منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٣

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-609-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٢٩٢

وأمّا ما ذكره من تقسيم تلك النفوس إلى النفوس الزكيّة ـ وفسّرها بما رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة التي تكون لأمثالهم الخ ـ وإلى النفوس الرديّة ـ وأراد بها ما يقابل النفوس الزكيّة ، أي التي لم يكن فيها ذلك النحو من الاعتقاد أو أعمّ منه ، ومن التي رسخت فيها هيئة رديّة بدنيّة كملكة الإفراط والتفريط ـ فليس بمناف لإرادته البله بالمعنى المذكور ، أي الخالية عن الكمال العلميّ وما يضادّه خاصّة ، لأنّ ذلك النحو من الاعتقاد الذي ذكره ليس كمالا علميّا للنفس حتّى ينافي الخلوّ من الكمال العلميّ ، لأنّ الكمال العلميّ كما تضمّنه كلام الشيخ سابقا إنّما هو الاعتقاد الجازم بالمعقولات من حيث إنّها معقولات ، بحيث تصير النفس عالما عقليّا مرتسما فيه صور الكلّ والنظام المعقول في الكلّ والخير الفائض في الكلّ ، ولا كذلك ذلك النحو من الاعتقاد ، فإنّه كما يدلّ عليه كلام ذلك البعض اعتقاد في العاقبة من جهة الأمور الجزئيّة التي من شأنها أن تكون محسوسة. وأيضا هو وإن كان اعتقادا في الجملة ، لكنّه ليس اعتقادا في مرتبة الاعتقاد بالمعقولات الصرفة ، بل هو اعتقاد شبيه بالتخيّل أو التوهّم.

وكذلك الأنفس الرديّة التي ذكرها وذكر بيان حالها ، ليس المراد بها ما ارتسم فيه الجهل بالكمالات العلميّة بسيطا أو مركّبا حتّى ينافي كونها خالية عن ضدّ الكمال العلميّ ، بل المراد بها إمّا ما ارتسم فيه ضدّ ذلك النحو من الاعتقاد ـ كما هو الظاهر من كلامه ـ أو هو مع كيفيّة رديّة بدنيّة ، وعلى التقديرين ، فالمرتسم فيها ليس ضدّا للكمال العلميّ.

وكذلك ليس بين كلامي الشيخ وذلك البعض منافاة في تقسيم النفوس البله إلى الأقسام ، وبيان حال تلك الاقسام ، فإنّ الشيخ قد بيّن أحوال تلك النفوس البله بحسب خلوّها عن الهيئات الرديّة البدنيّة ، وبحسب اشتمالها عليها ، بل بحسب اشتمالها على الهيئات الفاضلة أيضا ، ولم يتعرّض لبيان حالها بحسب اشتمالها على الاعتقادات الشبيهة بالتخيّل أو التوهّم في العاقبة من الأمور الجزئيّة المحسوسة ، وإنّ ذلك البعض قد تعرّض للثاني دون الأوّل ، ولا ضير في كلّ ذلك ، بل إنّ الشيخ ربّما لم يتعرّض للثاني إحالة على ظهوره ممّا نقله من ذلك البعض ، بل إنّه ربّما يدّعي أنّ ما ذكره ذلك البعض من الأحوال راجع إلى الاشتمال على الهيئات البدنيّة الفاضلة وعلى الهيئات الردية البدنيّة

١٠١

أيضا ، فإنّ رسوخ ذلك النحو من الاعتقاد الذي عرفت أنّه ليس بكمال علميّ للنفس ، وكذا رسوخ خلافه ، يرجع إلى رسوخ حالة بدنيّة رديّة أو فاضلة.

ومنه يظهر وجه آخر لعدم تعرّض الشيخ صريحا لذكر قسم ما اكتسبت النفس الحالة البدنيّة الفاضلة ، فإنّه لعلّه لم يتعرّض له لظهوره ممّا نقله عن ذلك البعض.

وحيث تحقّقت ما ذكرنا ، فلنرجع إلى تحرير ما ذكره الشيخ من أحوال النفوس البله.

فنقول : معناه : وأمّا النفوس البله التي لم تكتسب الشوق التي كمالها الخاصّ بها ، أي الكمال الحقيقيّ العلميّ ، فإنّها إذا فارقت البدن ، وكانت غير مكتسبة للهيئات الرديّة البدنيّة ، سواء اكتسبت مع ذلك هيئة فاضلة بدنيّة أم لا ، صارت إلى سعة من رحمة الله ونوع من الراحة.

أمّا إذا لم تكتسب هيئة رديّة ولا فاضلة مطلقا فلخلوّها عن أسباب التأذّي والخلاص عنها فوق الشقاء ، فإذن هي في سعة من رحمة الله تعالى ونوع من الراحة. وأمّا إذا اكتسبت مع ذلك هيئة فاضلة ، فظاهر.

وعلى التقديرين ولا سيّما التقدير الأخير ، يمكن أن يحمل ما ورد في الحديث من «أنّ أكثر أهل الجنّة البله» (١) وإن كانت مكتسبة للهيئات البدنيّة الرديّة ، وليس فيها هيئة غير ذلك من هيئة فاضلة ولا معنى يضادّها ولا أمر ينافيها ، فتكون تلك النفوس لا محالة ممنوّة بشوقها إلى مقتضى تلك الهيئات الرديّة لعدم حصول شيء فيها غير ذلك ، فتتعذّب عذابا شديدا بفقد البدن ومقتضياته ، من غير أن يحصل المشتاق إليه ، لأنّ آلة ذلك قد بطلت وخلق التعلّق قد بقي يعني أنّها حيث كانت ممنوّة بشوقها إلى مقتضى تلك الهيئة الرديّة البدنيّة ، والحال أنّ ذلك المقتضى إنّما كان يحصل بالبدن وبالآلات البدنيّة ، فتتعذّب عذابا شديدا بسبب اشتياقها إلى ذلك المقتضى ، مع كون الاشتياق حاصلا لها باقيا فيها ، وكون المشتاق إليه ، أي ذلك المقتضى غير حاصل لها ، بل فائتا عنها. أمّا كون الاشتياق باقيا ، فلأنّ خلق التعلّق بالبدن ، وهو تلك الهيئة الرديّة البدنيّة باق فيها. وأمّا كون ذلك

__________________

(١) بحار الأنوار ٥ / ١٢٨ ؛ ٦٧ / ٩.

١٠٢

المقتضى فائتا عنها ، فلأنّ آلة ذلك ـ وهي البدن ـ قد بطلت.

وبالجملة ، فسبب تعذّبها وتألّمها هو اشتياقها إلى شيء فائت عنها ، وهذا هو مفاد كلامه.

وأمّا أنّه هل ينقطع هذا العذاب عنها أم لا ينقطع ، فليس في كلامه هذا تعرّض لذلك ، ومقتضى ما ذكره آنفا من أنّ الهيئة الرديّة البدنيّة والأمر العارض الغريب لا تدوم ولا تبقى ، بل تزول وتبطل مع زوال الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة بتكرّرها ، هو انقطاع هذا العذاب ، حيث إنّ سببه أيضا إنّما هو الهيئات الرديّة والأمر العارض الغريب.

ثمّ إنّه مال بعد ذلك إلى مذهب بعض العلماء في النفوس البله وبيان حالها بعد المفارقة ، وكأنّه يريد بذلك البعض الفارابيّ ، كما مرّ بيانه فيما سلف.

وقال : «ويشبه أيضا أن يكون ما قاله بعض العلماء حقّا ، وهو أنّ تلك النفوس البله إذا فارقت البدن ، وكانت زكيّة بأن رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة وفي أمور الآخرة التي تكون لأمثالهم ، على مثل ما يمكن أن يخاطب به العامّة ، أي المخاطبة بالأمور الجزئيّة المحسوسة من الأمور الحقّة في الآخرة ، دون الأمور المعقولة التي ليس من شأنهم إدراكها ولا ينبغي مخاطبتهم بها واعتقدوا تلك الأمور الجزئيّة المحسوسة نحوا من الاعتقاد ، وإن كان شبيها بالتخيّل والتوهّم وتصوّر ذلك في أنفسهم ، فإنّ هؤلاء إذا فارقوا الأبدان والحال أن ليس لهم معنى جاذب إلى الجهة التي هي فوقهم ، لا كمال فيسعدوا تلك السعادة الحاصلة بإدراك ، ولا شوق كمال فيشقوا تلك الشقاوة الحاصلة بفقد ذلك الكمال ، حيث إنّ المفروض أنّه لم يكن لهم شوق إلى كمالهم الخاصّ بهم حتّى يكتسبوه أم لم يكتسبوه ، بل كانت جميع هيآتهم النفسانيّة متوجّهة نحو الأسفل ، منجذبة إلى الأجسام لكون نفوسهم خسيسة ، غير مكتسبة للشوق إلى الكمال ، والحال أنّ موضوع تخيّلهم بتلك الأمور الجزئيّة الأخرويّة التي يدركون الثواب على اعتقادهم بها وتخيّلهم لها ، وهو البدن ، وإن كان قد بطل ، إلّا أنّه لا منع في المواد السماويّة عن أن تكون موضوعة لفعل نفس فيها ، كالتخيّل والتصوّر ، وأن تكون تلك المواد تنوب عن أبدانهم في ذلك ، لكن بحيث لا يكون تعلّق نفوسهم بتلك المواد تعلّق التدبير والتصرّف ، كتعلّقهم بأبدانهم ، بل

١٠٣

مجرّد التعلّق لأجل حصول التخيّل ، من غير أن تكون هي متصرّفة فيها ، فهذه النفوس إذا فارقت الأبدان تتخيّل جميع ما كانت اعتقدته من الأحوال الأخرويّة ، ويكون الآلة التي يمكنها بها التخيّل لذلك شيئا من الأجرام السماويّة ، فتشاهد جميع ما قيل لها في الدنيا واعتقدته نحوا من الاعتقاد ، من أحوال القبر والبعث والخيرات الأخرويّة ، أي تشاهد جميع الأمور الجزئيّة الحسّيّة الأخرويّة والثواب عليها ، وتتصوّرها وتتخيّلها بالقوّة المتخيّلة التي آلتها ذلك الجرم السماويّ ، وكذلك تكون الأنفس الرديّة التي لم يرسخ فيها ذلك النحو من الاعتقاد في العاقبة تشاهد أيضا العقاب بحسب ذلك المصوّر لهم في الدنيا وتقاسيه.

وبهذا تمّ بيان حال النفوس البله كما ذكره الشيخ نفسه ، ونقله عن ذلك البعض الذي أراد به الفارابيّ وقد عرفت فيما سلف من مبحث إبطال التناسخ ما فيه من النظر ، فتذكّر.

وأمّا قوله : «فإنّ الصور الخياليّة ليست تضعف عن الحسّيّة الخ» بيان ، لأنّ تلك الصور الخياليّة كيف تكون سببا للثواب والعقاب ، ووجهه أنّ تلك الصور الخياليّة التي قلنا إنّ مشاهدتها سبب للثواب والعقاب ، ليست تضعف في الإلذاذ والإيلام عن الصور الحسّيّة ، بل تزداد عليها في ذلك تأثيرا وصفاء ، وقد تقدّم في الأصول المتقدّمة ما يدلّ على أنّ زيادة التأثير والصفاء توجب زيادة الإدراك للملذّ أو المؤلم ، فيزيد اللذّة أو الألم ، وهذا كما يشاهد في المنام ، فربّما كان المحلوم به من الصور الخياليّة الدنيويّة أعظم شأنا في بابه ، أي في الإلذاذ والإيلام من المحسوس ، على أنّ الصور الخياليّة الأخرويّة كما فيما نحن فيه أشدّ استقرارا من الموجودة المحلوم بها في المنام بحسب قلّة العوائق وتجرّد النفس وصفاء القابل ، فتكون الصور الخياليّة الأخرويّة في الإلذاذ والإيلام أقوى من الصور الحسّيّة بمرتبتين ، بل بمراتب.

وقوله : «وليست الصورة التي ترى في المنام الخ» بيان ، لأنّه لا يلزم أن تكون الصور الخياليّة التي إدراكها سبب للذّة أو الألم منتزعة من ملذّ موجود في الخارج ، أو مؤلم موجود في الخارج ، بل إنّ نفس تلك الصورة الخياليّة إذا حصل ارتسامها في النفس ، سواء كانت منتزعة من أمر في الخارج أو بمحض اختراع القوة الخياليّة تكون سببا لذلك. وبيانه

١٠٤

أنّه ليست الصورة التي ترى فى المنام من الصور الخياليّة ، بل ولا التي تحسّ في اليقظة منها ـ كما علمت في باب ذلك ـ إلّا المرتسمة في النفس وفي قواها ، إلّا أنّ إحداهما ، وهي التي ترى في المنام تبتدئ من باطن وتنحدر إلى النفس. والثانيّة وهي التي تحسّ في اليقظة ، تبتدئ من خارج وترتفع إليها ، وعلى التقديرين ، فإذا ارتسمت تلك الصورة في النفس بتوسّط ارتسامها في قواها فعلت فعلها هناك ، أي الادراك المشاهد. وإنّما يلذّ ويؤذي بالحقيقة هذا المرتسم في النفس لا الموجود في الخارج ، وكلّما ارتسم في النفس فعل فعله وإن لم يكن له سبب من خارج ، فإنّ السبب الذاتيّ لذلك هو هذا المرتسم ، والخارج سبب بالعرض أو سبب السبب ، فربّما كان وربّما لم يكن.

فهذه التي ذكرناها من الثواب والعقاب بحسب مشاهدة الصور الخياليّة في النفوس البله هي السعادة والشقاوة الحسّيّتان اللتان بالقياس إلى الأنفس الخسيسة المتوجّهة إلى الأسفل ، وأمّا الأنفس المقدّسة عن تلك الخسّة المتوجّهة نحو الجهة التي هي فوقها ، فإنّها تبعد عن مثل هذه الأحوال ، وتتّصل بكمالها بالذّات وتنغمس في اللذّة الحقيقيّة العقليّة وتتبرّأ عن النظر إلى ما خالفها من الأمور الخسيسة الحسيّة ، وإلى المملكة البدنيّة التي كانت لها كلّ التبرّؤ ، أي تبرّءا كاملا ، إذ لو كان قد بقى في تلك النفوس المقدّسة من النظر إلى ما خلفها أثر اعتقاديّ من جهة القوّة النظريّة ، أو خلقيّ من جهة القوّة العمليّة ، تأذّت بذلك الأثر ، لكونه منافيا لحقيقتها المقدّسة عن ذلك ، وتخلّفت لأجله عن درجة العليّين إلى أن ينفسخ شيئا فشيئا عنها ويزول ، وترقّت إلى درجة العليّين.

وهذا شرح كلامه هنا فيما نقله عن ذلك البعض عن العلماء ، سواء كان كلّه هو قول ذلك البعض أو بعضه ، وهو ما ذكره أوّلا.

وبالجملة ، فليس فيه أيضا تعرّض لأنّ السعادة والشقاوة الحسّيّتين بالقياس إلى النفوس البله ، هل تنقطعان أم لا؟ وقد ذكرنا آنفا أنّ مقتضى ما ذكره سابقا من زوال الهيئة الرديّة انقطاع شقاوتها. وقد ذكر في «الإشارات» كما نقلنا كلامه سابقا ما يشعر بزوال سعادتها الحسّيّة أيضا وتدرّجها إلى درجة العارفين آخر الأمر.

قال : «وأمّا البله فإنّهم إذا تنزّهوا خلصوا من البدن إلى سعادة تليق بهم ، ولعلّهم لا

١٠٥

يستغنون فيها عن معاونة جسم يكون موضوعا لتخيّلات لهم ، ولا يمتنع أن يكون ذلك جسما سماويّا أو ما يشبهه ، ولعلّ ذلك يفضي بهم آخر الأمر إلى الاستعداد للاتّصال المعدّ الذي للعارفين». انتهى.

وقد ذكرنا هنالك ما فيه من النظر ، فتذكّر.

ثمّ إنّك بعد ما أحطت خبرا بتفاصيل ما نقلنا عن الشيخ من الكلام في هذا الفصل وشرحناه ، وتبيّن لك مؤدّاه وتلخّص مغزاه ، فاعلم أنّ لنا فيه مضافا إلى النظرين اللذين أوردنا أحدهما على أوّل كلامه في هذا الفصل ، والآخر على آخر كلامه فيه ، نظرا آخر ، وهو أن يقال :

هب أنّ السعادة والشقاوة العقليّتين بحسب القوّة النظريّة والعمليّة حاصلتان للأنفس التي اكتسبت الشوق إلى كمالها الخاصّ بها كما فصّله الشيخ.

وهب أنّ ذلك أيضا ممّا نطق به الشرع وصدّقته أخبار النبوّة كما ادّعاه ، مثل ما ورد في شأن السعداء من قوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ). (١)

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هناك : «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». (٢)

وقوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). (٣)

وقوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ). (٤)

وقوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً). (٥)

وقوله تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦).

__________________

(١) السجدة (٣٢) : ١٧.

(٢) بحار الأنوار ٨ / ١٩١.

(٣) التوبة (٩) : ٧٢.

(٤) المائدة (٥) : ١١٩.

(٥) الفجر (٨٩) : ٢٧ ـ ٢٨.

(٦) يونس (١٠) : ١٠.

١٠٦

وقوله تعالى : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) (١).

وقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ* نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ). (٢)

وقوله تعالى : (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) (٣).

وقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ). (٤)

وأمثال ذلك الآيات والاخبار

أو حملناها على السعادة العقليّة ، أو على أعمّ منها ومن السعادة الحسّيّة.

ومثل ما ورد في شأن الاشقياء من قوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها). (٥)

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ). (٦)

وقوله تعالى : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). (٧)

وقوله تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى). (٨)

وقوله تعالى : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ). (٩)

وقوله تعالى : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ). (١٠)

__________________

(١) العنكبوت (٢٩) : ٥.

(٢) فصّلت (٤١) : ٣١ ـ ٣٢.

(٣) الأنبياء (٢١) : ١٠٢.

(٤) القيامة (٧٥) : ٢٢ ـ ٢٣.

(٥) الأنعام (٦) : ٣١.

(٦) الأعراف (٧) : ١٧٩.

(٧) النحل (١٦) : ١٠٦.

(٨) طه (٢٠) : ١٢٤.

(٩) النحل (١٦) : ٢٧.

(١٠) القلم (٦٨) : ٤٣.

١٠٧

وقوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ). (١)

وقوله تعالى : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ). (٢)

إلى غير ذلك من الآيات والأخبار ، لو حملناها على الشقاوة العقليّة أو على أعمّ منها ومن الحسّيّة.

وهب أن السعادة والشقاوة العقليّتين حيث كانتا ممّا يستقلّ في إثباتها العقل بالقياس البرهانيّ ، وكنّا مع ذلك ممّا لا نتصوّر هما حقّ التصوّر لكوننا منغمسين في البدن ورذائله ، لم يفصلهما الشرع تفصيله للسعادة والشقاوة الحسّيّتين ، بل وقعت في الشرع إشارات وإيماءات إليهما يفهمها من يفهمها ، إلّا أنّ فيما ذكره الشيخ إهمالا لما هو المقصود الأهمّ هنا ، وهو أنّه لم يتبيّن من كلامه أنّ النفس بعد مفارقتها عن البدن في إدراكها للسعادة وإصابتها للشقاوة العقليّة ، هل هي مجرّدة عن المادّة في فعلها كما هو مجرّدة عنها في ذاتها؟ أو هي متعلّقة بمادّة تتصرّف فيها تصرّف التدبير ، كتصرّفها في البدن؟ أو لا تتصرّف فيها ذلك التصرّف ، بل إنّما هي متعلّقة بها نوع تعلّق ، لتكون تلك المادّة موضوعة لإدراكاتها؟ مع أنّه على فرض التجرّد كيف تكون مجرّدة عن المادّة في أفعالها وإدراكاتها؟ والحال أنّها كانت بدنيّة لا إدراك لها أصلا إلّا في ضمن البدن ، وكيف تكون ذات واحدة تارة بدنيّة كما في النشأة الدنيويّة وتارة غير بدنيّة أصلا ، بل مجرّدة عن البدن وعمّا يشابهه مطلقا كما في ما بعد الموت إلى وقت البعث ، وتارة بدنيّة أيضا كما في حال البعث ، حيث إنّ الشيخ سلّم ذلك ، وقبل المعاد الجسمانيّ من الشرع؟ ولو قال بأنّ النفس إنّما كانت في النشأة الدنيويّة بدنيّة لأجل استكمالها في ضمنه ، فإذا حصل الاستكمال فلا احتياج لها إليه في أفعالها وإدراكاتها ، فيمكن أن تكون مجرّدة عن ذلك مطلقا.

قلنا : ذلك على تقدير تسليمه ، إنّما يسلّم في النفوس الفاضلة التي حصلت كمالاتها العلميّة والعمليّة بالفعل ، وأمّا في النفوس التي هي بخلاف ذلك ولم تحصّل كمالاتها ، بل حصلت ما ينافي كمالاتها ، فلا.

__________________

(١) القيامة (٧٥) : ٢٤ ـ ٢٥.

(٢) الهمزة (١٠٤) : ٦ ـ ٧.

١٠٨

وأيضا يرد النقض بتلك النفوس حين البعث ، فإنّها بدنيّة هنالك لا محالة كما نطق به الشرع واعترف به الشيخ ، فلو كان الاستكمال مغنيا لها عن البدن لكانت النفوس المحصّلة لكمالاتها غير بدنيّة هنالك أيضا ، هذا خلف.

وإنّه على فرض التعلق بالمادّة بعد المفارقة ، فلا شكّ أنّ تلك المادّة ليست هي البدن الأوّل الذي كانت متعلّقة به ، لكون المفروض مفارقتها عنه واضمحلاله وبطلانه ، فهي مادّة أخرى غير ذلك البدن الأوّل ، فلا يخلو حينئذ إمّا أن تكون متعلّقة بتلك المادّة الأخرى تعلّق التدبير والتصرّف ، فهذا تناسخ ، فقد ظهر بطلانه ؛ وإمّا أن تكون متعلّقة بها لا تعلّق التدبير والتصرّف ، بل نوع تعلّق لأن تكون موضوعة لإدراكاتها كما ذهبوا إليه في النفوس الساذجة ، من التعلّق بجرم سماويّ أو جرم دخانيّ ، أو نحو ذلك ، على ما عرفت من المذاهب المنقولة في ذلك ، فهذا أيضا باطل ، قد أشرنا إلى بطلانه فيما سبق.

وبالجملة ، ففيما ذكره إهمال لما هو الغرض المهمّ هنا.

فإن قلت : لا إهمال ، فإنّ الشيخ لعلّه لم يتعرّض لبيان ذلك صريحا ، إشعارا بأنّ السعادة والشقاوة العقليّتين لمّا كانتا حاصلتين للنفس بذاتها ، وكان إدراكها غير مفتقر إلى آلة بدنيّة ، فلا توقّف لبيان حال تلك السعادة وتلك الشقاوة على بيان كون النفس كائنة حينئذ في ضمن بدن ، مع أنّه حيث قبل المعاد الجسمانيّ من الشرع ، فقد أشعر بذلك البيان كما نطق به الشرع.

قلت : هب أنّ السعادة والشقاوة العقليّتين تحصلان للنفس بذاتها ، وأنّ إدراكهما لا يحتاج إلى آلة بدنيّة ، إلّا أنّا نقول : إنّ الإهمال الذي ادّعيناه من جهة أنّه لم يبيّن أنّ النفس في تلك الحالة التي يدرك فيها السعادة والشقاوة العقليّتين ، هل هي في ضمن بدن أم لا؟ وأنّ ذلك البدن ما ذا؟ مع أنّ السعداء الذين تحصل لهم بعد المفارقة السعادة العقليّة تحصل لهم السعادة الحسّيّة أيضا ، على ما دلّ الدليل النقليّ والعقليّ عليه ، وأنّ السعادة الحسّيّة الأخرويّة ليست من جنس السعادة الحسّيّة الدنيويّة في الخسّة حتّى يهمل بيانها ، بل أعظم منها بمراتب ، بل إنّ أكثر ما دلّ عليه الشرع من السعادة هو السعادة الحسّيّة كما يظهر على من تتبّع. وكذلك الأشقياء ، كما دلّ الدليل العقليّ والنقليّ على حصول الشقاوة

١٠٩

العقليّة لهم كذلك ، دلّا على حصول الشقاوة الحسّيّة لهم أيضا ، كما هو مدلول أكثر الآيات والأخبار ، وليس تلك الشقاوة من جنس الشقاوة الدنيويّة ، بل أشدّ منها بكثير ، والحال أنّ إدراك النفس للسعادة والشقاوة الحسّيّتين يحتاج إلى آلة بدنيّة البتّة ، ولذلك قال الشيخ في النفوس الساذجة بتعلّقها بجرم سماويّ ليكون ذلك موضوعا لتخيّلاتهم وإدراكهم لتلك السعادة والشقاوة الحسّيّتين ، فلم أهمل بيان ذلك وهو محتاج إلى البيان البتّة؟

ثمّ إنّ ما ذكرت : أنّ الشيخ حيث قبل المعاد الجسمانيّ من الشرع ، فقد أشعر بذاك البيان كما نطق به الشرع ، محلّ نظر ، لأنّه إنّما قبل المعاد الجسمانيّ من الشرع ، وظاهر ذلك أنّه قبل تعلّق النفس ببدن حين البعث كما نطق به الشرع لا من حين المفارقة إلى حين البعث أيضا ، أي في عالم البرزخ ، فإنّه لا إشعار لذلك القبول ببيان حال النفس في عالم البرزخ ، كما نطق به الشرع. وعلى تقدير التسليم فما نطق به الشرع في ذلك العالم إنّما هو التعلّق ببدن مثاليّ روحانيّ ، كما سنبيّن ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى ، لا التعلّق بغير ذلك من الأبدان ولا التجرّد عن الأبدان مطلقا.

والشيخ لو كان قائلا بذلك البدن المثاليّ ، لكان قائلا به في النفوس الساذجة التي هي على رأيه لا بدّ لها من جسم تتعلّق به في إدراكاتها ، ولم يقل بالبدن المثاليّ فيها ، مع أنّ القول به فيها لا مانع منه ، كما سيتّضح ذلك من بعد ، وأنّ ما قال به فيها واضح البطلان ، كما عرفت.

وحينئذ فهو مع إهماله لبيان ما هو الغرض المهمّ هنا ، يظهر منه أنّه غير قائل بما نطق به الشرع في بيان حال النفوس مطلقا في عالم البرزخ من حيث التعلّق ببدن مثاليّ ، ويلزم منه مخالفته للشرع مع ادّعائه أنّه مصدّق به ، كما يلزم مخالفة الشرع على الذين قالوا بالمعاد الروحانيّ ولم يقولوا بالجسمانيّ مطلقا ، من جهة بيان حال النفوس في عالم البرزخ وحين البعث جميعا ، وإن كانت مخالفته للشرع أقلّ من مخالفتهم له ، وكأنّ منشأ ذلك قلّة الاعتناء والمبالاة بالشرع الشريف ، أو الغفلة عنه مع ظهوره. نعوذ بالله تعالى من ذلك. وإن احتمل أن يكون لذلك وجه آخر لم نعلم.

وقد يحكى عن بعض علمائنا ما مضمونه أنّه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام ، فسأله

١١٠

عن حال ابن سينا فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ ابن سينا أراد أن يترقّى إلى الرفيع الأعلى بدون قائد إرشادي وهدايتي ، فضربته بيدي فأسقطته إلى الأسفل الأدنى ، فتردّى وهوى.

في بيان حال النفوس بعد المفارقة عن البدن ، أي في

عالم البرزخ كما نطق به الشرع

وحيث انتهى الكلام إلى هذا المقام ، وتمّ ما رمنا ذكره على سبيل المقدّمة ، فلنرجع إلى ما كنّا بصدده من بيان حال النفوس بعد المفارقة عن البدن ، كما قال تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). (١)

فنقول : روى حجّة الإسلام ورئيس المحدّثين أبو جعفر محمد بن عليّ بن بابويه القمّيّ قدّس الله تعالى روحه في كتاب «من لا يحضره الفقيه» عن الصادق عليه وعلى آبائه الطاهرين وأولاده المعصومين أكمل الصلوات وأفضل التسليمات والتحيّات : «إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجرة من الجنّة تتساءل وتتعارف ، فإذا قدمت الروح على الأرواح ، تقول : دعوها فقد أفلتت من هول عظيم ، ثمّ يسألونها ما فعل فلان؟ فإن قالت لهم تركته حيّا ارتجوه ، وإن قالت لهم : قد هلك ، قالوا : هوى هوى». (٢)

وروى شيخ الطائفة أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ نوّر الله تعالى ضريحه في كتاب «تهذيب الأحكام» بإسناده عن مروان بن مسلم عنه عليه‌السلام ، قال : قلت له : إنّ أخي ببغداد ، وأخاف أن يموت بها ، قال : ما تبالي حيثما مات ، أمّا إنّه لا يبقى مؤمن في شرق الأرض وغربها ، إلّا حشر الله تعالى روحه إلى وادي السلام. قال : قلت : جعلت فداك ، وأين وادي السلام؟ قال : ظهر الكوفة ، أمّا إنّي كأنّي بهم حلق حلق قعود يتحدّثون. (٣)

وعن يونس بن ظبيان ، قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام جالسا ، فقال : ما يقول الناس

__________________

(١) المؤمنون (٢٣) : ١٠٠.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٩٣ ، وفيه : ما فعل فلان؟ وما فعل فلان؟

(٣) تهذيب الأحكام ١ / ٤٦٦ (في أحكام الأموات) وفيه : ... أن يموت فيها ... لا يبقى أحد ... ولا في غربها ...

١١١

في أرواح المؤمنين؟ قلت : يقولون : تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش! فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : سبحان الله ، المؤمن أكرم على الله من ذلك ، أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر. يا يونس ، المؤمن إذا قبضه الله تعالى صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا. (١)

وعن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أرواح المؤمنين ، فقال : في الجنّة على صور أبدانهم ، لو رأيتهم لقلت فلان. (٢)

إلى غير ذلك من الأحاديث التي رواها علماؤنا ، وقد نقلنا جملة منها في صدر الرسالة.

وقد قال بعض العلماء المتبحّرين من المتأخّرين (٣) في شرحه على التهذيب : إنّ هذه الأخبار تدلّ على انتقال الأرواح إلى الأجساد المثالية ، وبه يستقيم كثير من الآيات والأخبار الواردة في أحوال الروح بعد مفارقة البدن ، وقد وردت به أخبار كثيرة ، ولا مانع عن القول به ، وليس هذا من التناسخ في شيء ، مع أنّ التناسخ لم يتمّ دليل عقليّ على امتناعه ، ولو تمّت لا يجري أكثرها فيما نحن فيه ، والعمدة في نفيه إجماع المسلمين وضرورة الدين ، ومعلوم أنّ هذا غير داخل فيما انعقد الإجماع والضرورة على نفيه ، كيف وقد قال به كثير من المسلمين ، كشيخنا المفيد قدّس الله روحه وغيره من علمائنا المتكلّمين المحدّثين ، بل لا يبعد القول بتعلّق الأرواح بالأجساد المثاليّة عند النوم أيضا ، كما يشهد به ما يرى في المنام ، وقد وقع في الأخبار تشبيه حالة البرزخ وما يجري فيها بحالة الرؤيا وما يشهد فيها.

قال الشيخ البهائيّ قدّس الله روحه : «قد يتوهّم أنّ القول بتعلّق الأرواح بعد مفارقة أبدانها العنصريّة بأشباح أخر ـ كما دلّت عليه الأحاديث ـ قول بالتناسخ ، وهذا توهّم

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ / ٤٦٦.

(٢) تهذيب الأحكام ١ / ٤٦٦ وفيه : ... لو رأيته لقلت : ...

(٣) هو المحدّث الجليل المولى محمّد باقر المجلسيّ (ره) منه.

١١٢

سخيف ، لأنّ التناسخ الذي أطبق المسلمون على بطلانه هو تعلّق الأرواح بعد خراب أجسادها بأجسام أخر في هذا العالم ، أمّا عنصريّة كما يزعم بعضهم ويقسّمه إلى النسخ والمسخ والفسخ والرسخ ، أو فلكيّة ابتداء ، أو بعد تردّدها في الأبدان العنصريّة ، على اختلاف آرائهم الواهية المفصّلة في محلّها. وأمّا القول بتعلّقها في عالم آخر بأبدان مثاليّة مدّة البرزخ إلى أن تقوم قيامتها الكبرى ، فتعود إلى أبدانها الأوّليّة بإذن مبدعها ، إمّا بجمع أجزائها المتشتّتة ، أو بإيجادها من كتم العدم ، فليس من التناسخ في شيء ، وإن سمّيته تناسخا فلا مشاحّة في التسمية إذا اختلف المسمّى. وليس إنكارنا على التناسخيّة حكمنا بتكفيرهم بمجرّد قولهم بانتقال الروح من بدن إلى آخر ، فإنّ المعاد الجسمانيّ كذلك عند كثير من أهل الإسلام ، بل بقولهم بقدم النفوس وتردّدها في أجسام هذا العالم ، وإنكارهم المعاد الجسمانيّ في النشأة الأخرويّة».

ثمّ قال قدس‌سره : «ما ورد في بعض أحاديث أصحابنا رضي الله عنهم ، من أنّ الأشباح التي تتعلّق بها النفوس ما دامت في عالم البرزخ ليست بأجسامهم ، وأنّهم يجلسون حلقا حلقا على صور أجسادهم العنصريّة يتحدّثون ويتنعّمون بالأكل والشرب ، وأنّهم ربّما يكونون في الهواء بين الأرض والسماء ، يتعارفون في الجوّ ويتلاقون ، وأمثال ذلك ، كما يدلّ على نفي الجسميّة وإثبات بعض لوازمها ، يعطي أنّ تلك الأشباح ليست في كثافة المادّيّات ولا في لطافة المجرّدات ، بل هي ذوات جهتين وواسطة بين العالمين ، وهذا يؤيّد ما قاله طائفة من أساطين الحكمة من أنّ في الوجود عالما مقداريّا غير العالم الحسّيّ ، هي واسطة بين عالم المجردات وعالم الماديّات ، ليس في تلك اللطافة ولا في هذه الكثافة ، فيه ما للأجسام والأعراض من الحركات والسكنات والأصوات والطّعوم والروائح وغيرها مثل قائمة بذواتها لا في مادّة ، وهو عالم عظيم الفسحة ، وسكّانه على طبقات متفاوتة في اللطافة والكثافة ، وقبح الصورة وحسنها ، ولأبدانهم المثاليّة جميع الحواسّ الظاهرة والباطنة ، فيتنعّمون ويتألّمون باللذّات والآلام النفسانيّة والجسمانيّة.

وقد نسب العلّامة في «شرح حكمة الإشراق» ، القول بوجود هذا العالم إلى الأنبياء والأولياء والمتألّهين من الحكماء ، وهو وإن لم يقم على وجوده شيء من البراهين العقليّة ،

١١٣

لكنّه قد تأيّد بالظواهر النقليّة ، وعرفه المتألّهون بمجاهداتهم الذوقيّة. انتهى». (١) انتهى كلامه.

أقول وبالله التوفيق : اعلم أنّ القول بانتقال الأرواح بعد الموت إلى الأبدان المثاليّة ، وكذا القول بوجود العالم المثاليّ المتوسّط بين العالم الحسّيّ والعقليّ هو قول كثير من العلماء الإسلاميّين المحدّثين وكثير من المتكلّمين ، ولا سيّما الصوفيّة منهم ، وكثير من أساطين الحكمة ، ولا سيّما الإشراقيّين منهم ، كما يظهر على من تصفّح كتب العلماء ، مضافا إلى ما ذكره شارح «حكمة الاشراق» أنّه قول الأنبياء والأولياء والمتألّهين من الحكماء. وكذلك بالقول بذلك يستقيم توجيه كثير من الآيات والأخبار الواردة في أحوال الروح بعد مفارقة البدن ، كما ذكره ذلك البعض من المتبحّرين أيضا ، ويظهر ذلك على من تدبّر في تلك الآيات والأخبار الواردة فيها.

مثل ما رواه الشيخ الصدوق في «الفقيه» عن الصادق عليه‌السلام : «اذا قبضت الروح فهي مظلّة فوق الجسد روح المؤمن وغيره ينظر إلى كل شيء يصنع به ، فإذا كفّن ووضع على السرير وحمل على أعناق الرجال عادت الروح إليه ودخلت فيه ، فيمدّ له في بصره فينظر إلى موضعه من الجنّة أو النار ، فينادي بأعلى صوته إن كان من أهل الجنّة : عجّلوني ، وإن كان من أهل النار : ردّوني ، وهو يعلم كلّ شيء يصنع به ويسمع الكلام». (٢)

ومثل ما رواه فيه عن إسحاق بن عمّار : «أنّه سأل أبا الحسن الأوّل صلوات الله عليه عن المؤمن يزور أهله؟ فقال : نعم. قال : في كم؟ فقال : على قدر فضائلهم ، منهم من يزور كلّ يوم ، ومنهم من يزور في كلّ يومين ، ومنهم من يزور في كلّ ثلاثة أيّام. قال : ثمّ رأيت في مجرى كلامه أنّه يقول : أدناهم جمعة ، فقال له : في أيّ ساعة؟ قال : عند زوال الشمس أو قبيل ذلك ، فيبعث الله معه ملكا يريه ما يسرّه ، ويستر عنه ما يكرهه ، فيرى سرورا

__________________

(١) الأربعين للشيخ البهائيّ / ١٩١ و ١٩٢ وفيه : ... لوازمها على ما هو منقول في الكافي وغيره عن أمير المؤمنين والأئمّة من أولادهم عليه‌السلام ...

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٩٣ ، وفيه : ... الجنّة أو من النار ... عجّلوني عجّلوني ... ردّوني ردّوني ...

١١٤

ويرجع إلى قرّة عين». (١)

ومثل ما رواه حفص بن البختريّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الكافر يزور أهله ، فيرى ما يكرهه ، ويستر عنه ما يحبّ». (٢)

وقد ذكر شارح الفقيه : أنّه روى في الموثّق عن أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام إنّ كلّ مؤمن وكافر مات يجيء عند الزوال لزيارة أهله ، فإن رأوا عملا صالحا من أهلهم شكروا الله عزوجل ، وإن رأوا عملا سيّئا تألّموا وتحسّروا حسرة عظيمة. (٣)

وروي أيضا عن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام ، في خبر كالصحيح «أنّه سئل عنه هل يجيء الميت لزيارة أهله؟ فقال : نعم. قال : في كم؟ قال : في كلّ أسبوع وشهر وسنة بمقدار منزلتهم ، قال : في أيّ صورة؟ قال : في صورة طائر لطيف يجلس على جدار بيته ، وينظر إلى أحوال أهله ، فإن كانت حالهم حسنة يسرّ ، وإن كانت سيّئة يغتمّ ويحزن» (٤).

وروي أيضا في حديث قويّ عن عبد الرحيم ، عنه عليه‌السلام : «أنّه سأله عن أنّ المؤمن هل يزور أهله؟ قال عليه‌السلام : نعم يرخصه الله تعالى ، ويرسل معه ملكين ، وهو على صورة طائر ، ويجلس على حائط بيته وينظر إلى أهله ويسمع كلامهم». (٥)

إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في حال الميت بعد مفارقة روحه عن جسده ؛ بل إنّه يستقيم بالقول بذلك توجيه القول بتجسيم الأعمال كما سيأتي بيانه ، وكذا يستقيم توجيه ما ورد من ظهور الملكين منكر ونكير على المؤمنين بصورة حسنة وعلى غيرهم بصورة مهيبة ، وكذا ظهور جبرئيل عليه‌السلام في صورة دحية الكلبيّ وأمثال ذلك ، سواء قيل بكون الملائكة أجساما نورانيّة لطيفة ، كما هو ظاهر الشرع ، أو ذواتا مجرّدة كما ذهب إليه بعض الحكماء ، وسيجيء زيادة بيان لذلك فيما بعد ، إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ١٨١.

(٢) نفس المصدر.

(٣) شرح الفقيه الفارسي ١ / ٣٤٦ الطبعة الحجريّة.

(٤) شرح الفقيه ١ / ٣٤٦.

(٥) نفس المصدر.

١١٥

وقد وردت بما يدلّ على هذا القول أخبار كثيرة غير ما ذكرنا هنا أيضا ، كما نقلنا في صدر الرسالة جملة من الأخبار في ذلك ، وكلّها متقاربة المضامين تدلّ على انتقال الأرواح إلى القالب المثاليّ ، فتذكّر.

ثمّ إنّ عمدة المستند في ذلك عند المتمسّكين بالأخبار ، هي تلك الأخبار الواردة في ذلك ، كما أنّ عمدة المستند فيه عند الحكماء الإشراقيّين والصوفيّة من المتكلّمين هي ما عرفوه بمجاهداتهم الذوقيّة.

من جملة الشواهد على وجود العالم المثاليّ ما يشاهد في النوم

وقد جعل بعض من القائلين بوجود هذا العالم المثاليّ وانتقال الروح إلى بدن مثالي بعد المفارقة عن البدن العنصريّ ، من جملة الشواهد على ذلك ما يشاهده النائم في نومه من الصور ، كما ورد في الأخبار من تشبيه حالة البرزخ وما يجري فيها بحالة الرؤيا وما يشاهد فيها ، وأنّ النوم أخو الموت.

وكان وجه هذه الشهادة ، أنّ الصورة التي يراه الانسان في منامه من صورة ذاته ، أو صورة غيره من الإنسان أو غيره إمّا أن تكون هي الصورة المحسوسة بحسّ البصر الظاهريّ المنتزعة من المحسوس العينيّ الموجود في الخارج ، فهذا باطل ، لأنّ البصر الظاهريّ معطّل في حالة النوم باتّفاق العلماء من الحكماء وغيرهم ، بل إنّ تعطّله معلوم بالضرورة ، فكيف يفعل فعلا؟ وأيضا فعلم بالضرورة أنّ تلك الصور ليست صورا محسوسة منتزعة من أعيان خارجيّة ، وإلّا لترتّب الآثار الخارجيّة المترتّبة عليها ، وليس كذلك.

وإمّا أن تكون هي صورا موجودة في الخيال أو في القوة المتخيّلة ، فهذا وإن كان ممّا قال به جمع من الحكماء ، ولا سيّما الطبيعيّين منهم ، لكنّه ممّا لا يكاد يتمّ ، لأنّه مبنيّ على تعطّل الحواس الظاهرة وعدم تعطّل الحواس الباطنة في المنام ، وهذا غير معلوم ، بل إنّ ما ذكروه في سبب تعطّل الحواس الظاهرة في المنام يجري في تعطّل الحواس الباطنة أيضا ،

١١٦

حيث إنّ سبب التعطّل سواء كان هو نوعا من قطع العلاقة مع البدن الذي يحصل للنفس حالة النوم ، حيث إنّها في تلك الحالة يصير علاقتها مع البدن قليلة ومنقطعة في الجملة ، أو كان استيلاء رطوبة على أعصاب الدماغ التي هي مبادئ الحواسّ كما قالوا ، أو أمر آخر غير ذلك ، فهذا السبب كما أنّه يجري في تعطّل الحواسّ الظاهرة يجري في تعطّل الباطنة منها أيضا. ولا دليل على اختصاصه بالظاهرة منها ، بل الظاهر جريانه في الباطنة وكونه سببا لتعطّلها أيضا. وأيضا إنّ الصور الخياليّة يجب أن تكون منتزعة من محسوس خارجيّ ، تبقى تلك الصورة في خزانة الخيال ، ونحن قد نرى في المنام صورة لم نر ذا صورتها قطّ ، وإنّ القوة المتخيّلة وإن كانت قد تخترع صورا ، لا تكون ذوات صورها موجودة ، ولم تجيء تلك الصور إليها من جهة الحواسّ الظاهر والخيال ، إلّا أنّ أكثر ما تخترعه هي الصورة الكاذبة التي لا حقيقة لها ، وإن كان يمكن نادرا أن تخترع بمحض تعمّلها صورة توافق ما في الخارج من بعض الوجوه ، وأندر منه الموافقة من كلّ الوجوه ، والحال إنّا كثيرا ما نرى في المنام رؤيا صادقة ، بل نرى صورة لم نر ذا صورتها قطّ ، ثمّ يتّفق أن نرى بعد ذلك ذا صورتها أيضا موافقا لما رأيناه في المنام من كلّ الوجوه ، ومستبعد جدّا أن تكون تلك الصورة من مخترعات المتخيّلة ، اتّفقت موافقتها من كلّ الوجوه ، وعلى هذا فمن قال بأنّها خيال منفصل ، إن أراد أنّها صورة مشابهة للصورة الخياليّة منفصلة عن المادّة الجسمانيّة فله وجه ، وإن أراد أنّها نفس الصورة الخياليّة المنفصلة عن المواد ، فعليه البيان ، بل فيه نظر لا يخفى.

وأمّا أن تكون الصورة المشاهدة في المنام صورة مرتسمة في جسم فلكيّ أو عنصريّ أو في النفوس المنطبعة الفلكيّة مثلا يشاهدها النفس فيه بسبب ارتباطها به نوعا من الارتباط مشاهدة عقليّة كأنّها مشاهدة حسّيّة ، فذلك أيضا ممّا لا يكاد يتمّ ، لأنّه حينئذ كان ينبغي أن تشاهدها النفس في ذلك المحلّ المنطبع هي فيه مشاهدة الحالّ في محلّه ، والحال في الصور المرئيّة في المنام بخلاف ذلك ، حيث إنّا نراها موجودة بوجود منفرد غير متعلّق بشيء آخر من جرم فلكيّ أو جسم عنصريّ أو نفس منطبعة فلكيّة.

وحيث بطلت تلك الاحتمالات فبقي أن تكون الصورة المرئيّة في المنام موجودة

١١٧

في عالم آخر هو عالم المثال ، كما تبيّن حاله.

وأمّا وجه كون الصورة المرئيّة فيه تارة موافقة لما في الخارج ، كما في الرؤيا الصادقة ، وتارة غير موافقة كما في الرؤيا الكاذبة ، فكأنّه لأجل أنّ النفس إذا كانت صافية من شوب كدورات الطبيعة ، فبصرها الذي لها في بدنها المثاليّ صحيحة ، فهي ترى بتلك العين الصحيحة الأشياء على ما هي عليها ، وإن لم تكن صافية عن ذلك ، فعينها التي لها في ذلك البدن عليلة ، وهي ترى بتلك العين العليلة الأشياء على خلاف ما هي عليه كما في العين الظاهريّة للأحول مثلا.

وهذا الذي ذكرنا هو إشارة إجماليّة إلى الرؤيا الصادقة والكاذبة ، ولتفصيلها مقام آخر يطول بذكره الباب. وبما ذكرنا يتمّ الشهادة ، وبه يظهر سرّ ما ورد من تشبيه حالة البرزخ بحالة الرؤيا وأنّ النوم أخو الموت ، وإن كان بين الحالتين فرق ما ، حيث إنّ مفارقة النفس عن البدن في الموت مفارقة تامّة وفي النوم مفارقة في الجملة ، وبهذا الاعتبار أيضا يكون هذا الشاهد شاهدا على المطلوب ، فتبصّر.

ثمّ إنّه ربّما عدّ بعض القائلين بهذا القول من الشواهد عليه ما يحكى من أنّ السفلة والأوباش إذا قتلوا إنسانا وأحرقوه في أتّون الحمّام ، فكثيرا ما يشاهد في سطح الماء الذي في خزينة ذلك الحمّام شبح مثل صورة إنسان ، ويرى ذلك فيه ما دام ذلك الماء ساكنا غير متحرّك ، وذلك قد جرّب كثيرا ، ولذلك كان ديدن الحمّاميّ وصاحب ذلك الحمّام أن يحتاط في ذلك ويلاحظ لكي يعلم أنّه في تلك الليلة هل أحرق في أتّون الحمّام إنسان أم لا؟ وما ذلك الشبح إلّا قالبا مثاليّا لذلك الشخص المحترق تعلّق نفسه به بعد مفارقتها عن قالبها العنصريّ. ونحن أيضا قد سمعنا ذلك في عصرنا وهو ـ على تقدير الوقوع ـ لا يخفى أنّه ممّا يمكن أن يكون شاهدا على المطلوب.

ثمّ إنّه ممّا يؤيّد هذا المطلوب ، ويكون شاهدا عليه ما نقل أنّه روى بعض الأعاظم من العلماء كالسيّد الداماد طاب ثراه في «الجذوات» : «أنّ مظهر العجائب ومظهر الغرائب سيّد الوصيّين عليّ بن أبي طالب عليه وعلى أولاده المعصومين أجمعين سلام الله تعالى إلى يوم الدين كان ليلة من ليالي شهر الله الأعظم شهر رمضان ضيفا لعدّة من الصحابة ، وأفطر

١١٨

في بيوتهم المتعدّدة ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ عليّا أفطر في بيته». (١)

فإنّ توجيه هذا الحديث ، إنّما يمكن على القول بعالم المثال ، وبوجود البدن المثاليّ ، حيث إنّ حضور عليّ عليه‌السلام ببدنه العنصريّ في بيوت عدّة من الصحابة مع كونه في بيته بذلك البدن ممتنع بالذات ، فإنّ جسم واحد بالشخص لا يمكن أن يكون في زمان واحد وفي آن واحد إلّا في مكان واحد لا أزيد ، وادّعاء أنّ ذلك لعلّه كان من معجزته وكرامته عليه‌السلام لا يكاد يصحّ ، فإنّ المعجزة والكرامة إنّما تمكن في شيء يكون ممكنا ذاتيّا ، ويكون ممتنعا عاديّا ، لا في الممتنع بالذات. كما أنّ ادّعاء أنّ ذلك لعلّه كان لأجل أنّ الله تعالى خلق ملائكة بصورة عليّ عليه‌السلام ، وأنّ أولئك الملائكة أفطروا في بيوت الصحابة وظنّ الصحابة أنّهم عليّ عليه‌السلام ، والحال أنّه عليه‌السلام نفسه أفطر في بيته غير مستقيم ، لأنّ المفروض في الحديث إفطار عليّ عليه‌السلام في بيوت الصحابة ، لا إفطار الملائكة.

نعم ، يصحّ توجيه ذلك على القول بالبدن المثاليّ ، فإنّه لا مانع من أن يكون لروحه الشريف المقدّس أبدان مثاليّة ، ويكون قد ظهر في ضمن كلّ بدن مثاليّ في بيت واحد من الصحابة ، وظهر ببدنه العنصريّ في بيته ، وعلى هذا فيكون في الحديث الشريف شهادة على المطلوب.

وفيه ـ مع الشهادة على ثبوت أصل عالم المثال ووجود البدن المثاليّ ـ شهادة على أمرين آخرين أيضا :

الأوّل إمكان تعلّق الروح في عالم اليقظة أيضا ببدن مثاليّ ، وأنّه لا يلزم أن يكون ذلك بعد المفارقة التامّة كما في حالة الموت ، أو المفارقة في الجملة كما في حالة النوم.

والثاني : جواز تعلّق روح واحد ، وخصوصا إذا كان مقدّسا شريفا بأكثر من بدن واحد مثاليّ.

ولا امتناع أيضا في كلّ منهما.

بل يشهد على الأوّل منهما أنّه روي عن الصادقين عليه‌السلام أنّهم قالوا في تفسير قولهم :

__________________

(١) الجذوات / ٤٨ الطبعة الحجريّة.

١١٩

«يا من أظهر الجميل وستر القبيح» : إنّ للمؤمن مثالا في العرش ، وإنّه إذا فعل فعلا جميلا ، فعله ذلك المثال أيضا في حضور الملائكة فيظهره الله تعالى عليهم ، وإذا فعل فعلا قبيحا لم يقم بذلك القبيح ذلك المثال فيستره الله تعالى عنهم. (١)

فإنّ الظاهر ، أنّ ذلك المثال هو القالب المثاليّ الذي تعلّق به روح المؤمن لا أمر آخر ، ولا ملك من الملائكة كان بصورة ذلك المؤمن ، وحيث كان ذلك قالبا مثاليّا ، كان فيه شهادة على جواز تعلّق الروح في حالة اليقظة وفي حال التعلّق التامّ بالبدن العنصريّ بذلك البدن المثاليّ ، ولا امتناع في ذلك ، حيث إنّ البدن المثاليّ ليس كالبدن العنصريّ حتّى لا يجوز تعلّق الروح الواحد في زمان واحد بأكثر من بدن واحد ، بل هو كالظلّ والشبح للبدن الأصليّ العنصريّ ، وموجود بالعرض بوجود البدن الأصليّ ، وتعلّق الروح به وبالبدن الأصليّ تعلّق واحد ، إلّا أنّه بالبدن الأصليّ بالذات ، وبالمثاليّ بالعرض ، فعلى هذا فلا امتناع في أن يتعلّق النفس الواحدة مع تعلّقها بالبدن الأصليّ بالبدن المثاليّ الواحد أو الأكثر من الواحد. وهذا بخلاف تعلّقها ببدنين عنصريّين أو أكثر ، حيث إنّ أحدهما منفصل الذات ومباين الحقيقة عن الآخر ، فإنّه لا يجوز تعلّق النفس الواحدة في زمان واحد بشيئين مبايني الذات تعلّق التدبير والتصرّف.

وكذلك يشهد على الثاني من الأمرين ما ذكره بعضهم من أنّ البدن المثاليّ كالشبح الذي يرى في المرآة ، بل إنّ ما يرى في المرآة فهو كوّة مفتوحة إلى عالم المثال ، وكما جاز انطباع صورة واحدة في مرايا متعدّدة متكثّرة في زمان واحد ، فلم لا يجوز تعلّق روح واحد وخصوصا إذا كان مقدّسا شريفا بقوالب مثاليّة متعدّدة في زمان واحد؟

وبما ذكرنا يمكن توجيه ظواهر ما دلّ على ظهور ملك الموت في زمان واحد في أمكنة متكثّرة لقبض الأرواح ، وإن كان يمكن أن يكون له وجه آخر لم نعلمه. والله ورسوله وأولو العلم أعلم به.

وكذا توجيه ما قيل أنّ إلياس عليه‌السلام هو إدريس النبيّ عليه‌السلام ، وهو عليه‌السلام مع كونه في السماء

__________________

(١) راجع بحار الأنوار ٥٤ / ٣٥٤ ومفتاح الفلاح ذيل دعاء «يا من أظهر الجميل» ، وشرح الأسماء للسبزواريّ / ٩١.

١٢٠