منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-609-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٢٩٢

الأمور الجسمانيّة وتتخيّل ذاتها بصورتها الجسمانيّة التي كانت تحسّ بها في وقت الحياة كما في المنام كانت تتصوّر بدنها الشخص وتحسّ به مع تعطّل هذه الحواس وركودها ، فإنّ للنفس في ذاتها سمعا وبصرا وذوقا وشمّا ولمسا تدرك بها المحسوسات غائبة عن هذا العالم إدراكا جزئيّا وتتصرّف فيها ، وهي أصل هذه الحواسّ الدنياويّة ومباديها ، إلّا أنّ هذه في مواضع مختلفة لأنّها هيولانيّة يحملها هذا البدن وهي في موضع واحد لأنّ النفس حاملها وحامل ما يتصوّرها فإذا مات الإنسان وفارقته نفسه مع جميع ما يلزمها من قواها الخاصّة بها ومعها القوّة المصوّرة ، يتصوّر ذاته مفارقة عن الدنيا ، ويتوهّم نفسه عين الإنسان المصوّر الذي مات على صورته ، ويجد بدنه مصوّرا ، ويدرك الآلام الواصلة إليه على سبيل العقوبات الحسّيّة على ما وردت به الشّرائع ، فهذا عذاب القبر. وإن كانت سعيدة تتصوّر ذاتها على صور ملائمة وتصادف الأمور الموعودة ، فهذا ثواب القبر. كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران» (١) انتهى موضع الحاجة من كلامه.

وأقول : إنّ الذي ذكره بعض الأعاظم (٢) هو الحقّ الحقيق بالتحقيق ، وعليه يمكن تنزيل الحديث الذي نقله صدر الأفاضل ، ويوافقه ما نقله هو في معنى الحديث ، من أنّ ذلك الأمر الضعيف الهيولى الاولى والأجزاء الأصليّة. وعليه فيحصل وجه آخر لدفع الشبهة التي ذكرها الشيخ وأجاب عنها ، لأنّه إذا كان حدوث النفس الإنسانيّة بحدوث البدن كما هو المفروض ، وكان بعد خراب البدن يبقى تعلّقها به من حيث المادّة ، فلا مانع من أن تبقى النفوس بعد خراب أبدانها متكثّرة بتكثّرها ، متمايزة بتمايزها ، كما هو في حال الحياة التي كان فيها تعلّقها بالبدن من حيث المادّة والصورة جميعا.

وأمّا الوجوه الاخر التي نقلها صدر الأفاضل عن القوم في معنى الحديث ، فلا يكاد

__________________

(١) الشواهد الربوبيّة ، مع تعليقات الأستاذ الحكيم الآشتيانيّ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦ الإشراق السابع في الأمور الباقية من أجزاء الإنسان ، وليست فيها جملة «والإشارة إلى عذاب القبر» ، وفيها : «عند الشيخ المغربي» عوضا عن : «عند الشيخ الغزالي» ، وبعد المنام كانت يتصوّر بدنها الشخصىّ يتوهّم نفسه عين الإنسان المقبور ، يجد بدنه مقبورا ...

(٢) المراد ببعض الأعاظم هو السيّد الداماد.

٢١

يظهر لها وجه كما لا يخفى على المتأمّل ، مثل الوجه الذي ذكره هو نفسه في معناه ، فإنّه وإن أقام في بعض كلماته برهانا بزعمه على بقاء القوّة الخياليّة بعد خراب البدن ، لكنّه لم يأت بشيء مبيّن كما يظهر على من راجع كلماته.

وما ذكره هنا من أنّ للنفس في ذاتها سمعا وبصرا إلى آخر ما ذكره ، إن كان المراد به أنّ لها بعد خراب البدن سمعا وبصرا ونحو ذلك من القوى في ضمن البدن المثاليّ ، كما دلّ عليه النقل وذهب إليه كثير من الحكماء والمتكلّمين ، فله وجه ؛ إلّا أنّ كلامه يأبى عن الحمل عليه. وإن كان مراده به غير هذا كما هو ظاهر كلامه ، فهو شيء تفرّد به وليس يظهر وجهه ، بل لا يمكن فهمه ككثير من تحقيقاته في المسائل الحكميّة ، وعسى أن يكون غيرنا يفهمه. والله الموفّق.

وقد بقي في المقام شبهة أخرى ، وهي أنّ ما يستفاد من كلام الشيخ ، أنّه بعد خراب البدن يكفي شعور النفس بذاتها الجزئيّة مميّزة لها ، ربّما يتراءى كونه جاريا في نفوس غير الإنسان من الحيوانات ، فإنّ الظاهر أنّ لها أيضا شعورا بذواتها الجزئيّة وهويّاتها الخاصّة ، فينبغي أن تكون نفوسها أيضا بعد خراب أبدانها باقية متميّزة بتميّز الأبدان متكثّرة بتكثّرها ، وهو خلاف ما عليه الأكثر.

وأمّا الجواب عن هذه الشبهة ، فهو أنّ مبنى كلام الشيخ أنّ الشعور بالذات يكفي مميّزا إذا كانت تلك الذات مجرّدة عن المادّة كما في النفوس الإنسانيّة ، حيث إنّ الأصل في سبب كونها باقية غير فانية هو تجرّدها عن المادّة كما عرفت بيانه ، وأمّا الشعور بالذات وسائر الهيئات والحالات والخصوصيّات التي ذكرها ، إنّما هو لأجل تمايزها بتمايز الأبدان بعد أن كانت ممتنعة الزوال.

وأمّا نفوس غير الإنسان حيث لم يثبت تجرّدها عن المادّة فلا يكفي كون الشعور بالذات مميّزا لها ، إذ ذاك الشعور إنّما يكفي مميّزا لها إذا كان هناك تجرّد عن المادّة به يمتنع الزوال عليها ، وإذ ليس فليس. وكأنّ من قال بحشر الحيوانات الذي مبناه على بقاء نفوسها بعد خراب أبدانها ، ادّعى تجرّدها أيضا عن المادّة ، لزعمه أنّ بعض الدلائل التي أقيمت على تجرّد النفس الإنسانيّة ، مثل قولهم : إنّها مغايرة للبدن وأعضائه وأجزائه فإنّ

٢٢

البدن وأعضاءه دائم الذوبان والسيلان وذات الإنسان منذ أول الصّبا إلى آخر العمر باقية فهي غيرها ، بل هي مجرّدة عن المادّة ، وأمثال ذلك من الدلائل التي أقاموها على ذلك ، جارية في نفوس الحيوانات أيضا ، فأثبت بزعمه بذلك تجرّدها أيضا ثمّ جعل شعورها بذاتها مميّزة لها بعد خراب البدن. وقد عرفت فيما سبق أنّ التعويل في تجرّد النفس الإنسانيّة إنّما هو على الدلائل التي تجري فيها ، ولا تجري في غيرها من نفوس سائر الحيوانات ، فتذكّر. وسيجيء ذكر الخلاف في حشر الحيوانات ، وتحقيق الحقّ فيه ، فانتظر.

وهذا الذي ذكرناه كلّه ، إنّما هو الكلام في البرهان الذي أقامه الشيخ على هذا المطلب ، أعني حدوث النفس الإنسانيّة بحدوث البدن ، إلّا أنّ القوم ذكروا براهين اخر أيضا عليه ، لا بأس بنقل نبذ منها وتحريرها :

منها أنّه لا سترة في أنّ النّفس الإنسانيّة التي هي مجرّدة عن المادّة لو كانت موجودة قبل البدن ، ثمّ حدث لها التعلّق به كان تعلّقها به لحوق عارض غريب به ، وقد تقرّر عندهم أنّ كلّ مجرّد عن المادّة لا يلحقه عارض غريب ، لما حقّق أنّ لحوق عارض غريب لشيء لا يكون إلّا من جهة قوّته واستعداده له ، وأنّ جهة القوّة والاستعداد راجعة إلى أمر هو في ذاته قوّة صرفة تتحصّل بالصور المقوّمة له ، وما هو إلّا الهيولى الجرمانيّة ، فيلزم من فرض تجرّد النفس الإنسانيّة عن المادّة اقترانها بها ، هذا خلف. فإذن تكون حادثة بحدوث البدن ، وهو المطلوب.

لا يقال : لعلّ النّفس الإنسانيّة كانت موجودة قبل هذا البدن الإنسانيّ ، وكانت في ضمن أبدان جسمانيّة عنصريّة أو مطلقا حادثة بحدوثها ، وكلّما فارقت بدنا من تلك الأبدان الجسمانيّة حدث بدن آخر فتعلّقت به ، إلى أن انتهت النوبة إلى هذا البدن العنصريّ الإنسانيّ.

لأنّا نقول : هذا باطل ، لأنّه تناسخ ، وسيأتي بطلانه.

لا يقال : لعلّها كانت موجودة قبل البدن الإنسانيّ العنصريّ في ضمن بدن مثاليّ نورانيّ ، ثمّ حصلت في ضمن البدن العنصريّ ، إمّا مع ذلك البدن المثاليّ النورانيّ ، حيث إنّ

٢٣

اجتماع هذين البدنين اللذين أحدهما مثاليّ نورانيّ والآخر جسمانيّ لا امتناع فيه. وإمّا مفارقة عن البدن المثاليّ. وعلى هذين الوجهين ، يمكن حمل قول بعض من قال بحدوث النفس قبل البدن ، وكذا حمل ما روي عن الصادقين عليه‌السلام : من أنّ الأرواح خلقت قبل الأبدان بألفي عام (١) ، ولا تناسخ فيه ، فإنّ الدليل الذي يبطل التناسخ كما سيأتي ذكره ، إنّما يجري في تحوّل النفوس في الأبدان الجسمانيّة العنصريّة أو غير العنصريّة وتنقّلها منها ، لا في تنقّلها في الأبدان المثاليّة أيضا. مع أنّ القول بحصولها بعد خراب أبدانها في الأبدان المثاليّة ممّا دلّ عليه النقل وذهب إليه كثير من الفلاسفة والملّيّين.

لأنّا نقول : هذا الاحتمال باطل أيضا ، فإنّه قد تقرّر عندهم أنّ النفس الإنسانيّة مجرّدة في ذاتها عن المادّة ومفتقرة في أفعالها إليها ، وأنّ البدن خلق لها وتعلّقت هي به لأجل استكمالها به ، ولا سترة في أنّها لو كانت موجودة قبل البدن العنصريّ متعلّقة ببدن مثاليّ ، لم يكن لها استكمال في ضمن البدن المثاليّ ، إذ لو كان استكمال لها به وفي ضمنه ثمّ تعلّقت بالبدن العنصريّ ؛ لزم حينئذ بعض مفاسد القول بالتناسخ أيضا ، وهو أنّه يلزم أن يكون قد حصلت لها فعليّة ما في ضمن البدن المثاليّ ، ثمّ رجعت إلى القوّة والاستعداد ؛ حيث إنّ النفس في أوّل حصولها في ضمن البدن العنصريّ إنّما هي بالقوّة المحضة ودرجتها درجة النبات ، ثمّ تترقّى شيئا فشيئا بحسب استكمالات المادّة حتّى تتجاوز درجة النبات والحيوان ، وصيرورة الشيء بالقوّة المحضة بعد ما كان بالفعل ضروريّ البطلان.

وأيضا لو كان للنفس استكمال في ضمن البدن المثاليّ قبل التعلّق بالبدن العنصريّ ، لكان لها استكمال في ضمنه بعد خراب العنصريّ أيضا ، ولم يقل به أحد. وإذا لم يكن له استكمال في ضمن البدن المثاليّ كان وجودها في ضمنه قبل حدوث البدن العنصريّ وجودا معطّلا ، وقد تقرّر عندهم أنّه لا تعطّل في الوجود.

وبعبارة أخرى ، أنّها لو كانت موجودة قبل البدن العنصريّ في ضمن البدن المثاليّ ،

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٧ / ٣٥٧ ؛ ٤٠ / ٤١ ؛ ٤١ / ٩٠.

٢٤

فإمّا أن تكون مستكملة به ، لزم حينئذ بعض مفاسد القول بالتناسخ وهو صيرورة ما بالفعل ما بالقوّة. وإمّا أن لا تكون مستكملة به لزم تعطّلها في الوجود ، والقول بأنّها وإن لم يكن لها استكمال في ضمن البدن المثاليّ ، إلّا أنّه يمكن أن يكون لها في ضمنه ابتهاج بالكمالات وتألّم بالجهالات ، كما في ما بعد خراب البدن العنصريّ ، باطل ، فإنّ ذلك الابتهاج والتألّم إنّما يمكن إذا كان حصل لها كمال في ضمنه ، وإذ ليس فليس ، وهذا بخلاف صورة ما بعد خراب البدن ؛ فتدبّر.

تأويل حديث خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام

فبالجملة ، القول بذلك مع كونه مخالفا للعقل ليس عليه دليل مطلقا لا عقليّ ولا نقليّ ظاهر فيه ، فإنّ حديث «خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام» يمكن حمله على أنّه خلقت الأرواح التي هي جواهر نورانيّة وهي مدبّرات للأبدان الإنسانيّة بل للإنسان بنفسه وبدنه ، ويدلّ على وجودها الشرع وقال بها الحكماء أيضا ، وتسمّى تلك الأرواح في لسان الشرع ب «الملائكة الموكّلين بالإنسان» ، وفي لسان الحكماء المتألّهين ب «ربّ النوع» ، قبل الأجساد وقبل الأبدان العنصريّة الإنسانيّة بألفي عام ، سواء حمل ألفا عام على الزّمان الكثير المتمادي ، أو على هذا العدد المعيّن ؛ وسواء حمل هذا العدد بالنسبة إلى كلّ روح مع كلّ بدن أو بالنسبة إلى مجموع تلك الأرواح مع مجموع الأبدان. وحينئذ فلا دليل قطعيّا أو ظاهرا في الحديث على مطلوب هذا القائل ، وهو خلق النفوس الإنسانيّة المتعلّقة بأبدانهم العنصريّة قبل أبدانهم بألفي عام ، حتّى يمكن أن يقال : إنّها قبل الأبدان العنصريّة كانت في ضمن أبدان مثاليّة.

وأمّا القول بحصولها بعد خراب أبدانها العنصريّة في ضمن الأبدان المثاليّة فإنّما دعى إليه ما ورد من النقل الصحيح الصريح ، فإنّه لو لم يكن هناك ذلك النقل لم نكن قائلين به ، وكأنّ سرّ ما ورد من النصّ في ذلك ـ والله أعلم ـ أنّ النفس الإنسانيّة لمّا كانت في أفعالها مفتقرة إلى البدن ، حاصلة في ضمنه ، متعلّقة به ، ومستكملة به ، وكانت أكثرها بل جلّها قد

٢٥

استكملت في الجملة في ضمن البدن العنصريّ ثمّ فارقته. وكانت باقية بعد خراب البدن ، اقتضت العناية المتعالية الإلهيّة حصولها بعد خراب البدن في ضمن بدن مثاليّ مشارك لبدنها العنصريّ من بعض الجهات كالشكل والهيئة ، وإن لم يكن مشابها له في الكلّ ، حتّى تكون في ضمن بدن أيضا بدنا هو وإن كان ممّا لم يحصل استكمالها في ضمنه إلّا أنّها في ضمنه تفعل أفعالا في الجملة كالأفعال الحيوانيّة ، لا كلّ أفعالها حتّى الأفعال النباتيّة وتدرك إدراكات مخصوصة ، مثل ما يختصّ بقواها المدركة الحيوانيّة ، مثل السمع والبصر والذوق والشمّ واللمس والتخيّل والتوهّم ونحو ذلك ، مضافا إلى ما تدركه بذاتها من المعقولات التي لا تحتاج في إدراكها إلى البدن ، وحتّى تدرك في ضمن ذلك البدن المثاليّ جزاء ما كسبت من السعادة أو الشقاوة جزاء في الجملة.

وبالجملة ، فتبتهج بالكمالات وتتألّم بالجهالات إلى أن يشاء الله تعالى انقضاء المدّة التي هي في عالم البرزخ ، وتقوم القيامة الكبرى وتتعلّق تلك النفس بعناية الله تعالى ببدنها الأوّل العنصريّ ، فتستوفي في ضمنه جزاء ما كسبت جزاء أوفى.

في تفسير قوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ)

وكذلك الدلالة في قوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي) (١) على ذلك كما ادّعاه بعضهم ، حيث قال: إنّه يدلّ على حدوث النفس والروح قبل الجسد ، فإنّ رجوعها إلى ربّها معناه الرجوع إلى حالتها التي كانت لها قبل وجود الجسد من انقطاع تعلّقها بما سوى ربّها تعالى شأنه ؛ لأنّ مبنى هذا الاستدلال على أنّه يقال لها هذا القول عند الموت ، وأنّ معنى الرجوع إلى ربّها ما ذكره ذلك البعض ، ولا دليل ظاهرا على شيء منهما.

بل أنّ جمعا من المفسّرين ، كصاحب الكشّاف والشيخ الطبرسيّ ذكروا في تفسير الآية أنّه : «إنّما يقال ذلك لها عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنّة ، على معنى :

__________________

(١) الفجر (٨٩) : ٢٧ ـ ٣٠.

٢٦

ارجعي إلى موعد ربّك راضية بما أوتيت مرضيّة عند الله ، فادخلي في جملة عبادي الصالحين وادخلي جنّتي معهم. وقيل : النفس الرّوح ، والمعنى : فادخلي في أجساد عبادي. وقرأ ابن عبّاس : فادخلي في عبدي. وقرأ ابن مسعود : في جسد عبدي. وقيل أيضا : إنّ المعنى ارجعي إلى صاحبك فادخلي في جسد عبدي» (١) انتهى.

ومن تلك البراهين على هذا المطلب أنّ النفس الإنسانيّة لو كانت موجودة قبل البدن ، لكانت إمّا مجرّدة في ذاتها وفي فعلها عن المادّة ، فكانت عقلا محضا على رأيهم ، لا احتياج لها إلى المادّة اصلا حتّى في فعلها ، فيمتنع عليها طروء حالة تلجؤها إلى مفارقة عالم القدس والتعلّق بهذا البدن العنصريّ والابتلاء بهذه الآفات البدنيّة ؛ أو كانت مجرّدة عن المادّة في ذاتها محتاجة إليها في فعلها ، فكانت نفسانيّة الجوهر ؛ فيلزم أن تكون معطّلة قبل البدن إذ لا مادّة قبل ذلك ، والتعطّل محال. وقد عرفت أنّه يستحيل التناسخ والتنقّل في ضمن أبدان عنصريّة وسيأتي أيضا زيادة بيان لذلك. وكذلك قد عرفت أنّه يستحيل حصولها قبل البدن العنصريّ في ضمن بدن مثاليّ. والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب.

__________________

(١) تفسير الكشّاف ، ٤ / ٢٥٤ ، ط طهران. وراجع مجمع البيان ، ٩ / ٤٨٩.

٢٧

المطلب الثاني

في امتناع ما قيل من تناسخ النفوس ونحو ذلك من الأقوال

اعلم أنّ صدر الأفاضل بعد أن نقل عن الحكماء أنّهم اتّفقوا على أنّ النفوس التي صارت عقولها الهيولانيّة عقلا بالفعل ، فلا شبهة في بقائها بعد البدن ، وأنّهم اختلفوا في النفوس التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل ، فذهب بعضهم إلى أنّها تهلك بهلاك البدن ، وبعضهم إلى أنّها تبقى بعد فنائه. قال :

«إنّ بناء هذا الاختلاف على انحصار نشئات الإنسان في النشآت الحسّيّة والنشأة العقليّة. وجمهور الحكماء لمّا لم يتفطّنوا بنشأة أخرويّة غير النشأة العقليّة ، اضطرّوا إلى هذه الأقوال :

فتارة قالوا بعدم بعض النفوس واضمحلالها ،

وتارة بتناسخ الأرواح السافلة والمتوسّطة ، أمّا السافلة فإلى الأكوان العنصريّة من إنسان آخر أو حيوان آخر أو نبات أو جماد ، وذلك هو المسخ والنسخ والفسخ والرسخ. وأمّا المتوسّطة فإلى عالم الأفلاك.

وتارة بصيرورة بعض الأجرام العالية موضوعا لتخيّلات نفوس الصلحاء والزهّاد ، من غير أن تصير متصرّفة فيه ، وبعض الأجرام الدخانيّة للنفوس الشقيّة» (١) انتهى موضع الحاجة من كلامه.

ثمّ قال بعد ذلك : الإشراق التاسع في أنّ النفوس لا تتناسخ.

__________________

(١) الشواهد الربوبيّة / ٢٢٥ ، وفيه : إنّ بناء هذا الكلام ونظائره على انحصار نشئات.

٢٨

التناسخ عندنا يتصوّر على ثلاثة أنحاء :

أحدها ـ انتقال نفس من بدن إلى بدن مباين له ، منفصل عنه في هذه النشأة ، بأن يموت حيوان وينتقل نفسه إلى حيوان آخر أو غير الحيوان ، سواء كان من الأخسّ إلى الأشرف أو بالعكس ، وهذا مستحيل بالبرهان لما سنذكره.

وثانيها ـ انتقال النفس من هذا البدن إلى بدن آخر ، وهو مناسب لصفاتها وأخلاقها المكتسبة في الدنيا ، فتظهر في الآخرة بصورة ما غلبت عليها صفاتها ، كما سينكشف لك عند إثبات المعاد الجسمانيّ ، وهذا أمر محقّق عند أئمّة الكشف والشهود ، ثابت منقول من أهل الشرائع والملل ، ولهذا قيل : «ما من مذهب وإلّا وللتناسخ فيه قدم راسخ» وعليه يحمل ما ورد في القرآن من آيات كثيرة في هذا الباب. وظنّي أنّ ما نقل عن أساطين الحكمة كأفلاطون ومن سبقه من الحكماء الذين كانوا مقتبسين أنوار الحكمة من مشكاة نبوّة الأنبياء سلام الله عليهم أجمعين ، من إصرارهم على مذهب التناسخ هو بهذا المعنى ، لما شاهدوا ببصائرهم بواطن النفوس والصور التي يحشرون عليها على حسب نيّاتهم (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) (١) وشاهدوا أيضا كيف تحصل في الدنيا للنفوس ملكات نفسانيّة لتكرّر أعمال جسمانيّة تناسبها ، حتّى تصدر عنها الأعمال من جهة تلك الملكات بسهولة ، صرّحوا القول بالتناسخ ، ومعناه حشر النفوس على صور صفاتهم الغالبة وأعمالهم ، كقوله تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) (٢) أي على صور الحيوانات المنتكسة الرءوس ، وقوله : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (٣) وقوله : (تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤) وقوله : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) (٥) وقوله : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٦) وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) الكهف (١٨) : ٤٩.

(٢) الإسراء (١٧) : ٩٧.

(٣) التكوير (٨١) : ٥.

(٤) النور (٢٤) : ٢٤.

(٥) فصّلت (٤١) : ٢١.

(٦) يس (٤١) : ٦٥.

٢٩

«يحشر النّاس على نيّاتهم» (١). «يحشر بعض الناس على صورة تحسن عندها القردة والخنازير» (٢). «كما يعيشون يموتون وكما ينامون يبعثون» (٣). فهذا هو مسخ البواطن من غير أن يظهر صورته في الظاهر فترى الصور أناسيّ ، وفي الباطن غير تلك الصور من ملك أو شيطان أو كلب أو خنزير أو أسد أو غير ذلك من حيوان مناسب لما يكون الباطن عليه.

وثالثها ـ ما يمسخ الباطن وينقلب الظاهر من صورته التي كانت إلى صورة ما ينقلب إليه الباطن لغلبة القوّة النفسانيّة ، حتّى صارت تغيّر المزاج والهيئة على شكل ما هو من صفته من حيوان آخر ، وهذا أيضا جائز بل واقع في قوم غلبت شقوة نفوسهم ، وضعفت قوّة عقولهم. ومسخ البواطن قد كثر في هذا الزمان كما ظهر المسخ في الصورة الظاهرة حسب ما قرأنا في بني إسرائيل ، كما قال سبحانه : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) (٤) وقوله : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٥).

وأما مسخ صورة الباطن دون الظاهر ، فكقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صفة قوم من أمّته : «إخوان العلانية أعداء السريرة ، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم امرّ من الصبر ، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين وقلوبهم قلوب الذئاب» (٦) ، فهذا مسخ البواطن أن يكون قلبه قلب ذئب وصورته صورة إنسان والله العاصم من هذه القواصم» (٧) انتهى موضع الحاجة من كلامه.

وقال الشيخ في «الإشارات» بعد بيان أحوال النفوس الكاملة ، والمستعدّة للكمال

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٠ / ٢٩٠.

(٢) بحار الأنوار ٧ / ٨٩.

(٣) المجلى / ٥٠٦ الطبعة الحجريّة ؛ وانظر بحار الأنوار ١٨ / ١٩٧.

(٤) المائدة (٥) : ٦٠.

(٥) البقرة (٢) : ٦٥ ؛ الأعراف (٧) : ١٦٦.

(٦) بحار الأنوار ٧٤ / ١٧٣.

(٧) الشواهد الربوبيّة ، ص ٢٣١ وفيه : انّ التناسخ عندنا ... وثانيها ... إلى بدن أخرويّ مناسب ... عليها صفاتها ... عند إثباتنا ... وظنّي أن ما قال ... أنوار الحكمة من الأنبياء سلام الله ... على صور صفاتهم الغالبة كقوله ... فترى الصور أناس وفي الباطن غير تلك ... لما يكون الباطن عليه ... حسبما قرأنا في بني إسرائيل ...

٣٠

والجاهلة في المعاد بهذه العبارة :

تنبيه. وأمّا البله ، فإنّهم إذا تنزّهوا خلصوا من البدن إلى سعادة تليق بهم ، ولعلّهم لا يستغنون فيها عن معاونة جسم يكون موضوعا لتخيّلات لهم ، ولا يمتنع أن يكون ذلك جسما سماويّا أو ما يشبهه ، ولعلّ ذلك يفضي بهم آخر الأمر إلى الاستعداد للاتصال المعدّ الذي للعارفين. امّا التناسخ في أجسام من جنس ما كانت فيه فمستحيل ، وإلّا لاقتضى كلّ مزاج نفسا تفيض إليه وقارنتها النفس المستنسخة فكان لحيوان واحد نفسان. ثمّ ليس يجب أن يتّصل كلّ فناء بكون ، ولا أن يكون عدد الكائنات من الأجسام عدد ما يفارقها من النفوس ، ولا أن يكون عدّة نفوس مفارقة تستحقّ بدنا واحدا فتتّصل به أو تتدافع عنه متمانعة. ثمّ ابسط هذا واستغن بما تجده في مواضع اخر لنا» (١) انتهى كلامه.

وقال المحقّق الطوسيّ رحمه‌الله في شرح قوله : «وأمّا البله .. إلى قوله للعارفين» هكذا :

«لمّا فرغ عن بيان أحوال النفوس الكاملة والمستعدّة للكمال والجاهلة في المعاد. أراد أن يبيّن حال النفوس الخالية عن الكمال وعمّا يضادّه ، وهي نفوس البله في هذا الفصل. واعلم أنّ من القدماء من زعم أنّها تفنى ، لأنّ النفس إنّما تبقى بالصور المرتسمة فيها ، فالخالية عنها معطّلة ، ولا معطّل في الوجود ، ولكنّ الدلائل الدالّة على بقاء النفوس الناطقة تقتضى نقض هذا المذهب. ثمّ القائلون ببقائها قالوا : إنّها تبقى غير متأذّية لخلوّها عن أسباب التأذّي والخلاص فوق الشقاء ، فإذن هي في سعة من رحمة الله تعالى.

ويوافق هذا المذهب ما ورد في الخبر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أكثر أهل الجنّة البله» ثمّ إنّها لا يجوز أن تكون معطّلة عن الإدراك ، وكانت ممّا لا يدرك إلّا بآلات جسمانيّة ، فذهب بعضهم إلى أنّها تتعلّق بأجسام اخر ، ولا يخلو إمّا أن لا تصير مبادي صورة لها وهذا ما ذكره الشيخ ومال إليه ، أو تصير فتكون نفوسا لها ، وهذا هو القول بالتناسخ الذي سيبطله الشيخ.

أمّا مذهب الأوّل فقد أشار إليه الشيخ في كتاب «المبدأ والمعاد» وذكر أنّ بعض أهل

__________________

(١) شرح الإشارات ، ٣ / ٣٥٦ ـ ٣٥٥ ط طهران.

٣١

العلم ممّا لا يجازف فيما يقول ـ وأظنّه يريد الفارابي ـ قال قولا ممكنا ، وهو أنّ هؤلاء إذا فارقوا البدن ـ وهم بدنيّون لا يعرفون غير البدنيّات وليس لهم تعلّق بما هو أعلى من الأبدان فيشغلهم التعلّق بها عن الأشياء البدنيّة ـ أمكن أنّ تعلّقهم لشوقهم إلى البدن ببعض الأبدان التي من شأنها أن تتعلّق بها الأنفس ، لأنّها طالبة بالطبع ، وهذه ماهيّات ، وهذه الأبدان ليست بأبدان إنسانيّة أو حيوانيّة ، لأنّها لا يتعلّق بها إلّا ما يكون نفسا لها ، فيجوز أن تكون أجراما سماويّة لا أن تصير هذه الأنفس أنفسا لتلك الأجرام ، أو مدبّرة لها ، فإنّ هذا لا يمكن. بل قد تستعمل تلك الأجرام لإمكان التخيّل ، ثمّ تتخيّل الصور التي كانت معتقدة عنده وفي وهمه ، فإن كان اعتقاده في نفسه وأفعاله الخير شاهدت الخيرات الأخرويّة على حسب ما تخيّلتها ، وإلّا فشاهدت العقاب كذلك.

قال : ويجوز أن يكون هذا الجرم متولدا من الهواء والأدخنة. ولا يكون مقارنا لمزاج الجوهر المسمّى روحا الذي لا يشكّ الطبيعيّون أنّ تعلّق النفس به لا بالبدن. فهذا ما ذكره في الكتاب المذكور. ولو لا مخافة التطويل لأوردته بعبارته. والشيخ جوّز بعد ذلك أن يفضي التعلّق المذكور إلى الاستعداد للاتصال المعدّ الذي للعارفين. ولي في أكثر هذه المواضع نظر» (١) انتهى.

وقال أيضا في شرح قوله : «أمّا التناسخ» إلخ بهذه العبارة : «وهذا هو المذهب الثاني ، وقد أورد على إبطاله حجّتين :

إحداهما ـ أن يقال : لمّا ثبت أنّ تهيّؤ الأبدان يوجب إفاضة وجود النفس من العلل المفارقة ، ثبت أنّ كلّ مزاج بدنيّ يحدث فإنّما يحدث معه نفس لذلك البدن ، فإذا فرضنا أنّ نفسا تناسخها أبدان كان للبدن المستنسخ نفسان : إحداهما المستنسخة والثانية الحادثة معه ، فكان حينئذ للحيوان الواحد نفسان ، وهذا محال ، لأنّ النفس هي التي تدبّر البدن وتتصرّف فيه ، وكلّ حيوان يشعر بشيء واحد يدبّر بدنه وتصرّف فيه ، فإن كان هناك نفس أخرى لا يشعر الحيوان بها ولا هي بذاتها ولا تتصرّف في البدن ؛ فلا يكون لها علاقة مع

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ / ٣٥٦ ـ ٣٥٥.

٣٢

ذلك البدن ، فلا تكون نفسا له ، هذا خلف.

والحجّة الثانيّة ـ أن يقال : النفس المستنسخة ، إمّا أن تتّصل بالبدن الثاني حال فساد البدن الأوّل ، أو تتّصل به قبله ، أو بعده بزمان ، فإن اتّصلت به في تلك الحالة ، فإمّا أن يكون البدن الثاني قد حدث في تلك الحالة ، أو يكون قد حدث قبله.

فإن كان قد حدث في تلك الحالة ، فإمّا أن يكون عدد النفوس المفارقة وعدد الأبدان الحادثة في جميع الأوقات متساوية ، أو يكون عدد النفوس أكثر ، أو يكون أقلّ. وعلى التقدير الأول يجب أن يتّصل كلّ فناء بدن بكون بدن آخر ، ووجب أيضا أن تكون عدد الكائنات من الأبدان عدد الفاسدات منها ، وهما محالان فضلا عن أن يكونا واجبين.

وعلى التقدير الثاني يكون النفوس المجتمعة على بدن واحد إمّا متشابهة في استحقاق الاتّصال به أو مختلفة. والأوّل يقتضي إمّا اتصال الكلّ به فيكون لبدن واحد نفوس كثيرة ، وقد مرّ بطلانه. وإمّا أن تتدافع وتتمانع ، فيبقى الكلّ غير متّصل ببدن بعد فساد البدن الأوّل وقد فرضناها متّصلة ، هذا خلف.

والثاني يقتضي اتّصال البعض وبقاء البعض غير متّصلة ويعود الخلف. وعلى التقدير الثالث لا يخلو إمّا أن تتّصل نفس واحدة بأبدان أكثر من واحد ، حتّى يكون حيوان واحد هو بعينه غيره وهذا محال ؛ أو يبقى بعض الأبدان المستعدّة للنفس بلا نفس ، وهو أيضا محال ، أو يتّصل بعض النفوس ببعض الأبدان دون بعض من غير أولويّة ، والثاني حدوث النفس لبعض الأبدان المستحقّة دون بعض من غير أولويّة (كذا).

وإن اتّصلت النفس المفارقة ببدن قد حدث قبل حالة المفارقة ، فذلك البدن لا يخلو إمّا أن يكون ذا نفس أخرى أو لا يكون ، ويلزم على الأوّل اتّصال نفسين ببدن واحد ، وعلى الثاني وجود بدن مستعدّ للنفس معطّل عنها.

وأمّا إن اتّصلت النفس المفارقة بعد المفارقة بزمان ، فجواز كونه معطّلا في زمان يقتضي جواز ذلك في جميع الأزمنة ، ولا يحتاج إلى القول بالتناسخ. وأيضا لا يخلو إمّا أن يكون اتّصالها ببدن موقوفا على حدوث مزاج مستعدّ ، أو لم يكن. ويلزم على الأوّل حدوث نفس أخرى مع حدوث ذلك المزاج ، ويعود المحالات المذكورة ، وعلى الثاني

٣٣

يتخصّص اتّصاله بزمان دون زمان مع تساوي الأزمنة بالنسبة إليه ، وهو محال.

وهاهنا قد تمّت الحجّة الثانيّة. والشيخ أشار إلى هذه الأقسام بقوله : «ثمّ ابسط هذا» يعني البرهان الثاني ، وإلى الأصول المقتضية لفساد المحالات اللازمة المذكورة بقوله : «واستغن بما تجده في مواضع أخر لنا» (١) انتهى كلامه رحمه‌الله.

ثمّ إنّ الشيخ في «الشفاء» «في فصل في أنّ الأنفس الإنسانيّة لا تفسد ولا تتناسخ» ، بعد ما بيّن عدم طروء الفساد عليها كما نقلنا كلامه في ذلك في الأبواب السالفة. قال في بيان عدم جواز التناسخ عليها بهذه العبارة : «فقد أوضحنا أنّ النفس إنّما حدثت وتكثّرت مع تهيّؤ من الأبدان ، على أنّ تهيّؤ الأبدان يوجب أن يفيض وجود النفس عليها من العلل المفارقة ، وظهر من ذلك أنّ هذا لا يكون على سبيل الاتّفاق والبخت ، حتّى يكون وجود النفس الحادثة ليس لاستحقاق هذا المزاج نفسا حادثة مدبّرة ، ولكن قد كان وحدث النفس واتّفق أن وجد بدن فعلّقت ، فإنّ مثل هذا لا يكون علّة ذاتيّة البتة للتكثّر ، بل أن تكون عرضيّة.

وقد عرفنا أنّ العلل الذاتيّة هي التي يجب أن تكون أوّلا ثمّ ربّما تليه العرضيّة ، فإن كان كذلك وكلّ بدن يستحقّ مع حدوث مزاج مادّته حدوث نفس له ، وليس بدن يستحقّه وبدن لا يستحقّه ، إذ أشخاص النوع لا تختلف في الأمور التي بها تتقوّم ، وليس يجوز أن يكون بدن إنسانيّ يستحقّ نفسا يكمل به ، وبدن آخر وهو في حكم مزاجه بالنوع ولا يستحقّ ذلك ، بل إن اتّفق كان ، وإن لم يتّفق لم يكن ، فإنّ هذا حينئذ لا يكون من نوعه ؛ فإذا فرضنا أنّ نفسا تناسخها أبدان فكلّ بدن فإنّه بذاته يستحقّ نفسا تحدث له وتتعلّق به ، فيكون البدن الواحد فيه نفسان معا ، ثمّ العلاقة التي بين النفس والبدن ليس هو على سبيل الانطباع فيه كما بيّناه مرارا ، بل العلاقة التي بينهما علاقة الاشتغال من النفس بالبدن حتّى يشعر النفس بذلك البدن وينفعل البدن عن تلك النفس ، وكلّ حيوان فإنّه يستشعر نفسه نفسا واحدة حتّى المصرّفة والمدبّرة للبدن الذي له ، فإن كان هناك نفس أخرى لا يشعر

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ / ٣٥٦ ـ ٣٥٩.

٣٤

الحيوان بها ولا هو بنفسه ولا تشتغل بالبدن فليست له علاقة مع البدن ، لأنّ العلاقة لم تكن إلّا بهذا النحو ، فلا يكون تناسخ بوجه من الوجوه ، وبهذا المقدار لمن أراد الاختصار كفاية بعد أنّ فيه كلاما طويلا (١) انتهى كلامه.

أقول : وبالله التوفيق ، يستفاد ممّا نقلنا من كلام الشيخ في «الإشارات» على ما ذكره المحقّق الطوسيّ رحمه‌الله في شرحه : «أنّ من قال بالتناسخ ونحوه إنّما قال به في النفوس الساذجة الخالية عن الكمال وعمّا يضادّه ، وهذا بإطلاقه يشمل نفوس البله والصبيان والمجانين وأمثالهم من أصحاب النفوس الساذجة ، وكأنّه حمل كلام الشيخ على ذلك ، لأنّ الشيخ وإن عنون الباب بالبله ، إلّا أنّه أراد بالبله أصحاب النفوس الساذجة مطلقا ، بقرينة أنّه قال قبل هذا الكلام المنقول عنه : «واعلم أنّ رذيلة النقصان إنّما يتأذّى بها النفس الشيّقة إلى الكمال ، وذلك الشوق تابع لتنبّه يفيده الاكتساب ، والبله بخسته من هذا العذاب وإنّما هو للجاحدين والمهملين والمعرضين عما ألمع به إليهم من الحقّ ، فالبلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء» حيث جعل البله مقابلا لهؤلاء ، فيشمل النفوس الساذجة مطلقا. فلذا قال المحقّق الطوسيّ في شرحه ثمة هكذا : «وأمّا أصحاب النفوس الساذجة فهم الّذين وسمهم الشيخ بالبله ، والأبله في اللغة هو الذي غلب عليه سلامة الصدر وقلّة الاهتمام ، ويقال عيش أبله : أي قليل الغموم ، وهؤلاء لا يتعذّبون لأنّهم غير عارفين بكمالاتهم غير مشتاقين إليها» (٢) انتهى.

وبالجملة ، فيستفاد من كلام المحقّق الطوسيّ في شرح كلام الشيخ أنّ القدماء من الحكماء اختلفوا في النفوس الساذجة بعد مفارقتها عن الأبدان ، فبعضهم قال : بأنّها تفنى ، وبعضهم بأنّها تبقى ، وإنّ القائلين ببقائها اختلفوا ، فبعضهم قال بأنّها تبقى متعلّقة بأجسام أخر ، بأن لا تصير مبادي صورة لها ولا تكون نفسا لها ، وتلك الأجسام إمّا أجرام سماويّة كما لبعض تلك النفوس ، وإمّا أجرام متولّدة من الهواء والأدخنة كما لبعض آخر منها ،

__________________

(١) الشفاء ، الطبيعيات / ٣٥٦ ، الفصل الرابع (أنّ النفس الإنسانيّة لا تفسد ولا تتناسخ) ، وفيه : ... النفس لها من ... وجد معه بدن فتعلّق بها بل عسى أن يكون عرضيه ... إذ أشخاص الأنواع ... الانطباع فيه كما ... بينهما هي علاقة ...

(٢) شرح الإشارات ٣ / ٣٥٣ ـ ٣٥٢.

٣٥

وبعضهم قال بأنّها تبقى متعلّقة بأجسام أخر بأن تكون نفسا لها وتصير مبادي صورة لها ، أي أنّها تتناسخ. والحاصل أنّ هذه المذاهب كلّها إنّما هي في النفوس الساذجة الشاملة بإطلاقها لنفوس البله والصبيان والمجانين ونحوهم.

وأمّا ما نقلنا من كلام صدر الأفاضل ، فصدره وإن كان موافقا نوع موافقة لكلام المحقّق الطوسيّ حيث ذكر أنّ خلاف القدماء من الحكماء إنّما هو في النفوس التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل إذا حملنا النفوس التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل على النفوس الساذجة ، إلّا أنّ عجزه كأنّه مخالف له حيث ذكر أنّ القول بالنسخ ونحوه من الفسخ والرسخ والمسخ إنّما هو في الأرواح السافلة ، وأنّ القول بالانتقال إلى عالم الأفلاك أو الأجرام الدخانيّة إنّما هو في الأرواح المتوسطة ، وأنّ تلك الأرواح إن كانت من نفوس الصلحاء والزهّاد تتعلّق بالأجرام السماويّة من غير أن تتصرّف فيها ، وإن كانت من نفوس الأشقياء تتعلّق بالأجرام الدخانيّة من غير أن تتصرّف فيها أيضا فإنّ المخالفة بيّنة ، لأنّه وإن أمكن حمل الأرواح السافلة على النفوس الساذجة ، إلّا أنّ حمل الأرواح المتوسطة على ذلك بعيد جدّا ، ومع هذا فالفرق بين الصلحاء والزهّاد من أصحاب النفوس المتوسطة وبين الأشقياء منهم غير بيّن من كلام المحقّق الطوسيّ ، إلّا أنّ ما ذكره صدر الأفاضل كأنّه موافق لما ذكره الفاضل الأحساويّ في «المجلى» من بعض الوجوه كما يعلم من مراجعة كلامه (١).

فإن قلت : لعلّ ما ذكره المحقّق الطوسيّ رحمه‌الله مذهب لبعض الحكماء وما ذكره صدر الأفاضل مذهب لبعض آخر ، يشهد بذلك ما ذكره صدر الأفاضل نفسه بعد بيان بطلان التناسخ في بيان أحوال النفوس الناقصة والمتوسّطة وسعادتها وشقاوتها المظنونتين على رأي الحكماء ، قال : «أمّا الناقصة الساذجة عن العلوم كلّها حتّى الأوّليات ، فقد مرّ اختلاف الحكماء فيها. والمنقول من إمام المشّائين على رواية اسكندر أنّها فاسدة ، وعلى رواية ثامسطيوس أنّها باقية ، فإذا ماتت ولم ترسخ فيها رذيلة نفسانيّة تعذّبها ولا فضيلة عقليّة

__________________

(١) المجلى / ٥٠٤ الطبعة الحجريّة.

٣٦

تلذّها. ولا أمكن تعطّلها من الفعل والانفعال وعناية الله واسعة وجانب الرحمة أرجح ، فلا محالة لها سعادة وهميّة من جنس ما تتصوّره ، وفي هذه الحالة لا عرية عن اللّذّة بالإطلاق ، ولذلك قيل نفوس الأطفال بين الجنّة والنار ، وأمّا النفوس العامّيّة التي تصوّرت المعقولات الأوّليّة ولم تكتسب شوقا إلى الحقائق النظريّة حتّى تتأذّى بفقدها تأذّيا نفسانيّا. سواء كانت تقيّة النفس عن معاصي الأفعال الشهويّة والغضبيّة أو فاجرة عاصية ، فالحكماء عن آخرهم لم يكتفوا بالقول عن معاد هذه النفوس ومن في درجتها ، إذ ليست لها درجة الارتقاء إلى عالم المفارقات ، ولا يصحّ القول برجوعها إلى أبدان الحيوانات ولا بفنائها لما علم.

فطائفة اضطرّوا إلى القول بأنّ نفوس البله والصلحاء والزهّاد تتعلّق في الهواء بجرم مركّب من بخار ودخان يكون موضوعا لتخيّلاتهم ليحصل لهم سعادة وهميّة ، وكذلك لبعض الأشقياء فيه شقاوة وهميّة ، وطائفة زيّفوا هذا القول في الجرم الدخانيّ ، وصوّبوه في الجرم السماويّ ، والشيخ الرئيس نقل هذا الرأي من بعض العلماء ووصفه بأنّه ممّن لا يجازف في الكلام ، والظاهر أنّه أبو نصر الفارابيّ ، واستحسنه قائلا : يشبه أن يكون ما قاله حقّا. وكذا صاحب (التلويحات) صوّبه واستحسنه في غير الأشقياء ، قال : «وأمّا الأشقياء فليست لهم قوّة الارتقاء إلى عالم أسماء ذوات نفوس نوريّة وأجرام شريفة (١) ، قال : والقساوة تخرجهم إلى التخيّل الجرميّ ، وليس بممتنع أن يكون تحت فلك القمر وفوق كرة النار جرم كريّ غير منخرق هو نوع بنفسه ، ويكون برزخا بين العالمين الأثيريّ والعنصريّ موضوعا لتخيّلاتهم ، فيتخيّلون من أعمالهم السيّئة مثلا من نيران وحيّات تلسع وعقارب تلدغ وزقّوم يشرب ، قال : بهذا يدفع ما بقي من شبهة أهل التناسخ» (٢) ، انتهى كلامه.

قلت : وعلى هذا أيضا تبقى المخالفة في الجملة بين ما ذكره المحقّق الطوسيّ وما

__________________

(١) شرح حكمة الإشراق / ٤٥٢ ـ ٤٥٤.

(٢) الشواهد الربوبيّة وفيه : ... فإذا كانت باقية ولم تترسّخ فيها رذيلة ... لا عريّة عن اللّذة بالإطلاق ولا نائلة لها بالإطلاق ولذلك قيل : ... لم يكشفوا بالقول عن معاد ... قال ... والقوّة يحوجهم إلى التخيّل ...

٣٧

ذكره صدر الأفاضل في نقل المذاهب كما لا يخفى على المتأمّل ، وكيف ما كان ، فتحقيق ذلك ممّا لا يهمّنا ، بل الغرض المهمّ إبطال تلك المذاهب في النفوس مطلقا ؛ فنتكلم فيه ، فنقول :

إشارة إلى بطلان القول بفناء النفس بعد خراب البدن

أمّا القول بفناء النفوس الإنسانيّة وانعدامها بعد خراب أبدانها ، فقد ظهر بطلانه فيما سبق ، حيث أقمنا الحجّة على بقائها بعده ، وأمّا القول بتعلّقها بعد خراب أبدانها بأجسام أخر من غير أن تكون هي أنفسا لها ومبادي صورة لها كما نقله الشيخ عن الفارابيّ ومال إليه ، سواء كانت تلك الأجسام أجراما سماويّة أو جرما دخانيّا ، وسواء قيل به في نفوس السعداء والأشقياء جميعا ، كما هو ظاهر الفارابيّ والشيخ ، وسواء قيل بالتعلّق بجرم سماويّ في السّعداء ، وبجرم دخانيّ في الأشقياء ، أو قيل بالتعلّق بجرم دخانيّ فقط في السعداء والأشقياء جميعا ، أو قيل بالتعلّق بجرم سماويّ فقط فيها جميعا كما يستفاد هذه المذاهب ممّا نقلنا من كلمات صدر الأفاضل ، أو قيل بالتعلّق بجرم سماويّ في السعداء وبجرم إبداعيّ غير منخرق تحت فلك القمر وفوق كرة النار يكون نوعه منحصرا في شخص في الأشقياء كما نقله عن صاحب التلويحات.

وبالجملة ، القول بتعلّق تلك النفوس بتلك الأجسام والأجرام من غير أن تكون هي متصرّفة فيها مدبّرة لها إلّا أنّها تكون موضوعة لتخيّلاتها ، فبيان بطلان تلك الأقوال على الإجمال أنّه من الأصول المقرّرة عند الحكماء أنّ النفس الإنسانيّة وإن كانت في ذاتها غير مفتقرة إلى البدن ، لكنّها في أفعالها محتاجة إليه مستكملة به ، وأنّها لا يجوز أن تكون معطّلة عن الإدراك ، وإنّ إدراكاتها الجزئيّة لا تكون إلّا بآلات جسمانيّة بدنيّة كما اعترف به الفارابيّ نفسه ، حيث قال : وهم بدنيّون لا يعرفون غير البدنيّات.

وحينئذ نقول : إنّها إذا فارقت الأبدان فكيف يختلف حالها وتصير هي ـ على كونها بدنيّة ـ غير بدنيّة وغير مفتقرة إلى بدن يكون إدراكاتها الجزئيّة في ضمنه وبالآلات

٣٨

البدنيّة ، والحال أنّ النفوس التي الكلام فيها ليست نفوسا كاملة مستكملة حتّى يمكن القول بأنّها حينئذ لا تحتاج إلى البدن ، بل إنّها تشتغل بكمالاتها الذاتية إمّا مبتهجة بلذّاتها العقليّة ، أو متألّمة بآلامها العقليّة. كيف ولو كانت مستكملة كذلك غير مفتقرة إلى البدن ، فكما لا تحتاج إلى البدن كذلك لا تحتاج إلى التعلّق بجرم سماويّ أو غيره يكون ذلك الجرم موضوعا لتخيّلاتها ولا تكون هي متصرّفة فيه متعلّقة به تعلّق النفس بالبدن.

وأيضا نقول كما قال صدر الأفاضل أيضا : إنّ كون كلّ جرم سماويّ أو عنصريّ دخانيّ أو جرم غير منخرق موضوعا لتصرّفات الأنفس وتخيّلاتها لا يستقيم إلّا بأن يكون لها به علاقة طبيعيّة أو لبدنها معه علاقة وضعيّة ، فإنّ المسلوب عن العلاقتين كما فيما نحن فيه ، كيف تستعمله النفس أو تنسب إليه ، فأيّة نسبة حدثت بين النفس التي هي جوهر روحانيّ أوجبت اختصاصه بذلك الجرم وانجذابه من عالمه إليه دون غيره من الأجرام ، بل إلى حيّزه دون سائر الأحياز من نوع ذلك الجرم. وأيضا كون جرم سماويّ موضوعا لتصوّرات تلك النفوس إنّما يتصوّر إذا كان بينهما علاقة طبيعيّة ذاتيّة ، ومن أين يتصوّر العلاقة الطبيعيّة لجوهر نفسانيّ مع جرم تامّ الصورة الكماليّة غير عنصريّ الذات؟ ولا الممكن التصرّف فيه بالتصوير والتمثيل إلّا لصورته الإبداعيّة الحاصلة له بالفيض الأوّليّ ، وأنّه أيّة مادّة جسمانيّة تصير آلة لتخيّل قوّة نفسانيّة ، فلا بدّ وأن تتّحد بها ضربا من الاتّحاد وتستكمل بها نوعا من الاستكمال ، فتخرجها عن حدّ قوة إلى فعل بالانفعالات والحركات المناسبة. والحال أنّ الفلك على رأيهم لا يتحرّك إلّا حركة واحدة متشابهة وضعيّة مطابقة لحركات النفسانيّة الحاصلة من جهة مدبّر نفسانيّ ومعشوق عقليّ يتشبّه به فيها.

ولا يمكن أيضا أن يكون ذلك من قبيل المرايا التي لها نسب وضعيّة إلى ما يتصرّف فيها النفوس بالطبع كما تتخيّل صورة في المرآة التي لها نسبة وضعيّة إلى عينك التي هي بالحقيقة مرآة نفسك التي تتصرف فيها ، إذ ليس الجرم الفلكيّ وما يجري مجراه بالقياس إلى نفسك المدبّرة كإحدى هاتين المرآتين ؛ كيف والسماويّات عندهم ليست مطيعة إلّا لمباديها الأولى ، وهي ملائكة السماء المحرّكة لها بأمر الله تعالى. ولا قابلة للتأثيرات

٣٩

الغريبة لامتناع صورها عن ذلك ولعدم تطرّق القواسر إليها.

وكذلك ليست لهذه النفوس المفارقة عن أبدانها أبدان أخرى كما هو المفروض ليتصوّر بين تلك الأبدان وبين الأجرام العالية علاقة وضعيّة ، بسببها تصير هي لها كالمرآة الخارجيّة لتشاهد ما فيها من الصور والأشباح الخياليّة. ثمّ على تقدير تجويز كونها مرائي ، كيف يكون المثل التي هي تخيّلات الأفلاك عين تخيّلات هذه النفوس خصوصا الأشقياء منهم المعذّبون بها كما اعترفوا بأنّ الصور المؤلمة هي التي قد حصلت من هيآتهم الرديّة وعقائدهم الباطلة ، والحال أنّ الحاصل في الأجرام الفلكيّة لصفاء قوابلها وشرف مباديها ، ليس إلّا صورا نقيّة مطابقة للواقع ، فلا يستقيم ما قالوه ، خصوصا كون جرم فلكيّ ممّا يتعذّب به الأشقياء. وكما لم يجز ذلك في الجرم الفلكيّ فكذلك لا يجوز في جرم إبداعيّ غير منخرق منحصر نوعه في شخصه ، لأنّه مع كونه غير معلوم الوجود ، إن كان على ما تصوّروه ، فلا بدّ وأن يكون له طبيعة خامسة ممتنعة الحركة المستقيمة كالأفلاك ، فيكون حكمه حكمها ، سواء سمّي باسم الفلك أم لا ، وإن كان في حكم العناصر فيكون حكمه حكم الجرم الدّخانيّ ، ويكون المحال اللازم على تقديره مشتركا ، وهو أنّ ذلك الجرم الدّخانيّ أو ذلك الجرم الإبداعيّ سواء قيل بكونه موضوعا لتصوّرات نفوس الأشقياء فقط ، أو لتصوّرات نفوس الأشقياء والسعداء جميعا ، إن كان واحدا بالعدد كما هو ظاهر كلامهم في الأوّل ، وصريح كلامهم في الثاني. كيف يكون موضوعا لتخيّلات النفوس التي لا تتناهى إلى حدّ ، ولتصوّراتها الإدراكية الغير المتناهية؟ إذ لا أقلّ من أن يكون فيه بإزاء كلّ تعلق وتصوّر قوّة واستعداد غير ما بإزاء غيره ، فيحصل في جرم واحد بالعدد استعدادات غير متناهية مجتمعة ، وهذا معلوم الفساد. وإن كان متكثّرا بالعدد ، أعني أن يكون بإزاء كلّ نفس من تلك النفوس جرم دخانيّ أو إبداعيّ منفرد ، فهذا مع كونه خلاف ما ذهبوا إليه معلوم البطلان أيضا بالضرورة.

وأيضا فما ذكره الشيخ ، من أنّه يجوز أن يفضي بهؤلاء التعلّق المذكور آخر الأمر إلى الاستعداد أو للاتّصال المعدّ للعارفين ، منظور فيه ، لأنّ ذلك موقوف على أن يكون للنفس بعد المفارقة عن البدن اكتساب للعلوم الحقّة وتحصيل للمعارف حتّى تلحق بالعارفين

٤٠