منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-609-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٢٩٢

وأمّا كلامه في تفسير الآية الثالثة فهكذا : «وعن ابن عبّاس والحسن أنّ الضّمير ، أي الضّمير في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) للعباد ، واختاره المرتضى قدس‌سره ، قال : علّل تعليقه سبحانه وراثة الكتاب بالمصطفين من عباده ، بأنّ فيهم من هو ظالم لنفسه ، ومن هو مقتصد ، ومن هو سابق بالخيرات.

وقيل : إنّ الضمير للذين اصطفاهم وروي عن الصّادق عليه‌السلام ، أنّه قال : الظّالم لنفسه منّا من لا يعرف حقّ الإمام ، والمقتصد منّا العارف بحقّ الإمام ، والسابق بالخيرات هو الإمام ، وكلّهم مغفور لهم (١) ، انتهى.

وقد روى الشيخ الكلينيّ في كتاب «الإيمان والكفر» من كتاب «الكافي» في باب «الكبائر» عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام حديثا تضمّن أنّ الناس على ثلاث طبقات : أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون ، وأنّ السابقين فهم الأنبياء مرسلين وغير مرسلين ، وأنّ أصحاب الميمنة هم المؤمنون حقّا ، وأنّ أصحاب المشأمة هم اليهود والنصارى.

وروى أيضا في ذلك الكتاب في باب «أصناف الناس» عن حمزة بن الطيّار ، أنّه قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : الناس على ستّة أصناف. قال ، قلت : أتأذن لي أن أكتبها؟ قال نعم ، قلت : ما أكتب؟ قال : اكتب : أهل الوعيد من أهل الجنّة وأهل النّار. واكتب : وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا. قال ، قلت : من هؤلاء؟ قال : وحشيّ (٢) منهم.

قال واكتب : وآخرون مرجون لأمر الله إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم ، قال : اكتب : إلّا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، لا يستطيعون حيلة إلى الكفر ولا يهتدون سبيلا إلى الإيمان ، فاولئك عسى الله أن يعفو عنهم.

قال : واكتب : أصحاب الأعراف. قال ، قلت : وما أصحاب الأعراف؟ قال : قوم استوت

__________________

(١) أنظر الكافي ٢ / ٢٨١ ـ ٢٨٤ ؛ الجوامع ذيل الآية.

(٢) قاتل حمزة بن عبد المطّلب.

٢٦١

حسناتهم وسيّئاتهم ، فإن أدخلهم الله النار فبذنوبهم ، وإن أدخلهم الجنّة فبرحمته. (١)

وعن حمزة بن الطيّار أيضا ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : الناس على ستّ فرق ويؤولون كلّهم إلى ثلاث فرق : الإيمان ، والكفر والضّلال ، وهم أهل الوعيد الذين وعدهم الله الجنّة والنار : المؤمنون ، والكافرون ، والمستضعفون ، والمرجون لأمر الله إمّا يعذّبهم ، وإمّا يتوب عليهم. والمعترفون بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وأهل الأعراف. (٢)

وقد روى أيضا في ذلك الكتاب في باب «الضلال» عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، حديثا يتضمّن أنّه قال : فقلت : فقد قال الله عزوجل : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) (٣) لا والله لا يكون أحد من الناس ليس بمؤمن ولا كافر. قال : فقال أبو جعفر عليه‌السلام : قول الله أصدق من قولك يا زرارة ، أرأيت قول الله عزوجل : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) (٤) فلما قال عسى؟ فقلت : ما هم إلّا مؤمنين أو كافرين. قال ، فقال : فما تقول في قوله عزوجل (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) إلى الإيمان»؟ فقلت : ما هم إلّا مؤمنين أو كافرين. ثمّ أقبل عليّ ، فقال : ما تقول في أصحاب الأعراف؟ فقلت : ما هم إلّا مؤمنين أو كافرين ، إن دخلوا الجنّة فهم مؤمنون ، وإن دخلوا النار فهم كافرون. فقال : والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين ، لو كانوا مؤمنين لدخلوا الجنّة كما دخلها المؤمنون ، ولو كانوا كافرين لدخلوا النّار كما دخلها الكافرون ، لكنّهم قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم فقصرت بهم الأعمال ، وإنّهم لكما قال الله عزوجل. فقلت : أمن أهل الجنّة هم أم من أهل النار؟ فقال : اتركهم حيث تركهم الله. قلت : أفترجئهم؟ قال : نعم كما أرجأهم الله ، إن شاء أدخلهم الجنّة برحمته ، وإن شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم ولم يظلمهم. فقلت : هل يدخل الجنّة كافر؟ قال : لا. قلت : فهل يدخل النار إلّا كافر؟ قال : فقال : لا ، إلّا أن يشاء الله. يا زرارة إنّني أقول ما شاء

__________________

(١) الكافي ٢ / ٣٨١ وفيه : فإن أدخلهم النار.

(٢) الكافي ٢ / ٣٨١ ـ ٣٨٢.

(٣) التغابن (٦٤) : ٢.

(٤) التوبة (٩) : ١٠٢.

٢٦٢

الله ، وأنت لا تقول ما شاء الله ، أما إنّك إن كبرت رجعت وتحلّلت عندك عقدك (١).

وروى أيضا في باب «المستضعف» عن زرارة ، قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن المستضعف ، فقال : هو الذي لا يهتدي حيلة إلى الكفر فيكفر ، ولا يهتدي سبيلا إلى الإيمان ، لا يستطيع أن يؤمن ولا يستطيع أن يكفر ، فهم الصبيان ومن كان من الرجال والنّساء على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم.

وعنه ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن المستضعف ، فقال : هو الذي لا يستطيع حيلة يدفع بها عنه الكفر ، ولا يهتدي بها إلى سبيل الإيمان ، لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر ، قال : والصبيان ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصّبيان. (٢)

وعن عمر بن أبان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المستضعفين ، فقال : هم أهل الولاية. فقلت : أيّ ولاية؟ فقال : أما إنّها ليست بالولاية في الدّين ، ولكنّها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة ، وهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفّار ، ومنهم المرجون لأمر الله. (٣)

وعن أبي بصير ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف.

وعن عليّ بن سويد ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الضعفاء ، فكتب إليّ : الضعيف من لم ترفع إليه حجّة ، ولم يعرف الاختلاف ، فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف. (٤)

وروى فيه أيضا في باب «المرجون لأمر الله» عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، في قول

__________________

(١) انظر : الكافي ٢ / ٤٠٢ ـ ٤٠٣.

(٢) الكافي ٢ / ٤٠٤ ، أمّا حديث أبي جعفر عليه‌السلام ، هكذا : عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : المستضعفون الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا قال : لا يستطيعون حيلة إلى الإيمان ، ولا يكفرون الصبيان وأشباه عقول الصبيان من الرجال والنساء.

(٣) الكافي ٢ / ٤٠٥ و ٤٠٦.

(٤) نفس المصدر.

٢٦٣

الله عزوجل : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) (١) قال : قوم كانوا مشركين ، فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين ، ثمّ إنّهم دخلوا في الإسلام فوحّدوا الله وتركوا الشرك ، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنّة ، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النّار ، فهم على تلك الحال إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم (٢).

وروى أيضا فيه في باب «أصحاب الأعراف» عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام مثل الحديث السابق في بيان حال أصحاب الأعراف.

وروى عن رجل قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا» فاولئك قوم مؤمنون يحدثون في إيمانهم من الذنوب التي يعيبها المؤمنون ويكرهونها ، فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم (٣) ، انتهى.

وقال الشيخ الصدوق ابن بابويه رحمه‌الله في «الفقيه» في باب «حال من يموت من أطفال المؤمنين» : «روى أبو زكريّا عن أبي بصير ، قال : قال : ابو عبد الله عليه‌السلام إذا مات طفل من أطفال المؤمنين نادى مناد في ملكوت السماوات والأرض : ألا إنّ فلان بن فلان قد مات ، فإن كان قد مات والداه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين ، دفع إليه يغذوه ، وإلّا دفع إلى فاطمة عليها‌السلام تغذوه حتّى يقدم أبواه أو أحدهما أو بعض أهل بيته فتدفعه إليه. (٤)

وفي رواية حسن بن محبوب ، عن عليّ بن رئاب عن الحلبيّ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : إنّ الله تبارك وتعالى يدفع إلى إبراهيم وسارة أطفال المؤمنين يغذونهم بشجر في الجنّة لها أخلاف كأخلاف البقر (٥) ، في قصر من درّ ، فإذا كان يوم القيامة ألبسوا وطيّبوا وأهدوا إلى آبائهم ، فهم ملوك في الجنّة مع آبائهم ، وهو قول الله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (٦).

__________________

(١) التوبة (٩) : ١٠٦.

(٢) الكافي ٢ / ٤٠٧.

(٣) الكافي ٢ / ٤٠٨.

(٤) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٤٩٠.

(٥) الأخلاف جمع خلف : الثدي.

(٦) الطور (٥٢) : ٢٢ ؛ من لا يحضره الفقيه ٣ / ٤٩٠ ، وفي لفظه : كفّل ابراهيم ...

٢٦٤

وفي رواية أبي بكر الحضرميّ ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) قال ، قصرت الأبناء عن أعمال الآباء ، فألحق الأبناء بالآباء لتقرّ بذلك أعينهم». (١)

وسأل جميل بن درّاج أبا عبد الله عليه‌السلام عن أطفال الأنبياء عليه‌السلام ، فقال : ليسوا كأطفال النّاس.

وسأله عن ابراهيم بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو بقي كان صدّيقا نبيّا؟ قال : لو بقي كان على منهاج أبيه عليه‌السلام (٢).

وقال فيه في باب «حال من يموت من أطفال المشركين والكفّار» : روى وهب بن وهب ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه عليهما‌السلام ، قال ، قال عليّ عليه‌السلام : أولاد المشركين مع آبائهم في النّار ، وأولاد المسلمين مع آبائهم في الجنّة (٣).

وروى جعفر بن بشير عن عبد الله بن سنان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أولاد المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث ، قال : كفّار ، والله أعلم بما كانوا عاملين ، يدخلون مداخل آبائهم.

وقال عليّ عليه‌السلام : يؤجّج لهم نار ، فيقال لهم : ادخلوها ، فإن دخلوها كانت عليهم بردا وسلاما ، وإن أبوا قال الله عزوجل لهم : هو ذا أنا قد أمرتكم فعصيتموني ، فيأمر الله عزوجل بهم إلى النار. (٤)

وفي رواية حريز عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا كان يوم القيمة احتجّ الله عزوجل على سبعة : على الطفل ، والذي مات بين النبيّين ، والشيخ الكبير الذي أدرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو لا يعقل ، والأبله ، والمجنون الذي لا يعقل ، والأصمّ ، والأبكم ، كلّ واحد منهم يحتجّ على الله عزوجل. قال : فيبعث الله عزوجل إليهم رسولا فيؤجّج لهم نارا ،

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٤٩٠ ، وفي لفظه : واتبعتهم ذريتهم ... ذريّتهم فألحق الله.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٤٩٠.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٤٩١.

(٤) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٤٩٢ ؛ (غلام لم يدرك الحنث : لم يجر عليه القلم).

٢٦٥

فيقول : إنّ ربّكم يأمركم أن تثبوا فيها ، فمن وثب فيها كانت عليه بردا وسلاما ، ومن عصى سيق إلى النّار (١) ، انتهى.

وأقول : وأنت بعد تدبّرك فيما نقلنا من الآيات والأخبار يظهر لك بيان أصناف الناس وبيان أحوالهم في القيامة.

أمّا بيان الأحوال فظاهر ، حيث إنّ تلك الآيات والأخبار المنقولة على حالة كلّ صنف من تلك الأصناف المذكورة ، وإنّ مآلهم ومرجعهم يوم القيمة إلى ما ذا؟ وإن كانت حالاتهم ولا سيّما حالات أهل الوعد والوعيد ، من أهل الجنّة والنّار ودرجاتهم ودركاتهم مختلفة ومتفاوتة بحسب تفاوت مراتبهم ، كما دلّ عليه آيات وأخبار غير ما نقلنا.

وأمّا بيان الأصناف ، فلأنّ ما نقلنا من حديثي حمزة بن الطيّار يدلّ على أنّ جميع الناس على ستّة أصناف : صنفان منها أهل الوعد والوعيد من أهل الجنّة والنار ، والأصناف الأربعة الباقية هم الباقية من الناس كما فصّله عليه‌السلام في ذينك الحديثين. والحديث الثاني منهما يدلّ على أنّ تلك الأصناف الستّة بأجمعهم تؤول باعتبار إلى ثلاثة أصناف : أهل الإيمان وأهل الكفر ، اللذين هما من أصحاب الجنّة والنار ، وأهل الضلال الذين ينقسمون إلى تلك الأصناف الأربعة الباقية. وكأنّ مبناه ـ والله أعلم ـ على أنّ بين الإيمان والكفر منزلة ومرتبة كما هو رأي بعض المتكلّمين. ودلّ عليه حديثا زرارة وحديث عمر بن أبان.

وتلك المرتبة المتوسّطة تسمّى بالضلال ، حيث إنّ أهل هذه المرتبة لا يستطيعون حيلة إلى الكفر ولا يهتدون سبيلا إلى الإيمان ، فليسوا بالمؤمنين ولا بالكافرين ، بل هم من أهل الضّلال ، إذ لم يهتدوا سبيلا إلى الإيمان ، وعدم الاهتداء إليه ضلال. وهذا كأنّه مبنيّ على أنّ معنى الإيمان هو التّصديق بالقلب ، والإقرار باللّسان جميعا كما عرّفه به بعض المحقّقين ، وقال : إنّه لا يكفي التصديق بالقلب وحده لقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (٢) حيث سمّاهم الله تعالى جاحدين أي كافرين ، مع إثبات التّصديق القلبيّ لهم. وكذا لا يكفي الإقرار باللّسان وحده ، لقوله تعالى (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٤٩٢.

(٢) النمل (٢٧) : ١٤.

٢٦٦

تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (١) ولقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٢) حيث إنّه تعالى في هاتين الآيتين أثبت لهم الإقرار باللّسان ، ونفى عنهم الإيمان ، فإنّه على هذا التقدير ـ أي أن يكون معنى الإيمان هو مجموع التصديق بالقلب والإقرار باللّسان ـ يظهر كون أهل تلك المنزلة غير مؤمنين ، وكذا هو مبنيّ على أن يكون معنى الكفر المقابل للإيمان أمرا وجوديّا مضادّا للإيمان هو التكذيب.

فإنّه على هذا التقدير يظهر كون أهل تلك المنزلة غير كفّار أيضا. لا أن يكون معناه أمرا عدميّا هو عدم الإيمان عمّا من شأنه ذلك كما عرّفه به بعض المتكلّمين ، فإنّه على هذا التّقدير يصدق على كثير من الأصناف الأربعة الذين هم أهل تلك المنزلة اسم الكافر ، والحال أنّه نفي عنهم في تلك الأحاديث المذكورة اسم الكافر.

وبالجملة ، فهذه الأصناف الثلاثة التي تؤول إليها تلك الأصناف الستّة كما ذكر في ذلك الحديث ، ليست هي تلك الأصناف الثلاثة المذكورة في تلك الآيات الثلاثة المتقدّمة ، بل المذكور في تلك الآيات إنّما هو بيان صنفين من تلك الأصناف الستّة أو الثلاثة ، وذانك الصنفان إنّما هما أهل الوعد والوعيد من أهل الجنّة والنّار. وقد قسّما إلى الأزواج الثلاثة والأصناف الثلاثة أيضا ، أي أنّه قسّم صنف المؤمنين إلى صنفين ، أمّا في الآية الأولى فقد قسّما إلى السابقين وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة.

وأمّا في الآية الثانية فإلى المقرّبين وأصحاب اليمين والمكذّبين الضالّين ، وأمّا في الآية الثالثة فإلى السابق بالخيرات والظالم لنفسه ، والمقتصد ، بناء على أن يكون الضمير في قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) راجعا إلى قوله : (عِبادِنا) ، أو إلى قوله : (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) ، وأريد بهم مطلق أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا الحديث المرويّ عن الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية ، فهو إن كان مبناه على إرجاع الضمير إلى أحد المذكورين ، لكن مع بيان معنى تلك الأصناف الثلاثة من جملة ذريّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته ، فهذا يرجع إلى السابق أيضا ، حيث إنّ فيه أيضا تقسيما لمطلق

__________________

(١) الحجرات (٤٩) : ١٤.

(٢) البقرة (٢) : ٨.

٢٦٧

المؤمنين والكافرين إلى تلك الأصناف الثلاثة مع بيان معنى تلك الأصناف في آل محمّد بحيث يشمل المعصومين منهم وغير المعصومين.

وإن كان مبناه على إرجاع الضمير إلى (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) وإرادة خصوص آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ، فهو يكون تقسيما لخصوصهم إلى تلك الأصناف الثلاثة وبيان معناها فيهم ، لا تقسيما لمطلق المؤمنين والكافرين.

وبالجملة ، فالمستفاد من تلك الآيات الثلاث ، أي الآيتين الأوليين مطلقا والآية الثالثة على التقديرين الأوّلين ، أنّ المراد بالسابقين الذين وصفوا بالمقرّبين في الآية الأولى هم المقرّبون في الآية الثانية ، والسابق بالخيرات في الآية الثالثة.

وكذا المراد بأصحاب الميمنة في الآية الأولى على كلّ معنى من المعاني التي ذكرها المفسّرون لهم أصحاب اليمين في الآية الثانية ، والمقتصد بالخيرات في الآية الثالثة.

وكذا المراد بأصحاب المشأمة في الآية الأولى ـ بأيّ معنى أريد بهم ـ المكذّبون الضالّون في الآية الثانية ، والظالم لنفسه في الآية الثالثة.

وكذلك المستفاد من حديث أصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، من أنّ السابقين هم الأنبياء مرسلين وغير مرسلين ، وأنّ اصحاب الميمنة هم المؤمنون حقّا ، وأنّ أصحاب المشأمة هم اليهود والنصارى ، أنّه تفسير لما ذكر في الآيات الثلاث ، حيث يظهر منه أنّ السابقين المقرّبين الذين هم السابقون في الخيرات هم الذين يكونون متبوعين في الخيرات والسّبق إليها ، وأنّهم هم الأنبياء مرسلين أو غير مرسلين ، بل الأوصياء أيضا في كلّ أمّة فإنّهم أيضا متبوعون بالقياس إلى سائر الأمّة ، وأنّ أصحاب الميمنة وأصحاب اليمين والمقتصدين هم المؤمنون حقّا الذين كانوا تابعين للأنبياء والأوصياء عليه‌السلام فيما جاءوا به مطيعين لهم ، وأنّ أصحاب المشأمة والمكذّبين لمتبوعيهم والضالّين عن الصراط السّويّ غير المطيعين لهم فيما أمروا به ونهوا عنه ، هم اليهود والنصارى ، حيث إنّهم كانوا كذلك ، وكأنّ ذكر خصوص اليهود والنصارى على سبيل المثال ، والمراد مطلق المكذّبين الضالّين ، سواء كانوا هم اليهود والنصارى أم غيرهم ، وسواء كانوا من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أم من أمّة موسى وعيسى على نبيّنا وعليهما‌السلام ، أو من الأمم السابقة.

٢٦٨

وحيث عرفت ذلك ، ظهر لك بيان تقسيم أهل الوعد والوعيد من أهل الجنّة والنار إلى تلك الأزواج الثلاثة والأصناف الثلاثة ، وبيان المراد من تلك الأصناف.

وظهر لك أنّ ما ذكره صاحب الكشّاف بقوله : «وقيل الناس ثلاثة ، فرجل ابتكر الخير» الخ ، يمكن حمله على ما ذكر ، حيث إنّه يمكن أن يحمل الرّجل الذي ابتكر الخير في حداثة سنّه ثمّ داوم عليه حتّى خرج من الدّنيا على من كان معصوما من الذنوب ، ولا خفاء في أنّه هو النّبيّ أو وصيّه السابق إلى الخيرات وإلى ما دعاه الله تعالى المقرّب عنده تعالى ، وكذا يمكن أن يحمل الرجل الذي ابتكر عمره بالذّنب وطول الغفلة ، ثمّ تراجع بتوبة على الذي آمن بنبيّه وبوصيّ نبيّه ، إلّا أنّه عمل عملا غير صالح لغفلته ولما دعاه إليه هواه ، ثمّ أدركته التوبة وخرج بذلك عن الضّلال ككثير من أمم الأنبياء عليه‌السلام. وأن يحمل الرجل الذي ابتكر الشرّ في حداثة سنّه ثمّ لم يزل عليه حتّى خرج من الدنيا على الذي كان مكذّبا لنبيّه ووصيّ نبيّه ، ضالّا عن طريق الهدى حتّى خرج من الدنيا.

وكذلك يمكن أن يحمل على ما ذكر ما يظهر من كلام بعضهم في وجه تقسيم أهل الجنّة والنّار إلى تلك الأزواج الثلاثة ، حيث قال : إنّ الإنسان إمّا كامل في علمه وعمله جميعا فهو السّابق المقرّب ، وإمّا كامل في أحدهما ناقص في الآخر فهو من أصحاب اليمين ، وإمّا ناقص في كليهما جميعا فهو من أصحاب الشمال. إلّا أنّه ينبغي حمل كمال العلم أو العمل لأصحاب اليمين على ما كان أدون من كمال العلم أو العمل للمقرّبين. وهذا الذي ذكرناه إنّما هو بيان تقسيم أهل الجنّة والنّار إلى الأقسام الثلاثة.

وأمّا بيان تقسيم غيرهم إلى الأقسام الأربعة الباقية ، فيظهر ممّا ذكرنا من الأحاديث الدالّة عليه مع تعريف كلّ صنف منها ، فلا نطيل الكلام بشرحه.

ثمّ إنّه لبعض الفضلاء المعاصرين (١) كلام في ذكر أصناف الأمم وتفصيل عواقب أحوالهم ، لا بأس بنقله.

قال : اعلم أنّ النّاس أوّلا قسمان :

__________________

(١) هو الميرزا حسن القمّيّ رحمه‌الله منه. هو ابن الفياض اللاهيجيّ وصاحب شمع اليقين والمدفون بقم المقدّسة.

٢٦٩

أحدهما من له صحّة ما من العقل والتمييز ، حيث يميّز تمييزا ما بين الحسن والقبيح ، ويعلم الخير من الشرّ ، ويفرّق بين المدح والذمّ ، ويدرك الثواب والعقاب ، فهؤلاء أصحاب التكاليف العقليّة والشرعيّة وما يترتّب عليها من المدائح والمذامّ والمثوبات والعقوبات ، وإن اختلفت درجاتهم في العواقب حسب اختلافهم في المراتب.

وثانيهما من لا يفرّق بين الخير والشرّ ، ولا يعرف البرّ من الهرّ ، كالأطفال والمجانين والبله ، فهم مثل سائر أنواع الحيوان إن فعلوا خيرا فباتّفاق أو تأديب ، وإن انتهوا من شرّ فببخت أو ترهيب ، ليس لهم همّة إلّا ما استدعته قواهم الحيوانيّة ، ولا وجهة إلّا ما اقتضته طبائعهم الجسمانيّة من المآكل والمشارب والملاهي والملاعب ، فقد سقط التكليف عن هؤلاء القوم ، ولا ينبغي لهم مدح ولا لوم وهم يسمّون بالمستضعفين.

فأمّا المكلّفون ، فينقسمون أوّلا أزواجا ثلاثة : السّابقون ، وأصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، لأنّهم إن آمنوا بالله وحده لا شريك له وبأنبيائه وخلفائه عليه‌السلام ، ومع هذا هم من أهل العقول الشريفة والأفهام المنيفة ، وقد حصّلوا طرفا من العلوم الحقّة وتحصّلوا لطائفة من المعارف اليقينيّة ، كلّ على قدر ما في إمكانه ويليق بشأنه ، ومع هذا قد تجمّلوا بمكارم الأخلاق الجميلة ، وتحلّوا بحليّ الأفعال النّبيلة ، وتزيّنوا بزيّ التّقوى من المعاصي والخصال الرّذيلة ، بحيث قد خلصوا من آثار الطبيعة بالكليّة ، فأولئك المقرّبون السّابقون إلى أعلى درجات الجنّة ، المكرّمون من الله تعالى بالرّوح والرّضوان.

وإن آمنوا وأحسنوا وتجمّلوا بالأعمال الصّالحة الفاضلة ، وتخلّقوا بمحاسن الأخلاق العادلة المتوسّطة بين الأطراف ، اللائقة بجمال الأشراف ، إلّا أنّهم لم يبلغوا في العقل والعمل درجات الأوّلين ، فأولئك أصحاب اليمين.

وإن كفروا وأنكروا وجحدوا وألحدوا وأشربوا في قلوبهم حبّ الدنيا واتخذوا إلههم متابعة الهوى ، وركبوا في مهوى الجهالة ، وتاهوا في بيداء الضّلالة ، وأخلدوا في مصارع الدّناءة والسّفال ، فأولئك أصحاب الشّمال.

فهؤلاء أصول الأزواج. ثمّ يمتزج هذه بعضها مع بعض ، فيحصل أزواج أخرى. وذلك أنّ الذين آمنوا وأصلحوا قد يكون منهم عدول في العلم والعمل عن حدود الأوساط ، إمّا

٢٧٠

بتفريط أو إفراط ، فإن كان ذلك على وجه مكابرة لأمر الله تعالى وجحود للحقّ فهؤلاء يلحقون بالكافرين ، لامتناع اجتماع الإذعان بالشّيء والجحود له. وإن لم يكن على وجه المكابرة والجحود ، بل إنّما هو من غلبة نفسه الأمّارة بالسوء وسلطان الشيطان الرجيم ، فإن غلبت حسناتهم سيّئاتهم ، بأن تكون أكثر منها وأفضل فتستولي عليها وتضمحلّ هي فيها محتها وأبطلتها ، لأنّ الحسنات يذهبن السيّئات ، أو بأنّ تركوا السيّئات بعد ذلك وذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ولم يصرّوا على ما فعلوا ، فأولئك يبدّل الله سيّئاتهم حسنات ، لأنّ التوبة والإنابة تنفّر منها وفرار وتباعد ، وقد تقدّم ـ فيما تقدّم ـ أنّ البعد من أحد المتقابلين ، لا يكون إلّا بالقرب من الآخر ، فمن هجر من الشّيطان والعصيان والنيران ، فقد تقرّب إلى الرحمن والرضوان والجنان ، فهذان الفريقان يلحقان بالمؤمنين المخلصين.

أو بأن اعترفوا بذنوبهم واستحيوا من الله تعالى لتقصيرهم ، وإن لم يكونوا تابوا بعد ، فهؤلاء أيضا قريب من السّابقين ، عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ، لأنّ الاعتراف بالذّنب والحياء لا يكون إلّا عن ندامة وأسف ، فلا يبعد أن يقوم مقام التوبة.

وإن غلبت سيّئاتهم حسناتهم بأحد الوجوه الثلاثة ، فهؤلاء مرجون لأمر الله إمّا يعذّبهم ، إن كان إيمانهم في غاية الضّعف ، بحيث تتأثّر نفوسهم من كلّ سيّئة وتهوى إليها وتلصق بها ، كالثّوب الخشن الذي يسرع إليه الدّرن ، وينفذ فيه الوسخ فيتقذّر سريعا.

أو كان إيمانهم قويّا إلّا أنّهم أصرّوا على السيّئات فرسخت بهم واشتدّ لصوقها بهم ، كمرآة صقيلة وقعت في طين مدّة طويلة ، فصدأت جدّا ، فهذان ـ لا محالة ـ محتاجان إلى تطهير شديد ومبالغة في التّغسيل والتصقيل بقدر الرسوخ ، وشدّة اللصوق ، وإمّا يتوب عليهم إن لم يكن الضعف ولا الرّسوخ بتلك المرتبة ، فيطهر بأدنى عناية في الغسل والمسح.

وبالجملة ، فهؤلاء ينجون آخرا لا محالة ، وإن تعذّبوا مدّة فيلحقون بالّذين غلبت حسناتهم ، لأنّ أصل الإيمان حسنة تغلب كلّ سيّئة ، لأنّ الاعتقاد يتعلّق بجوهر الرّوح والقلب ، والأخلاق والأفعال أشياء تلحق من خارج.

ويلحق بالمرجئين قوم من أهل العقول وحّدوا الله وخلعوا عبادة من يعبد من دونه ،

٢٧١

لكنّهم في النبوّة أو في شيء من سائر الأصول على شكّ ، لا ينكرونه فيكونوا كافرين ، ولا يذعنوا له فيكونوا مؤمنين. إمّا بسبب شبهة عرضتهم ، كأكثر عوامّ المخالفين وضعفائهم. وإمّا لأنّ الدّعوة لم تبلغهم كقوم في أقاصي البلاد ، أو بلغتهم لكنّهم ليسوا من أولي الألباب المستقلّة في الهدى ، ولا يستطيعون الخروج إلى من يميّز لهم الحقّ من الرّدي ، كأكثر نسائهم وقصرائهم.

فهؤلاء إن كانوا بحيث لو أزيل عنهم الشّبهة ووصلوا إلى الحقّ آمنوا به ، فهم ممّن يدركهم النجاة ويكونون مع المؤمنين ، وإن كانوا حينئذ جحدوا الحقّ وأنكروه ، فممّن تخلّد في السجن ، وهؤلاء من حيث إبهام مآلهم يلحقون بالمؤمنين ، ومن حيث ضعف أحوالهم بالمستضعفين.

ويقرب من حال هؤلاء حال كثير من أهل الكفر والضّلال أيضا ، الذين وإن كانوا بالفعل منكرين ، إلّا أنّ ذلك ليس بعناد لهم وجحود في قلوبهم ، بل إنّما هو لاقتدائهم بقومهم وآبائهم والتباس الحقّ عليهم ، وضعفهم أو ضعف عقولهم من الاجتهاد في بلوغه ، فأمرهم أيضا موقوف حتّى يميّز الله الخبيث من الطيّب.

وإن تساوت حسناتهم وسيّئاتهم فهم أصحاب الأعراف ، وهو السّور الذي بين الجنّة والنار ، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، فأوّلا يترجّح لهم أحد الطرفين فلا محالة يترجّحون في الحدّ المشترك بينهما حتّى إن حصل لأحدهما رجحان من عفو وشفاعة أو سخط أو براءة يلحقون بأهله.

وأمّا غير المكلّفين المستضعفين من الرجال والنساء والولدان فهؤلاء أيضا إن كانوا بحيث لو قوّوا وبلغوا التكليف آمنوا وأطاعوا ، فلهم في عالم البرزخ المتوسّط بين هذه النشأة الدنيا الخسيسة والنشأة العليا العقليّة ترقّيات في العقل والفهم كترقّي الصبيان في ذلك بحسب ترقّيهم في أبدانهم ونموّ أجسامهم يوما فيوما ، وإن لم يبلغوا بعد حدّ عقول الرجال واكتساب العلوم ، حتّى إذا كانت القيامة ، وامتاز الأخيار من الأشرار ، التحقوا في الجنّة بعشيرتهم وآبائهم من الأبرار ، وإن لم يكونوا يؤمنون بعد ذلك أيضا ، فيلحقون لا محالة بأشباههم وإن لم يشاركوهم في عذابهم.

٢٧٢

وورد في الأخبار عن أهل البيت الأخيار صلوات الله عليهم اختلاف في أحوال هؤلاء ، ليس هنا مقام ذكرها ، ولعلّها تؤول إلى هذا» انتهى كلامه رحمه‌الله.

وأقول : لا يخفى عليك أنّ هذا الفاضل ، وإن بذل مجهوده في تفصيل أصناف الأمم وحصرها وبيان حال كلّ قسم وصنف ، إلّا أنّ في بعض ما ذكره تأمّلا ونظرا ، كما يظهر ذلك على من تأمّل ونظر في الأخبار الواردة في هذا المطلب. والله أعلم بحقيقة الحال ، وإليه المرجع والمآل.

في بيان خلود أهل الجنّة في الجنّة وأهل النّار في النّار

ثمّ إنّه لا يخفى عليك أنّه قد ورد في الشرع آيات كثيرة وأخبار عديدة دالّة على خلود أهل الجنّة في الجنّة ، وأنّ الجنّة ولذّاتها وخيراتها دائمة بأهلها ، وكذا على خلود أهل النار في النّار ، وأنّ الجحيم وآلامها وشرورها دائمة بأهلها. ولا خلاف أيضا بين المسلمين في الأوّل ، وإن وقع الخلاف بينهم في الثّاني.

قال المحقّق الطوسيّ رحمه‌الله في التجريد : «والكافر مخلّد ، وعذاب صاحب الكبيرة منقطع لاستحقاق الثواب بإيمانه ولقبحه عند العقلاء ، والسمعيّات متأوّلة ، ودوام العقاب مختصّ بالكافر». (١)

وقال الشارح القوشجيّ في شرحه : «اتّفق المسلمون على أنّ عذاب الكفّار المعاندين دائم لا ينقطع ، والكافر المبالغ في الاجتهاد الذي لم يصل إلى المطلوب ، ذهب الجاحظ والعنبريّ أنّه معذور ، لقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢) ولأنّ تعذيبه مع بذله الجهد والطّاقة من غير تقصير قبيح عقلا.

وذهب الباقون إلى أنّه غير معذور ، وادّعوا الإجماع عليه قبل ظهور المخالفين. قالوا : كفّار عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين قتلوا وحكم بخلودهم في النار ، لم يكونوا عن آخرين

__________________

(١) شرح التجريد للقوشجيّ / ٤٢٠ ـ ٤٢١ وفي لفظه : ... وعقاب صاحب ...

(٢) الحجّ (٢٢) : ٧٨.

٢٧٣

معاندين ، بل منهم من اعتقد الكفر مع بذل المجهود ، ومنهم من بقي على الشكّ بعد إفراغ الوسع ، وختم الله على قلوبهم ولم يشرح صدورهم للإسلام ، فلم يهتدوا إلى حقيقته.

ولم ينقل عن أحد قبل المخالفين هذا الفرق الذي ذكره الجاحظ والعنبريّ. وقوله تعالى: (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) خطاب إلى أهل الدين لا إلى الخارجين من الدين.

وكذلك أطفال المشركين [عند الأكثرين] لدخولهم في العمومات. ولما روي من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : هم في النّار ، حين سألته خديجة رضي الله عنها عن حالهم.

وقالت المعتزلة وبعض الأشاعرة : لا يعذبون ، بل هم خدم أهل الجنّة. روي في الحديث : وإنّ تعذيب من لا جرم له ظلم.

وأمّا عذاب صاحب الكبيرة هل هو منقطع أم لا؟ فذهب أهل السنّة والإماميّة من الشيعة وطائفة من المعتزلة إلى أنّه ينقطع ، واختاره المصنّف. واحتجّ عليه : «بأنّ صاحب الكبيرة يستحقّ الثواب بإيمانه ، لقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (١) ولا شك أنّ الإيمان أعظم أعمال الخير. فإن استحقّ العقاب بالمعصية ، فإمّا أن يقدّم الثواب على العقاب ، وهو باطل بالاتّفاق ، أو بالعكس وهو المطلوب. وبأنّه لو لم ينقطع عذابه يلزم أنّه إذا عبد الله مكلّف مدّة عمره ثمّ عمل كبيرة في آخر عمره لا ينقطع عذابه وهو قبيح عقلا. والسمعيّات التي تمسّك بها المعتزلة في عدم انقطاع عذاب صاحب الكبيرة مثل قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) (٢) ، (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) (٣) (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (٤) متأوّلة ، إمّا بتخصيص العمومات بالكفّار ، أو بحمل الخلود على المكث الطويل.

وأمّا قولهم إنّ الثواب والعقاب ينبغي أن يكونا دائمين لما تقدّم ، فإن أريد بدوام

__________________

(١) الزلزلة (٩٩) : ٧.

(٢) الجنّ (٧٢) : ٢٣.

(٣) النساء (٤) : ٩٣.

(٤) النساء (٤) : ١٤.

٢٧٤

العقاب دوام عقاب الكفّار ، فمسلّم ، وإلّا فممنوع» (١) انتهى كلامه.

في ذكر وجوه من التوهّم على عدم إمكان الخلود

ولسنا نحن في هذا المقام بصدد تحقيق هذا الخلاف ، بل بصدد تحقيق أنّ الخلود في شأن من حكم بخلوده في الجنّة أو في النّار ، هل هو ممكن أم لا؟ وعلى تقدير الإمكان فالسّبب الموجب له ما هو؟ والحكمة والمصلحة فيه ما هي؟ إذ قد يتوهّم أنّ الخلود أمر غير ممكن بالذّات ، لأنّه يستدعي زمانا غير متناه ، ووجود الزمان الغير المتناهي غير ممكن ، حيث إنّ البرهان الذي يبطل وجود غير المتناهي مطلقا ـ كبرهان التطبيق ـ يبطل وجود الزمان الغير المتناهي أيضا.

وبيان ذلك أنّه قد تقرّر في محلّه أنّ الحكماء وإن قالوا بأنّ برهان التطبيق إنّما يجري في امتناع لا تناهي الأمور الموجودة معا المترتبة في الوجود لامكان التطبيق فيها ، ولا يجري في غير ذلك ، فلذا قالوا بجواز لا تناهي الأمور التي توجد معا لكن لا ترتيب بينها كالنفوس الناطقة ، وكذا بجواز لا تناهي الأمور المتعاقبة المترتّبة في الوجود الغير المجتمعة في الوجود كالحركات الفلكيّة والأزمنة المنتزعة منها ، بناء على عدم إمكان جريان برهان التطبيق في هذين القسمين بزعمهم ، ولذا قالوا بلا تناهي النفوس الناطقة ، وكذا بقدم العالم زمانا. إلّا أنّ المتكلّمين مجمعون على استحالة لا تناهي الأمور المجتمعة في الوجود المترتّبة فيه ، وكذا على استحالة لا تناهي القسمين أيضا ، بناء على إمكان التطبيق فيهما أيضا ولو على سبيل الإجمال والوجه العقليّ الكلّيّ. فلذا قالوا بامتناع القدم الزمانيّ.

فعلى مذهبهم ـ وهو الحقّ كما تقرّر في ـ موضعه فكما يبطل وجود الزمان الغير المتناهي في جانب الأزل ، كذلك يبطل وجوده في جانب الأبد ، فمن أين يمكن الخلود الموقوف على وجود الزمان الغير المتناهي في طرف الأبد؟

__________________

(١) شرح التجريد للقوشجيّ / ٤٢٠ ـ ٤٢١.

٢٧٥

وكذلك قد يتوهم أنّ الخلود في النار لا سبب له ، ودوام العقاب والعذاب واستزادتهما إلى ما لا نهاية له لا حكمة فيه ولا مصلحة ، فإنّ العذاب والعقاب لا يكون إلّا قسريّا ، والقسر لا يدوم على طبيعة ، فإنّ لكلّ موجود غاية لا بدّ أن يصل إليها وقتا ما ، مع أنّ الرحمة الإلهيّة وسعت كلّ شيء ، كما قال جلّ وعلا : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (١) ومع أنّ الباري جلّ ثناؤه كما أنّه لا ينفعه الطاعة ولا يضرّه المعصية ، كذلك لا يضرّه الثّواب ولا ينفعه العقاب ، ومع أنّ العقاب الدائميّ لا منفعة فيه لأحد ولا خير ، بل هو شرّ محض ، وهو لا يمكن أن يصدر عن الخير المحض والجواد المطلق والفيّاض على الإطلاق. وهذا التوهّم عند كثير ممّن يدّعون الكشف قد صار قويّا بحيث كان منشئا لعدولهم عن ظاهر الشّرع المبين ، النّاطق بخلود أهل النّار في النّار ودوام عذابهم وعقابهم. فقال بعضهم : إنّ الكفّار وإن كانوا خالدين في النّار ، إلّا أنّ عذابهم وعقابهم منقطع ، كما ينقل عن بعض المكاشفين (٢) منهم أنّه قال : «يدخل أهل الدارين فيهما : السعداء بفضل الله وأهل النار بعدل الله وينزلون فيهما بالأعمال ، ويخلّدون فيهما بالنّيّات ، فيأخذ الألم جزاء العقوبة موازيا لمدّة العمر في الشّرك في الدنيا ، فإذا فرغ الأمد جعل لهم نعيم في الدار التي يخلدون فيها ، بحيث إنّهم لو دخلوا الجنّة تألّموا لعدم موافقة الطّبع الذي جبلوا عليه ، فهم يلتذّون بما هم فيه من نار وزمهرير وما فيها من لذع الحيّات والعقارب كما يلتذّ أهل الجنّة بالظلال والنّور ولثم الحسان من الحور ، لأنّ طباعهم يقتضي ذلك. ألا ترى الجعل على طبيعته يتضرّر بريح الورد ويلتذّ بالمنتن ، والمحرور من الإنسان يتألّم بريح المسك ، فاللذّات تابعة للملائم والآلام لفوته.

وينقل عن بعضهم أنّه جعل ذلك العذاب مأخوذا من العذب ، أي العذاب من الطّعام والشّراب الذي معناه لغة كلّ مستساغ.

وقال بعضهم بخروج أهل النّار عن النّار وانقطاع عذابهم جميعا ، كما ينقل عن

__________________

(١) الأعراف (٧) : ١٥٦.

(٢) هو ابن العربيّ في الفتوحات ، وفصوص الحكم.

٢٧٦

صاحب الفتوحات المكّيّة (١) أنّه نقل عن بعض أهل الكشف ، أنّه قال : إنّهم يخرجون إلى الجنّة حتّى لا يبقى في النّار أحد من الناس البتّة ، وتبقى أبوابها تصطفق ، وينبت في قعرها الجرجير ، ويخلق الله لها أهلا يملئوها.

وقال بعضهم ما يحتمل القولين : أي القول الأوّل أو الثاني. كما ينقل عن القيصريّ انّه قال في شرحه للفصوص : «واعلم أنّ من اكتحلت عينه بنور الحقّ يعلم أنّ العالم بأسره عباد الله ، وليس لهم وجود وصفة وفعل إلّا بالله وحوله وقوّته ، وكلّهم محتاجون إلى رحمته وهو الرحمن الرحيم ، ومن شأن من هو موصوف بهذه الصّفات أن لا يعذّب أحدا عذابا أبدا ، وليس ذلك المقدار من العذاب أيضا ، إلّا لأجل إيصالهم إلى كمالهم المقدّر لهم ، كما يذاب الذهب والفضّة بالنار لأجل الخلاص ممّا يكدّره وينفض غباره ، فهو يتضمّن لعين اللطف كما قيل :

وتعذيبكم عذب وسخطكم رضى

وقطعكم وصل وجوركم عدل (٢) ، انتهى.

ثمّ إنّك حيث عرفت ما ذكرنا ، ظهر لك أنّ هاهنا توهّمين ينبغي رفعهما حتّى يتّضح المقصود.

في رفع تلك الوجوه من التوهّم

فنقول : أمّا بيان رفع التوهّم الأوّل منهما ، فهو أنّك قد سمعت غير مرّة فيما تلونا عليك سابقا ، أنّه كما أنّ مكان الآخرة ليس من جنس مكان الدنيا ، كذلك زمانها ليس من جنس زمان الدنيا ، كما قال الله تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٣) ، وقال : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٤) ، فلا امتناع في أن يكون غير متناه ، إذ ليس يعلم أنّه يمكن فيه التّطبيق والتضايف والمسامتة والتزاحم ونحو ذلك ، حتّى يمكن إجراء براهين

__________________

(١) وهو الشيخ محي الدين بن العربيّ في الفتوحات المكيّة ٢ / ١٧٨ ـ ١٧٩ ، ط بولاق.

(٢) شرح القيصريّ على فصوص الحكم / ٢٤٦ ، ط طهران.

(٣) الحجّ (٢٢) : ٤٧.

(٤) السجدة (٣٢) : ٥.

٢٧٧

إبطال عدم التناهي فيه كما في زمان الدنيا ، سواء قلنا بجريانها في الأمور المترتّبة المتعاقبة غير المجتمعة أيضا ـ كما هو عند المتكلّمين ـ أو لم نقل به فيها كما هو عند الحكماء. وحيث أخبر المخبر الصادق بالخلود ، وهو ممكن عند العقل كما ذكرنا وجب التّصديق به.

وأمّا بيان رفع التوهّم الثاني ، فهو وإن سبقت منّا إشارة إليه في الفصول والأبواب المتقدّمة ، إلّا أنّا لا نبالي بإعادة الكلام فيه لزيادة التوضيح. فنقول :

اعلم أوّلا أنّ سبب خلود أهل الجنّة في الجنّة ودوام ثوابهم فيها ، إنّما هو دوام ما هو سبب لذلك ، أي دوام ما اكتسبوا في الدّنيا من الاعتقادات الحقّة والمعارف الإلهيّة والعلوم الربّانيّة والإيمان بالله وملائكته ورسله وكتبه وباليوم الآخر. وبالجملة : كلّ ما هو كمال للنفس الناطقة بحسب قوّتها النظريّة وكان راسخا فيها ، وكذا دوام ما اكتسبوا في الدّنيا من الملكات العادلة والأخلاق الفاضلة والهيئات الجميلة ، وبالجملة : كلّ ما هو كمال لها بحسب قوّتها العمليّة وكان ملكة راسخة فيها.

وبيان ذلك أنّ تلك العلوم والاعتقادات لمّا كانت كمالات للنّفس بذاتها ومن مقتضى ذاتها وجوهرها ، وكانت راسخة فيها ، لم تنفكّ عنها ، وكانت باقية ببقاء النّفس التي المفروض بقاؤها أبدا. وكذلك تلك الملكات وإن كانت بدنيّة وحاصلة للنّفس من جهة تكرّر الأفاعيل البدنيّة ، إلّا أنّها أيضا هيئة مناسبة لجوهر النّفس ملائمة لها غير غريبة عن ذاتها. فإذا كانت ملائمة لها وكانت مع ذلك راسخة فيها ، ولم يكن هناك مضادّ لها ولا سبب يزيلها عن جوهر النّفس كما هو المفروض ، كانت هي أيضا دائمة بدوام النّفس لازمة لها باقية معها.

واذا كانت تلك الاعتقادات والملكات الخالدة موجبة لحصول الثّواب كما دلّ عليه الآيات والأخبار ، فحينئذ نقول : لو كان الثّواب عبارة عن تلك العلوم والاعتقادات الحقّة وعن تلك الهيئات والملكات الفاضلة التي تصوّرت بصورة الثواب وتجسّمت بها ، كما هو على القول بتجسيم الأعمال والاعتقادات ، وهو ظاهر كثير من الآيات والأخبار كما تقدّم

٢٧٨

ذكرها ، فلا شكّ أنّه يكون دائما بدوام تلك العلوم والملكات لأنّها لازمة لها (١) وصورة لها غير منفكّة عنها ، ويكون وجه الحكمة في دوامه أيضا ظاهرا لا سترة به.

ولو كان الثواب عبارة عن أمر مبتدئ من خارج وارد على المحسن روحه وبدنه كما هو ظاهر كثير من الآيات والأخبار الأخر ، فكذلك أيضا ، لأنّه حيث كان الثواب في مقابلة تلك الاعتقادات والملكات التي هي دائمة بدوام النفس باقية ببقائها ، وجب في الحكمة المتعالية الإلهيّة أن يكون هو أيضا دائما كدوام ما هو بإزائه ؛ لأنّ السبب إذا كان دائميّا وجب أن يكون مسبّبه أيضا دائميّا مثله ، ولأنّه لو لم يكن كذلك لزم الظلم ، تعالى الله عن ذلك. وأيضا أنّ ذلك إيفاء بوعده ، وخلف الوعد عليه تعالى قبيح عقلا وشرعا.

ويدلّ على ما ذكرنا آيات كثيرة ، كقوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٢).

وكقوله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٣).

وكقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ* دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤).

وكقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٥).

__________________

(١) لأنّه لازم ، خ ل.

(٢) التوبة (٩) : ١١١.

(٣) النساء (٤) : ١٠٠.

(٤) يونس (١٠) : ٩ ـ ١٠.

(٥) يونس (١٠) : ٢٦.

٢٧٩

إلى غير ذلك من الآيات والأخبار.

والحاصل ، أنّه لمّا كان إيمان المؤمنين الرّاسخ في قلوبهم دائميّا وكذا ملكاتهم الفاضلة دائميّة ، وجب أن يكون الثّواب الذي هو بإزاء ذلك دائميّا مثله ، وأنّهم حيث كان في نيّاتهم الراسخة في قلوبهم ، أنّهم لو أبقوا دائما لبقوا على الإيمان والعمل الصالح دائما ، كان مقتضى الحكمة المتعالية إيصال الثواب إليهم دائما.

وحيث علمت ذلك ، فاعلم أنّ السبب في خلود أهل النار في النار ودوام عذابهم فيها إنّما هو دوام سبب ذلك أيضا ، حيث إنّ ما اكتسبوه في الدّنيا بسوء اختيارهم من جهة قوّتهم النظريّة من الآراء الفاسدة والعقائد الباطلة الراسخة في نفوسهم ، المستحكمة في قلوبهم ، كالشرك والكفر بالله وباليوم الآخر وبرسله وملائكته وكتبه ، سواء كانت تلك الاعتقادات الراسخة بمحض العناد والجحود مع يقينهم بخلافها كما هو في حقّ بعضهم ، أو مستندة إلى تقليد آبائهم وأسلافهم وعلمائهم كما في حقّ بعض آخرين منهم ، أو مستندة إلى ظنّ أو شبهة كما في بعض منهم. وكذا من جهة قوّتهم العمليّة من الملكات الرذيلة والهيئات الرديّة والأخلاق القبيحة الذميمة ، مع تفاوت مراتبها فيهم أيضا ، كما أنّها سبب لدخولهم في النار وحصول العقاب لهم على ما دلّت عليه الآيات والأخبار ، كذلك هي لخلودها ودوامها سبب لخلودهم في النّار ودوام عذابهم وعقابهم ، كما دلّت عليه الآيات والأخبار أيضا ، لأنّ دوام السبب يستلزم دوام المسبّب.

أمّا دوام تلك العقائد والآراء الباطلة ، فبيانه أنّها لمّا كانت حاصلة للنفس بذاتها ومن داخل جوهرها ، كأنّها صورة لها وكانت راسخة فيها ، فهي لا تكون زائلة عنها بل تكون باقية ببقائها.

وأمّا دوام تلك الملكات والهيئات الرّذيلة ، فبيانه أنّها وإن كانت حاصلة للنفس من خارج ، أي من جهة تكرّر الأفاعيل البدنيّة ، ومن شأنها أن تكون زائلة بزوال مبدئها القريب وهو البدن وأفاعيله ، وكذا بمرور الدّهور إذا لم يكن يصل إليها مدد من جهة ، إلّا أنّها لمّا كانت ملائمة لتلك العقائد التي رسخت في نفوسهم وتدرّنت هي بها مرتبطة بها كمال الارتباط ، فلا تكون نفوسهم الخسيسة هذه مستعدّة لزوالها عنها ، بل مستعدة

٢٨٠