس قد حصلت لها فعليّة ما أوّلا ثمّ ترجع إلى القوّة المحضة والاستعداد الصرف ، أي أن تكون نفس تجاوزت درجة النبات والحيوان فرجعت قهقرى إلى المرتبة المنويّة وإلى مرتبة الجنين ، حيث إنّها في أوّل كونها وتعلّقها بالبدن بالقياس إلى كمالاتها بالقوّة المحضة ، وانقلاب ما بالفعل ـ من حيث هو بالفعل ـ إلى ما بالقوّة المحضة من حيث هو بالقوّة محال بالضرورة. وأمّا التمنّي الذي حكى الله سبحانه عن الأشقياء بقوله : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (١) فهو تمنّي أمر مستحيل. مثل التمنّي الذي حكاه تعالى عنهم بقوله : (نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ). (٢)

وبعبارة أخرى أنّا نعلم يقينا أنّه لا يبقى للنفس المستنسخة تلك الفعليّة ، بل تصير بالقوّة ، وصيرورة الفعليّة قوّة محال بالضرورة. وهذا البرهان على ما قرّرناه لا يخفى على المستبصر المسترشد أنّه برهان واضح تامّ على هذا المطلوب غير مبنيّ على حدوث النفس. وكذا هو كما أنّه جار في إبطال التناسخ جار أيضا في إبطال المسخ والرسخ والفسخ جميعا. بل ربّما يدّعي أنّ جريانه في ذلك أظهر منه فيه باعتبار حيث إنّ بقاء تلك الفعليّة للنفس المستنسخة المنتقلة إلى الجماد مثلا ، بل إلى النبات والحيوان أيضا ظاهر البطلان غاية الظهور ، لا يدّعي خلافه من له أدنى مسكة.

والقول بأنّه ربّما كانت تلك الفعليّة باقية لها في هذه الصور ، وأنّ النفس المستنسخة إلى الجماد أو إلى النبات أو إلى الحيوان ربّما كانت تتذكّر شيئا من أحوالها السابقة ، إلّا أنّا لا نعلم ذلك ولا نفهمه منها ، قول في غاية السقوط ، بل هو هذيان محض ، وكيف تكون

__________________

(١) النبأ (٧٨) : ٤٠.

(٢) الأعراف (٧) : ٥٣.

٥٦

هذه متذكّرة شيئا منها ولا تكون النفس المستنسخة المنتقلة إلى الإنسان الذي هو أكمل منها أو أشرف متذكّرة لشيء منها أصلا؟

بل ربّما يقال : إنّ النفس الإنسانيّة المستنسخة المنتقلة إلى الجماد أو النبات أو الحيوان كما أنّها لا تبقى لها تلك الفعليّة ، لا تكون لها قوّة واستعداد أيضا للإنسانيّة ولو بعيدا ، إلّا أنّه حينئذ لا يكون المحال اللازم على تقدير جواز ذلك صيرورة الفعليّة قوّة ، إذ لا قوّة أيضا على هذا ، بل يكون ذلك المحال انتفاء الفعليّة رأسا من دون انقلاب إلى القوّة أيضا ، وانتفاء الفعليّة رأسا مع كون محلّ تلك الفعليّة ـ وهو جوهر تلك النفس المستنسخة ـ باقيا بعينه ، ومع عدم طروء شيء ينافي تلك الفعليّة من طروء ضدّ ونحو ذلك ، محال قطعا.

وبعبارة أخرى : صيرورة النفس المستنسخة الباقية بعينها نفسا ساذجة محضة بعد أن كانت لها فعليّة ما محال قطعا.

لا يقال : ما ذكرت من عدم طروء المنافي للفعليّة هنا ممنوع ، إذ ربّما كان المنافي لها هو أحد من الأمور التي جعلها بعضهم منافيا للتذكّر ، كما ذكرت آنفا.

لأنّا نقول : قد عرفت أنّ القول به من الخرافات.

دليل آخر

ثمّ إنّه من جملة الدلائل على بطلان التناسخ بالمعنى المتنازع فيه ما ادّعاه بعض علمائنا ـ كما سننقل كلامه في مبحث انتقال الأرواح بعد مفارقتها عن الأبدان إلى الأبدان المثاليّة ـ أنّه انعقد إجماع المسلمين قاطبة على بطلانه ، بل صار بطلانه ضروريّا من الدين. وهذا الادّعاء لو ثبت لكان هذا الدليل من أعظم الدلائل على بطلانه. والله أعلم بالصواب.

ثمّ إنّه بما ذكرنا تمّ الدليل على بطلان التناسخ وأخواته ، فلنرجع إلى صوب المقصد الآخر فنقول :

٥٧

المطلب الثالث

في بيان أحوال النفس الإنسانيّة بعد خراب بدنها

اعلم أنّ هذا المطلب مركّب من مطلبين :

أحدهما : بقاؤها بعد خراب بدنها ، وهذا قد مرّ مستقصى فيما سلف ، حيث أقمنا الدليل العقليّ والنقليّ عليه ، فتذكّر.

والثاني : كيفيّة حالها بعده ، وهذا أيضا وإن سبقت منّا إشارة ما إليه ثمّة في ضمن نقل الأخبار الواردة في بقائها بعده ، إلّا أنّا نزيدك هنا بيانا ، ونقدّم لذلك مقدّمة تتضمّن لذكر ما قالته الحكماء في معنى اللّذة والألم والسعادة والشقاوة ، وكذا لذكر ما قالوه في بيان كيفيّة حال النفس الإنسانيّة بعد مفارقتها عن البدن.

فنقول : قال الشيخ في «الشفاء» في فصل «في المعاد» : «وبالحريّ أن نحقّق هاهنا أحوال الأنفس الإنسانيّة إذا فارقت أبدانها ، وأنّها إلى أيّة حال ستصير؟ فنقول : يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو مقبول من الشرع ولا سبيل إلى إثباته إلّا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوّة ، وهو الآن (١) للبدن عند البعث ، وخيرات البدن وشروره معلومة لا تحتاج إلى أن تعلم ، وقد بسطت الشريعة الحقّة التي آتانا سيّدنا ونبيّنا ومولانا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن.

ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهانيّ ، وقد صدّقته النبوّة ، وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقياس اللتان للأنفس ، وإن كانت الأوهام منّا تقصر عن تصوّرهما

__________________

(١) في المصدر : خبر النبيّ وهو الذي.

٥٨

الآن لما سنوضّح من العلل. والحكماء الإلهيّون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنيّة ، بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك وإن أعطوها ، ولا يستعظمونها في جنب هذه السعادة التي هي مقارنة الحقّ الأوّل. وعلى ما سنصفه عن قريب ، فلنعرف حال هذه السعادة ، والشقاوة المضادّة لها ، فإنّ البدنيّة مفروغ عنها في الشرع.

فنقول : يجب أن يعلم أنّ لكلّ قوّة نفسانيّة لذّة وخيرا يخصّها ، وأذى وشرّا يخصّها. مثاله : أنّ لذّة الشهوة وخيرها أن يتأدّى إليها كيفيّة محسوسة ملائمة من [الحواسّ] الخمسة ، ولذّة الغضب الظفر ، ولذّة الوهم الرجاء ، ولذّة الحفظ تذكّر الأمور الموافقة الماضية ، وأذى كلّ واحد منها ما يضادّه ، ويشترك كلّها نوعا من الشركة في أنّ الشعور بموافقتها وملائمتها هو الخير واللذّة الخاصّة بها ، وموافق كلّ واحد منها بالذات والحقيقة هو حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل ، فهذا أصل.

وأيضا فإنّ هذه اللذّة (١) وإن اشتركت في هذه المعاني ، فإنّ مراتبها بالحقيقة مختلفة ، فالذي كماله أتمّ وأفضل ، والذي كماله أكثر ، والذي كماله أدوم ، والذي كماله أوصل إليه وحصل له ، والذي هو في نفسه أكمل فعلا وأفضل ، والذي هو في نفسه أشدّ إدراكا ، فاللذّة التي له أبلغ وأوفى لا محالة ، وهذا أصل.

وأيضا : فإنّه قد يكون الخروج إلى الفعل في كمال ما بحيث يعلم أنّه كائن ولذيذ ولا يتصوّر كيفيّته ولا يشعر بالتذاذه ، ما لم يحصل وما لم يشعر به لم يشتق إليه لا ينزع نحوه (٢) مثل العنّين ، فإنّه متحقّق أن للجماع لذّة ، ولكن لا يشتهيه ولا يحنّ نحوه الاشتهاء والحنين اللذين يكونان مخصوصين به ، بل بشهوة أخرى ، كما يشتهي من يجرب من حيث يحصل بها إدراك وإن كان موذيا في الجملة فإنّه لا يتخيّله ، وكذلك حال الأكمه عند الصور الجميلة ، والأصمّ عند الألحان المنتظمة ، ولهذا يجب أن لا يتوهّم العاقل أنّ كلّ لذّة فهو كما للحمار في بطنه وفرجه ، وأنّ المبادي الأولى المقرّبة عند ربّ العالمين عادمة اللذّة

__________________

(١) في المصدر : وإنّ هذه القوى.

(٢) في المصدر : ولم ينزع نحوه.

٥٩

والغبطة ، وأنّ ربّ العالمين ليس له في سلطانه وخاصيّته البهاء الذي له ، وقوّته الغير المتناهية أمر في غاية الفضيلة والشرف والطيب كلّه أن نسمّيه لذّة ، ثمّ للحمار والبهائم حالة طيّبة ولذيذة ، كلّا ، بل أيّ نسبة تكون لما للعالية إلى هذه الخسيسة؟ ولكنّا نتخيّل هذا أو نشاهده ولم نعرف ذلك بالاستشعار ، بل بالقياس ، فحالنا عنده كحال الأصمّ الذي لم يسمع قطّ في عدم تخيّل اللذّة اللحنيّة وهو متيقّن بطيبها ، وهذا أصل.

وأيضا فإنّ الكمال والأمر الملائم قد يتيسّر للقوّة الدرّاكة ، وهناك مانع أو شاغل للنفس فتكرهه وتؤثر ضدّه عليه ، مثل كراهيّة بعض المرضى للطعم الحلو ، وشهوتهم للطعوم الرديّة الكريهة بالذات ، وربّما لم يكن كراهية ولكن كان عدم الاستلذاذ به كالخائف يجد الغلبة أو اللذّة فلا يشعر بها ولا يستلذّها ، وهذا أصل.

وأيضا : فإنّه قد تكون القوّة الدرّاكة ممنوّة بضدّ ما هو كمال لها ولا تحسّ به ولا تنفر عنه ، حتّى إذا زال العائق ورجعت إلى غريزتها تأدّت به ، مثل الممرور فربّما لم يحسّ لمرارة فمه ، إلى أن يصلح مزاجه ويستنقى أعضاؤه ، فحينئذ تنفر عن الحالة العارضة له ، وكذلك قد يكون الحيوان غير مشته للغذاء البتة ، بل كارها له ، وهو أوفق شيء له ويبقى عليه مدّة طويلة ، فإذا زال العائق عاد إلى واجبته في طبعه ، فاشتدّ جوعه وشهوته للغذاء ، حتّى لا يصبر عنه ويهلك عند فقدانه ، وقد يحصل سبب الألم العظيم ، مثل إحراق النار وتبريد الزمهرير ، إلّا أنّ الحسّ مئوف فلا يتأذّى البدن به حتّى تزول الآفة فيحسّ حينئذ بالألم العظيم.

فإذا تقرّر هذه الأصول فيجب أن ننصرف إلى الغرض الذي نؤمّه.

فنقول : إنّ النفس الناطقة كمالها الخاصّ بها أن تصير عالما عقليّا مرتسما فيها صور الكلّ والنظام المعقول في الكلّ والخير الفائض في الكلّ مبتدئا من مبدأ الكلّ وسالكا إلى الجواهر الشريفة الروحانيّة المطلقة ، ثمّ الروحانيّة المتعلّقة نوعا من التعلّق بالأبدان ، ثمّ الأجسام المعلومة بهيئاتها وقواها (١) ، ثمّ كذلك حتّى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كلّه

__________________

(١) في المصدر : بهيئاتها وقوامها.

٦٠