منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-609-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٢٩٢

قرينك في قبرك ويوم حشرك حتّى أعرض أنا وأنت على ربّك». (١)

إلى غير ذلك من الآيات والأخبار الواردة في ذلك ، كما يعلم بالتتبّع (٢).

ولا يخفى أنّها كما هي دالّة على تجسيم الأعمال في النشأة الأخرويّة ، تدلّ على تجسيمها في عالم البرزخ أيضا ، حيث إنّ بعضا منها ظاهرة الاختصاص بعالم الآخرة ، وبعضا منها مطلق في ذلك يشمل العالمين جميعا ، وبعضها منها ظاهر في أنّ ذلك في كلا العالمين جميعا ، كالحديث الأخير.

وحينئذ فحريّ بنا أن نتكلّم في معنى تلك الآيات والأخبار ، وفي أنّ معنى ذلك التجسيم ما ذا؟

فنقول : إنّ ذلك يحتمل وجهين :

أحدهما وهو الذي يظهر من كلام بعض العلماء القول به ، وإن كان خلاف ظاهر تلك الآيات والأخبار الواردة ، أنّه ليس المراد أنّ نفس ذلك العمل يتصوّر بتلك الصورة ويتجسّم ذلك الجسم ، بل المراد أنّه يخلق الله تعالى على وفق مصلحته الكاملة ومقتضى ذلك العمل صورة أخرى مناسبة لذلك العمل موافقة له ، حيث إنّ لكلّ عمل خير أو شرّ ، وكذا لكلّ صفة حاصلة للنفس فاضلة أو رديّة ، وكذا لكلّ معنى من المعاني الحاصلة لها صورة تناسبه. وهذا كما أنّ صورة القردة وأمثالها مناسبة لمعنى الفجور وأمثاله ، وصورة الفأرة وأمثالها مناسبة لمعنى الحرص وأمثاله ، وصورة الكلب وأمثاله من السباع مناسبة لمعنى التهوّر وأمثاله ، وصورة الماء واللبن وأمثالهما مناسبة لمعنى العلم وأمثاله ، إلى غير ذلك. ولذلك يشاهد في المنام من غلبت عليه تلك الصفات بتلك الصور كما هو المجرّب. وحينئذ فلا امتناع في أن يخلق الله تعالى جزاء لكلّ عمل خير أو شرّ صورة تناسبه ويجعلها قرينة لصاحب ذلك العمل مصاحبة له ، كصورة الحيّات والعقارب والزقّوم والحميم والجحيم وأمثالها من الصور المؤلمة الموذية للأعمال الرديّة القبيحة والصفات

__________________

(١) من لا يحضر الفقيه ١ / ١٣٧.

(٢) ـ نيك وبد هرچه كنى بهر تو خوانى سازند

كار بد جمله ز تو آيد وشيطان بدنام

جز تو بر خوان بد ونيك تو مهمانى نيست

بر تو جز نفس بدانديش تو شيطانى نيست

١٤١

الذميمة ، وصورة الحور والقصور والولدان والجنّات ونعيمها وأمثالها من الصور البهيّة الملذّة الحسنة للأعمال الحسنة والصفات والملكات الفاضلة الجيّدة ، فتكون النفس بالصور الأولى متألّمة ذات شقاوة ، وبالصور الثانيّة ملتذّة ذات سعادة وبهجة وسرور. وتكون أيضا تلك الصور في كلّ عالم مناسبة لذلك العالم ، بأن تكون الصور البرزخيّة مناسبة لعالم البرزخ ، ويكون جسميّتها كجسميّة ما في ذلك العالم جسميّة مثاليّة ، وتكون الصور الأخرويّة مناسبة لعالم الآخرة ، وجسميّتها كجسميّة ما في ذلك العالم جسميّة أخرى غير ما في العالم الحسّيّ والعالم البرزخيّ.

وبالجملة ، فلا امتناع في ذلك ، سواء كان المراد أنّه يخلق الله تعالى في عالم البرزخ تلك الصورة المناسبة البرزخيّة فيجعلها مصاحبة لصاحب تلك العمل ، ثمّ يخلق تعالى بعد ذلك في عالم الآخرة صورة أخرى أخرويّة مناسبة أيضا ، فيجعلها مصاحبة له إلى أن يشاء الله تعالى.

أو كان المراد أنّه يخلق تعالى بعد صدور ذلك العمل من عامله وبعد حصول تلك الصفة لمن اتّصف بها صورة برزخيّة ، وكذا صورة أخرويّة مناسبتين لذلك العمل ولتلك الصفة ، ويجعلها مصاحبتين له في هذه النشأة الدنيويّة أيضا. إلّا أنّه لمّا كان محجوب البصيرة في هذه النشأة عن إدراكهما ومشاهدتهما ، لا يدركهما ولا يشاهدهما ، فلا يلتذّ بهما ولا يتألّم.

ثمّ إنّه حيث يكون في النشأة البرزخيّة حديد البصيرة في الجملة ، وينكشف عنه غطاء هذه النشأة ، يدرك الصور البرزخيّة فقط بالحواس البرزخيّة ، فتلتذّ أو تتألّم. ثمّ إنّه بعد ذلك في عالم الآخرة حيث يكون بصيرته أحدّ وينكشف عنه الغطاء بالمرّة ، كما قال تعالى : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (١) ، يدرك فيه الصور الأخرويّة فيلتذّ ويتألّم بحسب حاله ومرتبته ، إلى أن يشاء الله تعالى.

أو كان المراد أنّه خلق الله تعالى ـ قبل ذلك العمل وقبل تلك الصفة ـ تلك الصور

__________________

(١) ق (٥٠) : ٢٢.

١٤٢

المناسبة ، ثمّ إنّه تعالى يظهر الصور البرزخيّة في عالم البرزخ ، والصور الأخرويّة في عالم الآخرة على صاحب ذلك العمل وتلك الصفة ، بحيث يشاهدها ويدركها ويعلم أنّها كانت جزاء عمله. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

والوجه الثّاني : أن يراد أنّ نفس تلك الأعمال وعين تلك الصّفات والملكات تتجسّم وتتصوّر صورة جسمانيّة مثاليّة برزخيّة في عالم البرزخ ، وصورة أخرويّة في عالم الآخرة ، وأنّ أعمال الخير يتولّد منها الجنان والحور والولدان والقصور والدور وأنواع المسرّات الحسّيّة واللذّات البدنيّة ، وأن أعمال الشرّ يتولّد منها النيران والأغلال والحميم والزقّوم وأنواع الآلام الحسّيّة والغموم البدنيّة ، فتكون تلك الأجسام والصور المتولّدة مصاحبة للنّفوس الّتي اكتسبتها ، وقرينة للأرواح التي حصلت هي لها ، موجبة لسعادتها أو شقاوتها ، لا أن يكون هناك صورة أخرى مناسبة لتلك الصفات والأعمال كما في الوجه الأوّل ، بل إنّ تلك الأعمال والصفات تتجسّم وتتصوّر صورة برزخية وأخرويّة بعد صدورها عن فاعلها ، وفي النشأة الدنيويّة أيضا ، لكنّها لا تظهر على فاعلها والموصوف بها في هذا العالم الحسّيّ ، لكونه محجوب البصيرة عن إدراكها لانغماسه في الحجب البدنيّة ، وانغماره في الأحوال الطبيعيّة ، وإنّما تظهر المثاليّة من تلك الصور عليه في عالم البرزخ ، والأخرويّة منها في عالم الآخرة.

وهذا الوجه هو ظاهر تلك الآيات والأخبار الدالّة على التجسّم ، فإنّ الأصل هو الحقيقة وعدم المصير إلى المجاز ، وهو الذي ذهب إليه كثير من العلماء.

وتوجيه هذا الوجه ، كما يظهر من كثير من القائلين به من أهل التحقيق أنّ أحكام النشئات الثلاث الحسّيّة والمثاليّة والعقليّة مختلفة ، فيجوز أن تظهر الأعمال والصفات في النشأة الدنيويّة بصورة العمل والصّفة ، وفي عالم البرزخ بصورة الأجسام المثاليّة ، وفي عالم الآخرة بصورة الأجسام الأخرويّة ، كما جاز أن يكون الحقيقة الكلّيّة تظهر في الصور المختلفة ، وتتداول عليها أحكامها باعتبار ظهورها في تلك الصور المتلبّسة بها ، بحيث يكون تلك الصور مظاهر لتلك الحقيقة في مواطن تظهر لتلك الحقيقة ، في كلّ موطن من تلك المواطن أحكام خاصّة وأفعال خاصة ، وأحوال خاصة ، بواسطة ظهورها

١٤٣

في تلك المواطن بواسطة تلك الصور على حسب اختلافها في تنزّلاتها من العالم العقليّ إلى النّفسيّ إلى غير ذلك من مواطنها المتعدّدة ، باعتبار مراتب المعاينة الحاصلة عند النفس.

مثل أنّ الحقيقة الإنسانيّة مثلا تظهر في العالم الحسّيّ على النفس ، وعلى البصر بالصور المعيّنة المكتنفة بالعوارض المادّيّة بشرط حضور المادة ، وملازمة وضع معيّن من محاذاة وقرب وعدم حجاب إلى غير ذلك ، وهي بعينها تظهر في العالم النفسيّ في الخيال بصورة خياليّة تشابهها من غير تلك الشرائط ، وهي في الحالتين تقبل التكثير بحسب الأشخاص ، كصورة زيد وعمرو وبكر.

ثمّ تظهر تلك الحقيقة في العالم العقليّ في العقل بصورة عقليّة بحيث لا تقبل ذلك التّكثير ، ويصير الأفراد المتكثّرة في الصّورة المبصرة والمتخيّلة متّحدة في الصّورة العقليّة ، ثمّ إنّ الصورة العقليّة متفاوتة في قبول التكثّر ، فإنّ صورة الأنواع من حيث خصوص نوعيّتها متكثّرة ، وهي من حيث صورة جنسها واحدة ، وهكذا إلى جنس الأجناس ، فيتّحد في صورته جميع الأنواع ، لكن يمتاز عن جنس آخر يقابله. وإذا اعتبرت من المفهومات ما يشمل جميع الحقائق والاعتبارات اتّحد الكلّ في صورته ، كالشيء والممكن العامّ مثلا. ومثل أنّ المختلفين في الصورة في موطن قد يتّحدان فيها في موطن آخر ، وقد يتعاكسان. أعني أنّه يظهر أحدهما في موطن بصورة خاصّة والآخر بصورة أخرى في موطن ، ويظهر أنّ في موطن على عكس ذلك كالفرح والبكاء الظاهرين في اليقظة بصورة وفي الرؤيا على العكس.

ومثل أنّه يمكن أن يكون لصورة خاصّة واحدة آثار مختلفة في مواطن مختلفة ، كما أنّ صورة الجسم الرطب مثلا ـ كالماء ـ متى فعلت في جسم قابل للرطوبة قبلها فصار رطبا مثله ، ومتى فعلت في مادّة أخرى كالقوّة الحسّيّة أو الخياليّة ، وانفعلت عن الرطوبة لم تقبل مثالها ولم تصر رطبا مثله ، بل قبلت مثالها ، فلها أثر في النشأة الأخرى غير أثرها في النشأة الأولى. وكذا إذا حصلت تلك الرطوبة في العقل كان ذلك ظهورا آخر وراء الأوّلين ، وكانت الصورة صورة أخرى هي الصورة العقليّة الكلّيّة.

١٤٤

ومثل أنّه يمكن أن يكون حقيقة واحدة باعتبار وجود واحد ، أي وجودها في النفس من حيث وجودها فيها عرضا ، وباعتبار وجود آخر ، أي وجودها في الخارج جوهرا ، كذلك يجوز أن يكون المعصية والطاعة اللتان هما حقيقتان كليّتان تظهران في العالم الحسيّ بالصور العمليّة التي هي أعراض قائمة بالجواهر ، وفي عالم البرزخ بملابسها البرزخيّة المعنويّة وصورها المثاليّة التي هي جواهر ، وفي عالم الآخرة بملابسها الأخرويّة التي هي كالصور المعنويّة أيضا ، بل كالملابس العقليّة ، وهي جواهر أيضا فتصيران جنّة ونارا مثاليّتين أو عقليّتين.

وبالجملة ، فتجسيم الأعمال والصفات كما هو ظاهر الآيات والأخبار الدّالّة عليه ، ممّا لا مانع عنه عند العقل ولا امتناع فيه ، وفيما ذكرنا غنية للطالب المستبصر المسترشد ، في أن يؤمن بجميع ما نطق به الشّرع ووعده الشّارع أو أوعده ، فإنّه لو تأمّل في ذلك ، وكذا في أنّ ما يشاهد من الصفات النفسانيّة كيف تصير منشئا للآثار والأفعال الظاهرة ، كفاه ذلك ذريعة إلى الاطمينان بكيفيّة استتباع بعض الأعمال والصفات للآثار المخصوصة في النشأة البرزخيّة وفي عالم الآخرة ، ألا ترى أنّ شدّة الغضب ـ مثلا ـ في شخص يوجب ثوران دمه واحمرار وجهه وتسخّن بدنه واحتراق موادّه ، والحال أنّ الغضب صفة نفسانيّة موجودة في عالم باطنه ، وهذه الآثار من صفات الأجسام المادّيّة ، وقد صارت نتائج منها في هذا العالم ، فلا عجب من أن يلزمها في النشأة البرزخيّة آثار أخرى أحرّ من الأولى ، وفي النشأة الأخرويّة نار أحرّ من الأولى والثانيّة جميعا وهي (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (١). وأحرقت صاحبها ، كما يلزمها في العالم الدنيويّ عند ظهورها ضربان العروق والأوداج واضطراب الأعضاء ، وربّما يؤدي إلى الأمراض الشديدة ، وربّما يموت صاحبها غيظا. (٢)

وإذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم أنّ الشرع كما نطق بتجسيم الأعمال والصفات والملكات ، كذلك قد نطق بوقوع ثواب وعقاب جسمانيّين واردين على بدن المحسن

__________________

(١) الهمزة (١٠٤) : ٦ ـ ٧.

(٢) راجع الشواهد الربوبية / ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

١٤٥

والمسيء من خارج ، والآيات والأخبار الواردة في ذلك الدّالّة عليه بظواهرها أكثر من أن تحصى ، وهي في الدلالة عليه بحيث لا تقبل التّأويل في الظاهر ، كما لا يخفى على من نظر فيها. وكثير منها وإن كانت ظاهرة في وقوع ذلك في الآخرة ، إلّا أنّ بعضها لاطلاقه يدلّ على وقوعه في النّشأة البرزخيّة أيضا ، بل إنّ بعضها ظاهرة في ذلك :

قال تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران».

وهذه كما تدلّ على وقوع ثواب أو عقاب جسمانيّين محسوسين في عالم البرزخ وفي القبر إلى قيام السّاعة ، كذلك فيها دلالة على أنّ البرزخيّ منها من جنس عالم المثال ، وأنّها أضعف تأثيرا ممّا في عالم الآخرة ، فلذا عبّر في الآية عنها بالعرض على النار ، يعني أنّه ليس دخولا في النار ، وفي الحديث بكون القبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيران ، يعني أنّه ليس نفس الجنّة ولا نفس النار ، بل إنّه ممّا يشابههما ومن أشباحهما.

وكذا فيها دلالة على أنّ الأخرويّ منها من جنس عالم الآخرة ، ومن العالم العقليّ كما مرّ تفسيره ، وعلى أنّها أشدّ تأثيرا ممّا في البرزخيّة ، ولذا قال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٢) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران» دلالة على أنّ الدخول في أصل الجنّة وأصل النّار يكون بعد زمان القبر ؛ والله تعالى يعلم.

وبالجملة ، فدلالة تلك الآيات والأخبار على وقوع ثواب أو عقاب جسمانيّين بعد الموت من خارج في عالم البرزخ وفي عالم الآخرة واضحة ، وقد قال به أهل الشرع أيضا ، وحيث إنّ الشرع قد نطق به يجب التّصديق به ، ولا امتناع في وقوع الثواب والعقاب الجسمانيّين من جهتين :

إحداهما من داخل كما دلّ عليه ما دلّ على تجسيم الأعمال ، والأخرى من خارج ،

__________________

(١) غافر (٤٠) : ٤٦.

(٢) نفس الآية.

١٤٦

كما دلّت عليه هذه الآيات والأخبار ، ولا منافاة بينهما أيضا كما لا يخفى.

إلّا أنّ هاهنا شبهة يختلف تقريرها على مذهب الحكماء والمتكلّمين ، وكذا يختلف جوابها على الوجهين ، وكذا على المذهبين ، بل على مذهبي الأشاعرة والمعتزلة من المتكلّمين ، فحريّ بنا أن نتكلّم في ذلك.

[في الجبر والاختيار]

فنقول : إنّ تقرير تلك الشّبهة إمّا على مذهب الحكماء ، فبأن يقال : إن كانت الأفعال الإنسانيّة صادرة عنه على سبيل الوجوب ، لتمثّلها مع سائر الجزئيّات في العالم العقليّ ، ولوجوب حدوث ما يحدث منها في هذا العالم مطابقا لما تمثّل هناك كما هو رأي الحكماء ، فلم يعاقب الإنسان على شيء صدر عنه على سبيل الوجوب؟

لا يقال : وجوب صدور الفعل عن العبد ، مع القول بأنّه قادر مختار ، على ما يقوله الحكماء أيضا لا يجتمعان ، لأنّه حينئذ يمتنع الترك ، فيمتنع ملزوم الترك ، وهو مشيّة الترك في تحديد القدرة ، إن شاء ترك فلا قدرة أصلا.

لانّا نقول : الملازمة التي ادّعيت في تحديد القدرة إن شاء ترك ، إنّما تثبت بين الممتنعين ، مع أنّ الامتناع ليس بالذات ، بل إنّ مشيّة الترك ممكنة بالنّسبة إلى العبد ، واستمرار عدم الممكن لا ينافي إمكانه.

فمحصّل الشبهة أنّ الأفعال الصادرة من العبد إن وجب أن تكون مطابقة للعالم العقليّ ـ وهذا هو القدر كما يقوله الحكماء ـ فلم يعاقب العبد على ذلك؟

وهذا أحد وجهي تقرير الشبهة على مذهبهم.

وبوجه آخر : أنّ الله خير محض بالذات ، والعقوبة شرّ محض ، فكيف صدرت من الله تعالى؟

وإمّا على مذهب المتكلّمين ، فبأن يقال ـ كما قالت المرجئة منهم ـ : إنّه يجب أن لا يكون عقاب أصلا ، لأنّه لا فائدة فيه ، لأنّها إن كانت عائدة إلى الله تعالى فذلك محال ، أو

١٤٧

إلى العبد فذلك أيضا باطل ، لأنّ الضرر المحض لا فائدة فيه ، وما لا فائدة فيه يكون قبيحا لكونه خاليا عن وجوه المصلحة.

وأمّا الجواب عن هذه الشّبهة ، فهو على تقدير القول بتجسيم الأعمال واضح على كلّ مذهب من المذاهب ، لأنّه لا عقاب حينئذ من خارج ، حتّى يسأل عن وجهه كما هو مدار الشبهة. بل العقاب الجسمانيّ الوارد على بدن المسيء إنّما يرد عليه من داخل ذاته ، وهو لازم أعماله السيّئة ، بل إنّ نفس تلك الأعمال تصوّرت بصورة العقاب.

والحاصل أنّ العقاب الجسمانيّ للنفس على خطيئتها هو كالمرض للبدن ، فهو لازم من لوازم ما ساق إليه الأحوال الماضية التي لم يكن بدّ من وقوعها ، ولا من وقوع ما يتبعها. وكما أنّ الإنسان لمّا احتاج إلى تناول الغذاء ويبقي عند كلّ هضم لطخة من فضلات الهضوم يجتمع في بدنه منها مادّة كثيرة مستعدّة لتصوّرها بصور الأمراض ، خصوصا إذا قصّر في الاحتياط ، وفي تناول الغذاء المناسب له ، وأدّت شهوته البهيميّة إلى تناول الغذاء الغير المناسب ، حتّى إذا أثّرت فيها الحرارة الغريبة ، اشتعلت تلك المادّة وتصوّرت بصورة العلّة والمرض وحدثت الحمّى ، وإذا انصبّت إلى عضو ورم ذلك العضو ، إلى غير ذلك من الحالات الرديّة الموذية.

وبالجملة ، إذا ساقت إليه قوّته البهيميّة أو صابا وأسقاما مؤلمة ، كذلك حال العقاب الجسمانيّ الوارد عليه من داخل ، فإنّه إذا فعل أفعالا رديّة ، ينتقش في نفسه بحسب كلّ فعل ملكة رديّة ، ويجتمع على مرّ الأيّام ملكات متعدّدة متصوّرة بصورة المؤلمات والمؤذيات الجسمانيّة ، مصاحبة معها غير مفارقة عنها ، إلّا أنّها ما دامت متعلّقة بالبدن كأنّها ذاهلة عنها ، حتّى إذا فارقت البدن أدركتها وشاهدتها وشعرت بها وتأذّت منها وتألّمت لها ألما جسمانيّا.

لا يقال : إذا كان العقاب الجسمانيّ من لوازم الأعمال أو نفسها ، يجب أن يكون دائما بدوام صورة ذلك العمل والهيئة المنتقشة في النفس ، الباقية ببقائها ، فما وجه انقطاعه بالنسبة إلى بعضهم كما نطق به الشّرع؟

لأنّا نقول : قد عرفت فيما سبق أنّ بعضا من تلك الهيئات المنتقشة في النفس يمكن

١٤٨

زوالها عنها لعروض أسباب زوالها ، فلا امتناع في زوال تلك الهيئة عنها وانقطاع العقاب بحسبها. وعلى تقدير بقاء ذات تلك الهيئة أيضا ، فلا امتناع في بطلان تلك الصورة المؤلمة التي تصوّرت تلك الهيئة بصورتها ، بحسب أسباب تعرض هناك من توبة أو شفاعة أو نحو ذلك ، وإن لم يكن نعلمها. وعلى تقدير بقاء تلك الصورة المؤلمة أيضا فلا امتناع في بطلان إيلامها وإيذائها ، فإنّ ما ذكرنا أنّ العقاب الجسمانيّ لازم للأعمال ، لم نعن به أنّه لازم لماهيّة تلك الأعمال والهيئات ، حتّى لا يمكن انفكاكه عنها ، بل عنينا به أنّه لازم للوجود الخارجيّ لها ، ولا امتناع عقلا في أن يبقى ماهيّتها وذاتها وينفكّ عنها لازم وجوده الخارجيّ بسبب من الأسباب العارضة. بل ربّما يدّعى أنّ الشرع دلّ عليه كما في قصّة إبراهيم على نبيّنا وعليه‌السلام ، وجعل النار عليه بردا وسلاما مع بقاء ذات تلك النار على ما هي عليه من مادّتها وصورتها.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ تلك الشّبهة ـ على تقدير تجسيم الأعمال ـ لا ورود لها أصلا ، لا على مذهب الحكماء ولا على مذهب غيرهم.

نعم ، تلك الشبهة إنّما ترد ظاهرا على تقدير وقوع العقاب من خارج ، وعلى هذا التقدير أيضا ، فإن أوّل بما يؤوّل إلى تجسيم الأعمال ، سقطت تلك الشّبهة أيضا.

وذلك التأويل بأن يقال : يمكن أن يكون ذلك العقاب الخارجيّ أيضا لازما لتلك الأعمال مسبّبة عنها وصورة لها ، لا بأن يكون قد تصوّر العمل نفسه بصورة ذلك العمل كما ذكرنا في الوجه الثاني من وجهي تجسيم الأعمال ، بل بأن يكون أوجد الله تعالى لحكمته القديمة وعنايته الأزليّة وعمله بالوجه الأصلح وبما يقتضيه نظام العالم بجملته ، لكلّ عمل صورة مناسبة لها خارجة عن ذاتها مسبّبة عنها ، كما ذكرنا في الوجه الأوّل من وجهي تجسيم الأعمال.

وحينئذ ، فلو قلنا بوجود الجنّة والنار الآن وخلقها قبل صدور الأعمال من العباد كما هو مذهب جمهور المسلمين ، وهو ظاهر الشرع المتين والحقّ المبين ، ينبغي القول بخلق تلك الصور المناسبة لتلك الأعمال قبلها.

وربّما يدّعى أنّه ممّا يؤيّده بعض الآيات والأخبار ، كقوله : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ

١٤٩

بِالْكافِرِينَ) (١) حيث إنّ ظاهره الإحاطة في الزمان الحال.

وبالجملة ، ينبغي القول بخلقها قبلها لحكمة ومصلحة لا يعلمها إلّا علّام الغيوب ، ومن جملتها ترغيب المكلّفين بالأعمال الحسنة التي يناسبها تلك الصور الملذّة وتزهيدهم عن الأعمال السّيّئة التي يناسبها تلك الصّور المؤلمة ، فإنّه لا يخفى أنّهم إذا علموا بأنّ تلك الصور خلقت قبل صدور الأعمال عنهم وأعدّت لهم جزاء لأعمالهم الحسنة أو السّيئة ، يكون التكليف أتمّ والترغيب والتزهيد أبلغ وأكمل ، ولا كذلك إذا لم تخلق قبل ووعدوا أو أوعدوا على خلقها وإعدادها لهم بعد صدور العمل عنهم.

ولو قيل بعدم خلق الجنّة والنار الآن ، وإنّهما تخلقان يوم الجزاء ـ كما هو مذهب أكثر المعتزلة ، وإن كان مخالفا لظاهر الشرع ـ فالأمر أظهر من وجه ، فإنّه يكون الجنّة والنار اللتان هما صورتا الأعمال الحسنة والسيّئة مخلوقتين بعد الأعمال ، ولا امتناع فيه أيضا ، ويكون في التكليف وفي الوعد والوعيد بخلقها بعد ذلك حكمة ومصلحة لا تخفى.

وأمّا إذا لم يؤوّل ذلك بما ذكرنا أو نحوه بل أبقي على ظاهره ، أي وقوع العقاب الجسمانيّ من خارج من غير أن يكون ذلك صورة العمل ، فيمكن دفع تلك الشبهة أيضا بما نذكره ، فنقول :

أمّا جوابها على مذهب الحكماء وعلى التقدير الأوّل ، فبأن يقال : إنّ مبنى تلك الشبهة على ذلك التقرير ، أنّ معنى القضاء أنّ الله تعالى عالم بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد ، وأنّ معنى القدر مطابقة الموجودات فيما لا يزال للصور الموجودة في العالم العقليّ ، وأنّ كلّ ما يوجد في عالم الحدوث يجب أن يكون على وفق علمه تعالى ، والّا لزم جهله تعالى به ، وهذا مسلّم. إلّا أنّا نقول : إنّ ذلك الوجوب ليس وجوبا سابقا ، بمعنى أن يكون القلم الأزليّ والمطابقة للعالم العقليّ علّة وسببا موجبا لصدور الفعل عن العبد حتّى يسأل عن أنّه لم يعاقب الانسان على شيء صدر عنه على سبيل الوجوب ، لأنّ العلم تابع للمعلوم فكيف يكون علّة لوجوده؟ ومعنى التبعيّة أصالة موازنة في التطابق كما حقّق في

__________________

(١) التوبة (٩) : ٤٩.

١٥٠

موضعه ، بل إنّ ذلك وجوب لاحق ، بمعنى أنّه تعالى لما علم في الأزل أنّه يصدر فيما لا يزال عن العبد بإرادته واختياره الفعل ـ كما هو مذهب الحكماء أيضا ـ فلذا تعلّق العلم الأزليّ به ، وحيث تعلّق العلم الأزليّ به ، وجب أن يكون هو مطابقا له ، والّا لزم جهله تعالى.

وبالجملة ، فهذا الوجوب وجوب لاحق باختيار العبد وإرادته ، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، بل يؤكّده.

فحينئذ إن سئل عن أنّه لم يعاقب الانسان على شيء صدر عنه على سبيل الوجوب والاضطرار؟ سقط السؤال البتة ، لأنّه ليس على سبيل الوجوب والاضطرار ، وإن سئل عن أنّه لم يعاقب على شيء صدر عنه بالاختيار أو على سبيل الوجوب بالاختيار؟ كان الجواب أنّه لمّا ارتكب بإرادته واختياره الأفعال المنهيّة عاقبة الله تعالى على عصيانه.

وبتقرير آخر أنّه لما كان فعل العبد صادرا عنه بإرادته واختياره ـ كما هو مذهبهم ـ وكان قدرته واختياره مسبّبين عن أسباب ، ومن أسباب إرادته فعل الخير التخويف والعقاب ، وهما من الأسباب المقدّرة لنظام العالم ، كما أنّ فعل الخير مقدّر قدّره تعالى تكليفا وتخويفا وأوفي به فإن سئل عن أنّه لمّا كان فعل العبد مقدّرا ، فلم التخويف أو لم العقاب؟ كان الجواب عنه ، بأنّهما من أسباب فعل الخير الصادر عن العبد.

وبعبارة أخرى لمّا كانت النّفس الإنسانيّة في علم الباري تعالى قابلة للكمالات ، وكانت العناية الأزليّة والحكمة المتعالية اقتضت إفاضته تلك الكمالات عليها ، لكن بحسب استعدادات تحصل هي لها من أفاعيلها الإراديّة ، وكانت فيها قوى تمنعها عن تلك الأفاعيل وتميلها إلى أفاعيل بالإرادة تضادّها قدّر تعالى تكليفا وتخويفا يكون من أسباب إرادته الأفاعيل الجميلة ، ولما كان الوفاء بذلك التخويف أيضا من أسباب ذلك مؤكّدا له ، والوفاء بالتخويف هو العقوبة ، لا جرم صارت العقوبة سببا من أسباب إرادة العبد للأفاعيل الجميلة ، وتلك العقوبة كما أنّها من أسباب إرادة الأفاعيل الجميلة ، كذلك هي واقعة على العبد بفعله بالاختيار للأفعال القبيحة لا محذور أصلا.

لا يقال : سلّمنا أنّ التخويف من أسباب إرادة الأفعال الجميلة ، لكنّا لا نسلّم أنّ الوفاء

١٥١

به ـ وهو العقوبة ـ سبب لها ، إذ لا مانع من أن يحصل التخويف ويكون سببا لإرادة الأفاعيل الجميلة ، ولا يقع الوفاء به أي العقوبة ، إذ ليس في ذلك خلف لوعد حتّى يكون قبيحا ، بل هو إسقاط وعيد وعفو ، بل إحسان فيحسن.

لأنّا نقول : إنّ التخويف الذي لا وفاء به أصلا لا يكون سببا لإرادة فعل الخير ، وإنّما يكون سببا لها إذا كان مع الوفاء به ولو في الجملة. ولا أقلّ من أن يكون الوفاء مؤكّدا للتخويف ، وهو أيضا مطلوب الشارع الحكيم.

وبالجملة ، فالوفاء به حسن ، وهو من حقّه تعالى بالنسبة إلى من ارتكب الأفعال القبيحة بإرادته واختياره ، وإن كان يمكن إسقاطه بالنّسبة إلى بعضهم بالتّوبة أو الشّفاعة أو نحو ذلك ممّا لا يعلمه غيره تعالى.

وحيث عرفت ما بيّناه ، عرفت أنّ محصّل الجواب عن الشّبهة على ذلك التّقرير ، أنّ قول الشّابه : فلم يعاقب الإنسان على شيء صدر عنه على سبيل الوجوب؟

إن كان محطّ السّؤال أنّ ما صدر عن العبد على سبيل الوجوب كيف يقع العقاب عليه؟ كان الجواب عنه أنّ صدوره عنه ليس بالوجوب ، بل بالاختيار كما عرفت.

وإن كان محطّ السّؤال أنّ الغرض من ذلك العقاب ما ذا؟ كان الجواب عنه أنّ فعل الله تعالى لا يعلّل بالأغراض عند الحكماء ، إذ هو تعالى عندهم ـ كما هو الحقّ أيضا ـ فيّاض مطلق وجواد على الإطلاق وهو تامّ الفاعلية ، غير مستكمل بشيء أصلا ولا يكون لفعله تعالى علّة غائيّة ولا غرض يكون ذلك داعيا له إلى فاعليّته ، ويكون هو تعالى بدونه غير فاعل له ناقصا في فعله ، وإن كان يتبع فعله تعالى حكم ومصالح متقنة محكمة ليست هي باعثة له على الفاعلية.

وإن كان محطّ السؤال أنّ الحكمة والمصلحة في العقاب ما ذا؟ كان الجواب عنه أنّ الحكمة في ذلك كونه من أسباب إرادة العبد للأفاعيل الجميلة كما عرفت.

وأمّا الجواب عن الشبهة ، على التقدير الثاني للحكماء وعلى مذهبهم ، فبأن يقال : لا نسلّم أنّ العقوبة شرّ محض مطلقا ، فإنّها على تقدير تسليم كونها شرّا ، فإنّما يسلّم ذلك بالقياس إلى الشخص المعذّب فقط ، لا بالقياس إلى غيره أيضا ، بل هو خير بالقياس إلى

١٥٢

الأكثرين ، حيث إنّ فيها مصالح عامّة ، ومن جملتها تحذيرهم عن ارتكاب المعاصي والمنهيات ، وحيث كانت فيها مصالح عامّة فلا يلتفت لفتّ الجزئيّ لأجل الكلّيّ كما في قطع العضو لصلاح البدن.

على أنّا لا نسلّم كون العقوبة شرّا محضا بالنسبة إلى الشخص المعذّب أيضا ، بل يمكن أن تكون بالقياس إليه أيضا خيرا ، كما قال بعض العرفاء : «إنّ النّار قد تتّخذ لبعض الأمراض ، وهو الداء الذي لا ينفى إلّا بالكيّ من النار ، فقد جعل الله تعالى النار وقاية في هذا الموطن من داء هو أشدّ من النار في حقّ المبتلى به ، وأيّ داء أشدّ من الكبائر؟ فقد جعل الله لهم النار يوم القيامة دواء كالكيّ بالنار ، فدفع بدخولهم النار يوم القيامة داء عظيما أعظم من النار ، وهو غضب الله تعالى ، ولهذا يخرجون بعد ذلك من النار إلى الجنّة ، كما جعل في الحدود الدنياويّة وقاية من عذاب الآخرة». (١) انتهى كلامه.

وأقول : ولعلّ معنى قوله : «ولهذا يخرجون» أنّه يخرج بعض أصحاب الكبائر ، كالمؤمن الفاسق ، وإلّا فالكافر مخلّد في النار كما هو المذهب الحقّ.

وأمّا الجواب عن الشّبهة على تقرير المتكلّمين وعلى مذهب المعتزلة ومن يحذو حذوهم في القول بالحسن والقبح العقليّين ، وبأنّ فعل العبد صادر عنه بإرادته واختياره ، فبأن يقال : إنّ الله تعالى كلّف العباد ووعدهم على الطاعة ، وأوعدهم على المعصية ، لأنّ صلاح حالهم في التكليف ، ثمّ إنّه يجب عليه تعالى ذلك لأنّ التكليف والوعد والايعاد لطف من الله تعالى يقرّبهم إلى الطاعة ويبعدهم عن المعصية ، واللطف واجب. ثمّ إنّه يجب عليه تعالى الإثابة على الطاعات ، إذ الإخلال به قبيح وظلم ، وأمّا العقاب فحسن أيضا لارتكابهم المعاصي. فإذا قيل لم يعذّبون؟ قيل : لأنّهم ارتكبوا المعاصي. وإذا قيل : لم ارتكبوا المعاصي؟ قيل : لإرادتهم ذلك ، وكونهم مختارين فيه. وإذا قيل : أليس يجب صدور المعصية عنهم حتّى يطابق علم الله تعالى؟ قيل : إنّ الله تعالى كما علم وجود المعصية علم أنّ المعصية تصدر عنهم باختيارهم وإرادتهم ، فعلم الله تعالى لا ينافي

__________________

(١) والقائل هو الشيخ العارف محي الدين بن العربي ، في الفتوحات المكيّة.

١٥٣

اختيارهم ، إذ العلم الأزليّ ليس علّة لوجود المعلوم ، بل هو تابع له كما عرفت.

وأمّا الجواب عن الشبهة على رأي الأشاعرة ، فبأن يقال : إنّهم لمّا ذهبوا إلى أنّ جميع الحوادث بل جميع الموجودات الممكنة من الله تعالى وهو سبب الكلّ. فإن قيل : فلم العقاب؟ قالوا : إن كان المراد الغرض من العقاب فلا غرض ، وإن كان المراد السّبب ، فهو الله تعالى ولا يسأل عمّا يفعل.

وهذا الذي ذكرناه في تقرير هذه الشبهة وجوابها إنّما هو نبذ ممّا ذكروه في هذا المقام ، وتفصيل المقام يقتضي بسطا في الكلام ليس هنا محلّه ، وحيث كان هذا الذي ذكرناه كلاما وقع في البين بالتقريب ، فلنرجع إلى ما كنّا نحن بصدده.

[الثواب والعقاب في البرزخ]

فنقول : إنّك بعد ما أحطت خبرا بما فصّلناه وبيّناه ، تلخّص لك أنّ حال النفس الإنسانيّة بعد مفارقتها عن البدن العنصريّ أنّها تكون في ضمن بدن مثاليّ ، وتكون لها في ضمنه سعادة وشقاوة حسّيّتان كما دلّ عليه الشرع الشريف وفصّل ذلك فيه ، ويؤيّده العقل أيضا ، مضافا إلى السعادة والشقاوة العقليّتين اللتين هما لها بالقياس إلى ذاتها كما دلّ عليه العقل ولم ينكره الشرع. وأنّ كلّ ما يرد عليها من اللذّات والآلام الحسّيّتين بعد المفارقة عن البدن إلى قيام الساعة هو من جنس عالم المثال ، حتّى أنّ ظهور الملكين الكريمين اللذين يسألانها في القبر تارة بصورة حسنة ، وتارة بصورة مهيبة منكرة ، يمكن أن يكون بظهورهما كذلك في ضمن القالب المثاليّ ، سواء قيل بكون الملائكة ذواتا مجرّدة عقليّة كما هو رأي كثير من الحكماء ، أو بكونهم أجساما نورانيّة ذوات نفوس مجرّدة شريفة كما هو ظاهر الشرع الشّريف ، فإنّه على التقديرين ، لا امتناع عقلا ولا شرعا في أن يكون لهم مظاهر جسمانيّة مثاليّة يظهرون فيها بصور مختلفة. والله تعالى يعلم.

نعم ، قد دلّ الشّرع على أنّ بعض الأحوال الواردة على النفس من الأمور الحسّيّة ، كضغطة القبر بل السؤال والجواب ، تكون للنفس في ضمن البدن الأوّل العنصريّ ، كما دلّت

١٥٤

عليه أخبار كثيرة ، ويدلّ عليه بعض الآيات أيضا ، كقوله تعالى حكاية : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (١) وقد قال كثير من المفسّرين : إن إحدى الحياتين ليست إلّا في القبر ، وكذا إحدى الموتتين.

وبالجملة ، فلا امتناع فيه أيضا ، إذ لا امتناع في أن يعيد الله تعالى بحكمته المتعالية تعلّق النفس بالبدن الأوّل نوعا من التعلّق يسمّى إحياء ، ثمّ يقع عليها الضغطة والمساءلة في ضمن ذلك البدن الأوّل ، ثمّ ينتفي ذلك التعلّق المعاد ، بحيث يسمّى إماتة ، سواء كان البدن الأوّل باقيا بعينه ، وكان في القبر أي في داخل الارض ، وكانت الضغطة والمسائلة في القبر ، أو كان البدن الأوّل في خارج الأرض ، سواء كان في سطحها أو في الهواء كما في المصلوب ، إذ لا امتناع في الإحياء بقدر المساءلة ولا في الضغطة ، فإنّ ربّ الهواء هو ربّ الأرض ، ولا امتناع في أن يوحي الله تعالى إلى الهواء فيضغطه ، كما ورد في الحديث. وسواء لم يكن البدن الأوّل باقيا بهيئته وصورته بل تفرّقت أجزاؤه ، كأن أكله السّباع والطيور وتشتّت أجزاؤه في بطونها وحواصلها ، أو أن أحرق فصار رمادا ، أو ذرّي في الرياح العاصفة شمالا وجنوبا وقبولا ودبورا ، فإنّه لا امتناع في إعادة الروح إلى تلك الأجزاء المتفرّقة ، أو إلى الأجزاء الأصليّة من البدن بعد جمعها وتأليفها وإن لم نشاهد ذلك ، وفي إحيائه مرّة أخرى للمساءلة والضغطة فيقع ، المساءلة وكذا الضغطة فيما كان جمع الأجزاء هنالك ، ثمّ ينتفي ذلك التعلّق بحيث يسمّى إماتة ، سواء تفرّقت الأجزاء بعد ذلك كما كانت أوّلا أو لم تتفرّق ، وإن لم نكن نشاهد شيئا من ذلك ولا نعلمه.

والقول بأنّ المصلوب مثلا لو أحيي لكنّا نشاهد حياته وليس كذلك ، مجرّد استبعاد ، فإنّ عدم مشاهدة الحياة ليس دليلا على عدمها كما في صاحب السّكتة ، حيث إنّا لا نشاهد حياته مع أنّه حيّ.

كالقول بأن إحياء من تفرّقت أجزاؤه في بطون السّباع وحواصل الطيور ، بل أحرق وذرّي في الرياح خلاف ما يقتضيه ضرورة العقل ، بأنّه أيضا مجرّد استبعاد ، حيث إنّه

__________________

(١) غافر (٤٠) : ١١.

١٥٥

مبنيّ على اشتراط البنية الأولى بهيئتها الأولى التركيبيّة بعينها في الحياة ، وهو ممنوع. غاية ذلك أن يكون خلاف العادة ، وخوارق العادات غير ممتنعة في مقدورات الله تعالى.

وكذلك القول بأنّ ما ذكر يخالف بعض السمعيّات ، كقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (١) ، وأنّهم لو أحيوا في القبر أو بعد الموت الأوّل قبل القيامة لذاقوا الموت مرّتين. ضعيف ، لأنّ الآية كما ذكره المفسّرون إنّما وردت في شأن أهل الجنّة ، وضمير «فيها» للجنّة. والمعنى ـ والله أعلم ـ أنّ أهل الجنّة لا يذوقون في الجنّة الموت ، فلا ينقطع نعيمهم كما انقطع نعيم أهل الدنيا بالموت ، فلا دلالة في الآية على انتفاء موتة أخرى بعد المساءلة والضغطة وقبل دخول الجنّة ، وأمّا قوله تعالى : (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (٢) ، فهو تأكيد لعدم موتهم في الجنّة على سبيل التعليق بالمحال ، كأنّه قيل : لو أمكن ذوقهم الموت في الجنّة لذاقوا الموتة الأولى ، وهو غير ممكن. فذوقهم الموت في الجنّة غير ممكن ، أو المراد أنّهم لا يذوقون الموت في الجنّة إلّا الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا نظير الاستثناء المنقطع. والله أعلم بحقيقة الحال.

وحيث انتهى الكلام إلى هذا المقام ، وذكرنا نبذا من أحوال النفس الإنسانيّة في عالم البرزخ ، أي أحوالها بعد المفارقة عن البدن إلى قيام السّاعة ، فلنتكلّم في أحوالها في العالم الأخرويّ عند قيام الساعة وبعده ، فنقول :

__________________

(١) الدخان (٤٤) : ٥٦.

(٢) نفس الآية.

١٥٦

الباب الخامس

في إثبات المعاد الجسمانيّ

الّذي نطق به الشرع

١٥٧
١٥٨

وهو ركن من أركان الإسلام ، وضروريّ في الدين المحمّديّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذا في سائر الملل والأديان ، بحيث يكون منكره كافرا كما هو معلوم لكلّ من تديّن بالإسلام ، كما أشرنا في صدر الرسالة إلى ذلك ، وفي إقامة الدليل العقليّ عليه ، كما نطق به الشّرع.

وحيث كان ما نطق به الشرع منحلّا إلى أمرين :

أحدهما : إنّ للإنسان معادا في دار الآخرة التي هي دار الجزاء.

الثاني : أنّ ذلك المعاد جسمانيّ ، ومعناه عود الروح مرّة أخرى إلى البدن الأوّل للثواب والعقاب. فلنتكلّم في بيان الأمرين جميعا.

الأمر الأوّل

أنّ للإنسان معادا في دار الآخرة

فنقول : أمّا الأمر الأوّل ، فهو كما أنّه ممّا نطق به الشرع وأخبر به الصادقون عليه‌السلام ويجب التصديق به ، وأنّه ممّا لا امتناع فيه عند العقل أيضا ، حيث إنّه أمر ممكن ، أخبر به الصادقون ، فيجب التصديق ، كذلك يؤيّده العقل ويدلّ عليه ، ولذلك صدّق به الحكماء الذين مدارهم في الأحكام على الدليل العقليّ ، إلّا أنّ بعضا منهم قصروا المعاد على الروحانيّ كما مرّ.

وذلك الدليل المؤيّد العقليّ كأن يقال : إنّا نعلم بالضرورة أنّ الله تعالى وعد المكلّف بالثواب على الطاعة ، وتوعّد بالعقاب على المعصية بعد الموت ، ولا يتصوّر الثواب

١٥٩

والعقاب بعد الموت إلّا بعد العود ، فيجب العود إيفاء للوعد والوعيد ، وعملا بمقتضى العدل ، وإن كان يجوز العفو عن مقتضى الوعيد بالنّسبة إلى بعض المكلّفين لأسباب حاصلة هناك. وبعبارة أخرى ، أنّا نعلم أنّ الله تعالى كلّف العباد بالأوامر والنّواهي ، فيجب أن يوصل إليهم الثواب بالطاعة والعقاب على المعصية ، فيجب البعث بمقتضى الحكمة ، وإلّا لكان ظالما ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

والقول بأنّ إيجاب هذه التكاليف وقع شكرا للنعم التي أنعم الله تعالى بها ، فلا يستحقّ المكلّف ثوابا كما قال به بعض المتكلّمين في غاية السقوط ، إذ إيجاب المشقّة في شكر المنعم قبيح عقلا ، مع أنّه لا يستقيم في العقاب أصلا.

ولا يخفى أنّ هذا الدليل الذي ذكرنا ، كما أنّه يستقيم على قاعدة المتكلّمين القائلين بالحسن والقبح العقليّين وإنّ العدل يجب على الله تعالى ، كذلك يستقيم على مذهب الحكماء القائلين بالعناية الأزليّة وبوجوب اشتمال أفعاله تعالى على حكم ومصالح تتبعها ، وبوجوب صدور الخير عنه تعالى ، وأمثال ذلك ممّا قالوا به.

نعم ، لا يستقيم ذلك على مذهب الأشاعرة الّذين خلعوا ربقة العقل عن أعناقهم ، ولا ضير فيه ، مع أنّهم أيضا ليسوا ممّن أنكروا المعاد ، بل صدّقوا به وقبلوه من جهة الشرع خاصّة.

١٦٠