منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-609-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٢٩٢

الأمر الثاني

أي كون المعاد جسمانيّا

وأمّا الأمر الثاني : أي كون المعاد جسمانيّا ، فهو منحلّ إلى أمور :

أحدها : أنّه يجب أن يعود الروح في القيامة إلى بدن عنصريّ لها به تعلّق تدبير وتصرّف.

والثاني : أنّه يمكن أن يكون ذلك البدن العنصريّ هو البدن الأوّل بعينه ، وأنّه لا مانع منه شرعا ولا عقلا ، وأنّه حينئذ يكون الشخص المعاد هو الشخص المبتدأ بعينه نفسا وبدنا.

والثالث : أنّه يجب أن يكون البعث على هذه الكيفيّة ، أي أن يكون تعلّق الروح بذلك البدن الأوّل بعينه ، حتّى تكون هي في ضمنه موردة للثّواب والعقاب الحسّيّين ، لا ببدن آخر غيره.

والمقصود أنّه كما أنّ هذا المطلب الأسنى المنحلّ إلى هذه الأمور الثلاثة ممّا نطق به الشرع ، ووجب التّصديق به من جهة الشرع ، كذلك هو ممّا يحكم به العقل ويقوم الدليل العقليّ عليه. وغرضنا من وضع الرسالة بيان هذا المطلب ، فلذلك قدّمنا ما قدّمناه في مقدّمة الرسالة وأبوابها وفصولها تمهيدا لذلك ، فإنّ ما ذكرناه في المقدّمة وتلك الفصول والأبواب في التحقيق مقدّمات وأصول لهذا المطلب ، وهو نتيجة لها وفرع عليها. والغرض الأصليّ من ذكرها والإطناب فيها هو بيان هذا المطلب ، وإن كان لها فوائد أخر أيضا ، حيث إنّها في أنفسها أيضا فوائد علميّة لطيفة ، ومطالب عظيمة شريفة.

والحاصل أنّ المستبصر المسترشد ، إذا تذكّر ما قدّمناه في المقدّمة والأبواب ، يكفيه

١٦١

دليلا واضحا وبرهانا لائحا على هذا المطلب الأقصى بأجزائها الثّلاثة ، ويتّضح ذلك عنده كلّ الاتّضاح. وإن شئت انكشاف جليّة الحال ، فاستمع لما نتلو عليك من المقال ، فنقول:

بيان الأمر الأوّل من تلك الأمور الثلاثة

أمّا بيان الأمر الأوّل من هذه الأمور الثلاثة ، فيتّضح بعد الإحاطة بما قدّمناه في الأبواب المتقدّمة ، أنّ النّفس الإنسانيّة بدنيّة تحتاج في أفعالها وإدراكاتها إلى بدن تتصرّف هي فيه ، ويكون هو آلة لأفعالها وإدراكاتها ، وأنّه لا يجوز أن تتعلّق بجسم فلكيّ أو عنصريّ أو نوع آخر ، يكون ذلك الجسم موضوعا لإدراكاتها من غير أن تكون هي متصرّفة فيه مدبّرة له ، فإنّه بعد الإحاطة بذلك مع الإحاطة بأنّ ذلك البدن المتعلّقة هي به تعلّق التدبير والتصرّف لا يمكن أن يكون جوهرا مجرّدا عن المادّة ، لامتناع كونه بدنا لجوهر نفسانيّ ، ولا أن يكون بدنا مثاليّا ، لأنّه إنّما يكون في عالم البرزخ خاصّة ، كما قال به جميع العقلاء وحكم به عقولهم ، وإن كان النصّ الوارد مؤيّدا لحكم عقلهم ، وعالم الآخرة غير عالم البرزخ باتّفاق الكلّ ، ولا أن يكون جسما فلكيّا أو جوهرا ، إبداعيّا غير منخرق لإبائهما عن كونهما بدنا لنفس إنسانيّة ، حيث إنّ ذلك موقوف على قبول طبيعتهما للتجزّي والانفصال والتغيّرات العارضة ، وقبول التصرّفات والتدبيرات التي للنفس بالقياس إلى البدن العنصريّ ، وظاهر أن ليس ذلك للطبيعة الفلكيّة ، ولا لذلك الجرم الإبداعي الغير المنخرق مع بقاء صورتهما ، وإن كان تبدّل صورتهما وبطلانها أمرا ممكنا ، كما قال تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ). (١)

وبالجملة ، فبعد الإحاطة بما ذكرنا ، يتّضح لك أنّه يجب أن يكون عود الروح في القيامة الكبرى إلى بدن عنصريّ كما نطق به الشّرع ، هذا مع أنّ ما سنبيّنه في بيان الأمر الثالث من الأمور الثلاثة ، من أنّه يجب أن يكون عود الروح في القيامة الكبرى إلى البدن الأوّل بعينه يثبت هذا المطلب مع شيء زائد والتعويل عليه ، وإنّما ذكرنا ما ذكرنا هنا لزيادة

__________________

(١) الأنبياء (٢١) : ١٠٤.

١٦٢

الإيضاح والاطمينان.

بيان الأمر الثاني من تلك الأمور الثلاثة

وأمّا بيان الأمر الثاني ، من هذه الأمور الثلاثة ، فيستدعي تمهيد مقدّمات :

منها : ما أسلفنا لك في مقدّمة الرسالة ، أنّ الشخص الإنسانيّ الذي نطق الشرع الشريف بمعاده وبعثه ، عبارة عن مجموع نفسه وبدنه ، وتحقيقه أنّه عبارة عن مجموع نفسه وبدنه ، بمعنى أنّه عبارة عن البدن المخصوص الذي تعلّق به نفس مخصوصة ، هي كالصورة الكماليّة له ، أو عبارة عن النّفس المخصوصة التي تعلّقت ببدن مخصوص هو آلة لكمالاتها وأفعالها وإدراكاتها ، وأنّ هويته وهذيّته إنّما هي بالتشخّص الحاصل لذلك المجموع ، أي للنفس والأجزاء الأصليّة من بدنه على ما مرّ تفسيرها في المقدّمة ، سواء كان المشخّص نحوا من الوجود الخاصّ الذي تتبعه العوارض التي تسمّى عوارض مشخّصة أو تلك العوارض نفسها ، على اختلاف المذهبين ، وأنّه لا مدخل للأجزاء الفضليّة من بدنه ، ولا لهيئته التركيبيّة الخارجيّة ، ولا لتأليفه المخصوص في هذيّة البدن الخاص ، ولا في هذيّة الشخص الإنسانيّ ، فلذا كان تبدّلها وتغيّرها غير قادح في تشخّص البدن وتشخّص الشخص. ويشهد عليه أنّا نعلم بالضرورة أنّ زيدا الشاب هو بعينه زيد الطفل ، وزيدا الشيخ هو بعينه زيد الشاب والطفل ، مع أنّا نعلم وقوع استحالات وتغيّرات في بدنه.

وبالجملة أنّا نعلم بالضرورة أنّ هويّة زيد وهذيّته باقية من أوّل عمره إلى انتهاه ، مع تبدّل خصوصيّات بدنه ، ولذلك كان في الشّريعة المقدّسة أنّ من جنى جناية استحقّ بها قتلا أو عقوبة ، وكان هو حين ما جنى تلك الجناية تامّ الخلقة ، ثمّ صار ناقصا في الخلقة أو كان مهزولا ثمّ سمن ، أو بالعكس ، ولم يرفع إلى الإمام عليه‌السلام إلّا حين الحالة الثّانية ، فهو يجري عليه حدّ الله تعالى ، وليس ذلك ظلما عليه أصلا.

لا يقال : لعلّ بقاء الشخص بعينه في الحالات كلّها من أوّل العمر إلى منتهاه مستند إلى بقاء نفسه الباقية بشخصها في الحالات كلّها خاصّة كما ادّعاه بعض الحكماء ، من غير أن

١٦٣

يكون لبقاء الأجزاء الأصليّة من بدنه وتشخّصها مدخل في ذلك.

لأنّا نقول : هذا مبنيّ على أن يكون الشخص الإنسانيّ عبارة عن نفسه فقط ، ويكون البدن آلة لها لا دخل له في كون الشخص الإنسانيّ شخصا وهذا باطل ، لأنّا نعلم يقينا أنّ الشخص الإنسانيّ عبارة عن مجموع النفس والبدن والمركّب منهما ، وبعبارة أخرى أنّا نعلم يقينا أنّه عبارة عن النفس الخاصّة المختصّة ببدن مخصوص ، أو عبارة عن بدن مخصوص مختصّ بنفس خاصّة.

وبالجملة فليس الشخص الإنسانيّ عبارة عن نفسه فقط كما يراه بعض الحكماء ، ولا عبارة عن الهيكل المخصوص البدنيّ فقط كما يراه جمع من العوام ، أو لست سمعت القوم أنّهم يقولون في تحديد الإنسان إنّه حيوان ناطق ، أو لست تحقّقت فيما نقلنا في الفصل (١) الأوّل الذي عقدناه في تحديد النفس عن الشيخ في «الشفاء» ، أنّ النفس جزء من قوام الإنسان صورة له أو كالصورة ، وأنّ الحيوان الذي هو جنس له ، كيف يكون جنسا له باعتبار ، ومادّة باعتبار آخر ، ونوعا باعتبار آخر ، وأنّ الناطق الذي هو فصل له كيف يكون فصلا له باعتبار ، وصورة ونفسا له باعتبار آخر ، ونوعا باعتبار ، وأنّه كيف يكون البدن المخصوص كالمادّة والنفس المخصوصة كالصورة ، وأنّه كيف يكون الشخص الإنسانيّ كالمركّب من المادّة والصورة ، أي المركّب من البدن والنفس.

وقد علمت في موضعه أنّه كما أنّ تشخّص المادّة بالصورة باعتبار ، كذلك تشخّص الصورة بالمادّة باعتبار آخر ، وتشخّص الشخص الذي هو عبارة عن المجموع المركّب منهما بتشخّص المجموع ، إلى غير ذلك من الأمور التي يستبين من كلام القوم ، وكذا من كلام الشيخ هنالك. وهي دالّة على أنّ الشخص الإنساني عبارة عن مجموع النفس والبدن الذي ذلك المجموع معروض لتشخّص خاصّ ، لا أحدهما فقط. وحيث كان كذلك كان لبقاء هذيّة البدن أيضا مدخل في بقاء هذيّة الشخص الإنسانيّ ، وما هو إلّا لبقاء هذيّة الأجزاء الأصليّة من بدنه ، حيث إنّ هذيّة الأجزاء الفضليّة والتأليف والهيئة التركيبيّة منه

__________________

(١) في الباب الأوّل.

١٦٤

متبدّلة ، مع بقاء هذيّة الشخص الإنسانيّ بعينها ، وفيه المطلوب.

لا يقال : سلّمنا أنّ الشخص الإنسانيّ عبارة عن مجموع النفس والبدن.

إلّا أنّا نقول : لم لا يجوز أن يكون هو عبارة عن نفس خاصّة وعن بدن ما؟ لا بأن يكون هناك بدن مطلق على سبيل العموم جزء من المجموع ، حتّى يرد أنّ المطلق بإطلاقه كيف يكون جزء من المشخّص ، وكيف يكون له دخل في تشخّص الجزء الآخر المشخّص أعني النفس ، بل بأن يكون هناك أبدان مشخّصة خاصّة كلّ واحد منها على سبيل البدليّة جزء للشخص الإنسانيّ وله مدخل في تشخّص النفس.

لأنّا نقول : هذا بعينه هو القول بالتناسخ لو كانت تلك الأبدان الخاصّة أبدانا عنصريّة كما هو المفروض ، وقد عرفت بطلانه ، فظهر لك أنّ البدن الذي هو جزء للشخص الإنسانيّ يجب أن يكون بدنا خاصّا بخصوصه الذي خصوصيّته إنّما هي بخصوصيّة الأجزاء الأصليّة منه لا غير. وفيه المطلوب.

فإن قلت : إنّ خصوصيّة البدن كما هي بخصوصيّة الأجزاء الأصليّة منه ، كذلك هي بخصوصيّة التأليف الخاصّ والهيئة الخاصّة البدنيّة جميعا ، فإنّه لو لم يكن كذلك ، وكان المدخل فيه للأجزاء الأصليّة فقط كيفما كانت ، لزم أنّه لو كان هناك الأجزاء الأصليّة البدنيّة من غير تأليف أصلا ، ولا هيئة تركيبيّة مطلقا ، كان ذلك البدن الخاصّ حاصلا هناك ، والبديهة تشهد بخلافه.

قلت : إنّا ندّعي أنّ الأجزاء الأصليّة من بدنه من حيث خصوصيّتها الخاصّة لها مدخل في خصوصيّة البدن ، وكذا في خصوصيّة النفس وخصوصيّة الشخص الإنسانيّ ، وأمّا التأليف الخاصّ والهيئة الخاصّة ، بل الأجزاء الفضليّة أيضا ممّا لا مدخل له في شيء من ذلك أصلا ، بدليل أنّا نشاهد تغيّره وتبدّله مع بقاء تشخّص الشخص الإنسانيّ بحاله ، وقد عرفت أنّ الشخص الإنسانيّ عبارة عن مجموع النفس والبدن ، نعم لكليّات ذلك ـ أعني لفرد ما من الهيئة التركيبيّة البدنيّة الإنسانيّة ولفرد ما من التأليف البدنيّ الإنسانيّ ، بل لفرد ما من الأجزاء الفضليّة أيضا ـ مدخل على سبيل البدليّة لنوعية البدن خاصّة ، أي لكون البدن بدنا إنسانيّا مثلا ، ولصدق اسم البدن عليه ، وأنّه لو لا ذلك لانتفى البدن ، لا

١٦٥

لأجل انتفاء ما هو مناط خصوصيّته ، بل لأجل انتفاء ما هو مناط نوعيّته.

والحاصل أنّه لو كانت هناك الأجزاء الأصليّة البدنيّة المخصوصة ، وكان معها فرد ما من التأليف البدنيّ الإنسانيّ والهيئة التّركيبيّة والأجزاء الفضليّة ، أي فرد كان بشرط أن تكون الأفراد متماثلة ومتشابهة ، كانت هناك نوعيّة البدن الحاصلة بفرد ما من ذلك ، وكذا خصوصيّة البدن الحاصلة بخصوصيّة تلك الأجزاء الأصليّة البدنيّة ، وكذا خصوصيّة النّفس الإنسانيّة التي لتلك الأجزاء الأصليّة مدخل فيها ، وكذا خصوصيّة الشّخص الإنسانيّ الّذي هو عبارة عن النفس الخاصّة والبدن المخصوص باقية بحالها لم تتغيّر ولم تتبدّل. وهذا ظاهر.

وأمّا إذا لم تكن هناك تلك الأجزاء الأصليّة أصلا بل أجزاء أخر ، سواء كان معها تأليف ما وهيئة تركيبيّة ما وأجزاء فضليّة ما أو لم يكن معها شيء من ذلك أصلا ، لم يكن هناك ذلك الشخص الإنسانيّ ولا تلك النفس الخاصّة ولا ذلك البدن المخصوص. وهذا أيضا ظاهر بالبيان المتقدّم. وأمّا إذا كانت هناك تلك الأجزاء الأصليّة الخاصّة ولم يكن معها فرد ما من التأليف البدنيّ الإنسانيّ ، والهيئة التركيبيّة البدنيّة الإنسانيّة والأجزاء الفضلية أصلا وقطعا ، كان هناك ينتفي البدن المخصوص ، لا لأجل انتفاء ما هو مناط خصوصيّته ، بل لأجل انتفاء ما هو مناط نوعيّته ، وبانتفائه كذلك ينتفي الشخص أيضا ، لأنّه عبارة عن مجموع النفس الخاصّة والبدن المخصوص ، بعد أن كانت له صورة بدنيّة إنسانيّة نوعيّة ، وهنا ليس كذلك ، إلّا أنّه لا ينتفي هنا خصوصيّة النفس ، لأنّ خصوصيّتها إنّما هي منوطة بخصوصيّة الأجزاء الأصليّة التي المفروض بقاؤها. والدليل على ذلك أنّا نعلم يقينا بقاء النفس بتشخّصها وخصوصيّتها بعد خراب بدنها وبعد قطع تعلّقها عنه وبعد بطلان التأليف رأسا وانعدام الهيئة التركيبيّة أصلا ، وما ذلك البقاء إلّا لبقاء الأجزاء الأصليّة التي بيّنّا سابقا بقاءها وأنّ لها مدخلا في تشخّص النفس.

وحيث عرفت ذلك ، اتّضح لك غاية الاتضاح انّه إذا كان هذيّة زيد الذي هو عبارة عن مجموع البدن المخصوص والنفس الخاصّة باقية من أوّل عمره إلى منتهاه ، وكان ذلك مستندا إلى بقاء تشخّص نفسه وبدنه جميعا ، فليس للأجزاء الفضليّة الخاصّة من بدنه ولا

١٦٦

للتأليف الخاصّ ولا للهيئة التركيبيّة الخاصّة مدخل من حيث الخصوصيّة في تشخّصه البدني ، وإلّا لزال تشخّصه البدنيّ بوقوع استحالات وتغيّرات كثيرة فيه ، وزال بسببه تشخّص الشخص الإنسانيّ أيضا لزوال المجموع بزوال الجزء. فبقي أن يكون المدخل في بقاء تشخّص بدنه للأجزاء الأصليّة من بدنه من حيث الخصوصية وفي تشخّص الشخص الإنسانيّ لذلك ولبقاء تشخّص نفسه جميعا ، وهو المطلوب.

وكأنّه يشير إليه قوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (١).

وقد روى الشّيخ الطّبرسيّ (ره) في كتاب «الاحتجاج» عن حفص بن غياث : قال : شهدت المسجد الحرام وابن أبي العوجاء يسأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (٢). ما ذلك (ذنب خ) الغير؟ قال : ويحك هي هي ، وهي غيرها. قال : فمثّل لي ذلك شيئا من أمر الدنيا. قال : نعم ، أرأيت لو أنّ رجلا أخذ لبنة فكسّرها ، ثمّ ردّ في ملبنها ، فهي هي وهي غيرها (٣).

وفي هذا الحديث دلالة صريحة على ما نحن بصدد بيانه ، فافهم.

ثمّ إنّه من جملة المقدّمات لهذا المطلب الذي نحن بصدد بيانه هنا ، ما أسلفنا لك في مقدّمة الرسالة ، أنّ النفس الإنسانيّة لتجرّدها عن المادّة في ذاتها باقية بعد خراب البدن غير فانية ، حيث أقمنا هناك الدلائل العقليّة والنقليّة عليه ، وأقمنا البرهان العقليّ في الباب الثاني على تجرّدها ، وما أسلفنا لك في المقدّمة أيضا أنّ البدن الإنسانيّ على كلّ مذهب من المذاهب المقولة في الجسم وقالت به الحكماء والمتكلّمون ، لا ينعدم بالموت بالمرّة ، حتّى لا يمكن إعادته لكونه إعادة للمعدوم ، كما مرّ الدليل العقليّ على إبطالها ، بل الموت عبارة عن قطع تعلّق النفس عن البدن الأوّل بهيئته ، وعن تفرّق أجزاء البدن. وقد أسلفنا لك هنالك أيضا أنّ الحقّ كما دلّ عليه الدليل السّمعيّ ولا يأباه العقل ، بقاء الأجزاء الأصليّة من بدنه ببقاء النفس.

__________________

(١) النساء (٤) : ٥٦.

(٢) نفس الآية.

(٣) راجع الاحتجاج للطبرسيّ ٢ / ١٠٤.

١٦٧

ومنها ما أسلفنا لك في المقدّمة أنّ المعاد الجسمانيّ الذي هو ضروريّ في الدين القويم معناه عود تعلّق النّفس ببدنها الأصليّ مرّة أخرى بعد جمع أجزاء البدن ، ولا سيّما الأجزاء الأصليّة منه ، وعود تأليف البدن كرّة بعد أولى بهيئته الأولى كما يدلّ عليه الآيات والأخبار.

أمّا الآيات ، فكقوله تعالى :

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ* بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ). (١)

وقوله تعالى حكاية : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢).

وقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) (٣).

وقوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٤).

وقوله تعالى : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) (٥).

وأمّا الأخبار : فكما نقلنا سابقا في الباب الثاني من الشيخ الطبرسيّ (ره) في كتاب «الاحتجاج» ، في حديث الزنديق الذي سأل أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام عن مسائل وأجابه عنها : قال الزنديق : وأنّى له البعث والبدن قد بلى ، والأعضاء قد تفرّقت ، فعضو ببلدة يأكله سباعها وعضو بأخرى تمزّقه هوامها وعضو قد صار ترابا بني به من الطين حائط؟ قال عليه‌السلام : إنّ الذي أنشأه من غير شيء وصوّره من غير مثال كان سبق إليه ، قادر أن يعيده كما بدأه. قال : أوضح لي ذلك. قال : إنّ الرّوح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء وفسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا منه خلق وما يقذف به

__________________

(١) القيامة (٧٥) : ٣ ـ ٤.

(٢) يس (٣٦) : ٧٨ ـ ٧٩.

(٣) الشورى (٤٢) : ٢٩.

(٤) الجاثية (٤٥) : ٢٦.

(٥) النساء (٤) : ٨٧ ؛ الأنعام (٦) : ١٢.

١٦٨

السّباع والهوامّ من أجوافها ممّا أكلته ومزّقته كلّ ذلك في التراب محفوظة ، عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض ، ويعلم عدد الأشياء ووزنها ، وإنّ تراب الروحانيّين بمنزلة الذهب في التّراب ، فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور ، فتربى الأرض ثمّ تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء ، الزبد من اللّبن إذا مخض ، فيجمع تراب كلّ قالب فينتقل بإذن الله تعالى القادر إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها ، وتلج الرّوح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا (١) ، الحديث.

وأقول : إنّ في هذا الحديث الشريف مع الدّلالة على أنّ المعاد الجسمانيّ يكون بجمع أجزاء البدن على مثل الهيئة الأولى وإعادة تأليفها مرّة أخرى كالأوّل ، وإعادة تعلّق الروح بها كرّة بعد أولى ـ كما ذكرنا الحديث دليلا عليه ـ دلالة على أنّ الروح بعد مفارقتها عن البدن لا تفنى ، بل تبقى في مكانها الذي قدّره الله تعالى لها ، روح المحسن في ضياء وفسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة. وكان ذلك في عالم المثال على ما دلّت عليه الأخبار الأخر كما نقلناها وذكرنا شرحها سابقا. وكذا دلالة على أنّ البدن لا ينعدم بالموت ، حتّى لا يمكن إعادته ، بل إنّما ينعدم تأليفه الذي لا دخل له في تشخّص البدن وتشخص الشخص ، ولا يلزم أيضا إعادته بعينه حتّى يلزم إعادة المعدوم ، بل المعاد تأليف آخر مثل الأوّل.

وبالجملة يدلّ على أنّه ينعدم تأليفه وهيئته الأولى والأجزاء الفضليّة منه ، وتبقى أجزاؤه الأصليّة التي هي مع تأليف ما وهيئة ما وأجزاء فضليّة ما مناط الحكم بأنّها هو ذلك البدن الأوّل.

وقد عرفت في الباب الثاني ـ حيث نقلنا هذا الحديث الشّريف مع سابقه ـ أنّ ظاهره ، وإن كان تجسّم الروح حيث تضمّن أنّها جسم رقيق ، وأنّ جميع ما ذكره عليه‌السلام في هذا الحديث ، إنّما هو بيان حال الرّوح التي هي جسم رقيق ، إلّا أنّه يمكن تأويله بالروح

__________________

(١) الاحتجاج ٢ / ٩٨.

١٦٩

الحيوانيّة التي هي أيضا جسم رقيق ، وهي ما به الارتباط بين الروح الإنسانيّة التي بيّنّا أنّها جوهر مجرّد عن المادّة وبين البدن ، وهي أيضا من الأجزاء الأصليّة البدنيّة كما ذكرنا سابقا ، وكذا تأويله بأنّه ببقاء ذلك الجسم الرّقيق يبقى ذلك الجوهر المجرّد أيضا الذي دلّ الدليل العقليّ والنقليّ على بقائه ، وأنّه بولوج ذلك الجسم الرّقيق في البدن مرّة أخرى ، يعود تعلّق ذلك الجوهر المجرّد به وبالبدن كما كان أوّلا ، وبه يحصل المعاد الجسمانيّ.

وبالجملة ، فمضمون هذا الحديث من هذه الجهة ، ليس منافيا لما نحن بصدده ، بل يؤيّده.

وقد عرفت أيضا هنالك ، أنّ في هذا الحديث الشريف من جهة تضمّنه لقوله عليه‌السلام : «كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة الخ».

وقوله عليه‌السلام : «فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور الخ» تفسير كثير من الآيات القرآنيّة ، مثل قوله تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١).

وقوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) (٢).

وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٣).

إلى غير ذلك من الآيات ، فتذكّر.

وبعد تمهيد تلك المقدّمات ، نقول : إنّك إذا علمت أنّ النفس الإنسانيّة بدنيّة محتاجة إلى بدن عنصريّ.

__________________

(١) سبأ (٣٤) : ٣.

(٢) فاطر (٣٥) : ٩.

(٣) الأعراف (٧) : ٥٧.

١٧٠

وعلمت أنّ الشخص الإنسانيّ عبارة عن مجموع نفسه وبدنه ، وأنّ تشخّصه وهذيّته بتشخّص المجموع ، أي تشخّص نفسه والأجزاء الأصليّة من بدنه.

وعلمت أنّ موته عبارة عن قطع تعلّق نفسه عن بدنه.

وعلمت أنّه بعد قطع التعلّق ، يكون نفسه التي هي الأصل في تشخّصه وفي كونه هو هو ـ ولذا سمّيت بالنفس ، فإنّ معنى النّفس هو العين ، كان ذلك الشخص هو بعينه ذلك الأمر المسمّى بالنفس فقط ـ باقية بعينها وبشخصها ، ويكون الأجزاء الأصليّة من بدنه التي لها أيضا مدخل في تشخّص الشخص وهذيّته باقية أيضا بعينها من غير تبدّل وتغيّر فيها.

وعلمت أنّ المعاد الجسمانيّ عبارة عن جمع الأجزاء المتفرقة من بدنه ، ولا سيّما الأجزاء الأصليّة كهيئتها الأولى البدنيّة ، وإعادة التأليف مرّة أخرى ، وإعادة تعلّق النفس بها كرّة بعد أولى كما كان أوّلا ، وأن لا مانع من ذلك عقلا ولا شرعا.

لا يبقى لك شكّ في أنّه يمكن تحقّق المعاد الجسمانيّ بهذا النحو ، أي عود تعلّق الروح الباقية بعينها بذلك البدن الأوّل العنصريّ الباقي بالأجزاء الأصليّة ، حيث إنّ نسبة قدرة القادر المختار إلى كلّ أمر ممكن في ذاته على السواء. وكما أنّ تفريق أجزاء البدن وقطع تعلّق النفس عنه أمر ممكن ، كذلك جمع تلك الأجزاء المتفرّقة الباقية وإعادة التأليف لها مرّة أخرى ، وإعادة تعلّق تلك النفس الباقية إلى ذلك البدن كرّة بعد أولى أمر ممكن في ذاته ، وكما أنّه لا مانع من الأوّل لا مانع من الثاني ، وليس فيه إعادة معدوم حتّى تمنع ، كما سبق بيانه غير مرّة ، ولا فيه شبهة تناسخ لما مضى وسيجيء.

وبالجملة ، فحيث لم يكن فيه مانع عقلا ولا شرعا وقد أخبر به الشرع ، وجب التصديق به.

وكذلك لا يبقى لك شكّ في أنّ الشخص المعاد يوم القيامة هو بعينه الشخص المبتدأ في دار الدنيا ، كما نطق به الشرع أيضا ، إذ لا اختلاف بينهما أصلا فيما هو مناط التشخّص ومنشأ الهذيّة ، وإن كان الاختلاف بينهما واقعا فيما ليس له مدخل في ذلك ، كالأجزاء الفضليّة والتأليف المجدّد الواقع ثانيا والهيئة التركيبيّة الثانويّة.

١٧١

فإن قلت : ألست قلت فيما تقدّم في فصل امتناع إعادة المعدوم في مسألة أنّ الزمان من المشخّصات : إنّا لو فرضنا أن صنعنا من طين مخصوص كوزا مخصوصا على مقدار وهيئة وشكل خاصّ ، ثمّ كسرناه وصنعنا من تلك المادة كوزا آخر على تلك الأوصاف ، نعلم بالضرورة أنّ الكائن في الزمان الثاني غير الأوّل ، ولازم ذلك أن يكون البدن المعاد الثاني كما فرضته غير البدن المبتدأ ، ولازم ذلك أن يكون البدن الذي فرضته جزء للشخص الإنسانيّ منتفيا حين الإعادة ، ولازم ذلك أن يكون ذلك الشخص منتفيا أيضا لانعدام الكلّ بانعدام الجزء.

قلت : إنّ ما ذكرنا ثمّة مبنيّ على تغاير الكوزين بحسب التأليف والهيئة والصورة الخاصّة ، وهو مسلّم ، وما ذكرنا هنا مبنيّ على أنّ ما هو جزء للشخص الإنسانيّ هو البدن ، مع فرد ما من التأليف والهيئة لا التأليف الخاصّ والهيئة الخاصّة ، ولا شكّ أنّه بهذا الاعتبار لا ينعدم أصلا ، إذ هو لا ينفكّ في الزمانين عن فرد ما من ذلك. وانعدام تشخّصه بحسب فرد خاص من ذلك لا يقدح فيما ذكرنا ، إذ هو غير معتبر فيما هو جزء من الشخص.

شبهة الآكل والمأكول مع جوابها :

وحيث عرفت ما فصّلنا ، ظهر لك أنّه بما ذكرنا يحصل الجواب عن شبهة مشهورة للمنكرين للمعاد الجسمانيّ.

تقرير الشّبهة : أنّ المعاد الجسمانيّ غير ممكن ، لأنّه لو أكل مثلا إنسان إنسانا حتّى صارت أجزاء بدن المأكول جزء من بدن الآكل فهذا الجزء إمّا أن لا يعاد أصلا وهو المطلوب ، أو يعاد في كلّ واحد منهما وهو محال ، لاستحالة أن يكون جزء واحد بعينه في آن واحد في شخصين متباينين ، أو يعاد في أحدهما وحده فلا يكون الآخر معادا بعينه ، وهذا مع إفضائه إلى الترجيح بلا مرجّح يثبت مقصودنا ، وهو أنّه لا يمكن إعادة جميع الأبدان بأعيانها كما زعمتم.

وتقرير الجواب : أنّ المعاد هو الأجزاء الأصليّة ، وهي الباقية من أوّل العمر إلى آخره

١٧٢

لا جميع الأجزاء على الإطلاق ، وهذا الجزء فضل في الإنسان الآكل ، فلا يجب إعادته فيه ، ثمّ إن كان من الأجزاء الأصليّة للمأكول أعيد فيه وإلّا فلا ، وكان فيما نقلنا آنفا من حديث الزنديق إشارة إلى هذه الشبهة وإلى الجواب عنها ، بأتمّ تقرير ، فتبصّر.

وحيث عرفت ما ذكرنا ، عرفت تصحيح الوجه في المعاد الجسمانيّ كما نطق به الشّرع ، وأنّ ذلك أمر ممكن في ذاته لا مانع فيه ، وعرفت قيام الدليل العقليّ على أنّ المعاد يوم القيامة هو ذلك الشخص الأوّل المبتدأ بعينه نفسا وبدنا. وأنّه ينبغي أن يحمل الآيات والأخبار الدالّة على المعاد الجسمانيّ ، وأنّ المعاد يوم القيامة هو الشخص الأوّل بعينه ، على ما ذكر. وأنّ ما يدلّ منها على أنّ المعاد هو مثل الشخص الأوّل أو أنّ ما في القيامة هو خلق جديد ، كقوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (١).

وقوله تعالى : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٢).

وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٣).

وقوله تعالى : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٤).

ينبغي حمله على أنّه مثل الأوّل في بعض الصفات والأحوال التي لا دخل لها في تشخّص الشخص كالأجزاء الفضليّة ، والتأليف الثاني ، إلّا أنّه عينه فيما هو مناط التشخّص كالنفس الباقية والأجزاء الأصليّة الباقية. وكذا هو خلق جديد بحسب الأجزاء الفرعيّة الفضليّة وبحسب التأليف الثاني الواقع في الزمان الثاني. وقد تكلّمنا في ذلك في مقدّمة الرسالة أيضا ، فتذكّر.

__________________

(١) يس (٣٦) : ٨١.

(٢) الواقعة (٥٦) : ٦٠.

(٣) سبأ (٣٤) : ٧.

(٤) السجدة (٣٢) : ١٠.

١٧٣

وبالجملة ، فما ذكرناه مع قيام الدليل العقليّ عليه لا مانع منه شرعا ولا عقلا ، وما يتراءى من المانع العقليّ هنا ، وهو أنّه يلزم أن يكون انتقال النفس بعد مفارقتها عن البدن الأوّل إلى البدن الثاني الذي ذكر أنّه غير الأوّل باعتبار ومثله باعتبار آخر تناسخا ، فهذا المانع أيضا منتف ، إذ قد عرفت فيما أسلفنا لك في مبحث إبطال التناسخ ، أنّ العمدة في المحال اللازم على تقديره إنّما هو استيجاب كون بدن واحد ذا نفسين ، وكون نفس واحدة ذات بدنين منفصلين متغايرين ، ولزوم انقلاب الفعليّة قوّة محضة ، وكلّ ذلك مبنيّ على أن يكون البدن الذي ينتقل إليه النّفس المستنسخة غير البدن الأوّل ذاتا حتّى يكون فيه استعداد لنفس أخرى أيضا ، ويكون النّفس في ضمنه بالقوّة من جهة كمالاتها بعد كونها بالفعل ، أو يلزم منه كون نفس واحدة ذات بدنين منفصلين موجودين بوجودين ، وهذا غير لازم على تقدير كون البدن الثاني عين الأوّل ذاتا وإن كان غيره من جهة بعض الأحوال الغير المشخّصة ، إذ ما هو عين البدن الأوّل ذاتا لا نسلّم أنّه يكون فيه استعداد لحدوث نفس أخرى غير الأولى ، ولا نسلّم أيضا أنّه تكون النفس الأولى المتعلّقة بالقوّة من جهة كمالاتها ، بل إنّها تكون بالفعل فيه كما كانت أوّلا ، ولا يكون أيضا مغايرا بالذات للبدن الأوّل. وكذا لا يلزم انتفاء المرجح لتعلّقها به ، لأنّ التعلّق السابق به ، أي بأجزائه الأصليّة منه لم ينعدم ، بل هو باق ، كما أشرنا إليه سابقا وسنشير إليه ، وحيث كان باقيا فلا يكون هنا تعلّق جديد حتّى يحتاج إلى المرجّح. ولو سلّم كونه تعلّقا جديدا ، فالتعلّق السابق يكفي كونه مرجّحا لذلك.

وبالجملة ، فالمحال اللازم على تقدير التّناسخ لا يلزم على تقدير المعاد الجسمانيّ كما قرّرناه ، وإن سمّاه أحد بالتناسخ فلا مشاحّة للأسماء كما سمّاه الشرع بالبعث والحشر والنشور وأمثال ذلك من الأسماء.

هذا الذي ذكرناه إنّما هو بيان الأمر الثاني من تلك الأمور الثلاثة. ولا يخفى عليك أنّه كما يتمّ في النّفوس الكاملة ، يتمّ في النفوس الناقصة أيضا كنفوس البله والصّبيان والمجانين ، حيث إنّ المقدمات التي مبنى بيان هذا الأمر عليها مشتركة ، أمّا ما سوى مقدّمة بقاء النفس وتجرّدها فظاهر اشتراكها ، وأمّا هي فكذلك أيضا ، لأنّك قد عرفت فيما

١٧٤

سلف بيان بقاء نفوس هؤلاء الناقصين أيضا بعد خراب أبدانهم ، وعرفت بيان تجرّدها أيضا ، فتذكّر.

بيان الأمر الثالث من تلك الأمور الثلاثة

وأمّا بيان الأمر الثالث من تلك الأمور الثلاثة ، أي وجوب كون المعاد الجسمانيّ على النّحو الذي ذكرنا ، أي بأن يعود تعلّق النّفس إلى ذلك البدن الأوّل بعينه كما ذكرنا ، حتّى تكون في ضمنه موردة للثّواب والعقاب الحسّيّين ، مضافا إلى ما يكون لها في ذاتها من الثّواب والعقاب العقليّين ، لا إلى بدن آخر غيره بالذّات ، فهو أيضا يستدعي تمهيد مقدّمات :

منها ـ ما قدّمناه في المقدّمة والفصول والأبواب المتقدّمة وذكرناها تمهيدا لبيان الأمر الأوّل والثاني.

ومنها ـ ما أشرنا إليه في المقدّمة وحقّقناه في الباب الثّاني أنّ النّفس الإنسانيّة ذات واحدة بالعدد لها قوى متعددة ومراتب مختلفة ، باعتبارها تسمّى تارة نفسا إنسانيّة وتارة حيوانيّة وتارة نباتيّة من غير تعدّد واختلاف في ذاتها بل في حالاتها ومراتبها خاصّة.

ومنها ـ ما أسلفنا لك في الباب الثاني أيضا أنّ الأفاعيل الجزئيّة المتعدّدة المختلفة الصّادرة عن النفس الإنسانيّة التي هي ذات واحدة بالعدد إنّما تصدر عنها بتوسّط قواها البدنيّة المختلفة المتعدّدة ، كالأفاعيل الكلّيّة ، فإنّها أيضا تصدر عنها بتوسّط قواها العقليّة ومعنى ذلك أنّ الأفاعيل الجزئيّة تصدر أوّلا وبالذّات عن تلك القوى وبتوسّطها تصدر عن النّفس.

والحاصل أنّ للقوى والمشاعر والحواس أيضا حظّا ونصيبا في أفعالها وإدراك مدركاتها كما للنفس ، إلّا أنّ الأوّل أوّلا وبالذات ، والثاني ثانيا وبالتوسّط.

وبالجملة ، ليس صدور الأفاعيل الجزئيّة المتعدّدة عن تلك الذات الواحدة بدون مدخليّة شيء من القوى والحواسّ فيه ، وكذا ليس ذلك لصدورها عنها بالذات لكن

١٧٥

باختلاف الآلات ، بأن تكون تلك القوى والحواسّ فيه آلة لها في أفعالها من غير أن يكون لها حظّ فيه كما حقّقناه في ذلك الباب.

ومنها ما أسلفنا لك في الباب الرابع ، في مبحث حدوث النّفس بحدوث البدن ، أنّ الأنفس الإنسانيّة التي هي متّفقة في المعنى والنّوع ، إنّما يكون تكثّرها وتمايزها بالأبدان الخاصّة ، وكذا يكون تشخّصها بالهيئات البدنيّة المخصوصة.

ومنها ما أسلفنا لك في ذلك الباب من إبطال التناسخ ونحوه.

وبعد تمهيد تلك المقدّمات ، نقول : إنّك بعد ما أحطت بتلك المقدّمات حقّ الإحاطة وتدبّرت فيها حقّ التدبير ، كأنّك يتّضح لك هذا المطلوب الذي نحن بصدد بيانه حقّ الاتّضاح ، ولا أظنّك في مرية من هذا ، بل يتلخّص لك فيه براهين عقليّة دالّة عليه ، كلّ واحد منها كاف في إثبات هذا المرام ، ولمجموعها تأثير عظيم في إنارة المقام وإزاحة الشّكوك والأوهام.

ومن جملة تلك البراهين أن يقال : إذا كان الشخص الإنسانيّ عبارة عن النفس الخاصّة المتعلّقة ببدن مخصوص بخصوصه ـ كما عرفت بيانه ـ وجب أن يكون تعلّق تلك النفس في القيامة بذلك البدن المخصوص بعينه ، حتّى يكون ذلك الشخص المعاد هو بعينه ذلك الشخص المبتدأ في الدّنيا ، ويكون مصدر الطاعة والمعصية ، ومورد الثواب والعقاب واحدا ، فإنّه لو لم يكن وجاز تعلّق تلك النفس في القيامة ببدن آخر غير البدن الأوّل ذاتا ، لم يكن ذلك الشخص هو بعينه ذلك الشخص المبتدأ بل غيره ، ويكون ورود الثّواب والعقاب عليه ظلما منه تعالى ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

ومنها أن يقال : إذا كانت النفس الإنسانيّة بدنيّة ولم يكن البدن الذي لها حين المعاد بدنا مثاليّا ، ولا بدنا فلكيّا ، ولا بدنا من جرم إبداعيّ كما عرفت ، بل يجب أن يكون بدنا عنصريّا ، فذلك البدن العنصريّ إن كان عين البدن الأوّل كما عرفت معناه فهو المطلوب ، وإن كان غيره بالذات ، فيلزم التناسخ المحال.

لسنا نقول : إنّه يلزم إطلاق التناسخ عليه ، حتّى يجاب بأنّ الشرع جوّز هذا النوع من التناسخ ، بل نقول : إنّه حينئذ يلزم المحال اللازم على تقدير التناسخ ، كما مرّ بيانه في

١٧٦

مبحث إبطاله.

لا يقال : لا نسلّم لزوم ذلك المحال حينئذ ، فإنّ لزومه مبنيّ على أن يكون المادّة البدنيّة التي هي مادّة البدن الذي هو غير البدن الأوّل ، مستعدّة لفيضان نفس أخرى غير الأولى ، حتّى يلزم إمكان اجتماع نفسين فيه ، أو أن تكون النفس المستنسخة في ضمن ذلك البدن المغاير بالقوّة من جهة كمالاتها بعد أن تكون بالفعل ويلزم المحال اللازم على تقديره ، وهذا غير مسلّم في المواد الأخرويّة ، فإنّه إنّما هو من لوازم المواد الدنيويّة ، والموادّ الأخرويّة ليست مثلها ، بل هي مخالفة في كثير من الصفات والأحوال للمواد الدنيويّة ، حتّى كأنّها مباينة لها بالذات كما مرّت الإشارة إليه ، ولعلّ هذا منها.

لأنّا نقول : سلّمنا أنّ المواد الأخرويّة ليست من جنس المواد الدّنيويّة ، بل هي مخالفة لها في كثير من الصفات والأحوال ، إلّا أنّا نقول : إنّ تلك المادّة البدنيّة الأخرويّة الحاصل منها بدن آخر غير الأوّل ، إن لم تكن مستعدّة لفيضان نفس عليها أصلا ولا قابلة لها قطعا ، فكيف يمكن تعلّق النفس الأولى بها؟ وإن كانت مستعدّة لفيضان نفس عليها ، وكانت فيها قوّة قبول لها ، فنسرد الكلام حينئذ ونقول في إبطاله كما نقلنا في إبطال التّناسخ في المواد البدنيّة الدنيويّة ، حذو النّعل بالنّعل والقذّة بالقذّة.

ومنها أن يقول : إذا كانت النفس الإنسانيّة واحدة بالذات والعدد ، وكانت لها قوى ومراتب متعدّدة ، باعتبارها تسمّى تارة نفسا إنسانيّة ، وتارة حيوانيّة ، وتارة نباتيّة ، كما عرفت. ولا سترة في أنّ القوّة الإنسانيّة وإن كانت غير بدنيّة ، إلّا أنّ الحيوانيّة والنباتيّة بدنيّتان ، أي حصولهما لها إنّما هو في ضمن بدن خاصّ بخصوصه لما عرفت أنّ ما هو جزء للشّخص الإنسانيّ وله مدخل في شخص نفسه الخاصّة وتميّزها وحصول المراتب والقوى لها إنّما هو البدن الخاصّ بخصوصه ، فإذا كانت تلك النفس يوم القيامة متعلّقة ببدن آخر غير الأوّل ، فإمّا أن لا تكون تلك القوى والمراتب البدنيّة حاصلة لتلك النفس أصلا فهذا محال ، لأنّه يلزم أن لا تكون تلك النفس في حال البعث عين الأولى بل غيرها.

وإمّا أن تكون تلك القوى والمراتب حاصلة لها حين البعث ، فهذا أيضا محال ، لأنّ تلك القوى والمراتب إنّما هما قوى ومراتب خاصّة متخصّصة ببدن مخصوص وهيكل

١٧٧

معيّن مشخّص ، ليستا مراتب وقوى مطلقة حاصلة في ضمن بدن ما أو بدن مطلق. وعلى هذا أيضا يلزم أن لا تكون تلك النفس في حال البعث عين الأولى ، بل غيرها ، لعدم حصول تلك المراتب والقوى الخاصّة التي لها مدخل في تميّز تلك النفس وتحصّلها وتقوّمها وتخصّصها وتشخّصها لها حينئذ. وعلى التّقديرين فيلزم أن يكون وقوع الثّواب والعقاب على تلك النفس المتعلّقة ببدن غير الأوّل ظلما. تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

ومنها ، أن يقال : إذا كانت النفس الإنسانيّة تفعل الأفاعيل المختلفة الجزئيّة بتوسّط القوى والمشاعر والحواسّ المختلفة البدنيّة التي تميّزها وتعيّنها بمواد خاصّة بدنيّة وآلات مخصوصة هي أجزاء البدن المخصوص المعيّن ولها دخل في تشخّص النفس الإنسانيّة أيضا ، وكانت لتلك القوى أيضا حظّ ونصيب في تلك الأفعال كما للنفس بتوسّطها كما عرفت ، ولا شكّ أنّ في الآخرة سعادة وشقاوة حسّيّتين كالعقليّتين ، ولا شكّ أيضا أنّ الحكمة المتعالية تقتضي أن تكون لتلك الحواسّ والقوى حظّ في الثّواب والعقاب الحسّيّين اللذين هما بإزاء تلك الأفعال الجزئيّة التي لتلك القوى حظّ فيها ، كما أنّ الحكمة تقتضي أن يكون للنفس بتوسّط تلك القوى حظّ في إدراك الثواب والعقاب الحسّيّين ، فإذا أعيدت تلك النفس في القيامة في ضمن بدن آخر غير الأوّل ، لم تكن تلك القوى والحواسّ الحاصلة للنفس في ضمن البدن الثاني المغاير عين الأولى لكونها متعيّنة ومتخصّصة بمواد بدنيّة وآلات بدنيّة هي أجزاء البدن الأوّل المخصوص بخصوصه ، والمفروض عدمها ، بل هي حواسّ وقوى أخرى ، فحينئذ يلزم مضافا إلى لزوم أن لا تكون تلك النفس المعادة بعينها النفس المبتداة ـ حيث عرفت أنّ تميّزها وتخصّصها وتعيّنها إنّما هو بتلك القوى البدنيّة الأولى التي هي منتفية عنها في ضمن البدن الثّاني ـ أن يكون ورود الثواب والعقاب عليها حينئذ منافيا للحكمة ، بل ظلما كما ذكرنا. وأن يكون إدراك اللذّات والآلام الحسّيّة بتلك القوى والحواسّ الأخر منافيا للحكمة أيضا ، إذ ما كان فاعلا لتلك الأفعال التي هي منشأ للثّواب والعقاب ، أي القوى والحواسّ الأولى لم يقع عليه الثواب والعقاب ، وما لم يفعلها أي الحواسّ والقوى الأخرى وقع عليه الثواب والعقاب.

١٧٨

وكذا يلزم أن يكون إدراك النفس للثواب والعقاب الحسّيّين بتوسّط تلك القوى الأخرى منافيا للحكمة أيضا ، إذ الواسطة في إدراك النفس لها غير الواسطة في فعل الأفعال التي هي منشأ للثواب والعقاب.

والتفصيل أن يقال : إذا أعيدت النفس في الآخرة في ضمن البدن الآخر المغاير للأوّل فهذا محال من وجوه :

لأنّه مع لزوم أن لا تكون تلك النفس المعادة عين النفس الأولى المبتداة كما عرفت ، يلزم منه محالات اخر أيضا ، لأنّه حينئذ إمّا أن لا تكون للنفس في البدن الثّاني المغاير قوى ومشاعر حسّيّة أصلا فهذا محال ، لأنّه مناف للحكمة ، إذ التّعلق بالبدن العنصريّ ـ كما هو المفروض ـ إنّما هو لأجل أن تكون لها قوى حسّيّة بدنيّة.

وإمّا أن تكون لها قوى حسيّة ، فحينئذ ، إمّا أن لا تكون للنفس إدراك للذّات والآلام الحسّيّتين أصلا ، فهذا محال ، لأنّه خلاف ما نطق به الشرع وخلاف ما دلّ عليه العقل من أنّ القوى الحسّيّة في الآخرة إنّما تكون لأجل إدراك اللذّات والآلام الحسّيّتين ، كما أنّها في الدنيا إنّما تكون لأجل الأفعال الجزئيّة الحسّيّة.

وإمّا أن تكون للنفس إدراك للذّات والآلام الحسّيّتين ، وحينئذ فإمّا أن يكون المدرك لهما ذات النفس بذاتها من غير مدخليّة شيء فيه أصلا ، فهذا محال ، لأنّه قد تقرّر عندهم كما عرفت سابقا أنّ النفس لا تدرك الجزئيّات بذاتها. وأيضا يلزم أن يكون وجود تلك القوى والحواس معطّلا محضا ، وقد تقرّر عندهم أنّه لا معطّل في الوجود.

وإمّا أن يكون إدراك النفس لتلك اللذّات والآلام الحسّيّتين بمدخليّة تلك القوى والحواس ، على أن تكون تلك القوى مجرّد آلة من غير أن يكون لها حظّ في الإدراك ، فهذا محال ، إذ قد أثبتنا في الأبواب السّابقة ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ أنّ تلك الحواسّ والقوى واسطة في ذلك ، ولها حظّ ونصيب فيه كما للنفس ، إلّا أنّ ما للنفس بتوسّط تلك القوى وما لتلك القوى بالذات لا بالواسطة.

وإمّا أن يكون إدراك النفس لهما بتوسّط تلك القوى كما هو الحقّ ، فحينئذ نقول : إنّ تلك القوى والحواسّ الحاصلة للنفس في ضمن البدن الثاني المغاير لمّا كانت غير الأولى

١٧٩

الحاصلة لها في ضمن البدن الأوّل ، لأنّ تخصّص كلّ قوة من تلك القوى وتميّزها وتعيّنها إنّما هو بمادة بدنيّة مشخّصة متخصّصة وبآلة بدنيّة متعيّنة ، والمفروض أنّ البدن الثاني غير البدن الأوّل ذاتا ، فتكون القوى الثانيّة أيضا مغايرة للقوى الأولى ذاتا ، كان إدراك القوى الثّانية للذّات والآلام الحسّيّتين الذي هو بالنسبة إليها ثواب وعقاب ، وعدم إدراك القوى الأولى لذلك منافيا للحكمة بل ظلما ، لأنّ ما فعلت الأفعال التي هي منشأ للثواب والعقاب لم يرد عليها ثواب ولا عقاب ، وما لم تفعل ورد عليها ذلك.

وأيضا يلزم أن يكون إدراك النفس بتوسّط القوى الثانيّة للثواب والعقاب الحسّيّين منافيا للحكمة أيضا ، كما عرفت.

فبقي أن يكون عود النفس في القيامة في ضمن البدن الأوّل بعينه ، حتّى لا يلزم تلك المحالات ، وهو المطلوب.

ولذلك قال بعض أهل التحقيق (١) : «إنّ الحكمة تقتضي بعث الإنسان لجميع قواه وجوارحه ، وإنّ لكلّ قوّة من قوى النفس كمالا يخصّها ولذّة وألما يناسبها ، وبحسب كلّ ما كسبته يلزم لها في الطبيعة الجزاء كما قرّرته الحكماء من إثبات الغايات الطبيعيّة لجميع المبادئ والقوى عالية كانت أم سافلة (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) وإنّ من تحقّق هذا تحقّق لزوم عود الكلّ ولم يشتبه عليه ذلك ، وهذا مقتضى الحكمة والوفاء بالوعد والوعيد ولزوم الجزاء على ما يراه الحكماء من لزوم المكافاة في الطبيعة والمجازاة ، لامتناع ساكن في الخليفة ، معطّل في الطبيعة» انتهى كلامه.

ومنها ، أن يقال : إذا كانت الأنفس الإنسانيّة التي هي متّفقة في المعنى ، إنّما يكون تكثّرها وتمايزها بالأبدان الخاصّة ، وتشخّصها بالهيئات البدنيّة المخصوصة ، فلو كانت في القيامة تعاد في ضمن بدن مغاير للأوّل ذاتا لم يكن تلك النفس تلك النفس الأولى المبتداة الفاعلة للخيرات والشّرور ، فلم يكن ورود الثواب والعقاب عليها من مقتضى الحكمة ، بل منافيا لها وظلما. تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

__________________

(١) هو صدر المتألّهين في الشواهد الربوبيّة / ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

١٨٠