منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-609-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٢٩٢

غطاء از پيش برگيرد ، كه (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (١) ، واين آنگاه بود كه از اين حيات كه به حقيقت مرگ است بميرد ، وبه حيات آن جهان كه مرگ اين جهان است زنده شود ، كه : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) (٢). آن را چنان بيند كه باشد ، واين است اجابت دعاء «اللهمّ أرنا الأشياء كما هي» پس هركسى را بعد از كشف غطاء وحدّت بصر كتاب خود ببايد خواندن وحساب خود كردن ، (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً* اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (٣). اگر سابق الخيرات باشد ، يا از اهل يمين به حكم «كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون» كتابش از پيش يا از جانب راستش بدو دهند (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) (٤). واگر از جمله منكوسين باشد ، (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٥). يا از اهل شمال ، كتابش از وراء ظهرش يا از جانب چپش به او دهند ، (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) (٦). (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) (٧) ، انتهى كلامه زيد اكرامه.

ولا يخفى عليك أنّ ما ذكره البيضاويّ ، في معنى الكتاب ، وكذا ذهب إليه صدر الأفاضل وفصّله ، إن كان القول به على سبيل الاحتمال ، أي بأن جعل الأصل في معناه ما ذكرناه كما هو ظاهر الشّرع ، ومع هذا قيل بهذا الاحتمال أيضا فلا مانع منه ، وإن حصر المعنى فيه ، فلا يخفى أنّه خلاف ظاهر الشرع.

ولا يخفى عليك أيضا أنّ ما ذكره المحقّق الطوسيّ رحمه‌الله في معناه ، وإن كان متضمّنا للتأويل ، إلّا أنّه ليس فيه خروج عن ظاهر الشرع ، بل هو تحقيق أنيق جامع لظاهر الشرع

__________________

(١) ق (٥٠) : ٢٢.

(٢) الأنعام (٦) : ١٢٢.

(٣) الإسراء (١٧) : ١٣ ـ ١٤.

(٤) الحاقّة (٦٩) : ١٩ ؛ الانشقاق (٨٤) : ٧.

(٥) السجدة (٣٢) : ١٢.

(٦) الانشقاق (٨٤) : ١٠.

(٧) المبدأ والمعاد / ٢٣ ـ ٢٥ ، ط تهران.

٢٤١

وباطنه. والله أعلم بالصواب.

وحيث انتهى الكلام إلى هذا المقام ، فلنرجع إلى ما كنّا بصدده ، فنقول :

الميزان

فقد اختلف في معناه.

قال الزمخشريّ في قوله تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) (١) : يعني وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها ، ورفعه بالابتداء ، وخبره يومئذ ، والحقّ صفته. أو الوزن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم الوزن الحقّ أي العدل. وقرئ بالقسط.

واختلف في كيفيّة الوزن ، فقيل : توزن صحائف الأعمال بميزان له لسان وكفّتان ينظر إليه الخلائق ، تأكيدا للحجّة وإظهارا للنّصفة وقطعا للمعذرة ، كما يسألهم عن أعمالهم ، فيعترفون بألسنتهم وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وجلودهم ، وتشهد بها عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد ، كما تثبت في صحائفهم فيقرءونها في موقف الحساب.

وقيل هي عبارة عن القضاء السّويّ والحكم العادل. فمن ثقلت موازينه ، جمع ميزان أو موزون فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر وهي الحسنات ، أو ما وزن به حسناتهم.

وعن الحسن : «وحقّ لميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل ، وحقّ لميزان توضع فيه السيّئات أن يخفّ» (٢) ، انتهى.

ومثله كلام الطبرسيّ رحمه‌الله في «الجوامع» في تفسير هذه الآية.

وقال البيضاويّ في تفسيرها : «والوزن أي القضاء أو وزن الأعمال ، وهو مقابلتها بالجزاء ، والجمهور على أنّ صحائف الأعمال توزن بميزان له لسان وكفّتان ينظر إليه الخلائق إظهارا للمعدلة ، وقطعا للمعذرة ، كما يسألهم عن أعمالهم فيعترف بها ألسنتهم ،

__________________

(١) تفسير الكشّاف ٢ / ٦٧ ـ ٦٨.

(٢) نفس المصدر.

٢٤٢

وتشهد بها جوارحهم. ويؤيّده ما روي أنّ الرجل يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسع وتسعون سجلّا كلّ سجلّ مدّ البصر ، فيخرج له بطاقة فيها كلمة الشهادة ، فيوضع السّجلّات في كفّة والبطاقة في كفّة ، فطاشت السّجلّات وثقلت البطاقة (١).

وقيل : توزن الأشخاص ، لما روي أنّه عليه‌السلام قال : إنّه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة.

(يَوْمَئِذٍ) خبر المبتدأ الذي هو الوزن ، والحقّ صفته أو خبر محذوف ، ومعناه العدل السويّ.

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) حسناته ، أو ما يوزن به حسناته. وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات وتعدّد الوزن ، فهو جمع موزون أو ميزان» (٢) ، انتهى.

وقال الشّارح القوشجيّ في شرح التجريد : «وذهب كثير من المفسّرين إلى أنّ الميزان له كفّتان ولسان وشاهين عملا بالحقيقة لا مكانها ، وقد ورد في الحديث تفسيره بذلك ، وأنكره بعض المعتزلة ذهابا إلى أنّ الأعمال أعراض لا يمكن وزنها ، فكيف إذا زالت وتلاشت ، بل المراد به العدل الثّابت في كلّ شيء ، ولذا ذكر بلفظ الجمع ، وإلّا فالميزان المشهور واحد.

وقيل : هو الإدراك فميزان الألوان البصر ، والأصوات السمع ، والطّعوم الذوق ، وكذا سائر الخواصّ ، وميزان المعقولات العقل.

وأجيب بأنّه يوزن صحائف الأعمال. وقيل : بل يجعل الحسنات أجساما نورانيّة ، والسّيئات أجساما ظلمانيّة. وأمّا لفظة الجمع فللاستعظام.

وقيل : لكلّ مكلّف ميزان ، وإنّما الميزان الكبير واحد ، إظهارا لجلالة الأمر فيه ، وعظم المقام (٣) ، انتهى.

وقال بعض المحقّقين موافقا للغزاليّ في تحقيق ميزان أعمال العباد : «إن لكلّ معنى

__________________

(١) البطاقة : الرقعة الصغيرة.

(٢) تفسير البيضاويّ ٣ / ٣.

(٣) شرح التجريد للقوشجى / ٤٢٥.

٢٤٣

من المعاني حقيقة وروحا وله صورة وقالب ، وقد يتعدّد الصور والقوالب لحقيقة واحدة ، وإنّما وضعت الألفاظ للحقائق والأرواح ، ولوجودها في القوالب يستعمل الألفاظ فيها على الحقيقة ، مثل القلم فإنّه وضع لآلة نقش الصور في الألواح من دون أن يعتبر فيها كونها من قصب أو حديد أو غير ذلك ، بل ولا أن يكون جسما ، ولا كون النّقش محسوسا أو معقولا ، ولا كون اللوح من قرطاس أو خشب ، بل مجرّد كونه منقوشا فيه ، وهذا حقيقة اللوح.

فكذلك الميزان موضوع لما يعرف به مقادير الأشياء ، وهذا معنى واحد هو حقيقته وروحه ، وله قوالب مختلفة وصور شتّى بعضها محسوس وبعضها معقول ، مثل ما يوزن به الأجرام والأثقال كذي الكفّتين ، وما يوزن به المواقيت والارتفاعات كالاصطرلاب ، وما يوزن به الدوائر والقسّي كالفرجار ، وما يوزن به الأعمدة كالشاقول ، وما يوزن به الخطوط كالمسطر ، وما يوزن به الشعر كالعروض ، وما يوزن به سائر العلوم كالمنطق ، وما يوزن به الكلّ كالعقل المستقيم.

وعلى هذا التحقيق يحتمل أن يقال : إنّ الميزان في الشرع للخواصّ من الناس المنطق ، والقوانين النظريّة التي يعرف بها الحقّ والباطل في الاعتقادات والأصول ، وللخواصّ والعوامّ جميعا في الأعمال والأفعال الأنبياء والأوصياء عليه‌السلام ، إذ صحّة الفعل وفساده يتحقّق بالموافقة لأفعالهم وأقوالهم وعدمها ، انتهى.

وقال بعضهم : «إنّه قد ورد في الأحاديث أنّ الموازين القسط هم الأنبياء والأوصياء ، وأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام هو الميزان ، فميزان كلّ أمّة هو نبيّ تلك الأمّة ووصيّ نبيّها» ، انتهى.

وقال ابن بابويه في «اعتقاداته» : «اعتقادنا في الحساب والميزان أنّهما حقّ ، منه ما يتولّاه الله عزوجل ومنه ما يتولّاه حججه ، فحساب الأنبياء والأئمّة عليه‌السلام يتولّاه الله عزوجل ، ويتولّى كلّ نبيّ حساب أوصيائه ، ويتولّى الأوصياء حساب الأمم ، والله تبارك وتعالى هو الشهيد على الأنبياء والرّسل ، وهم الشهداء على الأوصياء ، والأئمّة شهداء على الناس ، وذلك قول الله عزوجل :

٢٤٤

(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (١) ،

وقوله عزوجل : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٢) ،

وقال الله عزوجل : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) (٣). والشاهد أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وقوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٤).

وسئل الصادق عليه‌السلام عن قول الله عزوجل. (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) (٥).

قال : الموازين الأنبياء والأوصياء.

ومن الخلق من يدخل الجنّة بغير حساب.

السؤال

فهو واقع على جميع الخلق ، لقول الله عزوجل : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٦) ، يعني عن الدّين.

وأمّا الذنب فلا يسأل إلّا من يحاسب. قال الله عزوجل (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) (٧) ، يعني من شيعة النبيّ والأئمّة عليه‌السلام دون غيرهم ، كما ورد في التفسير.

وكلّ محاسب معذّب ، ولو بطول الوقوف ، ولا ينجو من النار ولا يدخل الجنّة أحد إلّا بعمله والّا برحمة الله تعالى ، والله تعالى يخاطب عباده من الأوّلين والآخرين بمحلّ حسابهم مخاطبة واحدة يسمع منها كلّ واحد قضيّة دون غيرها ، ويظن أنّه مخاطب دون

__________________

(١) الحجّ (٢٢) : ٧٨.

(٢) النساء (٤) : ٤١.

(٣) هود (١١) : ١٧.

(٤) الغاشية (٨٨) : ٢٥ ـ ٢٦.

(٥) الأنبياء (٢١) : ٤٧.

(٦) الأعراف (٧) : ٦.

(٧) الرحمن (٥٥) : ٣٩.

٢٤٥

غيره ، لا يشغله عزوجل مخاطبة عن مخاطبة ، يفرغ من حساب الأوّلين والآخرين في مقدار ساعة من ساعات الدنيا ، ويخرج الله عزوجل لكلّ إنسان كتابا يلقاه منشورا ينطق عليه بجميع أعماله. لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، فيجعله الله محاسب نفسه والحاكم عليها ، بأن يقال له : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) ويختم الله تبارك وتعالى على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم وجميع جوارحهم بما كانوا يكسبون ، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا؟ قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كلّ شيء وهو خلقكم أوّل مرّة وإليه ترجعون ، وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ، ولكن ظننتم أنّ الله لا يعلم كثيرا ممّا تعملون)) (١) ، انتهى.

وأقول : وأنت تعلم بعد التأمّل في كلام العلماء من أهل الإسلام ، ممّا نقلنا أو لم ننقل ، أن لا خلاف بينهم ، بل لا شكّ في أنّ في يوم القيامة معيارا صحيحا سديدا قويما يعرف به صحّة العمل وفساده ، وصواب الاعتقاد وخطاؤه ، قد عبّر عنه بلسان الشّرع بالميزان كما نطقت به الآيات القرآنيّة ، ودلّت عليه الأحاديث الصحيحة المعتبرة ، إلّا أنّهم اختلفوا في حقيقة ذلك الميزان والمعيار ما هي؟

فمن قال بأنّ المراد منه الميزان الحسّيّ الجسمانيّ الذي له لسان وكفّتان ، فكأنّه قال به نظرا إلى دلالة بعض الأخبار عليه ، كخبر السجلّات الذي نقله البيضاويّ وغيره من الأخبار ، والى أنّ المتبادر من لفظة الميزان والمعنى الحقيقيّ له هو هذا ، فيجب الحمل عليه إذا لم يكن قرينة على خلافه.

ولا إشكال عليه أيضا من جهة أنّ الأعمال والاعتقادات معاني وأعراض ، فكيف يمكن وزنها بذلك الميزان الحسّيّ حتّى يظهر ثقلها أو خفّتها؟ لأنّها من حيث كونها معاني وأعراضا وإن كان لا يمكن وزنها بذلك الميزان الحسّيّ الجسمانيّ ، إلّا أنّها كما دلّ عليه الأخبار الدالّة على تجسيم الأعمال في القيامة تكون أجساما ، إمّا أجساما نورانيّة ، كما للمحسنين ، وإمّا ظلمانيّة كما للمسيئين ، وإذا كانت أجساما فيمكن وزنها بذلك الميزان.

__________________

(١) راجع الاعتقادات للصدوق / ٨٨ ـ ٨٩.

٢٤٦

فإن قلت : إنّ الأخبار الدالّة على تجسيم الأعمال تدلّ على تجسيم أعمال المحسنين بصورة الحور والقصور والولدان ونحو ذلك ، وأعمال المسيئين بصورة الحيّات والعقارب والنيران ونحو ذلك ، فما معنى وزنها؟

قلت : لا امتناع في وزنها حتّى يظهر ثقلها أو خفّتها. مع أنّه يمكن أن تكون تلك الأعمال مع تجسّمها بتلك الصّور المذكورة متجسّمة حين الوزن بصور جسمانيّة أخرى مؤلمة أو ملذّة ، ويقع الوزن على تلك الأجسام الأخرى ، وتكون الأجسام الأولى والأخرى كلّها مظاهر لتلك الأعمال.

فإنّك قد عرفت فيما مضى أنّه يمكن أن يكون لحقيقة واحدة مظاهر متعدّدة ، على أنّه يمكن أن يكون الموزون بذلك الميزان الحسّيّ صحائف الأعمال لا نفس الأعمال ، أي أن يكون تلك الصّحائف الجسمانيّة من حيث كونها مشتملة على الأعمال المكتوبة فيها ، وكون ثقلها وخفّتها دليلا على ثقل الأعمال وخفّتها موزونة.

وأمّا القول بأنّه توزن الأشخاص ، فهو وإن كان يدفع هذا الإشكال أيضا ، إلّا أنّه خلاف الظاهر من الأخبار ، بل مستبعد جدّا ، فإنّ ثقل الأشخاص من حيث كونها أشخاصا وخفّتها ، كيف يكون دليلا على ثقل الأعمال وخفّتها اللّذين هما مناط الرجحان وعدمه ، وسبب الحكم على المكلّفين بالإساءة أو الإحسان.

اللهمّ إلّا أن يكون المراد بوزن الأشخاص وزن أعمالهم أو وزن صحائف أعمالهم ، فيرجع إلى السّابق. وكذا الحديث الذي نقله البيضاويّ (١) : «من أنّه روي عنه عليه‌السلام ، أنّه قال : «ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة» ، غير صريح ولا ظاهر في وزن الأشخاص ، فإنّه يمكن أن يكون معنى الحديث ـ والله أعلم ـ أنّه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا قدر له عند الله تعالى بقدر جناح بعوضة ، لكونه ممّن لا عمل خير له ، ويؤيّده ما ذكره الشيخ الطبرسيّ رحمه‌الله في «مجمع البيان» في تفسير قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (٢). بهذه العبارة :

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ٣ / ٣.

(٢) الكهف (١٨) : ١٠٥.

٢٤٧

«فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» أي لا قيمة لهم عندنا ولا كرامة ، ولا نعتدّ بهم ، بل نستخفّ بهم ونعاقبهم. يقول العرب : ما لفلان عندنا وزن ، أي قدر ومنزلة ، ووصف الجاهل بأن لا وزن له لخفّته بسرعة طيشه في قلة تنبّه.

وروي في الصّحيح أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة» (١) ، انتهى.

ولا يخفى أنّ ذكره رحمه‌الله هذا الحديث في تفسير الآية كما فسّرها يؤيّد ما ذكرنا في معنى الحديث ، بل يدلّ عليه ، وإن ذكر بعضهم في الآية تفسيرا آخر ، وهو أنّه لا يقام للكافرين يوم القيامة ميزان ، لكون أعمالهم حابطة ، موافقا لما ورد في الأخبار : «إنّ أهل الشرك لا ينصب لهم الموازين ، ولا تنشر لهم الدّواوين ، وإنّما يحشرون إلى جهنّم زمرا ، وإنّما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام» رواه الكلينيّ رحمه‌الله في «روضة الكافي» عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام (٢).

ثمّ إنّه حيث كان الميزان ميزانا حسّيّا جسمانيّا ، كان ثقل الموازين ـ جمع ميزان أو موزون ـ وخفّتها ثقلا وخفّة حسّيّين أيضا ، وكان الثّقل دليلا على الرجحان ، والخفّة دليلا على خلافه ، كما أنّه في النشأة الدنيويّة كذلك.

وقد قال بعض أهل التحقيق ، كالمحقّق الطوسيّ رحمه‌الله في رسالة «المبدأ والمعاد» : «إنّ في ذلك إشارة إلى دقيقة هي أنّ أثر كلّ فعل يقتضي اطمينان الفاعل كالخيرات والأفعال الحسنة ، فنسبته إلى الثقل أولى ، وهذا كما أنّ المثقلات تحفظ السفن عن الاضطراب والحركات المختلفة ، وأثر كلّ فعل يقتضي تحيّر نفس الفاعل وتتبّع الأهواء المختلفة كالسّيّئات والشّرور فنسبته إلى الخفّة أولى ، حيث إنّ الجسم الخفيف يتحرّك بأدنى تغيّر يحدث في الهواء ويكون حركاته خالية عن الانتظام ، وكذلك اطمينان النفس يستلزم الرضا ، فلذا قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٣). واختلاف

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٤٩٧ وفي لفظه : ... ويوصف الجاهل ... بسرعة بطشه وقلّة تثبّته ...

(٢) الكافي (الأصول والروضة) ١١ / ٤١٢ ـ ٤١٣ ، طبع الإسلامية.

(٣) القارعة (١٠١) : ٦ ـ ٧.

٢٤٨

حركات النفس واضطرابها يستلزم متابعة الهواء ، وهي مؤدّية إلى الهاوية ، فلذا قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ* فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (١).

وأيضا إن إبليس خلق من النار ، وآدم خلق من الطين ، كما قال تعالى : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٢) والنار خفيفة ، والطين ثقيل ، فلذا يقتضي أفعال إبليس الخفّة ، وأفعال آدم الثقل ، كما قال تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) (٣) انتهى بمضمونه. (٤)

وأقول : وهذا التحقيق وإن كان متضمّنا للتأويل ، لكنّه تحقيق أنيق جامع بين ظاهر الشّرع وباطنه.

وحيث عرفت ذلك. فاعلم أنّ القول بالميزان بهذا المعنى الحسّيّ الجسمانيّ ، كأنّه لا ينافيه ما ورد في الأخبار الصحيحة أنّ الموازين هم الأنبياء والأوصياء عليه‌السلام ، وأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام هو الميزان ، إذ القائل بهذا القول لو رام القول بما تضمّنه تلك الأخبار أيضا ، وأراد الجمع بين الأخبار ، أمكنه أن يقول : لعلّ المتولّي لوزن الأعمال بذلك الميزان الحسّيّ هم الأنبياء والأوصياء عليه‌السلام ، كما أنّهم هم المتولّون لحساب الأمم ، فلذلك أطلق عليهم عليه‌السلام ، لفظ الميزان ، ويكون الإطلاق على نوع من المجاز.

وعلى تقدير أن يكون المراد بتلك الأخبار أنّهم عليه‌السلام هم الميزان نفسه ، وأنّ ذواتهم المقدّسة ونفوسهم الشريفة هي المعيار لصحّة العمل وفساده ، كما هو الظاهر من تلك الأخبار ، بناء على أن يكون إطلاق الميزان عليهم عليه‌السلام بنوع تجوّز كما هو الاحتمال ، أو على سبيل الحقيقة بناء على التحقيق الذي نقلناه من الغزاليّ وغيره ، وبناء على أن يكون معنى كونهم الميزان كما هو الاحتمال ، أنّهم يحكمون بعقولهم المقدّسة المستقيمة في النشأة الأخرويّة على بعض الأعمال والاعتقادات بالحسن والرّجحان ، وكذا بالثقل الذي هو دليل الرجحان ، وعلى بعضها بخلاف ذلك.

__________________

(١) القارعة (١٠١) : ٨ ـ ٩.

(٢) الأعراف (٧) : ١٢ ؛ ص (٣٨) : ٧٦.

(٣) الإسراء (١٧) : ٨٤.

(٤) المبدأ والمعاد / ٢٨.

٢٤٩

أو أنّه يوم القيامة يعرض أفعال العباد وعقائدهم على أفعالهم عليه‌السلام وعقائدهم ، وتقاس هي عليها ، فما وافق أفعالهم وعقائدهم يحكم عليه بالرجحان والثقل ، وما خالفه يحكم عليه بخلافه كما هو الأظهر ، وبناء على أن يكون معنى الثقل والخفّة معنى عقليّا.

فعلى هذا التقدير لا منافاة أيضا ، إذ القائل بالميزان الحسّيّ لو رام الجمع أيضا ، أمكنه أن يقول : لا امتناع في أن يكون يوم القيامة نوعان من الميزان والمعيار ، يوزن بكلّ منهما الأعمال ويتميّز بهما صحّة الفعل وفساده : أحدهما الميزان الحسّيّ ، والآخر الأنبياء والأوصياء الذين يرجع كونهم ميزانا إلى الميزان العقليّ ، ولعلّ الحكمة في ذلك ـ والله أعلم ـ ظهور حسن أفعال العباد وقبحها أتمّ ظهور ، حيث إنّ تلك الأفعال توزن بميزان حسّيّ وعقليّ جميعا ، فيظهر ثقل ما ظهر ثقله بالميزان الحسّيّ بالميزان العقليّ أيضا ، وكذلك الخفّة.

وبالجملة ، يكون إلزام الحجّة عليهم أوكد وأتمّ.

وهذا كما أن من يقول بأنّ المراد بالموازين القسط هم الأنبياء والأوصياء نظرا إلى دلالة تلك الأخبار عليه ، لو رام القول بالميزان الحسّيّ أيضا والجمع بين الأخبار ، أمكنه ذلك بأحد من الوجهين المذكورين. والله أعلم بالصواب.

وحيث عرفت ذلك ، ظهر لك أنّ من قال بأنّ الموازين عبارة عن القضاء السويّ والحكم العادل ، إن أراد به القضاء السويّ والحكم العادل الذي يكون بالميزان الحسّيّ ، فلا مانع منه.

وكذا لو أراد به الحكم العادل الذي يحكم به الأنبياء والأوصياء عليه‌السلام ، أو يحكم به الله تعالى أو الملائكة المقرّبون بإذن الله تعالى ، أو الحكم العدل الذي يكون هو بموافقة أفعال العباد لأفعال الحجج عليه‌السلام ومخالفتها لها ، فلا مانع منه أيضا. وكيفما كان فلا يكون في هذا القول مخالفة لشيء من الأخبار ، بل على تقديره أيضا يمكن الجمع كما يعلم بالتأمّل فيما ذكرنا.

وأمّا من قال بأنّ المراد بالوزن وزن الأعمال ، وهو مقابلتها بالجزاء ، فهو بظاهره وإن كان يتراءى كونه معنى آخر غير ما ذكر ، إلّا أنّه بعد التأمّل يرجع إلى السابق أيضا ، لأنّ

٢٥٠

وزن الأعمال ومقابلتها بالجزاء إنّما يكون بميزان البتّة ، وهو إمّا الميزان الحسّيّ أو العقليّ.

وقد ذكر بعضهم أنّ المراد بالميزان تقابل الحسنات من أهل الطّاعة بسيّئاتهم ، ليظهر الرجحان أو التساوي ، وهذا مع رجوعه إلى السّابق باعتبار يتضمّن معنى آخر ، هو الموازنة التي قال بها بعض المتكلّمين ، وأبطلها بعض العلماء منّا. ولنا في تحقيق القول بها وفي إبطال الإحباط والتكفير كلام مبسوط ذكرناه في «تنقيح المرام في شرح تهذيب الأحكام» (١) ، من أراد الاطّلاع عليه فليرجع إليه.

وكيفما كان ، فالميزان بأيّ معنى من تلك المعاني المتقدّمة ، أمر ممكن في ذاته قد أنبأ عنه الشرع ، فيجب الإيمان به.

الحساب

فمعناه جمع تفاريق المقادير والأعداد وتفريق مبلغها لكي يظهر كيفيّة الحال ، وهو في القيامة عبارة عن حصر آثار الحسنات والسيّئات وجمعها حتّى يجزى أهل الحسنات جزاء حسناتهم ، وأهل السيّئات جزاء سيّئاتهم ، وكما أنّ ذلك أمر ممكن في ذاته ، كذلك يمكن في جنب قدرة الله تعالى البالغة أن يكشف في لحظة واحدة وساعة واحدة للخلائق حاصل حسناتهم وسيّئاتهم ، ولا يشغله حساب أحد عن حساب الآخر ، ويفرغ في تلك اللحظة والسّاعة عن حساب الأوّلين والآخرين وهو أسرع الحاسبين.

وأمّا بيان كيفيّة وقوع الحساب وبيان المتولّي له ، وبيان من يقع عليه الحساب ، وما يحاسب به ، ويسأل عنه ، فقد عرفته على سبيل الإجمال ممّا نقلنا عن الشيخ ابن بابويه رحمه‌الله من المقال ، فتذكّر.

إلّا أنّ قوله أوّلا بوقوع الحساب على كلّ أحد ، حتّى الأنبياء والأوصياء عليه‌السلام ، وقوله أخيرا : إنّ من الخلق من يدخل الجنّة بغير حساب ، يتراءى أنّه كونهما متنافيين ظاهرا.

ولعلّ وجه رفع التنافي كما يظهر من كلامه ، أنّ معنى وقوع الحساب على الكلّ أنّ

__________________

(١) نسخة منه موجودة في مكتبة مدرسة المروي بطهران.

٢٥١

الكلّ يحاسبون ويسألون عن الدين ، ومعنى أنّ من الخلق من يدخل الجنّة بغير حساب ، أنّهم يدخلون الجنّة بغير حساب وسؤال عن الذنب لا عن الدين أيضا ، وحينئذ فلا منافاة : على أنّه ذكر بعض المفسّرين ، كالشيخ الطبرسيّ رحمه‌الله في الجوامع في تفسير قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) (١) هكذا : وقوله : «بغير حساب» في مقابلة «إلّا مثلها» معناه أنّ جزاء السّيئة له حساب وتقدير لا يزيد على المستحقّ ، وأمّا جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب ، بل هو زائد على المستحقّ ما شئت من الزيادة والكثرة» (٢) ، انتهى.

ولعلّ مراد ابن بابويه رحمه‌الله أيضا من قوله : «إنّ من الخلق من يدخل الجنّة بغير حساب» هذا المعنى ، وحينئذ فلا إشكال ولا منافاة أصلا.

وقد تضمّن ما نقلناه عنه أنّ في القيامة ، ولا سيّما حين وقوع الحساب ، يكون إنطاق الجوارح أيضا كما دلّ عليه الآيات التي ذكرها وغيرها ممّا ورد في الشّرع من ذلك ، ولا يخفى أنّه أيضا أمر ممكن في ذاته قد نطق به الشرع ، فيجب الإيمان به. وهذا أيضا من جملة الأمور والأحوال الكائنة في القيامة التي نروم بيانها هذا.

وقد ذكر المحقّق الطوسيّ رحمه‌الله في رسالة «المبدأ والمعاد» في بيان الحساب كلاما لا بأس بنقله.

قال : «فصل نهم در اشارت به حساب طبقات اهل حساب. در روز حساب مردمان سه طائفه اند : طائفه اى (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) وايشان سه صنفند :

اوّل : سابقان واهل اعراف ، كه از حساب منزه اند. در خبر است كه چون درويشان را به حسابگاه برند ، وفرشتگان از ايشان حساب طلبند ، گويند چه به ما داده ايد ، تا حساب بازدهيم. خطاب حضرت عزت مى رسد كه نيك مى گويند ، شما را با حساب ايشان كار نيست. وخود خطاب با پيغمبر است در حق جماعتى (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ

__________________

(١) غافر (٤٠) : ٤٠.

(٢) جوامع الجامع / ٤١٩.

٢٥٢

مِنْ شَيْءٍ ، وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (١).

وصنف دوم : جماعتى از اهل يمين ، كه بر سيّئات اقدام ننموده باشند.

وصنف سوم : جماعتى كه ديوان ايشان از سيّئات خالى باشد. (سوم : جماعتى كه يبدل الله سيّئاتهم حسنات خ).

اما اهل حساب نيز سه صنفند :

اوّل : جماعتى كه ديوان اعمال ايشان از حسنات خالى باشد.

دوم : كسانى كه (حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢) در شأن ايشان است.

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٣).

سوم : اهل حساب كه (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) (٤) وايشان دو صنف باشند :

صنفى كه حساب خود هميشه كنند ، «وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا» ، پسنديده اند ، لا جرم به قيامت (يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (٥).

وصنفى كه از حساب وكتاب غافلند ، لا جرم به مناقشه حساب مبتلا شوند. «ومن نوقش في الحساب فقد عذّب».

وحساب عبارت از حصر وجمع آثار حسنات وسيئاتى است كه تقديم يافته باشند ، تا به حكم عدل جزاى هريك بستانند ، وهميشه موقنان مشاهد موقف حساب باشند (لا يؤخّر حساب المؤمن إلى يوم القيامة) (٦) ، انتهى كلامه رحمه‌الله.

__________________

(١) الأنعام (٦) : ٥٢.

(٢) هود (١١) : ١٦.

(٣) الفرقان (٢٥) : ٢٣.

(٤) التوبة (٩) : ١٠٢.

(٥) الانشقاق (٨٤) : ٨.

(٦) المبدأ والمعاد / ٢٦ ـ ٢٧.

٢٥٣

العقبات

ثمّ إنّ من جملة تلك الأحوال والأمور الكائنة يوم القيامة ، بل فيما بعد الموت «العقبات» ، وقد دلّ عليه الشّرع. روى الشيخ ابن بابويه ، في «الفقيه» عن الصّادقعليه‌السلام أنّه قال : إنّ بين الدنيا والآخرة ألف عقبة ، أهونها وأيسرها الموت. (١)

وذكر صدر الأفاضل في الشّواهد «أنّه روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه سئل عن قوله تعالى : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) (٢) فقال : إنّه جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثمّ يهوي فيه كذلك أبدا. وقال أيضا : يكلّف أن يصعد عقبة في النّار ، كلّما وضع يده عليها ذابت ، وإذا وضع رجله ذابت ، فإذا رجعها عاقت (عادت خ) ويهوي فيه إلى أسفل سافلين» (٣) ، انتهى.

وقد ذكر العلماء في الحديث الأوّل وجوها :

فقال بعضهم : إنّ تلك العقبات عبارة عن الآلام والغموم والحسرات الكثيرة الحاصلة للإنسان بفعل أعمال الشرّ أو ترك أعمال الخير ، سواء خصّصنا الشّرّ بالمحرّمات والخير بالواجبات ، وسواء عمّمنا الشرّ بحيث يشمل المكروهات ، والخير بحيث يشمل المستحبّات أيضا ، حيث إنّه يلحقه بعد كشف الغطاء عنه بترك كلّ واجب بل مستحبّ ، وكذا بفعل كلّ حرام ، بل مكروه أيضا ، ألم وحسرة وندامة ، فإنّ الألم الحاصل له لأجل كلّ واحد منها هو عقبة على حيالها.

وقال بعضهم : إنّها عبارة عن الآلام والحسرات التي تحصل للنّفس الإنسانيّة بسبب قطع تعلّقها عن البدن وأجزائه وعن الأهل والمال والعشائر والإخوان والأحبّاء والأصدقاء ونحو ذلك من موجودات النّشأة الدّنيويّة التي كان لها تعلّق بها ، فإنّ الألم الحاصل لها بسبب قطع التّعلّق عن كلّ واحد واحد ، هو عقبة واحدة من تلك العقبات.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٣٤.

(٢) المدّثر (٧٤) : ١٧.

(٣) الشواهد الربوبيّة / ٣٠١ ـ ٣٠٢ وفيه : ... كلّما وضع يده عليها ذابت ، فإذا رجعها عادت ، وإذا وضع رجله ذابت ، فإذا رفعها عادت ، ويهوي ...

٢٥٤

وعلى هذين المعنيين ، فيكون المراد بالعقبات في الحديث العقوبات ، سواء حمل قوله عليه‌السلام : «ألف عقبة» على هذا العدد المعيّن أو على كثرة ، إلّا أنّ في المعنى الثّاني شيئا ، وهو أنّ قطع تعلّق النّفس عن تلك المذكورات هو الموت ، فلا يبقى حينئذ عقبة أخرى غير الموت يكون هو أيسر العقبات وأهونها كما دلّ عليه الحديث.

وقال ابن بابويه رحمه‌الله في اعتقاداته بهذه العبارة : «باب في العقبات التي على طريق المحشر : اعتقادنا في ذلك أنّ هذه العقبات اسم كلّ عقبة منها اسم فرض وأمر ونهي ، فمتى انتهى الإنسان إلى عقبة اسمها اسم فرض وكان قد قصّر في ذلك الفرض ، حبس عندها وطولب بحقّ الله فيها ، فإن خرج فيه بعمل صالح قدّمه ، أو برحمة تداركه نجا منها إلى عقبة أخرى ، فلا يزال يدفع من عقبة إلى عقبة ويحبس عند كلّ عقبه ، فيسأل عمّا قصّر فيه من معنى اسمها ، فإن سلم في جميعها انتهى إلى دار البقاء فيحيا حياة لا موت فيها أبدا ، وسعد سعادة لا شقاوة معها ، وسكن جوار الله مع أنبيائه وحججه والصّدّيقين والشهداء والصالحين من عباده. وإن حبس على عقبة فطولب بحق قصّر فيه فلم ينجه عمل صالح قدّمه ، ولا أدركته من الله رحمة ، زلّت به قدمه عن العقبة فهوى في جهنّم ، نعوذ بالله منها.

وهذه العقبات كلّها على الصراط ؛ اسم عقبة منها الولاية ، يوقف جميع الخلائق عندها فيسألون عن ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام والأئمّة عليه‌السلام ، فمن أتى بها نجا ، ومن لم يأت بها هوى ، وذلك قول الله عزوجل : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (١) ، واسم عقبة منها المرصاد ، وهو قول الله عزوجل : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) (٢) ، وهو قول الله عزوجل «لا يجوزني ظلم ظالم». واسم عقبة منها الرّحم ، واسم عقبة منها الأمانة ، واسم عقبة منها الصلاة ، وباسم كلّ فرض أو أمر ونهي عقبة ، يحبس عندها العبد فيسأل» (٣) ، انتهى كلامه رحمه‌الله.

وأقول : وعلى ما ذكره رحمه‌الله ، فالعقبات محمولة على ظاهرها ، سواء حملت على الكثرة أو على العدد المعيّن. وتوجيهه على القول بتجسيم الأعمال والأوامر والنّواهي ظاهرة ،

__________________

(١) الصافّات (٣٧) : ٢٤.

(٢) الفجر (٨٩) : ١٤.

(٣) الاعتقادات للصدوق / ٨٧ و ٨٨.

٢٥٥

فإنّه إذا جاز أن يكون الصّراط المستقيم الذي هو الدّين القويم ، وعبارة عن مجموع ما أتى الشّارع به من الأوامر والنواهي والأعمال والأفعال والعقائد ممثّلا في الآخرة بصورة الجسر الممدود على متن جهنّم ، كما تحقّقت القول فيه سابقا ، كذلك يجوز أن يكون كلّ جزء من أجزاء الصراط المستقيم ممثّلا في القيامة بصورة عقبة من تلك العقبات ، فيكلّف العبد بالمرور عليها والعبور منها ، ويكون مرور من أتى بحقّ ذلك الجزء منه حقّ الإتيان بسهولة ، ومرور من قصّر فيه بصعوبة.

إلّا أنّ فيما ذكره رحمه‌الله شيئا أيضا ، وهو أنّه يدلّ على أنّ كلّ تلك العقبات الواردة في الشّرع إنّما هي على الصّراط ، وقد عرفت ، أنّ الحديث الأوّل يدلّ على أنّها تكون فيما بين الدّنيا والآخرة ، حتّى في عالم البرزخ أيضا ، وكذلك ما نقله صدر الأفاضل من الحديث النبويّ يدلّ على كونها في جهنّم أيضا. والله تعالى يعلم.

الحوض

ومن تلك الأمور الحوض ، وهو أيضا ممّا ورد الشّرع به ويجب التّصديق له.

قال ابن بابويه رحمه‌الله في اعتقاداته : «اعتقادنا في الحوض أنّه حقّ ، وأنّ عرضه ما بين أبلّة وصنعاء ، وهو حوض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ فيه من الأباريق عدد نجوم السّماء ، وأنّ الوليّ (الساقي خ) عليه يوم القيامة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، يسقي منه أولياءه ، ويذود عنه أعداءه ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا. وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليختلجنّ قوم من أصحابي دوني وأنا على الحوض ، فيؤخذ بهم ذات الشّمال ، فأنادي : يا ربّ أصحابي أصحابي ، فيقال لي إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (١) ، انتهى.

__________________

(١) الاعتقادات / ٨٥.

٢٥٦

الشفاعة

ومنها الشفاعة ، قال ابن بابويه رحمه‌الله : إنّها لمن ارتضى الله دينه من أهل الكبائر والصّغائر ، فأمّا التائبون من الذّنوب فغير محتاجين إلى الشّفاعة ، وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي. وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا شفيع أنجح من التّوبة.

والشّفاعة للأنبياء والأوصياء والمؤمنين والملائكة ، وفي المؤمنين من يشفع في مثل ربيعة ومضر ، وأقلّ المؤمنين شفاعة من يشفع لثلاثين إنسانا. والشّفاعة لا تكون لأهل الشّرك ، ولا لأهل الكفر والجحود ، بل يكون للمذنبين من أهل التوحيد (١) ، انتهى.

وبالجملة ، ثبوت أصل الشفاعة مع كونه ممّا دلّ عليه الشّرع الشّريف ، لقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٢) ، حيث فسّر بالشفاعة. ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي» (٣) إجماعيّ بين المسلمين لا خلاف فيه لأحد ، فيجب الإيمان به. وأمّا السّمعيات الدالّة على نفي الشفاعة ، كقوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٤) وقوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٥) وغير ذلك ، فهي متأوّلة بالكفّار.

وهل الشفاعة لزيادة المنافع أو لإسقاط المضارّ؟

فيه خلاف بين المتكلّمين ، والحقّ عند المحقّقين ثبوتها فيهما جميعا ، إذ يقال : شفع فلان لفلان ، إذا طلب له زيادة منافع أو إسقاط مضارّ.

وعلى التّقديرين ، فيبطل الشفاعة منّا في حقّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمّا على التقدير الثاني فظاهر ، إذ لا مضارّ له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يمكن إسقاطها ، وأمّا على الثاني ، فلأنّ طلب زيادة المنافع في حقّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان يتصوّر ، إلّا أنّ الشفيع ينبغي أن يكون أعلى مرتبة من المشفوع ، وهنا ليس كذلك.

__________________

(١) الاعتقادات / ٨٥ و ٨٦.

(٢) الإسراء (١٧) : ٧٩.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٥٧٤ ، وفي لفظه : إنّما شفاعتي.

(٤) البقرة (٢) : ٢٧٠.

(٥) المدّثر (٧٤) : ٤٨.

٢٥٧

الجنّة والنّار

ومنها الجنّة والنار بما فيهما كما فصّل في الشرع الشريف وبيّن في الدين القويم ، ويجب الإيمان بهما جميعا ، إذ جميع ذلك أمر ممكن في ذاته ، وقد نطق به الشرع المتين المبين.

٢٥٨

المطلب الثّالث

في بيان أصناف الناس وبيان أحوالهم في الجملة في القيامة

وفي كيفيّة خلود أهل الجنّة في الجنّة وأهل النّار في النّار

قال الله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً* فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ* وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (١) الآيات.

وقال : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ* وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) (٢).

وقال تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣) الآيات.

وذكر صاحب الكشّاف في تفسير الآية الاولى : أنّ معنى قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) : وكنتم أصنافا ثلاثة ، يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أو يذكر بعضها مع بعض أزواج. وأنّ أصحاب الميمنة الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم ، وأصحاب المشأمة الذين يؤتونها بشمائلهم ، أو أصحاب المنزلة السنيّة وأصحاب المنزلة الدنيّة ، من قولك : فلان منّي باليمين وفلان منّي بالشّمال ، إذا وصفتهما بالرّفعة عندك والضّعة. وذلك لتيمّنهم بالميامن وتشؤّمهم بالشّمائل ، ولتفؤّلهم بالسّانح وتطيّرهم من البارح. ولذلك اشتقّوا لليمين الاسم

__________________

(١) الواقعة (٥٦) : ٧ ـ ١١.

(٢) الواقعة (٥٦) : ٨٨ ـ ٩٤.

(٣) فاطر (٣٥) : ٣٢.

٢٥٩

من اليمن ، وسمّوا الشّمال شوميّ.

وقيل : أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة أصحاب اليمن والشوم ، لأنّ السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم ، والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم.

وقيل : يؤخذ بأهل الجنّة ذات اليمين ، وبأهل النّار ذات الشمال.

وإنّ السّابقين المخلصون الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه ، وشقّوا الغبار في طلب مرضاة الله تعالى.

وقيل : الناس ثلاثة : فرجل ابتكر الخير في حداثة سنّه ، ثمّ دوام عليه حتّى خرج من الدنيا ، فهذا السابق المقرّب. ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ، ثمّ تراجع بتوبة ، فهذا صاحب اليمين. ورجل ابتكر الشرّ في حداثة سنّه ، ثمّ لم يزل عليه حتّى خرج من الدّنيا ، فهذا صاحب الشّمال (١) ، انتهى.

وذكر في تفسير الآية الثانية : أنّ المراد من المقرّبين : السابقون من الأزواج الثلاثة المذكورة في أوّل السّورة (٢).

ويشعر كلامه هذا أنّ المراد من أصحاب اليمين أصحاب الميمنة ، وبالمكذّبين الضالّين ، أصحاب المشأمة.

وذكر في تفسير الآية الثالثة ما يدلّ على أنّ المراد ب «الّذين» اصطفينا من عبادنا» أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيمة ، وأنّ الضمير في (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) راجع إلى (الَّذِينَ) ، أي فمنهم ظالم لنفسه بجرم ، وهو المرجى لأمر الله ، ومقتصد ، وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيّئا ، وسابق من السابقين (٣) ، انتهى.

وكلام الشيخ الطبرسيّ رحمه‌الله في الجوامع في تفسير الأولى والثانية موافق لما ذكره صاحب الكشّاف ، إلّا أنّه لم يذكر معنى السّابقين ، ولم يذكر أيضا ما ذكره صاحب الكشّاف بقوله: «وقيل النّاس ثلاثة» الخ.

__________________

(١) راجع تفسير الكشّاف ٤ / ٥٢.

(٢) نفس المصدر.

(٣) راجع تفسير الكشّاف ٣ / ٣٠٨.

٢٦٠