منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-609-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٢٩٢

وممّا قرّرنا في ضمن تلك البراهين ، ظهر لك فساد ما قيل من أنّ المدرك للثواب والعقاب حقيقة إنّما هو النفس التي هي باقية بحالها والبدن آلة لها من غير أن يكون له دخل فيه أصلا ، فلا مانع من أن تعود في النشأة الأخرويّة في ضمن بدن آخر غير الأوّل ، فتبصّر.

ثمّ إنّه من جملة الشواهد على هذا المطلوب الذي نحن بصدد بيانه ، أنّ النظر في لفظ «المعاد» الذي نطق به الشرع وصدّق به العقلاء يقتضي أن يكون عود النفس في القيامة في ضمن البدن الأوّل بعينه ، لأنّك قد عرفت فيما ذكرنا في المقدمة أنّ المعنى الحقيقيّ لهذه اللفظة هو أن يكون قد وجد أوّلا شيء فرض هو متعلّق الإعادة على وجود مخصوص وحال وصفة مخصوصتين ، ثمّ زال عنه ذلك الوجود وتلك الصفة والحالة ، ثمّ وجد بعد ذلك على ذلك الوجود الأوّل والحالة والصفة المخصوصتين الأوليين.

وقد عرفت فيما تلوناه عليك أنّ النفس باقية بذاتها وكذلك الأجزاء الأصليّة البدنيّة ، وإنّما الزّائل هو تعلّق النفس بذلك البدن الأوّل بهيئته ، فينبغي أن يكون متعلّق الإعادة هو التعلّق ثانيا بذلك البدن الأوّل بعينه كما عرفت معناه ، لا التعلّق ببدن مطلق أو بدن ما غير الأوّل ذاتا ، لأنّه لم يزل عنها حتّى يعاد.

وهذا أيضا من المؤيّدات للمطلوب ، وإن لم يكن دليلا عقليّا عليه. وبما ذكرناه من البراهين وقرّرناه من الدلائل تمّ بيان الأمر الثالث أيضا من تلك الأمور الثلاثة.

ولا يخفى عليك أنّ هذا البيان أيضا غير خاصّ ببعض النفوس الإنسانيّة دون بعض ، بل يجري في جميع النفوس الإنسانيّة كاملة كانت أم ناقصة أم متوسّطة ، فإنّ المقدّمات التي بناء هذا البيان عليها مشتركة في الكلّ لا اختصاص لها ببعض دون بعض ، كما يظهر بالتأمّل فيها.

ولا يخفى أيضا أنّه بما ذكرنا ، كما يتمّ بيان جوب عود النفوس إلى البدن الأوّل بعينه، كذلك يتمّ به بيان وجوب وقوع الثّواب والعقاب الحسّيّين للنفس في ضمنه ، أي لذلك الشخص بعينه ، مضافا إلى وقوع الثّواب والعقاب العقليّين اللذين هما لتلك النفس في ذاتها ، لأنّه إذا وجب عود النفس إلى البدن الأوّل والحال أنّه يكون لها في ضمنه آلات

١٨١

بدنيّة وقوى حسّيّة البتّة ، وأنّ تلك الآلات والقوى لا تكون معطّلة البتة ، بل هي لأجل إدراك الثواب والعقاب الحسّيّين ، وجب أن يكون لها في ضمنه ذلك البتّة.

وبالجملة ، فيثبت بما بيّنّاه ما هو المقصود ، أي وجوب عود النفس إلى البدن الأوّل بعينه البتّة ، وكذا وجوب وقوع الثواب والعقاب الحسّيّين البتة كالعقليّتين ، وإن كان بيان تفاصيل الثّواب والعقاب الحسّيّين ووقوعهما على كيفيّات مخصوصة موكولا إلى الشرع الشريف ، إذ هو مبيّن فيه مفصّلا ، ولا استقلال للعقل في ذلك.

شكّ مع جوابه

ثمّ إنّه بقي هنا شكّ ينبغي التعرّض له ولجوابه.

بيان الشكّ : أنّه لقائل أن يقول : إنّ ما ذكرته من البراهين على هذا المطلوب لو كان صحيحا لأشكل عليك الأمر في حال النفس الإنسانيّة في عالم البرزخ ، إذ عندك أنّ النفس في ذلك العالم هي بعينها تلك النفس الأولى ، وأنها تكون فيه موردة للثواب والعقاب الحسّيّين ، كما أنّها تكون موردة للثواب والعقاب العقليّين ، والحال أنّها في ذلك العالم غير متعلّقة أصلا بالبدن الأوّل الذي قلت أنّه جزء للشخص وله مدخل في تشخّص الشخص وتشخّص النفس ، واذ ليست هي متعلّقة فيه به بل متعلّقة ببدن مثاليّ هو غير البدن العنصريّ الأوّل ، فلا تكون لها فيه ذلك التشخّص ، ولا تلك القوى والمراتب البدنيّة ، ولا الحواس والمشاعر البدنيّة ، ولا الهيئات البدنيّة التي ادّعيت أن لها دخلا في تشخّص النفس وتميّزها.

فحينئذ يردّ عليك جميع ما أوردته من الإشكالات على تقدير القول بعود النفس في القيامة في ضمن بدن عنصريّ مغاير للبدن الأوّل سواء بسواء ، ويجب عليك التفصّي من هذه الإشكالات ، إمّا المصير إلى أنّ البدن العنصريّ الخاصّ الأوّل ليس له دخل في تشخّص النفس وتميّزها أصلا ، ولا هو جزء للشخص الإنسانيّ ، وأنّ المستحقّ لوصول الثواب والعقاب إليه هو النفس وحدها ، والبدن لا مدخل له في ذلك ، بل هو كالآلة كما قاله

١٨٢

بعضهم ، وهذا خلاف ما قرّرته وبنيت عليه إثبات المعاد الجسمانيّ ، وأمّا المصير إلى أنّ محلّ الثواب والعقاب يجوز أن يكون غير محلّ الطّاعة والمعصية ، وهذا أيضا ـ مع كونه خلاف ما ذكرته ـ باطل قطعا لكونه ظلما. وبالجملة ، فما تقول في جواب هذا الشكّ؟ وما وجه التفصّي عنه؟

وأمّا بيان الجواب عن هذا الشكّ ، فبأن يقال : إنّا نختار أنّ النفس في عالم البرزخ هي بعينها تلك النفس في النشأة الدنيويّة. ونقول : إنّ ما ذكرت من أنّه ينقطع فيه تعلّقها عن البدن الأوّل أصلا ، إن اردت به انقطاع تعلّقها عنه من حيث مادّته وصورته البدنيّة جميعا ، فذلك غير مسلّم ، لأنّك قد عرفت فيما تلونا عليك في باب حدوث النفس بحدوث البدن ، وكذا في باب مائيّة النفس ، أنّ للنفس نوعين من التعلّق بالبدن : أحدهما من حيث الصورة البدنيّة ، والآخر من حيث المادّة ، وأنّه بالموت وإن كان يزول تعلّقها به من الجهة الأولى ، لكنّه لا يزول تعلّقها به من الجهة الثانيّة ، وأنّه بذلك يظهر سرّ زيارة القبور وإجابة الدعوات في المقابر.

وإن أردت به انقطاع تعلّقها عنه من حيث الصورة البدنيّة فقط وبقاء تعلّقها به من حيث المادّة ، ولا سيّما من حيث الأجزاء الأصليّة فذلك مسلّم ، إلّا أنّه لا يلزم منه زوال تشخّص النفس وتميّزها ، لجواز أن يكون تشخّصها باقيا من جهة بقاء تلك الأجزاء الأصليّة وبقاء تعلّقها بها كما قرّرنا ذلك لك فيما تقدم ، وأن يكون لها من حيث تعلّقها بتلك الأجزاء الأصليّة جميع المراتب والقوى والمشاعر والحواسّ التي قلنا إنّ لها مدخلا في تمايز النفوس وخصوصيّاتها ، من حيث إنّ تلك الأجزاء الأصليّة بعضها أجزاء للدماغ ، وبعضها للأعضاء الرئيسة الأخر ، مثل القلب والكبد ، وبعضها لجميع الأجزاء ، فيجوز أن يكون لها من حيث التعلّق بكلّ جزء من تلك الأجزاء نوع مرتبة ونوع قوّة منوطة بذلك مرتبطة به ، وأن يكون بذلك لم يزل تشخّص النفس ، ولا بطل شيء من تلك المراتب ولا فات عنها شيء من تلك القوى ، بل كانت هذه باقية على ما كانت أوّلا من حيث تعلّقها بالبدن صورة ومادّة ، إلّا أنّ النفس لمّا كانت بدنيّة تحتاج في أفعالها الجزئيّة وإدراكاتها الحسّيّة إلى بدن ، وكان قد بطل بدنها الأوّل من حيث الصورة ، وزال تعلّقها عنه

١٨٣

من هذه الجهة ، اقتضت الحكمة المتعالية الإلهيّة تعلّقها حينئذ ببدن مثاليّ يماثل البدن الأوّل في جميع الصفات والحالات والقوى والمشاعر إلّا ما شذّ منها ، ويكون ذلك البدن المثاليّ ينوب مناب البدن الأوّل العنصريّ في كونه آلة وواسطة في صدور تلك الأفعال الجزئيّة والإدراكات الحسّيّة عنها ، ولا يكون في تعلّقها به لزوم محال كالتناسخ ونحوه ، على ما عرفت بيانه سابقا ، سواء قلنا بحدوث البدن المثاليّ بعد خراب البدن العنصريّ الأوّل كما هو الاحتمال فيحدث تعلّقها به حينئذ ، أو قلنا بكونه موجودا معه في النشأة الدنيويّة أيضا ، وهو الأظهر كما دلّ عليه بعض الشواهد المتقدّمة ، فيظهر تعلّقها به ويغلب ويكثر. وبالجملة أن تصير متعلّقة به ، ويكون لها في ضمنه تلك الأفعال والآثار والإدراكات ، كما في ضمن البدن العنصريّ ، فإنّك قد عرفت فيما تلوناه عليك سابقا أنّ للبدن المثاليّ جميع الحواس والمشاعر والقوى الحيوانيّة ، وأنّ للنفس في ضمنه جميع تلك القوى مضافا إلى القوّة العقليّة التي هي لها بذاتها.

نعم ، القوة النباتية وإن لم تكن لها في ضمنه ، إلّا أنّ ذلك لعدم قبول المادّة المثاليّة لتلك القوّة ، حيث إنّ التّنمية والتّغذية والتّوليد التي هي من لوازم القوّة النباتيّة ، إنّما هي من خواصّ المادّة الجسمانيّة العنصريّة لا غير ، فكان النقص من جهة القابل لا الفاعل.

وبالجملة ، لا يلزم من تعلّقها ببدن مثاليّ مع التّعلّق بتلك الأجزاء الأصليّة زوال تشخّص النّفس ولا بطلان قواها ومراتبها ، فلا إشكال.

فإن قلت : كيف يكون الشيء الواحد في زمان واحد متعلّقا بأمرين مختلفين؟

قلت : لا محذور في ذلك فيما نحن فيه ، فإنّك قد ظهر لك فيما مرّ أنّ تعلّق النفس الإنسانيّة التي هي ذات مجرّدة عن المادّة في ذاتها بأمر من الأمور وبمادّة من المواد ، ليس على سبيل الانطباع في المادّة ، حتّى لا يمكن تعلّقها بأكثر من مادّة ، بل على سبيل التصرّف والتدبير ، وتعلّقها كذلك يجوز بأكثر من واحد ، ومع ذلك فالبدن المثاليّ ظلّ وشبح للبدن العنصريّ موجود بالعرض لوجوده ، بل لوجود أجزائه الأصليّة ، فهو ليس بمنفصل الذات ومباين القوام عن البدن العنصريّ ، حتّى لا يجوز تعلّقها به مع التعلّق بالبدن العنصريّ أو بأجزائه الأصليّة. ويرد عليه ما يرد على تقدير تعلّقها ببدنين مختلفين ،

١٨٤

فحينئذ يجوز تعلّقها بمادّة بدنيّة عنصريّة ، وببدن مثاليّ واحد أو اكثر في زمان واحد ، كما دلّ عليه الشرع ، ولا امتناع فيه عقلا أيضا.

فإن قلت : على ما ذكرت ، وإن لم يلزم بطلان تشخّص النفس ولا فوات شيء من قواها ومراتبها البدنيّة ، إلّا أنّه يلزم منه انعدام ذلك الشخص الإنسانيّ الذي ذكرت أنّه عبارة عن مجموع النفس الخاصّة والبدن المخصوص ، فإنّه لا سترة أنّه بانعدام التأليف البدنيّ والهيئة البدنيّة وزوال صورة البدن رأسا ينعدم البدن ولا يبقى البدن بدنا من حيث هو بدن كما اعترفت سابقا ، وإن كان يبقى أجزاؤه الأصليّة أو مادّته. وقد اعترفت أيضا أنّ ما هو جزء للشخص الإنسانيّ هو البدن الخاصّ من حيث صورته ومادّته جميعا ، فحيث كان ذلك منعدما كان الشخص الإنساني الذي هو جزؤه منعدما أيضا لانعدام الكلّ بانعدام الجزء ، ولا يجدي في بقائه بقاء الجزء الآخر أعني النفس ، فإذا كان الشخص الإنسانيّ منعدما ، فكيف يكون نفسه وحدها موردة للثواب والعقاب الحسّيّين في عالم البرزخ؟ مع أنّ الحكمة ـ كما اعترفت به أيضا ـ تقتضي أن يكون مورد الثواب والعقاب هو ذلك الشخص الإنسانيّ بعينه بكلا جزئيه لا أحد جزئيه وحده ، وهل هذا إلّا القول بكون مورد الثواب والعقاب هو النفس وحدها وكون البدن آلة لها ، كما قال به بعضهم ، وهل هذا إلّا نقض بنيان ما أصّلته لإثبات المعاد الجسمانيّ؟

قلت : سلّمنا أنّ ذلك الشخص الإنسانيّ العنصريّ اللحميّ العظميّ الرباطيّ ينعدم حينئذ بانعدام بدنه بهيئته ، لكنّا لا نسلّم انعدام الشخص الإنسانيّ رأسا حينئذ ، لأنّك قد عرفت ممّا قدّمناه لك ، أن البدن المثاليّ ظلّ وشبح للبدن العنصريّ وموجود بالعرض لوجود العنصريّ ، بل لوجود أجزائه الأصليّة ، أي أنّه بوجود البدن العنصريّ وأجزائه الأصليّة بالذات ، والمثاليّ يوجد بالعرض ، كوجود لوازم الماهيّات تبعا للماهيّات. وأنّ تعلق النفس بالبدن العنصريّ وبالمثاليّ تعلّق واحد ، إلّا أنّ تعلّقها بالعنصريّ بالذات وبالمثاليّ بالعرض. وأنّه كما يجوز أن يبقى تعلّق النفس بالأجزاء الأصليّة من البدن العنصريّ تعلّقا بالذات ، يجوز أن يبقى تعلّقها بالبدن المثاليّ الذي لا يفسد ، وهو ظلّها وشبحها وموجود بتبعيّتها تعلّقا بالعرض.

١٨٥

فحينئذ نقول : إنّ الشخص الإنسانيّ وإن كان في الظاهر عبارة عن النفس الخاصّة والبدن الخاصّ العنصريّ اللحميّ العظميّ الرباطيّ ، لكنّه في الباطن وعند النّظر الدّقيق عبارة عن النفس الخاصّة المتعلّقة ببدن عنصريّ يتبعه بدن مثاليّ هو ظلّ وشبح له وموجود بوجوده ، فحينئذ إن اعتبرت النفس الإنسانيّة مع البدن الخاصّ العنصريّ وحده ، يلاحظ هناك شخص إنسانيّ لحميّ عظميّ. وإن اعتبرتها مع البدن المثاليّ وحده يلاحظ هنا شخص آخر مثاليّ إلّا أنّ الشخصين لا تغاير بينهما بالحقيقة ، ولا انفصال بينهما بالذات ، إذ النّفس المتعلّقة بالبدنين واحدة بالشخص ، وكذا تعلّقها بهما تعلّق واحد ، والبدن المثاليّ ظلّ وشبح للعنصريّ ، وتعلّق النفس به غير منفرد عن التعلّق بالبدن العنصريّ أو بأجزائه الأصليّة ، بل في ضمنه وبتبعيّته ، فأين الاختلاف بالحقيقة؟

بل إنّما هو بمجرّد الاعتبار ، فإنّ أحد البدنين ظلّ وشبح ، والآخر ذو ظلّ وذو شبح.

فعلى هذا فالشّخصان واحد بالحقيقة ، والشخص الإنسانيّ في الظاهر إنسان لحميّ عظميّ رباطيّ يتطرّق إليه باعتبار بدنه فناء وزوال ، وفي الباطن إنسان مثاليّ ، لا يتطرّق إليه ذلك. وكأنّ هذا معنى قول بعض أساطين الحكمة : «إنّ في باطن كلّ إنسان وفي أهابه حيوانا إنسانيّا بجميع أعضائه وحواسّه وقواه ، وهو موجود الآن ، ولا يموت بموت البدن العنصريّ اللحميّ». (١)

وبالجملة ، فكلّ من الشخصين عين الآخر باعتبار ، وإن كان غيره باعتبار آخر ، وكما أنّه في حال بقاء الهيئة التركيبيّة البدنيّة ، وتعلّق النفس بالبدن العنصريّ بهيئته بالذات وبالمثاليّ بالعرض ، يجوز أن يغلب تعلّقها بالبدن المثاليّ وينفرد الشخص الإنسانيّ المثاليّ بأفعال وخواصّ وإدراكات كما في المنام بالنسبة إلى الكلّ وفي التيقّظ أيضا بالنسبة إلى بعض النفوس الفاضلة الكاملة ، حيث عرفت فيما حقّقناه لك في مبحث تحقيق عالم المثال ، أنّ ما يراه الشخص الإنسانيّ من الرؤيا في المنام إنّما هو من جنس عالم المثال ، وليس من مخترعات الخيال والمتخيّلة ، وإنّ مدرك ذلك إنّما هو النّفس

__________________

(١) القائل هو صدر المتألّهين في كتابه الشواهد الربوبيّة / ٢٨٨.

١٨٦

الإنسانيّة بتوسّط آلاته وقواه المثاليّة لا بالذّات من غير توسّط آلة وقوّة ، حيث إنّ النّفس لا تدرك الجزئيّات المحسوسة المادّيّة بذاتها من غير توسّط القوى والآلات.

وبالجملة ، أنّ المدرك لتلك الرؤيا التي هي أمور مثاليّة هو النفس بتوسّط القوى والآلات المثاليّة ، وفي ضمن البدن المثاليّ أي الشخص الإنسانيّ المثاليّ. ومع ذلك يحكم العقل حكما صريحا غير مشوب بريبة ، أنّ المدرك لذلك هو بعينه الشخص الإنسانيّ الذي هو عبارة عن النفس الإنسانيّة المتعلّقة ببدن عنصريّ لا شخص آخر غيره ، كما أنّه في حال اليقظة أيضا إذا انفرد البدن المثاليّ والشخص المثاليّ بأفعال وخواصّ ، يكون الحال كذلك ويعلم ذلك بالمقايسة. كذلك يجوز أن يكون في حال خراب الهيئة التركيبيّة البدنيّة ، وبقاء الأجزاء الأصليّة من البدن ، وغلبة تعلّق النفس بالبدن المثاليّ الذي هو موجود بالعرض بوجود الأجزاء الأصليّة وباق ببقائه ـ كما في عالم البرزخ ـ ينفرد الشخص الإنسانيّ المثاليّ ، أي النّفس في ضمن البدن المثاليّ وبتوسّط القوى والآلات المثالية بإدراك واردات عليه من المدركات الجزئيّة الحسّيّة الملذّة أو المؤلمة كما نطق به الشرع ، وأن يكون هذا الشخص بعينه هو الشخص الإنسانيّ الذي صدر عنه الخيرات أو الشرور في النشأة الدنيويّة بلا مغايرة بينهما ذاتا وحقيقة ، بل إنّه يحكم به العقل أيضا كما في الصورة الأولى. وكأنّ الحكمة المتعالية الإلهيّة اقتضت أن يكون الشخص الإنسانيّ الذي قلنا إنّه عبارة عن النفس الإنسانيّة المتعلّقة ببدن مخصوص عنصريّ ، يتبعه بدن مثاليّ موجود بوجوده تعلّقا واحدا ، وصدر عنه في النشأة الدنيويّة التي هي دار التكليف خيرات أو شرور مجزيّا بأعماله وأفعاله إمّا مثابا أو معاقبا بعد قطع تعلّق نفسه عن بدنه العنصريّ بهيئته وخراب بدنه ذلك ، بأن يكون في النشأة البرزخيّة المتوسّطة مجزيّا في الأكثر في ضمن البدن المثاليّ بالثواب أو العقاب الحسّيّين المثاليّين ، مضافا إلى ما يكون لنفسه من السّعادة والشّقاوة العقليّتين ، وكذا مضافا إلى ما يكون لذلك الشخص من الثواب أو العقاب الحسّيّين في ضمن البدن العنصريّ أيضا إذا لم يبطل تركيبه ، أو بطل أيضا وذلك كما في الضغطة والمساءلة ، حيث إنّه قد دلّ الشّرع كما ذكرناه سابقا على أنّه في الحالتين بعد تعلّق النفس بإذن الله تعالى بذلك البدن العنصريّ بهيئته مرّة أخرى تعلّقا

١٨٧

ما بقدر زمان الضغطة والمساءلة بعد قطع تعلّقها عنه ، سواء كان ذلك البدن العنصريّ قد بقي بهيئته ولم يزل بعد هيئة التركيبيّة ، أو زالت وتفرّقت أجزاؤه ثمّ أعيدت بإذن الله تعالى بتلك الهيئة في ذلك.

وبالجملة ، يجوز أن يكون قد اقتضت الحكمة المتعالية المقدّسة ، جزاء الشخص الإنسانيّ المثاليّ في عالم البرزخ بأنواع المثوبات أو العقوبات المثاليّة البرزخيّة كما ورد به الشرع ، ثمّ إنّه إذا حان بمشيّة الله تعالى وقت المعاد ويوم نفخ الصور ، أي (١) أن يجزيه الله تعالى في ضمن بدنه العنصريّ ، يثيبه أو يعاقبه بالثواب أو العقاب الحسيّين الماديّين الجسمانيّين الأخرويّين اللذين لا يكونان للشخص الإنسانيّ إلّا في ضمن البدن العنصريّ الجسمانيّ المادّيّ الأخرويّ ، يكون هناك المعاد على النهج الذي قرّرناه وأقمنا الدليل العقليّ عليه ، كما نطق به الشرع أيضا ، ويكون لذلك الشخص ثواب وعقاب حسّيّان ماديّان مضافا إلى الثواب والعقاب العقليّين ، سواء قلنا بأنّه مع عود البدن الأصليّ العنصريّ في النشأة الأخرويّة وعود تعلّق النّفس به بهيئته ، يكون معه البدن المثاليّ أيضا ، حيث إنّه ظلّ وشبح للبدن العنصريّ ، والظلّ لا ينفكّ عن ذي الظلّ ، ولا دليل أيضا على فنائه ، أو قلنا بأنّ البدن المثاليّ لا يكون هناك ، بل ينعدم لأسباب لا نعلمها.

والحاصل ، أنّه يجوز أن يكون قد اقتضت الحكمة الإلهيّة ما فصّلنا ، وأن يكون الشخص الإنسانيّ في الحالات كلّها وفي النشئات الثلاث بأجمعها ـ أي النشأة الدنيويّة والبرزخيّة والأخرويّة ـ واحدا بالحقيقة والذات نفسا وبدنا ، وإن كان يعرض له في تلك النشئات أمور وحالات لا دخل لها في تشخّصه ، ولا ينافي تبدّلها وتغيّرها لتميّزه وتخصّصه الذاتيّين ، وإن كان لها مدخل في تغايره الاعتباريّ ، وكأنّه يشير إلى هذه الجملة قوله تعالى :

(وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ* فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ

__________________

(١) الظاهر زيادة كلمة «أي».

١٨٨

خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ* تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) (١).

وإذا عرفت ذلك وتحقّقته حقّ التحقّق ، علمت أنّه لا إشكال هنا ، لا لزوم نقض بنيان ما أصّلناه لإثبات المعاد الجسمانيّ ، ولا لزوم محال آخر ، ولا أظنّك في مرية من ذلك إن كنت مستبصرا طالبا بطريق السّداد ومنهج الرشاد ، وهذا الذي ذكرناه في هذا المطلب بطوله ، إنّما هو بيان إثبات أصل المعاد الجسمانيّ لوقوع الثواب أو العقاب الحسّيّين ، وإقامة الدّليل العقليّ عليه كما نطق به الشّرع.

وأمّا بيان تفاصيل الثّواب والعقاب الحسّيّين الجسمانيّين أو المثاليّين في عالم الآخرة وفي عالم البرزخ ، وبيان وقوعهما على كيفيّات مخصوصة ، وكذا بيان تفاصيل الأمور الحسّيّة الواقعة في النشأتين ، فموكول إلى الشرع الشريف إذ ذاك مبيّن فيه مفصّلا.

وليكن هذا آخر كلامنا في هذا المطلب الأسنى الذي نحن بصدده في هذا الباب ، بل هو غرضنا الأصليّ من وضع هذا الكتاب ، وعلمت أنّه اعترفت جماهير العلماء بالعجز عن إقامة الدليل العقليّ عليه ، معلّلين بأنّه لا استقلال للعقل فيه. وكذلك هذا البيان الذي ذكرناه وبيّناه بهذا التفصيل ، ولا سيّما في بيان الأمر الثالث ، إنّما هو بقدر فهمنا القاصر ، والمظنون أنّه لم يسبقنا أحد فيه ، وإن وافقنا كثير من العلماء في كثير ممّا ذكرناه في بيان الأمور الأوّلة ، فإن أصبنا في ذلك فلنحمد الله عزوجل على توفيقنا له ، وإن أخطأنا فيه فلنسأل الله تعالى العفو عن خطيئاتنا ، إنّه وليّ ذلك.

دقيقة

وهاهنا دقيقة سبقت منا إشارة ما إليها وهي أنّ ما اعترف به جمهور العلماء بالعجز عنه ، وبعدم استقلال العقل فيه ، إن كان مرادهم به العجز عن إقامة الدّليل العقليّ على أصل المعاد الجسمانيّ وأصل وقوع الثّواب أو العقاب الحسّيّين كما نطق به الشرع ، فقد عرفت أنّه ليس كذلك ، وإن كان مرادهم به العجز عن إقامة الدليل العقليّ على وقوع الثواب

__________________

(١) المؤمنون (٢٣) : ١٠٠ ـ ١٠٤.

١٨٩

والعقاب الحسّيّين الجسمانيّين أو المثاليّين على كيفيّات مخصوصة نطق بها الشّرع ، فله وجه. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال ، وإليه المعاد والمآل.

تذنيب في حشر غير الإنسان

قد ورد في الشرع آيات وأخبار في حشر غير الإنسان ؛ أمّا في شأن الجنّ والشّياطين فكقوله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) (١)

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) (٢)

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) (٣) الآية.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (٤).

وقوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) (٥)

وأمّا في شأن بعض الحيوانات غير الإنسان

فكقوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (٦)

وأمّا في شأن كلّها

كقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٧)

وقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٨).

__________________

(١) الأنعام (٦) : ٢٢ ؛ يونس (١٠) : ٢٨.

(٢) الأنعام (٦) : ١٢٨.

(٣) الأعراف (٧) : ١٧٩.

(٤) الصافّات (٣٧) : ١٥٨.

(٥) مريم (١٩) : ٦٨.

(٦) التكوير (٨١) : ٥.

(٧) الأنعام (٦) : ٣٨.

(٨) الشورى (٤٢) : ٢٩.

١٩٠

وأمّا في شأن ما جعله المشركون شركاء لله تعالى ، (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ* وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (١).

وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ* قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ). (٢)

وقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ* لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) (٣).

وأمّا في شأن جميع من في السموات ومن في الأرض ، حتّى الملائكة

فكقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ* وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ* وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) (٤).

وأمّا في شأن الخلق أجمع

فكقوله تعالى : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٥).

وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦)

وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧).

وقوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ

__________________

(١) الصافّات (٣٧) : ٢٢ ـ ٢٤.

(٢) سبأ (٣٤) : ٤٠ و ٤١.

(٣) الأنبياء (٢١) : ٩٨ و ٩٩.

(٤) الزمر (٣٩) : ٦٨ ـ ٧٠.

(٥) الروم (٣٠) : ١١.

(٦) الروم (٣٠) : ٢٧.

(٧) العنكبوت (٢٩) : ١٩.

١٩١

إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١)

وقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢)

إلى غير ذلك من الآيات والأخبار ، فلنتكلّم في ذلك.

فنقول : أمّا ما ورد في حشر الشّياطين والجنّ ، لو حملناه على ظاهره كما حمله عليه العلماء من أهل الإسلام ، فيمكن بيان حشرهم كما بيّنّاه في حشر الإنسان سواء بسواء ، إذ قلنا إنّ لهم أيضا نفوسا مجرّدة وأبدانا عنصريّة ، وإن كانت ناريّة كما هو ظاهر الشّرع ، وإنّهم أيضا إذا طرأ عليهم الموت تبقى نفوسهم المجرّدة وكذا الأجزاء الأصليّة من أبدانهم الناريّة ، وإنّهم حين المعاد يعود تعلّق نفوسهم مرّة أخرى بأبدانهم بعد جمع أجزائها وإعادة تأليفها كهيئته الأولى كرّة بعد أولى ، ويكون الحكمة في حشرهم إيصال جزاء أعمالهم إليهم كما في الإنسان.

وأمّا ما ورد في حشر الحيوانات غير الانسان ، فهو كأنّه مختلف فيه بين العلماء ، حيث لا يظهر منهم إطباقهم عليه ، بل قد صرّح بعضهم ـ كصدر الأفاضل في شواهد الربوبيّة ـ «بأنّه قد وقع الاختلاف في حشر نفوس الحيوانات في القيامة ، وبأنّ الروايات مختلفة في ذلك» (٣).

وكذلك ما رأينا من كلام المفسّرين في تفسير الآيات الواردة في ذلك يدلّ على اختلافهم فيه ، وإن كان الأكثرون منهم قد حملوها على ظاهرها.

قال الشيخ الطبرسيّ رحمه‌الله في «الجوامع» في تفسير قوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (٤) ، هكذا : «واذا الوحوش جمعت حتّى يقتصّ بعضها من بعض ، ويوصل إليها ما استحقّته من الأعواض على الآلام التي نالتها في الدنيا. وعن ابن عباس حشرها موتها.

__________________

(١) العنكبوت (٢٩) : ٢٠.

(٢) القصص (٢٨) : ٨٨.

(٣) الشواهد الربوبية / ٣٣٢.

(٤) التكوير (٨١) : ٥.

١٩٢

وقال في تفسير قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) (١) الآية ، في قوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٢) : يعني الأمم كلّها فيعوّضها وينتصف لبعضها من بعض ، وفيه دلالة على عظم قدرته ولطف تدبيره في الخلائق المختلفة الأجناس ، وحفظه لما لها وعليها ، وأنّ المكلّفين لم يختصّوا بذلك دون من سواهم.

وقال في تفسير قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٣) ، في قوله تعالى : «وما بثّ فيهما من دابّة» : وما بثّ ، يجوز أن يكون مجرورا ومرفوعا عطفا على المضاف أو المضاف إليه ، وقال : فيهما أي والحال أنّ الدّواب في الأرض لا في السماء ، لأنّ الشيء يجوز أن ينسب إلى جميع المذكور وإن كان ملتبسا ببعضه ، كقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٤) وإنّما يخرج من الملح. ويجوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران ، فيوصفون بالدّبيب كما يوصف له الإنسان ، ولا يبعد أن يكون في السموات من يمشي فيها كما يمشي الأناسيّ في الأرض». هذا كلامه (٥).

وهو لم يتعرّض فيه لتفسير قوله تعالى (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) ؛ ويفهم منه أنّه حمل الجمع على معناه الظاهر المتبادر ، أي الحشر ، إلّا أنّه كما يفهم منه في تفسير قوله «فيهما» بالتّفاسير الثّلاثة قد أرجع ضمير الجمع في قوله «جمعهم» ، إلى دوابّ الأرض وحدها على التّفسير الأوّل ، وإلى دوابّ الأرض والسماء جميعا على التّفسيرين الأخيرين ، وأنّه على كلّ تقدير ، فالجمع محمول على معنى الحشر.

ومثله كلام صاحب «الكشّاف». قال في تفسير الآية الأولى هكذا : «حشرت ، جمعت من كلّ ناحية» ، قال قتادة : يحشر كلّ شيء حتّى الذباب للقصاص. وقيل إذا قضي بينها ردّت ترابا فلا يبقى منها إلّا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطّاوس

__________________

(١) الأنعام (٦) : ٣٨.

(٢) نفس الآية.

(٣) الشورى (٤٢) : ٢٩.

(٤) الرحمن (٥٥) : ٢٢.

(٥) جوامع الجامع / ٥٣١ ـ ١٢٥ ـ ٤٣٠.

١٩٣

ونحوه. وعن ابن عبّاس : حشرها موتها. يقال إذا أجحفت السّنة بالناس وأموالهم : حشرتهم السّنة. وفي تفسير الآية الثانيّة هكذا ، ثمّ إلى ربّهم يحشرون يعني الأمم كلّها من الدوابّ والطير ، فيعوّضها وينصف بعضها ، كما روي أنّه يأخذ للجمّاء من القرناء.

ثمّ قال : فإن قلت : فما الغرض من ذلك؟ قلت : الدلالة على عظم قدرته ولطف علمه وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس ، المتكاثرة الأصناف ، وهو حافظ لما لها وعليها ، مهيمن على أحوالها ، لا يشغله شأن عن شأن ، وإنّ المكلّفين ليسوا المخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان» (١) وفي تفسير الآية الثالثة مثل ما نقلناه عن الشيخ الطبرسيّ رحمه‌الله فيه.

وقال البيضاويّ فيما رأيناه من تفسيره ، في تفسير قوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) في الآية الثانيّة : «يعني الأمم كلّها ، فينصف بعضها عن بعض ، كما روي أنّه يأخذ للجمّاء من القرناء. وعن ابن عبّاس : حشرها موتها». (٢)

وقال محيي السنّة صاحب معالم التنزيل فيما رأيناه من تفسيره ، في تفسير قوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) : في هذه الآية أيضا هكذا : قال ابن عبّاس والضحّاك ، حشرها موتها. قال أبو هريرة : يحشر الله الخلق كلّهم يوم القيامة ، البهائم والدوابّ والطير وكلّ شيء ، فيأخذ للجمّاء من القرناء ، ثمّ يقول كوني ترابا ، فحينئذ يتمنّى الكافر ويقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا. ثمّ روى عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : لتؤدّون الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتّى للشاة الجلحاء ـ أي الجمّاء ـ من القرناء ، انتهى».

وقد ذكر صدر الأفاضل في «شواهد الربوبيّة» كلاما يفهم منه تفسير قوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) بأنّ المعنى حشر بعض النفوس النّاقصة الإنسانيّة على صور الوحوش التي غلبت صفات تلك الوحوش على تلك النفوس ، بأن يحشروا على تلك الصور ، أو حشر تلك النّفوس في الآخرة بحيث تكون قرناءهم في الآخرة تلك الصور الوحوشيّة ، حيث قال : إنّ حشر كلّ أحد إلى غاية سعيه وعمله وما يحبّه ، حتّى أنّه لو أحبّ

__________________

(١) تفسير الكشّاف ٤ / ٢٢٢.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٨٧ ، ط بيروت.

١٩٤

أحدكم حجرا لحشر معه ، فإنّ تكرّر الأفاعيل يوجب حدوث الملكات ، فلكلّ ملكة تغلب على الإنسان في الدنيا متصوّر في الآخرة بصورة تناسبها ، (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ). (١) ولا شكّ أن أفاعيل الأشقياء المدبرين إنّما هي بحسب هممهم القاصرة النازلة في مراتب البرازخ الحيوانيّة ، وتصوّراتهم مقصورة على أغراض بهيميّة أو سبعيّة تغلب على نفوسهم ، فلا جرم يحشرون على صور تلك الحيوانات في القيامة ، كقوله : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (٢). وفي الحديث : يحشر بعض الناس على صورة تحسّ (تحسن) عندها القردة والخنازير». انتهى (٣)

ويوافقه في التفسير بالمعنى الأوّل كلام المحقّق الطوسيّ رحمه‌الله في رسالة منسوبة إليه.

وحيث عرفت ذلك ، فنقول : لو حمل تلك الآيات الواردة في ذلك على أنّ المراد بحشر تلك الحيوانات موتها ـ كما هو المنقول عن ابن عبّاس والضحّاك ـ أو على ما يفهم من كلام صدر الأفاضل.

وبالجملة ، لو حملت على غير معناها الظاهر ، فهو كلام آخر ، وإن حملت على ظاهرها كما حملها عليه الأكثرون ، فحينئذ إن كانت الحكمة في حشرها وبعثها أمرا لا نعلمه أصلا ، أو حكمة ومصلحة عائدة إلى بني آدم كلّهم أو بعضهم ، من نوع سرور وإعجاب أو اعتبار أو نحو ذلك ، فهذا أيضا كلام آخر.

وإن كانت الحكمة في ذلك هي المجازاة كما ذكره المفسّرون ، فهذا لا يخلو عن إشكال بحسب فهمنا القاصر ، إذ المجازاة ـ كما دلّ عليه العقل والنقل ـ إنّما تكون لمن كان مكلّفا بالتّكاليف ، وتلك الحيوانات ليس فيها ما هو مناط التكليف ، وإلّا لوقع عليهم تكليف في النشأة الدنيويّة ، وليس كذلك. اللهمّ إلّا أن يلتزم أنّها وإن كان ليس فيها ما هو مناط التكليف بكلّ التكاليف الشرعيّة والعقليّة ، لكنّ فيها ما هو مناط بعض التكاليف ، مثل التّكليف بعدم إيصال الأذى إلى غيرها من الإنسان والحيوانات ، بأن تكون لها نفس

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ٨٤.

(٢) التكوير (٨١) : ٥.

(٣) الشواهد الربوبيّة / ٢٨٨.

١٩٥

مجرّدة أيضا نوع تجرّد مدركة لذلك ، وإن كان تجرّدها أدون من تجرّد النفس الإنسانيّة بمراتب كثيرة كما عرفت فيما سبق أنّ بعضا من الدلائل التي أقامها القوم على التجرّد مشترك بين الإنسان وسائر الحيوانات ، وأنّه يظهر من بعضهم القول باختلاف مراتب التجرّد ، وأن أدناها موجود لتلك النّفوس الحيوانيّة ، أو بأن لا تكون لها نفس مجرّدة أصلا ، لكن كانت الرّوح الحيوانيّة التي تكون لكلّ حيوان مدركة لذلك. وعلى التّقديرين فإذا عصت تلك الحيوانات وآذت غيرها في النّشأة الدّنيويّة ، اقتضت الحكمة الإلهيّة أن تقع عليها مجازاة في النّشأة الأخرويّة ، فيؤخذ مثلا للجمّاء من القرناء.

وكيفما كان ، فإن قلنا بأن لها نفسا مجرّدة باقية بعد خراب أبدانها ، وكذا لأبدانها أجزاء أصليّة باقية ، فالكلام في معادها وحشرها كالكلام في معاد الإنسان وحشره سواء بسواء. وكذلك لو لم نقل بكون النفس المجرّدة الباقية لها ، وقلنا بكون الرّوح الحيوانيّة لها التي قلنا إنّها جسم لطيف رقيق يبقى بعد خراب البدن مع البدن مع بقاء الأجزاء الأصليّة من أبدانها ، فالأمر ظاهر أيضا ، إذ لا امتناع في أن يعود تعلّق تلك الرّوح الحيوانيّة مرّة أخرى بذلك البدن بعد جمع أجزائه على مثل هيئته الأولى ، ويعود ذلك الشخص الحيوانيّ كما كان ، ويكون عين الأوّل كما قلنا في الإنسان.

وعلى التقديرين ، فإن قلنا ببقاء تلك الحيوانات بعد عودها في دار الآخرة ، كما هو ظاهر إطلاق كلام بعض المفسّرين فلا كلام. وإن قلنا بفنائها كلّها بعد ذلك كما هو ظاهر ما نقله محيي السنّة عن أبي هريرة ، فلا إشكال ، إذ لا امتناع في أن ينقطع بمشيّة الله تعالى تعلّق نفوسها المجرّدة نوع تجرّد أو أرواحها الحيوانيّة عن أبدانها مرّة أخرى وتتلاشى أبدانها وتصير ترابا فتفنى بذلك تلك الأشخاص الحيوانيّة. وكذا لا امتناع في أن يكون الوجه في فنائها بعد ذلك انتفاء الحكمة في عودها.

والحاصل أنّه لمّا كانت الحكمة في عودها وقوع المجازاة عليها من جهة إيذاء بعضها لبعض مثلا ، وهي تكون في زمان ما ، فإذا وقعت المجازاة ، والحال أنّه ليس لتلك الحيوانات أفعال حسنة أو سيّئة تبقى هي بعد ذلك لأجل وقوع المجازاة عليها من هذه الجهة ، ووقوع الثّواب أو العقاب بسبب ذلك ، وقلنا إنّه ليس هنا مصلحة أخرى لبقائها ،

١٩٦

كانت الحكمة المتعالية مقتضية لفنائها لعدم حكمة في بقائها ، وبذلك يمكن تأويل ما هو المنقول عن ابن عبّاس والضّحاك من أن حشرها موتها ، إذا حمل الحشر على معناه الظاهر أيضا ، أي أنّ حشرها يكون فى زمان ما يكون المجازاة فيه ثمّ تنعدم هى وتموت بلا فصل ، كان زمان حشرها هو زمان موتها. وإن قلنا بفناء بعضها وبقاء بعض آخر ممّا فيه سرور أو إعجاب لبني آدم ، كما نقله صاحب الكشّاف عن بعضهم ، فلا إشكال أيضا ، إذ حينئذ يكون السبب في البقاء والفناء والوجه فيهما كما ذكرنا ، حيث إنّ بقاء تعلّق نفوس بعضها أو أرواحها الحيوانيّة بأبدانها ، وكذا انقطاع تعلّق بعضها عنها أمر ممكن ، وكذلك اقتضاء الحكمة المتعالية لبقاء ما فيه بعد ذلك حكمة لبني آدم من سرور وإعجاب ، ولفناء ما لا حكمة فيه بعد ذلك أمر ظاهر. والله أعلم بالصّواب ، وإليه المرجع والمآب.

وأمّا ما ورد في حشر شركاء الله تعالى ، فهو إذا حملناه على ظاهره كما حمله عليه العلماء والمفسّرون وأريد بالشّركاء الجنّ والشياطين ، فالكلام في حشرهم كما تقدّم. وإن أريد بذلك الأصنام التي كانوا يعبدونها ، فمعنى حشرها ـ والله أعلم ـ إعادة الصور التركيبيّة مرّة أخرى إليها ، أي إلى موادّها الجسمانيّة ، ولا سيّما أجزائها الأصليّة إذا تفرّقت ، أي جمع أجزائها الماديّة ، ثمّ إعادة صورة تركيبيّة إليها مثل الأولى ، فإنّه حينئذ يكون تلك الأجسام عين الأولى بحسب المادّة وإن كانت غيرها بحسب الصورة ، ولا امتناع فيه ، كما لا امتناع في إنطاقها ، حتّى تجيب عمّا سئلت هي عنه ، وهو من جملة المصالح في حشرها ، حيث إنّ فيه إلزاما على الذين يعبدونها.

وبالجملة ، فإنّ ذلك أمر ممكن في ذاته ، ونسبة القادر المطلق إلى كلّ ممكن كذلك على السّواء.

وأمّا ما ورد في شأن الملائكة ، فهو أيضا إذا حملناه على ظاهره ، كما حمله عليه العلماء ، وقلنا بطروء الموت عليهم ، فوجه ذلك فيهم أيضا ظاهر ، إذا قلنا بأنّ لهم نفوسا مجرّدة شريفة وأبدانا هي أجسام لطيفة نورانيّة ، كما هو ظاهر الشّرع ، حيث إنّه كما أنّ حياتهم يكون بتعلّق تلك النفوس والأرواح المقدّسة بتلك الأبدان النورانيّة تعلّق التدبير والتصرّف ، كذلك يكون موتهم عبارة عن قطع تعلّقها عنها ، سواء قلنا بفناء تلك الأبدان

١٩٧

حينئذ ـ أي بتفرّق أجزائها وتشتّتها ـ أم قلنا ببقائها على حالها كما كانت من غير تغيّر فيها مادّة وصورة ، وكما أنّه لا امتناع في ذلك ، كذلك لا امتناع في حشرهم أي إعادتهم مرّة أخرى بإعادة تعلّق تلك النفوس الشريفة بتلك الأبدان النورانيّة كرّة بعد أولى ، وأن يكون في حشرهم حكم ومصالح لا يعلمها إلّا خالقهم ومدبّرهم تعالى شأنه.

ومن جملتها ـ كما دلّ عليه الأخبار ـ حكمة ومصلحة عائدة إلى الإنسان ، بل إلى عباد الله المكرمين أجمعين ، كما كان في خلقهم أوّلا تلك الحكمة والمصلحة العائدة إليهم.

ولا بعد أيضا في أن يكون في إعادتهم حصول زيادة بهجة وسعادة عقليّتين لهم كما كانتا في النشأة الدنيويّة وكانوا مستغرقين فيهما.

وممّا ذكرنا يظهر الوجه في حشر الخلق أجمعين. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال ، وإليه المرجع والمآل.

وإذ قد فرغنا بعون الله تعالى وحسن تأييده عن ذكر ما رمنا ذكره في مقدّمة الرسالة وأبوابها الخمسة ، فلنشرع في بيان ما نروم بيانه في خاتمتها ، فنقول :

١٩٨

الخاتمة

ففيها مطالب

١٩٩
٢٠٠