منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-609-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٢٩٢

المطلب الأوّل

في الإشارة إلى دفع شبهات المنكرين للمعاد الجسمانيّ

اعلم أنّ لهم شبها دعتهم إلى إنكاره.

منها ـ أنّه يلزم منه إعادة المعدوم ، وهي ممتنعة.

وهذه الشّبهة قد مرّت الإشارة إليها في المقدّمة وإلى جوابها فيها ، وكذا في هذا الباب الخامس ، إذ قد عرفت أن ليس في المعاد الجسمانيّ ـ على ما قررناه ـ إعادة معدوم بعينه من جهة ما هو معدوم بعينه حتّى تكون ممتنعة ، ولا يحتاج في الجواب عنها إلى تجويز إعادة المعدوم كما جوّزها المتكلّمون ، حتّى يكون مخالفا لما اقتضاه العقل.

ومنها ـ أنّه يلزم منه مفسدة التناسخ.

وهذه الشبهة أيضا قد مرّت الإشارة إليها فيما تقدّم ، وخصوصا في هذا الباب الخامس مع الجواب عنها ، إذ قد عرفت أنّه ليس يلزم منه على الوجه الذي قرّرناه مفسدة التناسخ المحال ، فتذكّر.

ومنها ـ أنّ الإعادة لا لغرض عبث لا يليق بالحكيم ، والغرض إن كان عائدا إليه كان نقصا له ، فيجب تنزيهه عنه ، وإن كان عائدا إلى العبد ، فهو إن كان إيلامه فهو غير لائق بالحكيم الجواد ، وإن كان إيصال لذّة ، فاللّذّات ـ سيّما الحسّيّات ـ إنّما هي دفع آلام ، كما بيّنه الحكماء والأطبّاء في كتبهم ، فيلزم أن يؤلمه أوّلا حتّى يوصل إليه لذّة حسّيّة ، فهل يليق هذا بالحكيم؟ مثل من يقطع عضو أحد ، ثمّ يضع عليه المراهم ليلتذّ به.

وهذا الشبهة أيضا قد مرّت الإشارة إليها في الباب الرابع مع الجواب عنها مفصّلا ، فتذكّر.

٢٠١

ومنها ـ أنّه إذا صار مثلا إنسان معيّن غذاء بتمامه لإنسان آخر ، والمحشور لا يكون إلّا واحد منهما. ثمّ إن كان الآكل كافرا والمأكول مؤمنا ، يلزم إمّا تعذيب المطيع وتنعيم العاصي وهو ظلم ، أو كون الآكل معذّبا والمأكول منعّما مع كونهما جسما واحدا ، وهذا ممتنع.

وهذا الشبهة أيضا قد مرّت الإشارة إليها في الباب الخامس مع الجواب عنها ، إذ قد عرفت أنّ المعاد من البدن هو الأجزاء الأصليّة منه دون الأجزاء الفضليّة ، ولا امتناع في أن تعود الأجزاء الأصليّة من بدن المأكول التي لا نسلّم جواز كونها غذاء لبدن الآكل منفردة ، كالأجزاء الأصليّة من بدن الآكل ، فيعذّب الكافر وينعّم المؤمن كما هو مقتضى الحكمة المتعالية المقدّسة.

ومنها أنّ جرم الأرض مقدار ممسوح بالفراسخ والأميال ، وعدد النفوس غير متناه ، فلا معنى لحصول الأبدان الغير المتناهية جميعا فيها.

والجواب عن هذه الشّبهة أنّها مجرّد استبعاد ، ورفعه بأنّ مادّة الأرض وهيولاها يمكن لها قبول مقادير مختلفة ، كما يمكن لها قبول مقادير وانقسامات غير متناهية ، ولو متعاقبة ، وكما أنّ زمان الآخرة ليس من جنس أزمنة الدنيا ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (١) ، وقال : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٢) كذلك مكان الآخرة ليس من جنس أمكنة الدنيا ، وليست هذه الأرض محشورة على هذه الصفة ، وإنّما المحشورة منها صورة تسع الكلّ من الخلائق من الأوّلين والآخرين. فاتل قوله تعالى :

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٣) ،

وقوله : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ* وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) (٤) ،

__________________

(١) الحجّ (٢٢) : ٤٧.

(٢) المعارج (٧٠) : ٤.

(٣) إبراهيم (١٤) : ٤٨.

(٤) الانشقاق (٨٤) : ٣.

٢٠٢

وقوله : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (١).

وقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً* فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً* لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (٢) ،

وقوله : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ* لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٣).

وبالجملة ، فلا امتناع في أن تبدّل هذه الأرض غيرها ، فتمدّ مدّ الأديم ، وتبسط فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا كما يدلّ عليه كلام المفسّرين ، وسيأتي بيانه ، ثمّ تجمع فيها جميع الخلائق من أوّل الدنيا إلى آخرها ، كما أنّها اليوم مبسوطة على قدر يسع الخلائق كلّها.

ومنها ، أنّه يلزم تولّد البدن الإنسانيّ عند البعث من غير توالد ، وهو ممتنع.

والجواب عنها ، أنّها مجرّد استبعاد أيضا ، فإنّ التولّد من غير توالد ممكن ، كما في آدم على نبيّنا وعليه‌السلام.

ومنها ، أنّ المعلوم من الكتاب والسّنّة أنّ الجنّة والنار موجودتان الآن بالفعل ، وإن كان أهل الحجاب لغفلتهم عن أمور الآخرة يتعجّبون عن ذلك.

وأنّهما لو كانتا موجودتين ، فأين مكانهما من العالم؟ وفي أيّ جهة تكونان؟

أهما في فوق محدّد الجهات؟ فيلزم أن يكون في اللامكان مكان ، وفي اللاجهة جهة.

أو في داخل طبقات هذه الأجرام الفلكيّة ، فيلزم التداخل المستحيل ، أو الانخراق المستحيل.

أو في مكانها ، فيلزم انعدام الأفلاك حتّى تكونا في مكانها ، وهو خلاف ما نشاهده.

أو فيما بين سماء وسماء ، وهو مستحيل ، لكون السماوات عندهم متّصلة بعضها ببعض ليست بينها فرجة ، لا خلاء ولا ملاء.

ومع استحالة هذين الاحتمالين ، فهما ينافيان قوله تعالى :

__________________

(١) الكهف (١٨) : ٤٧.

(٢) طه (٢٠) : ١٠٥ ـ ١٠٧.

(٣) الواقعة (٥٦) : ٤٩ ـ ٥٠.

٢٠٣

(وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (١) ، حيث إنّ المفسّرين قالوا في تفسيره : إنّ المعنى : وجنّة عرضها كعرض السموات السبع والأرضين السبع ، وذكر العرض دون الطول ، لأنّ كلّ ما له عرض وطول ، فإن عرضه في الأكثر أقلّ من طوله ، فإذا كان العرض مثلا السموات والأرض ، فطولها لا يعلمه إلّا الله تعالى ، فإذا كان مقدار الجنّة ذلك المقدار ، فلا يمكن أن يكون مكانها داخل طبقات السموات ولا في ما بينها.

وما روي عن بعض المفسّرين كالحسن ، من أنّ الله تعالى يفني الجنّة ثمّ يعيدها على ما وصفه ، فلذلك صحّ وصفها بأنّ عرضها كعرض السماء والأرض مبني على طروء فناء على الجنّة ، وهو مخالف للإجماع ، وكذا للنقل والعقل كما سبق بيانه في مقدّمة الرسالة.

كما أنّ القول بأنّه يمكن أن يوجد الله تعالى عند قيام الساعة الجنّة ويجعلها بذلك المقدار ، وفي مكان السموات والأرض بعد فنائهما ، أي بعد طيّ السموات وتسيير الجبال ودكّ الأرض وزلزالها (٢) ، مبنيّ على أن لا يكون الجنّة والنار موجودتين الآن وتكونان مخلوقتين في القيامة ، وهذا أيضا مخالف للمذهب الحقّ الذي ذهب إليه جمهور المسلمين ، إلّا جمعا من المعتزلة ، ودلّ عليه الكتاب والسنّة.

وبالجملة ، فإذا كانتا موجودتين الآن ، وكان عرض الجنّة ما ذكر من المقدار ، أي كعرض السموات السبع والأرضين السبع ، فلا يمكن أن يكون مكان الجنّة وحدها داخل طبقات السموات ، ولا فيما بين سماء وسماء ، مع أنّ النار أيضا تستدعي مكانا آخر ، والمفروض حينئذ عدمه.

وبهذا يندفع ما يمكن أن يقال : إنّ اتّصال السموات بعضها ببعض وإن قال به الحكماء ، لكن لا دليل قطعيّا عليه ، فيمكن أن يكون بينها فرج وأفضية ، وتكون الجنّة والنار فيها. وبيان الاندفاع ظاهر.

وكذلك يظهر بهذا البيان أنّه لا يمكن أن يكون مكان الجنّة والنار داخل طبقات

__________________

(١) الحديد (٥٧) : ٢١.

(٢) إشارة إلى سورة الكهف (١٨) : ٤٧ ؛ سورة الأنبياء (٢١) : ١٠٤ ؛ سورة التكوير (٨١) : ٣ ؛ سورة الفجر (٨٩) : ٢١ وسورة الزلزلة (٩٩) : ١.

٢٠٤

العناصر ولا فيما بينها.

فإن قلت : إنّ هذه الشبهة ليس لها مدخل في إنكار المعاد الجسمانيّ ، فإنّه لو لم تكن الجنّة والنار موجودتين أيضا الآن ، لم يكن ذلك منافيا لوقوع المعاد الجسمانيّ على ما قرّرناه ، بل هذه شبهة على حيالها واردة على وجود الجنّة والنار الآن على المقدار المخصوص ، وهل هذا إلّا كسائر الشّبهات التي أوردها عليه القائل بعدم وجودهما الآن ككثير من المعتزلة؟ مثل ما قالوه من أنّهما لو كانتا موجودتين الآن ، لكان وجودهما قبل يوم الجزاء عبثا ، وهو لا يليق بالحكيم تعالى شأنه.

والجواب عنه : أنّه يجوز أن يكون الفائدة فيه في النشأة الدنيويّة ترغيب المكلّفين بالطاعات ، وتزهيدهم عن المعاصي أتمّ ترغيب وتزهيد كما بيّناه في آخر الباب الرابع.

وفي عالم البرزخ سرور أهل الجنّة بملاحظتها واغتمام أهل النار بمشاهدتها. على أنّ الفائدة لا يلزم أن تكون معلومة لنا ، إذ يجوز أن يكون في خلقها قبل يوم الجزاء مصلحة وحكمة عظيمة ، وإن لم نكن نعلمها ، حيث إنّ الشرع نطق بوجودهما الآن ، ونحن نعلم أنّ فاعلها الحكيم تعالى شأنه لا يفعل العبث.

ومثل ما قالوه إنّ الجنّة والنار لو كانتا موجودتين الآن ، والحال أنّ الإجماع واقع على بقائهما وعدم طروء الفناء عليهما ، كان ذلك مخالفا لما دلّ على طروء الفناء على كلّ المخلوقات ، مثل قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١). وحيث كان ذلك مخالفا له ، فيجب أن لا تكونا موجودتين الآن حتّى لا يلزم طروء فناء عليهما.

والجواب عنه ، ما مرّ في مقدّمة الرسالة في تفسير هذه الآية الشريفة.

وحاصله أنّه يمكن أن يكون معنى هلاك كلّ شيء ـ على تقدير إرادة العموم ـ ضعف وجود الماهيّات الممكنة وليسيّتها بالنظر إلى ذواتها ، وعلى تقدير أن يكون المراد بهلاكها طروء العدم عليها بالفعل في الواقع ، فيمكن أن يكون الآية مخصّصة بما عدا الجنّة والنار ، بل بما عدا المستثنيات التي دلّ الدليل على بقائها ، كما مرّ بيانه في ذلك الموضع من

__________________

(١) القصص (٢٨) : ٨٨.

٢٠٥

المقدّمة.

والحاصل أنّ إيراد هذه الشبهة على المعاد الجسمانيّ لا وقع له ، فبم أوردوها عليه؟

قلت : الحال كذلك ، إلّا أنّ من أوردها عليه كأنّه نظر إلى أنّ المعاد الجسمانيّ بظاهره لو كان حقّا ، لكان حقّا كما نطق به الشرع ، وقد نطق أيضا بوجود الجنّة والنار الآن ، وأنّهما تكونان جزاء للمكلّفين في القيامة ، وحيث كان وجودهما الآن ممّا يأباه العقل كما ذكر ، وكان يجب تأويله ، كذلك يجب تأويل ما دلّ على المعاد الجسمانيّ بالحمل على خلاف ظاهره. وبهذا يمكن أن يرجع ما ذكر من الشبهتين المذكورتين على وجود الجنّة والنار إلى الشبهة على المعاد الجسمانيّ أيضا ، فتدبّر.

وهذا الذي ذكرناه إنّما هو تقرير الشبهة التي أوردها المنكر للمعاد الجسمانيّ عليه.

وأمّا الجواب عنها ، فبأن يقال : لا امتناع في أن يكون مكان الجنّة محدّب الفلك الثامن الذي يسمّى عند الحكماء بفلك البروج ، وفي لسان الشرع بالكرسيّ ، ومقعّر الفلك التاسع الذي يسمّى عند الحكماء بالفلك الأطلس ومحدّد الجهات ، وفي لسان الشرع بالعرش الأعظم ، أي فيما بين الفلكين كما قيل : إنّ أرض الجنّة الكرسيّ ، وسقفها عرش الرحمن.

ويمكن حمل قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (١) ، عليه أيضا ، كما قال بعض المفسّرين كالشيخ الطبرسيّ رحمه‌الله في تفسيره : «إنّ سدرة المنتهى هي شجرة نبق عن يمين العرش فوق السماء السابعة ، ثمرها كقلال هجر ، وورقها كآذان الفيول ، يسير الراكب في ظلّها سبعين عاما ، والمنتهى موضع الانتهاء لم يجاوزها أحد ، وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم ، ولا يعلم أحد ما وراءها. وقيل : ينتهي إليها أرواح الشهداء. وقيل : هي شجرة طوبى كأنّها في منتهى الجنّة ، عندها جنّة المأوى ، وهي جنّة الخلد يصير إليها المتّقون. وقيل : يأوي إليها أرواح الشهداء» (٢) ، انتهى.

ووجه الحمل ظاهر ، إذا حمل قوله : «عن يمين العرش» على يمين مقعّر العرش ،

__________________

(١) النجم (٥٣) : ١٣ ـ ١٥.

(٢) راجع مجمع البيان ٩ / ١٧٥.

٢٠٦

وقوله : «فوق السماء السابعة» على السماء الثامنة وتحت العرش كما هو الظاهر ، وأنّه إذا كانت جنّة المأوى عند سدرة المنتهى التي مكانها ذلك ، يكون مكان جنّة المأوى أيضا ذلك.

وأمّا احتمال أن يكون المراد ب «فوق السماء السابعة» محدّبها فبعيد غاية البعد ، لأنّه يلزم حينئذ إمّا أن لا يكون بين السابعة والعرش فلك ثامن ، أي الكرسيّ ، وهو خلاف ما قال به أهل الشرع والحكماء ، وإمّا أن يكون سدرة المنتهى في داخل ثخن الثامنة ، متداخلة لها إن قيل بالثامنة ، وهو خلاف الظاهر جدا ، إن لم نقل بامتناع تداخل السدرة في الثامنة ، ولو قلنا به لكان الأمر أظهر.

وبالجملة ، فلا امتناع في أن يكون مكان الجنّة بحيث يكون أرضها محدّب الفلك الثامن ، أي الكرسيّ ، وسقفها مقعّر الفلك التاسع ، الذي هو العرش بلسان الشرع ، ويؤيّده كونه مناسبا لمعناه اللّغوي أيضا. وأن يكون بينهما فضاء يسع الجنّة بما فيها ، ويكون عرض ذلك الفضاء كعرض السّماء والأرض ، أي كعرض السّماوات السّبع والأرضين السّبع كما قاله المفسّرون في تفسير قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ). وكان وجه ذلك التّفسير أنّ لفظ السّماء في الآية ، وإن وقع محلّى بلام الجنس ومفاده العموم ، إلّا أنّ الشّائع في لسان الشّرع إطلاق السماء على السّماوات السّبع التي هي تحت الفلك الثّامن ، كما ورد من إطلاق السموات السبع. وأمّا إطلاق السّماء على الفلك الثّامن والتّاسع ، فهو وإن كان يمكن بحسب اللغة أو بحسب العرف ، كما ورد في لسان الحكماء ، إلّا أنّه في الشرع لم يطلق عليها اسم السماء بل اسم الكرسيّ والعرش ، وإن كان ورد فيه للعرش والكرسيّ معنى آخر أيضا. وحيث كان كذلك فإذا أطلق السّماء يكون المراد منه ما سوى الفلك الثامن والتاسع من الأفلاك السّبعة.

والحاصل ، أنّه لا امتناع في أن يكون مكان الجنّة ذلك الفضاء الكائن بين الثامن والتاسع ، وأن يكون عرض ذلك الفضاء ، أي عرض الجنّة الواقعة فيه كعرض السموات السبع والأرضين السبع ، وما ادّعاه الحكماء من لزوم اتّصال الأفلاك بعضها ببعض بحيث لا يكون بينها فرجة وفضاء ، ولا في ذلك الفضاء شيء آخر غير مسلّم ، إذ لا دليل قطعيّا

٢٠٧

عليه ، بل إنّ الروايات الدالّة على وجود الحجب في السموات تدلّ على عدم اتّصال الأفلاك بعضها ببعض وكون الحجب بينها ، إنّما المسلّم امتناع فرجة وفضاء بين السموات يكونان خلاء حيث إنّ الخلاء ممتنع ، وكذا امتناع فضاء يكون فيه جسم يكون كونه فيه خلاف مقتضى طبعه مع بقائه على طبعه كالعنصريّات التي أحيازها الطبيعيّة ما تحت فلك القمر.

ولا نسلّم أنّ كون الجنّة بما فيها هناك خلاف مقتضى طباعها الذاتيّ ، بل جاز أن يكون ذلك مقتضى طباعها ، حيث إنّ الجنّة الجسمانيّة بما فيها وإن كانت مادّيّة من جنس الأجسام ، إلّا أنّها من جنس الأجسام الأخرويّة ، وقد عرفت غير مرّة أنّ الأجسام الأخرويّة مخالفة في كثير من الصفات واللوازم للأجسام الدنيويّة ، عنصريّاتها وفلكيّاتها ، كأنّها مخالفة بالحقيقة لها ، وإلّا أنّ لها نوع مشابهة للأجسام الفلكيّة في اللطافة والصفاء ونحو ذلك ، وإن كانت هي أشرف وأعلى منها في ذلك بكثير ، فجاز أن تكون أحياز تكون الأجسام الأخرويّة أحيازا للأجرام الفلكيّة ، أي ذلك الفضاء الذي فرضناه من غير لزوم محال ، كما جاز أن يكون في أحيازها حجاب أو فلك أو فلكيّ غير الأفلاك التسعة ، وإن لم نكن نعلمه.

وما يتوهّم من أنّه على تقدير كون الجنّة بما فيها ـ كالأشجار والأنهار والقصور ونحو ذلك ـ في محدّب الفلك الثامن يلزم خرق ذلك المحدّب ، والحال أنّ الخرق ممتنع على الأفلاك.

فهو مندفع ، إذ يمكن كون الجنّة بما فيها فيه بحيث لا يستلزم خرقا. وعلى تقدير تسليمه أيضا نقول : إنّ الدليل الذي ذكره الحكماء على امتناع الخرق والالتيام على الأفلاك ، فهو على تقدير تماميّته إنّما يتمّ في محدّد الجهات الذي هو الفلك التاسع بزعمهم ، لا في سائر الأفلاك ، أي الأفلاك الثّمانية الباقية ، بل إنّما هو فيها مجرّد استحسان ، فجاز أن يطرأ الخرق على الفلك الثامن من غير لزوم محال.

ومن هذا البيان يظهر أنّه يجوز أن يكون مكان الجنّة بما فيها بين الحجب التي في السماوات أيضا ، أي بين الحجب التي هي فوق السماء السابعة وتحت العرش.

٢٠٨

وحيث عرفت ذلك ، فنقول : وكذلك يمكن أن يكون مكان النار في فضاء يكون بين سماء وسماء من جملة السموات السبع التي تحت السماء الثامنة ، أو بين الحجب التي فيها ، إذ لا امتناع في أن يكون بينها فضاء يكون ذلك مكان النار ، وكذا لا امتناع في أن يكون كونها فيها مقتضى طباعها ، حيث إنّ النّار الجسمانيّة وإن كانت مادّيّة جسمانيّة ، إلّا أنّها من جنس أجسام الآخرة التي هي كأنّها مخالفة بالحقيقة للأجسام الدنيويّة وللنّار التي في عالم العناصر ، وكأنّها للطافتها ومشابهتها للأجرام الفلكيّة في بعض الصّفات والأحوال قريبة منها ، فجاز أن يكون مكانها في ذلك الفضاء من غير لزوم محال. بل جاز أن يكون مكانها تحت مقعّر فلك القمر ، أي بينه وبين محدّب كرة الأثير ، إذ لا مانع من ذلك أيضا.

ولا ينافي ما جوّزناه من مكان الجنّة والنار ما ذكره الشيخ الطّبرسيّ رحمه‌الله ، في «مجمع البيان» في تفسير قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) (١). حيث قال : «قيل فيه قولان :

أحدهما ، أنّ المعنى تبدّل صورة الأرض وهيئتها ، عن ابن عباس ، فقد روى عنه أنّه قال : تبدّل آكامها وآجامها وجبالها وأشجارها والأرض على حالتها ، وتبقى أرضا بيضاء كالفضّة ، لم يسفك عليها دم ، ولم يعمل عليها خطيئة ، ويبدّل السموات ، فيذهب شمسها وقمرها ونجومها ، وكان ينشد :

فما الناس بالناس الذين عهدتهم

ولا الدار بالدّار التي كنت أعرف

ويعضده ما رواه أبو هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : يبدّل الله الأرض غير الأرض والسموات ، فيبسطها ويمدها مدّ الأديم العكاظيّ لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ثمّ يزجر الله الخلق زجرة ، فإذا هم في هذه المبدّلة في مثل مواضعهم من الأولى ، ما كان في بطنها كان في بطنها ، وما كان على ظهرها كان على ظهرها.

والآخر أنّ المعنى يبدّل الأرض وينشأ أرض غيرها والسموات كذلك تبدّل بغيرها

__________________

(١) إبراهيم (١٤) : ٤٨.

٢٠٩

وتفنى هذه. هذه عن الجبائيّ وجماعة من المفسّرين.

وفي تفسير أهل البيت عليه‌السلام ، بالإسناد عن زرارة ومحمّد بن مسلم وحمران بن أعين ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام ، قالا : يبدّل الله الأرض خبزة نقيّة يأكل الناس منها حتّى يفرغ من الحساب ، قال الله تعالى : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) (١) وهو قول سعيد بن جبير ومحمّد بن كعب.

وروى سهل بن سعد الساعديّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء غفراء كقرصة النقيّ ليس فيها معلم لأحد.

وروي عن ابن مسعود ، أنّه قال : يبدّل الأرض كلّها نارا يوم القيامة والجنّة ، ومن ورائها يرى كواعبها وأكوابها ، ويلجم الناس العرق ، ولم يبلغوا الحساب بعد.

وقال كعب : تصير السماوات جنانا ، وتصير مكان البحر النار ، ويبدّل الأرض غيرها.

وروي عن أبي أيّوب الأنصاريّ ، قال : أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حبر من اليهود ، فقال : أرأيت إذ يقول الله في كتابه (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فأين الخلق عند ذلك؟ فقال : أضياف الله ، فلن يعجزهم ما لديه.

وقيل : تبدّل الأرض لقوم بأرض الجنّة ، ولقوم بأرض النار.

وقال الحسن : يحشرون على الأرض الساهرة ، وهي أرض غير هذه ، وهي أرض الآخرة ، وفيها تكون جهنّم.

وتقدير الكلام : وتبدّل السماوات غير السماوات ، إلّا أنّه حذف لدلالة الظاهر عليه» (٢) انتهى كلامه رحمه‌الله.

ووجه عدم المنافاة أنّ ما تضمّن من تلك التفاسير لصيرورة الأرض كلّها نارا ، أو لصيرورة مكان البحر النار ، أو لتبدّل الأرض لقوم بأرض النار ، أو لكون جهنّم في الأرض ، يمكن أن يكون ذلك بتحريك النار وجعلها في الأرض ، كما قال تعالى : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ

__________________

(١) الأنبياء (٢١) : ٨.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥.

٢١٠

بِجَهَنَّمَ ...) (١) الآية.

وقال المفسّرون في تفسيره : إنّه يجيء بها سبعون ألف ملك ، يقودونها بسبعين ألف زمام ، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع. وكذا يمكن أن يكون ذلك بمدّ النّار وبسطها حتّى تحصل في الأرض أيضا ، إذ لا امتناع فيه. وعلى التقديرين فلا امتناع في أن يكون الجنّة فوق النار ، بحيث تكون هي للطافتها ورفع الحجاب حينئذ يرى ما فيها من الأكواب والكواعب ، كما دلّ عليه بعض تلك التفاسير.

وأيضا ما يدلّ منها على كون الجنّة في الأرض ، يمكن أن يكون بتحريكها أو بسطها كما قلنا في النار ، فلا منافاة أيضا. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

وبما فصّلناه يظهر الجواب عن تلك الشّبهة ، وهو مبنيّ عل تسليم استحالة تداخل الأجسام الأخرويّة في الأجسام الدّنيويّة ، وعلى تسليم استحالة وجود عالمين جسمانيّين ، وإمّا على تقدير تجويزها ، فيمكن جوابان آخران أيضا عن تلك الشبهة.

بيان الأوّل : أنّ التّداخل المستحيل الذي يحكم العقل باستحالته إنّما هو تداخل جسمين كانا من أجسام الدنيا ، ودخول أحدهما في حيّز الآخر من غير زيادة في الحجم ، وأمّا إذا لم يكونا كذلك ، فلا نسلّم امتناع تداخلهما. وهذا كما أنّ الأجسام المثاليّة التي دلّ على وجودها الدليل كما عرفت ، وقال به الحكماء الإشراقيّون أيضا ، حتّى قالوا : ب «أنّ كلّ ما هو من أجزاء هذا العالم المحسوس المشاهد ، فله مثال في عالم المثال» لا شكّ أنّها أجسام ذوات مقادير وأوضاع وأشكال وأحياز ونحوها ، وإن لم تكن ذوات مواد جسمانيّة فلكيّة أو عنصريّة ، ولا شكّ أيضا أنّها موجودة في هذا العالم المحسوس لا في عالم آخر ، على القول بعدم إمكان وجود عالم آخر جسمانيّ كما قالوا به ، ولا شكّ أيضا أنّ وجودها إنّما هو في داخل أجرام هذا العالم وأجسامها ، وفي ثخنها لا في الخلل والفرج والأفضية بينها على القول باتّصال أجرام هذا العالم وأجسامها وكراتها بعضها ببعض ، كما قالوا به أيضا ، فأين مكان عالم المثال والأجسام المثاليّة؟ فلم يبق إلّا أن يكون وجودها

__________________

(١) الفجر (٨٩) : ٢٣.

٢١١

في داخل أثخان موجودات هذا العالم وأجسامه وأجرامه ، متداخلة فيها من غير استحالة في ذلك.

وإذا جاز تداخل عالم المثال في العالم المحسوس المشاهد ، جاز أيضا تداخل الأجرام والأجسام الأخرويّة التي هي أيضا من عالم آخر غير عالم الظاهر المشاهد المحسوس في العالم المحسوس من غير لزوم محال. فجاز أن يكون مكان الجنّة والنار بما فيهما داخل أثخان وجودات هذا العالم المحسوس وأجسامه وأجرامه ، أمّا الجنّة ففيما فوق السّماء السّابعة ، وأمّا النار ففيما تحتها ، كما قلنا.

وكان ما ذكرنا هو مراد من قال من الحكماء الإسلاميّين إنّه ليس للجنّة والنار مكان في ظواهر هذا العالم ، لأنّه محسوس وكلّ محسوس بهذه الحواس فهو من الدنيا ، والجنّة والنار من عالم الآخرة. نعم مكانهما في داخل حجب السموات والأرض ولها مظاهر في هذا العالم، وعليها يحمل الأخبار الواردة في تعيين بعض الأمكنة لهما ، والروايات في ذلك مختلفة» (١) ، انتهى.

ولا يخفى عليك أنّ ما قدّمنا ذكره من التّفاسير في الآية الكريمة الدالّة على حصول الجنّة والنار في مكان الأرض لا ينافي هذا الوجه من الجواب أيضا ، إذ لا امتناع في أن يكون الجنّة والنّار في داخل أجرام هذا العالم وباطنها حتّى في سطح الأرض والبحر أيضا ، وتكونان يوم القيامة عند ارتفاع الحجاب تظهران على الخلق. والله تعالى يعلم.

وأمّا بيان الثّاني فبأن يقال : إنّ عمدة ما قالوا في بيان استحالة وجود عالمين أمران :

أحدهما أنّه لو وجد عالم آخر ، لكان كرة مثل هذا العالم ، ولا يمكن وجود كرتين متماثلتين ، إلّا بتحقّق فرجة بينهما ، وتلك الفرجة يلزم أن تكون خلاء ، إذ المفروض عدم شيء آخر يملأ تلك الفرجة والخلاء محال.

الثاني : أنّه لو وجد عالم آخر لكان فيه أيضا العناصر الأربعة ، فإن لم تطلب أمكنة عناصر هذا العالم لزم اختلاف متّفقات الطبائع في مقتضياتها ، وإن طلبت لزم أن تكون هي

__________________

(١) القائل هو الحكيم المتألّه صدر المتألّهين في كتابه الشواهد الربوبية / ٣٠٠ ، حيث قال : فاعلم أنّه ليس ... والنقول والمرويّات في ذلك كثيرة مختلفة ...

٢١٢

في الأمكنة الأخرى بالقسر دائما ، وكلاهما مندفعان.

أمّا الأوّل : فلأنّه بعد تسليم الكرويّة ولزوم كون فرجة هناك ، يمكن أن تكون تلك الفرجة ، لا خلاء ولا ملاء كما يقولون فيما فوق محدّد الجهات.

وأمّا الثاني : فلأنّه على تقدير تسليم لزوم كون عناصر وأفلاك في ذلك العالم الآخر مثل العالم الأوّل ، يمكن أن يكون فيه مركز ومحيط أيضا ، كما في العالم الأوّل ، ويقتضي بعض موجوداته الميل إلى مركزه ، وبعضها الميل إلى محيطه ، مثل موجودات العالم الأوّل ، من غير لزوم محذور.

على أنّا لا نسلّم لزوم كون عناصر وأفلاك هناك كما في هذا العالم ، إذ يمكن أن يكون فيه أجسام أخر مخالفة في الصفات واللوازم ، بل في الحقيقة كموجودات العالم الأخرويّ ، وإن كانت أجساما أيضا. فعلى هذا يمكن أن يكون الجنّة والنار موجودتين الآن بالفعل في ذلك العالم الآخر ، ولا تكونان محسوستين لنا في هذا العالم.

وهذان الجوابان أيضا ، وإن كانا ممّا يمكن التمسّك بهما في دفع تلك الشبهة ، إلّا أنّ الثاني منهما كأنّه يخالف ظاهر ما يدلّ على أنّ الجنّة والنار في هذا العالم ، فلا تعويل عليه. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

ثمّ إنّه من تلك الشبه التي تمسّك بها المنكرون للمعاد الجسمانيّ ، أنّه لو كان حقّا ، وكان كما نطق به الشرع ، والحال أنّ الشرع كما نطق بالمعاد الجسمانيّ ، كذلك نطق بتأبيد الثّواب والعقاب الجسمانيّين بالنّسبة إلى بعض ، والحال أنّ ذلك التّأبيد لا يمكن أن يكون إلّا بحصول تحريكات غير متناهية للقوى الجسمانيّة ، لزم منه عدم تناهي أفعال القوى الجسمانيّة ، وهو باطل كما بيّنه الحكماء في موضعه.

وأيضا يلزم منه دوام الحياة مع دوام الاحتراق ، وهذا أيضا باطل.

والجواب عنها ، أنّا لا نسلّم أنّه يلزم من ذلك عدم تناهي أفعال القوى الجسمانيّة ، بل إنّما يلزم منه عدم تناهي انفعالاتها ، حيث إنّ إدراك اللّذّة والألم الحسّيّين انفعال لا فعل.

وما ذكره الحكماء من الدّليل على عدم التناهي فهو على تقدير تماميّته ، إنّما ينهض دليلا على بطلان عدم تناهي أفعال الجسمانيّات المادّيّات ، لا على بطلان عدم تناهي

٢١٣

انفعالاتها أيضا ، بل هو جائز عندهم ، كما في انفعالات النفوس الفلكيّة المنطبعة وهيولى الأجسام العنصريّة.

فإن قلت : إنّ عدم تناهي الانفعالات يستلزم عدم تناهي الأفعال أيضا.

قلت : لا يلزم أن يكون تلك الأفعال الغير المتناهية مستندة إلى تلك القوى الجسمانيّة المادّيّة ، بل يمكن أن تكون مستندة إلى ذوات مجرّدة لا استحالة في عدم تناهي أفعالها عندهم.

وعلى تقدير تسليم امتناع عدم تناهي انفعالات القوى الجسمانيّة أيضا ، بناء على جريان دليل بطلان عدم التناهي فيه أيضا ، كبرهان التطبيق والتضايف ونحوهما ، نقول : إنّ زمان الآخرة ليس كزمان الدنيا ، كما أنّ مكانها ليس كمكانها ، فجاز في الآخرة عدم تناهي انفعالات القوى الجسمانيّة ، بل أفعالها أيضا ، لعدم التضايف والتطبيق والمسامتة وأمثالها فيها ، كالتداخل والمباينة والتزاحم ، ممّا هي من لوازم موجودات النشأة الدنيويّة.

وبالجملة ، فقياس العالم الأخرويّ على العالم الدنيويّ ، قياس الغائب على الشاهد ، وهو باطل عند العقلاء.

وأمّا ما ذكره الشابه من دوام الحياة مع دوام الاحتراق ، فهو أيضا ليس بممتنع ، لأنّ امتناعه مبنيّ إمّا على لزوم عدم تناهي القوى الجسمانيّة ، فقد عرفت حاله.

وإمّا مبنيّ على أنّه مع الاحتراق ينعدم ذلك البدن ، فكيف تبقى الحياة؟ وكيف يمكن عذاب ذلك الشخص بعينه؟ فهو غير مسلّم ، لأنّا لا نسلّم أنّه مع الاحتراق ينعدم ذلك البدن بالمرّة ، أو ذلك الشخص بالمرّة ، بل إنّ نفسه باقية كما كانت ، وكذا الأجزاء الأصليّة من بدنه ، وكذا الحياة القائمة بهما ، وإنّما الاحتراق في أجزائه الفضليّة ، كما قال تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (١) ، ولا استحالة فيه. والله أعلم بالصواب ، وإليه المعاد والمآب.

__________________

(١) النساء (٤) : ٥٦.

٢١٤

المطلب الثاني

في بيان جملة من الأحوال والأمور التي نطق الشرع

بوقوعها يوم القيامة ويجب التصديق بها لكونها أمورا ممكنة

بالذات أخبر به المخبر الصادق

نفخ الصور

فمنها ـ النفخ في الصور ، قال تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً* وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) (١).

وقال : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) (٢).

وقال : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (٣).

وقال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٤).

وقال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ* وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) (٥).

__________________

(١) الكهف (١٨) : ٩٩.

(٢) طه (٢٠) : ١٠٢.

(٣) النمل (٢٧) : ٨٧.

(٤) الزمر (٣٩) : ٦٨.

(٥) ق (٥٠) : ٢٠ ـ ٢١.

٢١٥

وقال : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) (١).

إلى غير ذلك من الآيات والأخبار.

ويظهر من المفسّرين أنّهم اختلفوا في معناه.

قال في مجمع البيان : «واختلف في الصّور ، فقيل : هو قرن ينفخ فيه ، عن ابن عبّاس وابن عمر. وقيل : هو جمع صورة ، وإنّ الله تعالى يصوّر الخلق في القبور كما صوّرهم في أرحام الأمّهات ، ثمّ ينفخ فيهم الأرواح كما نفخ وهم في أرحام أمّهاتهم ، عن الحسن وأبي عبيدة. وقيل : إنّه ينفخ إسرافيل في الصّور ثلاث نفخات : فالنفخة الأولى الفزع ، والثانيّة نفخة الصّعق التي يصعق من في السموات والأرض بها فيموتون ، والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين ، فيحشر الناس بها من قبورهم (٢) ، انتهى.

وأقول : إنّ ما نقله عن ابن عبّاس وابن عمر مبناه على كون الصور اسما مفردا بمعنى القرن كما جاء في اللغة بمعناه ، وعلى كون النفخ فيه بمعنى إحداث صوت عظيم فيه ، وصيحة هائلة هما بفعل إسرافيل عليه‌السلام المأمور بذلك من عند الله تعالى ، كما هو مدلول كثير من الأخبار.

كما أنّ ما نقله عن الحسن وأبي عبيدة مبناه على كون الصور جمع صورة ، فإنّ جمعها كما يجيء بصيغة الصّور بضم الصاد وفتح الواو ، كذلك يجيء بإسكان الواو ، وعلى كون النفخ فيه بمعنى إعادة الروح إلى الصورة البدنيّة مرة أخرى ، أي حشرها وبعثها. إلّا أنّ المعنى الأوّل هو المشهور المعروف بين العلماء من معنى نفخ الصور ، ويؤيّده دلالة ظاهر أخبار كثيرة بل صريحها عليه ، كما يعلم بالتتبّع. وكذلك يؤيّده ظاهر آيات كثيرة واردة في ذلك ، مثل قوله تعالى :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ* قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ* إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا

__________________

(١) النبأ (٧٨) : ١٨.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٤٩٦.

٢١٦

مُحْضَرُونَ (١).

وقوله تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ* يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) (٢).

وقوله تعالى : (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) (٣).

وكذلك قوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ* فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) (٤) ، حيث قال جمع من المفسّرون في تفسيره : إنّ معنى الآية ، فإذا نفخ في الصور ولا سترة في أنّ الناقور يناسب الصور بمعنى القرن ، لا الصّور جمع الصّورة.

وكذلك يؤيّده أنّ مضمون الآيات والأخبار ، أنّ النفخ في الصور يكون مرّتين : مرّة للإماتة ، ومرة للإحياء إن لم نقل بكونه ثلاث مرات كما نقل عن بعضهم. ولا يخفى أنّه بالمعنى الأوّل يستقيم في كلتا المرّتين كما سيأتي بيانه ، وهو بالمعنى الثاني لا يستقيم إلّا في المرة الثانية التي للإحياء.

نعم لو كان مراد القائل بالمعنى الثاني نفخ الأرواح في الصور بتوسّط فعل إسرافيل عليه‌السلام وبندائه بإذن الله تعالى للأرواح بعودها إلى الصور ، وللأبدان باجتماع أجزائها وعودها كما كانت ، لكان لذلك وجه ، لكن في خصوص النفخة الثانية التي هي للأحياء.

ثمّ إنّ ما نقله عن القائل الثالث ، من وقوع النّفخ في الصور ثلاث مرات ، كأنّه خلاف ظاهر الآيات والأخبار ، بل ظاهرها وقوعه مرّتين : مرّة للإماتة ومرّة للإحياء.

وكذلك الظاهر أنّ قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٥).

وقوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٦) ،

__________________

(١) يس (٣٦) : ٥١ ـ ٥٣.

(٢) ق (٥٠) : ٤١ ـ ٤٢.

(٣) ص (٣٨) : ١٥.

(٤) المدّثّر (٧٤) : ٨ ـ ٩.

(٥) النمل (٢٧) : ٨٧.

(٦) الزمر (٣٩) : ٦٨.

٢١٧

معناهما واحد ، وأنّ معنى الفزع والصعق واحد ، هو الإماتة لا أن يكون الفزع بمعنى آخر غير الصعق ، حتّى يمكن التمسّك به في القول بوقوعه ثلاث مرات ، إن كان متمسّك القائل به ذلك.

وكيفما كان ، فنفخ اسرافيل عليه‌السلام ونداؤه للخلائق بتلك الآلة مرّة للإماتة ، ومرّة للإحياء بإذن الله تعالى كما هو ظاهر النفخ في الصور لأجل ذلك ، لا امتناع فيه عقلا ، بل هو أمر ممكن في ذاته ، وحيث أخبر الشرع به ، وجب التصديق به.

وبالجملة ، لا امتناع في أن ينادي إسرافيل عليه‌السلام بإذن الله تعالى للخلائق مرّة بالموت ، أي أن ينادي بتلك الآلة تارة ، لأرواحهم ، بقطع التعلّق عن الأبدان ، حتّى يموتوا بانقيادهم لذلك النداء والأمر ، أو من هول تلك الصيحة كما قال المفسّرون في قوله تعالى : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) (١) إنّه حين نزل العذاب على أهل انطاكية قوم عيسى عليه‌السلام أخذ جبرئيل عليه‌السلام بعضادتي باب المدينة وصاح بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم.

ومرّة بالحياة ، أي أن ينادي للأجزاء الأصليّة من أبدانهم بالاجتماع وعودها مرّة أخرى كهيئتها الأولى ، وينادي للأرواح بعودها إلى تلك الأبدان ، حتّى تحصل لهم الحياة ، كما ورد في الأخبار أنّ إسرافيل ينفخ في الصور وينادي : أيّتها العظام البالية والأوصال المنقطعة واللحوم المتمزّقة ، إنّ الله يأمركنّ أن تجتمعن لفصل القضاء.

وهذا الذي ذكرنا هو ظاهر معنى النفخ في الصّور مرّتين : مرة للإماتة ، ومرّة للإحياء.

والله تعالى وأولو العلم أعلم.

ولصدر الأفاضل رحمه‌الله هنا كلام لا بأس بنقله ، قال : «الإشراق الحادي عشر ، في معنى النفخ ؛ قال سبحانه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) (٢) ولما سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الصّور ما هو؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قرن من نور لنفخة إسرافيل ، فوصف بالسّعة والضيق ، واختلف في أنّ أعلاه ضيّق وأسفله واسع أو بالعكس ، ولكلّ وجه. والصّور بسكون الواو وقرئ بانفتاحها : جمع الصورة ، والنفخة نفختان : نفخة تطفئ النار ، ونفخة تشعلها. قال تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ

__________________

(١) يس (٣٦) : ٢٩.

(٢) الكهف (١٨) : ٩٩ ؛ يس (٣٦) : ٥١ ؛ الزمر (٣٩) : ٦٨ ؛ ق (٥٠) : ٢٠.

٢١٨

فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (١).

فإذا تهيّأت هذه الصور كانت فتيلة استعدادها كالحشيش المحترق ، وهو الاستعداد لقبول الأرواح كاستعداد الحشيش بالنار التي كمنت فيه لقبول الاشتعال ، والصور البرزخيّة كالسراج مشتعلة بالأرواح التي فيها ، فينفخ إسرافيل نفخة واحدة فتمرّ على تلك الصور فتطفؤها ، وتمرّ النفخة التي تليها ـ وهي الأخرى ـ على الصور المستعدّة للاشتعال ـ وهي النشأة الأخرى ـ فتشتعل بأرواحها فإذا هم قيام ينظرون ، فتقوم تلك الصور أحياء ناطقة بما ينطقها الله ، فمن ناطق بالحمد لله ، ومن ناطق يقول : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) ، ومن ناطق ب «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» وكلّ ينطق بحسب عمله وحاله وما كان عليه ، وينسى حاله في البرزخ ، ويتخيّل أنّ ذلك منام كما يتخيّله المستيقظ ، وقد كان عند موته وانتقاله إلى البرزخ كالمستيقظ هناك ، وأنّ الحياة الدنيا كانت له كالمنام ، وفي الآخرة يعتقد في أمر الدنيا والبرزخ أنّه منام في منام (٢) ، انتهى كلامه.

ولا يخفى عليك أنّه يظهر من كلامه تفسير الصّور أوّلا بالقرن ، ومن قوله : والصور بسكون الواو قرئ بانفتاحها جمع الصورة ، تفسيره بمعنى جمع الصورة ، وأنّه جمع بين المعنيين ، وذكر لكون النفخ في الصور سببا للإماتة والإحياء وجها عقليّا مرموزا هو أعلم به.

الصراط

ومن تلك الأحوال والأمور : الصراط ، وهو ممّا أخبر به الشرع ، ووردت به أخبار

__________________

(١) الزمر (٣٩) : ٦٨.

(٢) الشواهد الربوبيّة / ٢٩٦ ـ ٢٩٧ وفيه : قرن من نور التقمه إسرافيل ... وقرئ بانفتاحها أيضا ... والصور البرزخيّة كالسّرج ... ما كان عليه ونسي حاله في البرزخ.

٢١٩

كثيرة صريحة ، وفي الآيات القرآنيّة أيضا دلالة عليه.

قال الشيخ الصدوق ابن بابويه عليه الرحمة في «اعتقاداته» : «اعتقادنا في الصراط أنّه حق ، وأنّه جسر جهنّم ، وأن عليه يمرّ جميع الخلق ، قال الله عزوجل : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) (١) والصراط في وجه اسم حجج الله ، فمن عرفهم في الدنيا وأطاعهم أعطاه الله جوازا على الصراط الذي هو جسر جهنّم يوم القيامة. وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لعليّ عليه‌السلام : يا عليّ ، إذا كان يوم القيامة أقعد أنا وأنت وجبرئيل على الصراط ، فلا يجوز على الصراط إلّا من كانت معه براءة بولايتك» (٢) ، انتهى.

وقال الشارح القوشجيّ في شرح التجريد : وأمّا الصراط فقد ورد في الحديث الصحيح أنّه جسر ممدود على متن جهنّم ، يرده الأوّلون والآخرون ، أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف ، ويشبه أن يكون المرور عليه هو المراد من ورود كلّ أحد النار ، على ما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (٣) وأنكره القاضي عبد الجبّار وكثير من المعتزلة زعما منهم أنّه لا يمكن الخطور (٤) عليه ، ولو أمكن ففيه تعذيب ولا عذاب على المؤمنين والصّلحاء يوم القيامة. قالوا : بل المراد طريق الجنّة المشار إليه بقوله تعالى : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) (٥) وطريق النار المشار إليه بقوله تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٦).

وقيل : المراد الأدلّة الواضحة. وقيل : العبادات كالصلاة والزكاة وغيرهما. وقيل : الأعمال الرديّة التي يسأل عنها ويؤاخذ بها ، كأنّه يمرّ عليها ، ويطول المرور لكثرتها ويقصر لقلّتها.

والجواب ، أنّ إمكان العبور ظاهر ، كالمشي على الماء والطيران في الهواء ، غايته أنّه مخالفة العادة ، ثمّ الله تعالى يسهّل الطريق على المارّين ، كما جاء في الحديث أنّ منهم من

__________________

(١) مريم (١٩) : ٧١.

(٢) الاعتقادات / ٨٧ ، الطبعة الحجريّة.

(٣) مريم (١٩) : ٧١.

(٤) الخطور أي العبور.

(٥) محمّد (٤٧) : ٥.

(٦) الصافّات (٣٧) : ٢٣.

٢٢٠