منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-341-1
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٥٦

ومذهب من يرى أنّ كلّ كرة ، كلّية كانت أم جزئيّة ، فلها في نفسها حياة مفردة ، ونفس على حدة وخصوصا ؛ ويرى جسما تاسعا ، ذلك الجسم واحد بالفعل لا كثرة فيه ، بل جسما ثامنا أيضا ليست الكواكب فيه بمنزلة الآلات ، فهذا المذهب صحيح كما بيّنّا وجهه. وعليه لا يكون الفلك آليّا ، وكلامنا أيضا في تحديد النفس بناء على هذا المذهب ، لكونه صحيحا في نفسه ، وحينئذ فلو قيّد الحدّ بكون الجسم آليّا ، وأخرجنا النفس الفلكيّة عنه ابتداءً لعدم كون الفلك آليّا. ومع ذلك لو قيّدناه بقولنا : «له أن يفعل أفعال الحياة» ، على التفسير الذي فسّرناه ، ليكون الإخراج أتمّ وأظهر ، فلا ضير فيه. وكذلك لو تركنا ذكر الآلة ولم نقيّد الجسم بكونه آليّا ، وأخرجناها بالقيد الأخير خاصّة ، أي بقولنا : «له أن يفعل أفعال الحياة» ، فلا ضير فيه أيضا ؛ لأنّ هؤلاء القائلين بهذا المذهب الأخير الصحيح ، بل القائلون بالمذهب الأوّل غير الصحيح أيضا ، يجب عندهم أن يروا ويعتقدوا أنّ النفس إذا وقع على النفس الفلكيّة وعلى النفس النباتيّة التي هي من جملة المحدود ، فإنّها تقع بمحض الاشتراك اللفظيّ ، من دون أن يكون هناك معنى مشترك بينهما ؛ لأنّ هذا الحدّ إنّما هو للنفس الموجودة للمركّبات ـ أي الأرضيّة ـ دون البسائط ـ أي الفلكيّة ـ وأنّه إذا احتيل في الحدّ حتّى يشترك الحيوانات والفلك في معنى اسم النفس ، خرج معنى النباتات ونفسها من تلك الجملة. على أنّ هذه الحيلة صعبة جدّا ، ربّما يتراءى من صعوبتها أنّ اشتراك الحيوان والفلك أيضا في وقوع اسم النفس عليهما ، إنّما هو بمجرّد اشتراك اللفظ.

وبيان صعوبة الحيلة في ذلك ، أنّ الحيوانات والفلك لا تشترك في معنى اسم الحياة التي أثبتناها للحيوانيّة بما هي حيوانيّة ، ولا في معنى اسم النطق الذي أثبتناها للحيوانيّة بما هى إنسانيّة ، لأنّ النطق الذي هاهنا أي في الإنسانيّة ، يقع على وجود نفس لها العقلان الهيولانيّان ، أي العقل بالملكة ، وليس هذا مما يصحّ هناك أي في الفلك ، على ما يرى أنّه مقتضى الدليل ومعتقدهم. فإنّ العقل هناك عقل بالفعل ، والعقل بالفعل ، وإن كان يمكن أن يوجد في الإنسان أيضا ، لكنّه غير مقوّم للنفس الكائنة جزء حدّ

٨١

للناطق الذي يطلق على الإنسان ، كما أنّه مقوّم للنفس الفلكيّة ، إذ لو كان مقوّم لها ، لكان الإنسان الذي يخلو عن العقل بالفعل ـ كما هو الأكثر ـ غير ناطق ، وغير ما هو ثابت له النفس الإنسانيّة ، وأن لا يكون إنسانا ولا ناطقا ، هذا خلف.

بل المقوّم له العقلان الهيولانيّان اللذان لا يخلو إنسان عنهما ، بل العقل الهيولانيّ وحده ؛ إذ الانسان ربما يخلو عن العقل بالملكة أيضا ، ومع هذا فهو إنسان وناطق. وكذلك الحسّ من جملة أفعال الحياة هنا ، أي في الحيوان يقع على القوّة التي بها يدرك المحسوسات على سبيل قبول أمثلتها والانفعال عنها ، وليس هذا أيضا يصحّ هناك ، أي في الفلك على ما يرى أنّه مقتضى الدليل ومعتقدهم.

وبذلك ظهر أن ليس هنا معنى مشترك يشترك فيه الفلك والحيوان مطلقا ، كما أنّه ليس هنا معنى مشترك يشترك فيه الفلك والنبات.

ثمّ إن اجتهد مجتهد ، فجعل النفس كمالا أوّلا لما هو متحرّك بالإرادة ومدرك من الأجسام ، حتّى يدخل فيه الحيوانات مطلقا والفلك ، خرج النباتات من هذه الجملة ، لأنّه ليس لها ذلك المعنى.

فظهر من ذلك أن ليس هنا معنى مشترك بين النفس الأرضيّة المتناولة لجميع أنواعها وبين النفس الفلكيّة ، وأنّه حيث كان ذلك الحدّ حدّا للأرضيّة ، فينبغي إخراج الفلكيّة عنه.

وهذا الذي ذكرنا هو القول المحصّل في ذلك. ومنه يظهر الجواب عن التشكّك بالوجه الأوّل من الطرق الثلاثة الاول ، بالتزام خروج النفس الفلكيّة عن الحدّ ، وأنّها مما ينبغي خروجها عنه لعدم معنى مشترك هنا ، وأنّ خروجها عن الحدّ بقولهم فيه : «له أن يفعل أفعال الحياة» إنّما هو باعتبار المعنى الذي اريد بأفعال الحياة كما ذكر ، لا باعتبار إسناد الفعل إليه بطريق الإمكان ، كما توهّمه بعض ، فإنّ ذلك جار في الفلك أيضا ، على ما فسّرنا العبارة فيظهر منه أنّه أيضا في جواب التشكّك ، حمل العبارة على ما حملنا عليه ، كما أنّ المتشكّك أيضا حملها عليه.

٨٢

نكته

وحيث عرفت ذلك ، فاعلم أنّ هذا الجواب كأنّه لا يفي بحلّ هذا التشكّك من الطريق الرابع ، ولا يظهر منه أنّ الجواب عنه ما ذا؟

وأقول : لعلّ الجواب عنه التزام كون التغذّي ونحوه من أفعال النبات حياة ، أو من جملة أفعال الحياة ، وأمّا أنّهم لا يسمّون النبات حيوانا ، فلعلّ وجهه أنّ مناط التسمية بالحيوان ، إمّا إمكان صدور جميع أفعال الحياة عنه كما في الإنسان ، أو إمكان صدور أكثرها أو معظمها عنه كما في الحيوان غير الإنسان ، وإمّا إمكان صدور بعض منها قليل كما في النبات ؛ فلعلّه لم يكن منشأ التسمية بالحيوان.

فان قلت : ما ذكرت من أنّ اشتراك اسم النفس بين الفلك والنبات ، بل بين الفلك والحيوان اشتراك لفظيّ ، وأن ليس هنا معنى مشترك ، إنّما هو مبنيّ على ما حدّدت به النفس ، كما ذكرت ؛ فلعلّها إذا حدّت بوجه آخر ، كان هناك معنى مشترك. فمن أين يحصل الجزم بعدم وجود معنى مشترك هنا كما ادّعيت؟

قلت : من البيّن أنّه لا يكون لحقيقة واحدة حدّان مختلفان ، فإنّ الحدّ عين المحدود ، وإن كان التفاوت بينهما بالإجمال والتفصيل. وكما أنّه لا يمكن أن يكون حقيقة واحدة حقيقتين مختلفتين ، كذلك لا يمكن أن يكون لحقيقة واحدة حدّان مختلفان. ومن البيّن أيضا أنّ ما ذكره الشيخ بقوله (١) : «كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ له أن يفعل أفعال الحياة». تعريفا للنفس من حيث هي نفس ، حدّ لها من هذه الجهة ، كما عرفت بيانه ، فلا يكون غير ذلك حدّا لها ، بل إنّما يكون ذلك لو كان هنا تعريف آخر غير ذلك ، رسما لها أو تعبيرا عنها او تعيينا للمسمّى بها بوجه إيجابيّ أو سلبيّ ، من غير أن يكون حدّا لها.

ووجود معنى مشترك في هذه التعبيرات والرسوم ، كما في قول الشيخ فيما تقدّم (٢) :

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ١٠ ، الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

(٢) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٥ ، الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

٨٣

«إنّ (٢) كل ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة» ، على ما فسّرناه ولخّصنا معناه ، وهو أتمّ التعبيرات عنها وأحسنها ، لا يزيل الاشتراك اللفظيّ ؛ إذ المقصود حصول ذلك الاشتراك بحسب ما هو حدّ للنفس ، وتلك الرسوم والتعبيرات ليست بحدّ.

على أنّ بعض تلك الرسوم والتعبيرات ، وإن كان يشمل الفلكيّة أيضا ، لكنّه مخلّ من وجه آخر. كما إذا قيل : إنّها مبدأ لصدور فعل ما ، إذ يدخل فيه صور البسائط والعنصريّات ، وبعضها مما هو مخلّ من وجه آخر. كما إذا قيل : إنّها مبدأ لصدور فعل مع الإرادة ، إذ يخرج عنه حينئذ النفس النباتيّة ، وبعضها مما لا يشمل الفلكيّة على المذهب الصحيح ، كما إذا قيل : إنّها مبدأ لصدور أفعال مختلفة مع الإرادة ، إذ ليست أفعال الفلكيّة على المذهب الصحيح ـ من أنّ لكلّ فلك نفسا مفردة نهج مختلفة ، بل هي على نهج واحد على ما قالوا. وهذا أيضا يؤيّد الاشتراك اللفظيّ ، وأمّا على المذهب غير الصحيح من أنّ النفس إنّما هي متعلّقة بالفلك الكلّيّ ، وأنّ الأفلاك الجزئيّة المختلفة في الحركات بمنزلة الآلات لها ، فأفعال الفلكيّة وإن كانت مختلفة ، وكذا هذا التعريف وإن كان مشتملا على معنى مشترك بين الفلكيّة والأرضيّة ، لكنّه حيث كان رسما ، فلا يزيل ذلك كون اسم النفس واقعا عليهما باشتراك اللفظ ، بحسب ما هو حدّ للنفس ، كما عرفت.

كلام مع المحقّق الطوسيّ وغيره

وحيث تحقّقت ما ذكرناه ، فاعلم أنّ ما ذكره بعضهم ـ كالمحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات والتجريد ـ وتبعه فيه كثير من القوم في تحديد النفس من حيث هي نفس ، من أنّها كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالقوّة (١) : حيث غيّروا قول الشيخ في الحدّ : «له أن يفعل أفعال الحياة» ، بقولهم : «ذي حياة بالقوّة».

__________________

(٢) في المصدر : وبالجملة كلّ ما يمكن.

(١) شرح التجريد / ٢١٩ ، للقوشجي ، طبع تبريز.

٨٤

إن كان مرادهم به ما دلّ عليه عبارة الشيخ كما بيّنّا معناها ، فلا كلام معهم في كون هذا حدّا للنفس مطابقا لما ذكره الشيخ ، إلّا أنّ تطبيق ما ذكروه على ما ذكره يحتاج إلى تكلّف بالغ ؛ لأنّه حينئذ يكون معنى قولهم هذا ، أنّ النفس كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ ذي حياة بالفعل ، يكون صدور أفعال الحياة عنه بالقوّة ، أي ممكنا ، كما ذكرنا في معنى قول الشيخ.

وإن كان مرادهم به ما يتبادر من ظاهر قولهم هذا ، أنّ النفس كمال أوّل لجسم طبيعي آليّ ذي حياة ، يكون حياته بالقوّة بالفعل ؛ فهذا ليس بصحيح في نفسه ، لأنّه يخرج عنه جميع ما قصدوا تحديده ، أي النفس الأرضيّة بجميع أنواعها. لأنّ حياة الجميع إنّما هي بالفعل لا بالقوّة ، سواء اريد بالحياة عين النفس بناء على تسمية النفس بالحياة ـ كما وقع في عبارة بعضهم ، وادّعاه المتشكّك في التشكّك بالوجه الثاني ـ او اريد بها كون الشيء موجودا فيه مبدأ يصدر عنه أفعال الحياة ، أو اريد بها كون الشيء بحيث يصحّ صدور تلك الأفعال عنه ، كما سيأتي تفسيرها في كلام الشيخ. فإنّ جميع ذلك حاصل للجسم ذي النفس بالفعل لا بالقوّة ، وأمّا إذا اريد بالحياة تلك الأفعال أنفسها ـ كما وقع في كلام المتشكّك بالوجه الأوّل ـ فتلك الأفعال ، وإن كانت تارة بالفعل وتارة بالقوّة ، لكنّها ليس يلزم كونها بالقوّة البتّة ، كما يدلّ عليه ظاهر تلك العبارة.

وإن كان مرادهم به ما فهمه بعضهم منه ، كالشارح القوشجي في شرح التجريد ، حيث ذكر : «إنّ المراد به ما يمكن أن يصدر عنه ما يصدر عن الأحياء ولا يكون ذلك الصدور دائما ، بل قد يكون بالقوّة (١)» وادّعى أنّه بهذا القيد يخرج النفس الفلكيّة على المذهب غير الصحيح ، أي على رأي من يجعل الفلك آليّا ، لأنّ ما يصدر عنها يكون دائما ، لا كأفاعيل النفس الأرضيّة ، حيث قد تكون بالقوّة ، كما أنّه يخرج بقيد كون الجسم آليّا النفس الفلكيّة على المذهب الصحيح ، أي على تقدير عدم كون الفلك آليّا.

فهذا المعنى الذي فهمه بعيد عن تلك العبارة بمراحل ، لا يستقيم حملها عليه عند من له أدنى معرفة بأساليب الكلام.

__________________

(١) شرح التجريد / ٢٢٠ ، للقوشجي.

٨٥

فيظهر مما ذكرنا ، أنّ تغيير عبارة الشيخ بما ذكره هؤلاء تغيير مخلّ ، وأنّ فهم المعنى المقصود منه لا يخلو عن سماجة وركاكة ، وأنّ الأحسن ما ذكره الشيخ ، وأن إخراج النفس الفلكيّة بما ذكره من القيد إنّما هو من جهة تفسير أفعال الحياة بما فسّر ، كما دلّ عليه عبارته. وادّعاه هو نفسه ، وقبله منه المتشكّك : لا يكون تلك الأفعال بالإمكان أو بالقوّة ، فاعرف ذلك.

وحيث عرفت ذلك ، وعرفت أنّ الحدّ الجامع المانع للنفس الأرضيّة المتناولة للنباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة هو ما ذكر ، تحصّل لك أنّه :

إن أريد تحديد النفس الأرضيّة النباتيّة على حدة ، ينبغي أن يقال : إنّها كمال أوّل لجسم طبيعيّ آليّ له أن يفعل بعض أفعال الحياة ، أي التغذية والتنمية والتوليد فقط.

وإن أريد تحديد الحيوانيّة على حدة ، ينبغي أن يقال بعد قولهم : «آليّ» : له أن يفعل أكثر أفعال الحياة ، أي أن يفعل ـ مضافا إلى أفعال النباتيّة ـ الحسّ والحركة الإراديّة فقط من جملة أفعال الحياة.

وإن أريد تحديد الإنسانيّة على حدة ، ينبغي أن يقال بعد قولهم : «آليّ» : له أن يفعل أفعال الحياة كلّها ، أي أن يفعل ـ مضافا إلى أفعال النباتية والحيوانيّة ـ النطق والتعقّل الكلّيّ.

وإن اريد تحديد الفلكيّة ، ينبغي أن يقال : إنّها كمال أوّل لجسم طبيعيّ له أن يفعل الإدراك والحركة الدائميّين اللذين يتبعان تعقّلا كلّيّا حاصلا بالفعل.

وهذا إذا اريد تحديدها على المذهب الصحيح. وإن اريد تحديدها على المذهب غير الصحيح ، ينبغي أن يزاد قولنا : «آليّ» بعد قولنا : «لجسم طبيعيّ» في هذا الحدّ.

وهذا كلّه ظاهر ، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

وقوله (١) : «وأمّا أمر الحياة والنفس ، فمثل (٢) الشكّ في ذلك على ما نقول : إنّه قد صحّ أنّ

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ١٢ ، الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

(٢) في المصدر : فحلّ الشك.

٨٦

الأجسام يجب أن يكون فيها مبدأ الأحوال المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل» ـ الى آخر ما ذكره.

هذا جواب عن التشكّك من الوجه الثاني ، وحاصله ؛ أنّ المفهوم عند الجمهور من لفظة الحياة المقولة على الحيوان ليس معنى النفس ، نعم لو اصطلح أحد وسمّى مسمّى النفس بحياة ، فلا مناقشة معه ، وتحرير كلامه بحيث يتضمّن شرح نبذ من الدقائق التي يمكن أن تنفهم منه ، بأن يقال : وأمّا أمر الحياة والنفس والشكّ في ذلك بتجويز اتّحادهما ، فمثل الشكّ في ذلك ، أي حاله ، وكذا حال حلّه مبنيّ على الوجه الذي نقول : إنّه قد صحّ أنّ الأجسام يجب أن يكون فيها مبدأ الأحوال المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل ، يعني أنّ هاهنا مقدّمة حقّة بيّنة ممّا تقدّم ، هي أنّ الأجسام التي أثبتنا النفس لها ، أي النبات والحيوان والإنسان ، يجب أن يكون فيها مبدأ الأحوال المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل ، أي يجب أن يكون فيها نفس هي كمال أوّل لها ومبدأ لتلك الأفعال التي قلنا إنّها أفعال الحياة ونسبناها إلى الحياة على سبيل الإضافة إليها ، فالمتشكّك كأنّه بنى تشكّكه على أحد أمرين ينشئان من هذه المقدّمة :

الأوّل أنّه حيث رأى أنّه يضاف تلك الأفعال إلى الحياة ، ورأى أنّ كون النفس مبدأ لتلك الأفعال يستلزم إضافتها إلى النفس أيضا ـ أي القول بأنّها أفعال النفس وإضافتها إليها ـ رأى أنّ إضافتها إلى الحياة ينبغي أن تكون بالمعنى الذي هو المراد في إضافتها إلى النفس ، وحيث كانت إضافتها إلى النفس إضافة ظاهرة في المغايرة بين المضاف والمضاف إليه ، أي اللاميّة ، وفي كون المضاف إليه ـ أي النفس ـ مبدأ وسببا للمضاف ، أي تلك الأفعال ، وكون تلك الأفعال مستندة إلى النفس مسبّبة عنها ، إذ ليست تلك الأفعال عين النفس ، بل غيرها مستندة إليها.

فكذلك ينبغي أن تكون إضافتها إلى الحياة بهذا المعنى ، وإذا كانت بهذا المعنى ، فيكون النفس والحياة واحدة بالحقيقة ، عبّر عنها تارة بالكمال الأوّل ، وتارة بالنفس ، وتارة بالحياة ؛ حيث فرضت كلّ واحدة منهما مبدأ لتلك الأفعال بمعنى واحد ، والحال أنّه

٨٧

لا يكون لأمر واحد مبدءان بمعنى واحد مختلفان بالحقيقة.

والأمر الثاني ، أنّه حيث رأى انتساب تلك الأفعال إلى الحياة تارة ، وإلى النفس أخرى ، ورأى أنّ كلّ ذي نفس فهو ذو حياة ، وبالعكس ، رأى من ذلك اتّحاد النفس والحياة. فهذا هو بيان تشكّك المتشكّك في ذلك.

وأمّا بيان حلّه على الإجمال ، فهو أن يقال : إنّ ما ذكرته إنّما يصحّ إذا كان معنى النفس ومعنى الحياة واحدا ، وأمّا إذا لم يكن واحدا فلا ، يعني أنّ العمدة في الحكم باتّحاد النفس والحياة هو وحدة معنييهما ، إذ مع اختلاف معنييهما ـ كما هو الحقّ عند الجمهور ـ لا يصحّ الحكم بذلك أصلا ، وهذا ظاهر.

وأمّا جعل الإضافة ونسبة الأفعال تارة إلى النّفس ، وتارة إلى الحياة ، منشأ للاتّحاد ، فلا وجه له أيضا أصلا ، لأنّه يمكن أن يكون الإضافة إلى الحياة بيانيّة ، كما يظهر من المتشكّك نفسه في التشكّك الأوّل ، وإلى النفس لاميّة ، كما ادّعاه هنا. وعلى تقدير كون الإضافة في كليهما لاميّة ، فيمكن أن يكون الإضافة إلى النفس لاميّة ، بمعنى استناد تلك الأفعال إليها وكونها مبدأ لها ، وإلى الحياة بمعنى غير ذلك من نوع ملابسة يصحّ معها الإضافة اللاميّة ، كما سنشير إليه.

وعلى تقدير أن تكون في كلّ منهما بمعنى المبدئيّة ، فحينئذ إن اريد بها المبدئيّة التامّة ، فيمكن أن تكون في إحداهما بمعنى المبدئيّة القريبة ، وفى الاخرى بمعنى المبدئيّة البعيدة. وإن اريد بها المبدئيّة الناقصة ، فيمكن أن تكونا في مرتبة واحدة.

وعلى كلّ تقدير ، فلا يمكن الاستدلال بإضافة شيء إلى شيئين على اتّحاد ذينك الشيئين ، كما يتراءى من المتشكّك. كما أنّه لا يمكن بكون النفس حاصلة لكلّ ما له الحياة حاصلة ، الحكم بكونها متّحدتين كما يتراءى ذلك منه أيضا. إذ يمكن أن يكون لشيء واحد شيئان : أحدهما غير الآخر ، بل العمدة في الحكم باتّحاد النفس والحياة ، اتّحادهما في الواقع ، وهو ممنوع هنا ، بل الواقع خلافه.

وأمّا بيان الحلّ على التفصيل ، أنّه إن اصطلح أحد ، وسمّى مسمّ مبدأ الأحوال

٨٨

المعلومة ومصدر الأفعال المنسوبة إلى الحياة ، حياة ؛ لم يكن معه ـ حيث لا مناقشة في الاصطلاح ـ مناقشة في هذه التسمية ، وفى كون إضافة تلك الأفعال إلى النفس وإلى الحياة بمعنى واحد ، هو كون تلك الأفعال مستندة إلى الشّيء الذي يسمّى تارة نفسا ، واخرى حياة ، وكونه مبدأ لها ، وفي أنّ كون ذي نفس ذا حياة وبالعكس ؛ يستلزم اتّحادهما حينئذ.

وأمّا المفهوم عند الجمهور من لفظة الحياة المقولة على الحيوان ، فهو أمران غير معنى النفس : أحدهما كون الشّيء ـ أي الجسم ـ موجودا فيه مبدأ ـ أي نفس ـ يصدر عنه تلك الأحوال والأفعال المعلومة ، أو كون الشّيء ـ أي الجسم ـ بحيث يصحّ صدور تلك الأحوال والأفعال عنه.

فأمّا المعنى الأول من المعنيين ، فمعلوم أنّه ليس معنى النفس بوجه من الوجوه ، إذ كون الشّيء موجودا فيه النفس لا يكون عين النفس ، بل يكون حينئذ النفس أمرا آخر غير ذلك الكون ، وغير ذلك الشّيء الكائن الذي قد فرض موجودا فيه النفس.

وأمّا المعنى الثاني ، فيدلّ على معنى أيضا غير معنى النفس ، وذلك لأنّ كون الشيء بحيث يصحّ أن يصدر عنه شيء أو يوصف بصفة ، لكون الجسم هنا بحيث يصدر عنه تلك الأحوال ، أو يوصف بأنّه مبدأ لتلك الأحوال يكون على وجهين :

أحدهما أن يكون في الوجود ـ أي الموجود ـ هناك شيئا آخر أيضا غير ذلك الكون نفسه ، وغير ذلك الكائن على تلك الحيثيّة ، يصدر عن ذلك الكائن على تلك الحيثيّة بانضمام ذلك الشيء الآخر ، الذي هو كمال للشيء الأوّل ، ما يصدر عنه من تلك الأفعال والأحوال.

وهذا مثل كون السفينة بحيث يصدر عنها منافع السفينة ، فإنّ ذلك ممّا يحتاج إلى الربّان الذي هو كمال السفينة ، وإلى انضمامه إليها ؛ حتّى يحصل ويتمّ هذا الكون. ولا يخفى أنّ هذا الربّان وهذا الكون ليسا شيئا واحدا بالموضوع والذات ، وكذا ليس الربّان وهذا الكائن بهذا الكون شيئا واحدا بالموضوع ، بل إنّ الربّان مغاير بالموضوع والحقيقة

٨٩

لذلك الكون ، وكذا لذلك الكائن.

ولا يخفى أيضا أنّ ما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ كون الجسم بحيث يصحّ أن يصدر عنه تلك الأحوال المعلومة ممّا يحتاج إلى أمر آخر هو الكمال له ، ويتمّ به هذا الكون ، وهو الذي سمّيناه نفسا ، كما تقدّم بيان ذلك كلّه. وظاهر أنّه مغاير بالموضوع لذلك الكون الذي قلنا إنّه حياة ، وكذا للجسم الكائن بهذا الكون ، فيكون معنى الحياة على هذا الوجه أيضا غير معنى النفس البتّة.

والوجه الثاني من الوجهين ، أن لا يكون هنا شيء غير هذا الكون وغير هذا الكائن في الموضوع والحقيقة ، مثل كون الجسم بحيث يصدر عنه الإحراق عند من يجعل نفس هذا الكون الحرارة ، حتّى يكون وجود الحرارة في الجسم هو وجود هذا الكون. وكذلك وجود النفس للجسم هو وجود هذا الكون له على ظاهر الأمر ، لو كان من هذا القبيل. إلّا أنّ ذلك لا يستقيم في النفس ، لأنّك قد عرفت فيما تقدّم ، أنّ ذلك في النفس إنّما يستقيم على الوجه الأوّل دون هذا الوجه. حيث عرفت أنّ كون الجسم بحيث يصدر عنه تلك الأفعال المعلومة يحتاج إلى انضمام أمر آخر هو غير ذلك الكون ـ أي النفس ـ حتّى يتمّ به هذا الكون ، فليس المفهوم من هذا الكون ومن النفس شيئا واحدا ، وكيف لا يكون كذلك ، والحال أنّ المفهوم من هذا الكون الموصوف لا يمنع أن يسبقه بالذات كمال ومبدأ تمّ للجسم هذا الكون ، والمفهوم من الكمال الأوّل الذي رسمناه وحدّدنا به النفس يمنع أن يسبقه بالذات كمال آخر ، لأنّ الكمال الأوّل ـ حيث فرض أوّل ـ ليس له مبدأ وكمال أوّل.

وأيضا المفهوم من الحياة بالمعنى الأوّل أو المعنى الثاني ، بالوجه الأوّل أو الثاني ، أمر إضافيّ عرض في موضوع والنفس ـ كما سيأتي بيان حقيقتها ـ جوهر لا في موضوع ، وأحدهما غير الآخر البتّة. وإنّما يتعرّض الشيخ لهذا الوجه ، لأنّه لم يبيّن بعد جوهريّتها. وكيف ما كان ، فليس إذن المفهوم من الحياة والنفس أمرا واحدا بالذات ، إذا عنينا بالحياة ما يفهمه الجمهور ، وهو معناها عندهم كما عرفت. نعم لو عنينا بالحياة أن تكون لفظة مرادفة للنفس في الدلالة على الكمال الأوّل ، واصطلاحنا على ذلك ، لم يناقش فيه ؛

٩٠

وكانت الحياة حينئذ اسما لما كنّا وراء إثباته من هذا الكمال الأوّل. وهذا هو تحرير كلامه.

وظهر منه أنّ النفس والحياة أمران متغيران بالحقيقة ، لا أمر واحد كما ادّعاه المتشكّك.

ويظهر منه أيضا أنّ النفس ، كما أنّها مبدأ لتلك الأفعال والأحوال المعلومة بالذات ، كذلك هي علّة لحصول ذلك الكون ، الذي هو معنى الحياة لذلك الجسم الذي له النفس.

وأنّ ذلك الجسم أيضا مصدر لتلك الأفعال ، لكن لا بالذات ، بل بتوسّط النفس. كما أنّه متعلّق الحياة والنفس.

وأنّه إذا اضيفت الأفعال إلى النفس تكون الإضافة لاميّة ، بمعنى أنّ تلك الأفعال مستندة إلى النفس ، وهي مبدأ لها بالذات.

وأنّها إذا اضيفت إلى ذلك الجسم تكون لاميّة أيضا ؛ بمعنى أنّه مصدر لها بواسطة النفس.

وكذلك إذا اضيفت الحياة إلى النفس تكون لاميّة أيضا ، بمعنى أنّها معلولة للنّفس ، وهي علّة لها.

وإذا أضيفت إلى ذلك الجسم تكون لاميّة أيضا ، بمعنى أنّها حاصلة له ، كما إذا اضيفت النفس إليه.

وامّا إذا اضيفت تلك الأفعال إلى الحياة ، فتلك الإضافة لا تكون بيانيّة ـ كما يفهم من المتشكّك في التشكّك الأوّل ـ إذ ليست تلك الأفعال من جنس الحياة التي عرفت أنّها الكون الموصوف ، بل لاميّة أيضا ، لكن لا بالمعاني المذكورة ، بل بمعنى أنّها ملابسة للحياة ومصاحبة معها ملازمة لها ، حيث إنّ كلّا من الحياة وتلك الأفعال متلازمتان ، بمعنى أنّهما معلولتا علة واحدة هي النفس.

ويظهر منه أيضا أنّ ما وقع في كلام بمعنى الأقدمين من أنّ النفس حياة ، كان معناه أنّ النّفس محيية للبدن ومنشأ لحصول الحياة له حتّى كأنّها نفس الحياة ، وقد أشرنا إلى ذلك

٩١

فيما سبق في مبحث بقاء النفس.

فهذا القول منه أيضا لا يمكن أن يكون منشأ للتشكّك المذكور ، وادّعاء أنّ النفس نفس الحياة ومتّحدة معها بالذّات ؛ فتبصّر.

ثمّ إنّ قول الشيخ (١) : «وقد فرغنا الآن عن (٣) معنى الاسم الذي يقع على الشيء الذي سمّي نفسا بالإضافة (٤) له ، فبالحريّ أن نشتغل بإدراك ماهيّة (٥) هذا الشيء الّذي صار بالاعتبار المقول نفسا».

يعني أنّه بذلك الكلام الطويل قد فرغنا عن بيان معنى اسم النفس وتحديدها بحسب ما لها إضافة إلى البدن ، وحيث كان هذا التحديد لا يفيد بيان حقيقتها بالنظر إلى ما لها في نفسها ، ولا يتبيّن منه أنّ الكمال الأوّل الذي رسمناه ، أهو في ذاته جوهر أم عرض؟ وعلى تقدير كونه جوهرا ، هل هو جوهر مجرّد عن المادّة أم مادّيّ سماويّ أم أرضيّ؟ وبالجملة لا يتبيّن منه بيان ماهيّتها في ذاتها ، كما عرفت وجهه ، والحال أنّ هذا البيان أيضا مقصودنا. فبالحريّ أن نشتغل بإدراك ماهيّة هذا الشيء الذي صار بالاعتبار المقول نفسا ، أي بتحقيق حقيقته في نفسه التي هي حقيقته في حدّ ذاتها ، وهي صارت باعتبار القول بأنّها كمال أوّل نفسا متعلّقة بالبدن ، مدبّرة له ، كما حقّقه فيما بعد هذا الفصل ، أنّها جوهر مجرّد من شأنها كذا وكذا ، ومن حالها كيت وذيت ، وسنشير إليه إن شاء الله تعالى.

وقوله (٢) : «ويجب أن نشير في هذا الموضع إلى إثبات وجود النفس التي لنا إثباتا على سبيل التنبيه والتذكير» ـ إلى آخره ـ

معناه أنّه يجب أن نشير في هذا الموضع إلى اثبات وجود النفس التي لنا ، أي النفس الناطقة الإنسانيّة ، أي إثبات إنّيّتها إثباتا لا على طريق الاكتساب من حدّ أو رسم أو دليل ، بل إثباتا ضروريّا بديهيّا يحتاج إلى تنبيه وتذكير.

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ١٣ ، الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

(٣) في المصدر : فقد عرفنا الآن معنى ...

(٤) بإضافة ...

(٥) ماهيّة ...

(٢) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ١٣ ، الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

٩٢

[قوله :] «إشارة شديدة الموقع (١) عند من له قوّة على ملاحظة الحقّ نفسه من غير احتياج إلى تثقيفه وتسويته وقرع عصاه وصرفه عن المغلّطات» :

أي عند من له قوّة ملاحظة على الحقّ ، ولا يكون اعوجاج في رأية وعدم استقامة في فكره ، حتّى يحتاج إلى تسويته وتعديله ، ولا يكون عادلا عن طريق الحقّ ، حتّى يحتاج إلى ضربه بالعصا حتى يتنبّه ويجيء إلى سبيل الحقّ ، أو إلى ضرب عصاه ، حتّى يجد الطريق ويستشعر به كالأعمى. ولا يكون واقعا في الغلط ، حتّى يحتاج إلى صرفه عمّا يوقعه فى الغلط.

ثمّ إنّ غرضه من هذه الإشارة يحتمل أحد أمرين :

احدهما أنّ ما تقدّم من إثبات وجود النفس ، لمّا كان إثباتا بطريق الكسب ، واستدلالا من آثارها عليها ، ومن جهة مشاهدة أفعالها على وجودها ، فيجب هنا أن نشير إلى اثبات وجودها إثباتا بديهيّا ، ليتأكّد العلم بوجودها ، ويزيد اليقين بثبوت إنّيّتها ؛ ويتضمّن مع ذلك بعض ما نريد بيانه هنا ، من كونها مغايرة للبدن ولجميع أجزائه وقواه ، بل لكلّ ما يدرك بالحواسّ الظاهرة والباطنة ، وبذلك يتضمّن كونها جوهرا مجرّدا عن المادة أيضا ، كما يتضمّنه هذا الإثبات في هذه الإشارة ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

الثّاني أنّه لمّا كان تحديد الشيء والعلم بحقيقته متوقفا على العلم بوجوده ، وكان ما تقدّم تحديدا للنفس من جهة ما لها إضافة ما إلى البدن ، فلذا اكتفينا فيه بإثبات وجودها من هذه الجهة ، أي من جهة آثارها وأفعالها في البدن. وأمّا نحن فى هذا المقام ، حيث كنّا بصدد تحقيق حقيقة النفس في ذاتها ، وتحصيل العلم بها من هذه الحيثيّة ، وأنّها جوهر مجرّد من شأنه كذا وكذا ، ومن حالها كيت وذيت ؛ فيجب علينا أن نشير إلى إثبات وجودها من حيث ذاتها بذاتها ، حتّى نحقّق بعد ذلك حقيقتها من هذه الجهة.

وعلى الوجهين فتخصيص هذا الإثبات بوجود النفس الإنسانيّة ، مع أنّ ما تقدّم منه كان عامّا ، يعمّ إثبات النفس الأرضية مطلقا.

__________________

(١) في المصدر : الوقوع.

٩٣

إمّا لأنّ الإثبات بهذا الوجه الضروريّ التنبيهيّ إنّما يكون في النفس الإنسانيّة فقط ، لأنّ ذلك التأمّل والتوهّم والملاحظة إنّما يكون للإنسان دون النبات والحيوان ، يعني أنّ هذا التنبّه إنّما هو معلوم الحصول للإنسان دون غيره ، فإنّه في غيره غير معلوم وإن كان عدمه غير معلوم أيضا.

وإمّا لأنّ الغرض الأصليّ هو إثبات وجود النفس الإنسانيّة وبيان أحوالها ، وأما النباتيّة والحيوانيّة فبالعرض وبتبعيّة بيان حال الإنسانيّة ، حيث إنّهما أيضا موجودتان للإنسان أيضا.

وإمّا لأنّ هذا الإثبات ، وإن كان في أوّل النظر مخصوصا بالإنسان وبالنفس الإنسانيّة ، إلّا أنّه في النظر الثاني الأدقّ ، حيث يثبت أنّ النفس الإنسانيّة ذات واحدة بالحقيقة ، لها اعتبارات مختلفة ؛ باعتبار تكون إنسانيّة ، وباعتبار تكون حيوانيّة ، وباعتبار تكون نباتيّة ـ كما سبقت الإشارة إليه فيما تقدّم ، وسيجيء زيادة تحقيقه ـ يكون هذا الإثبات عامّا للجميع ، فتدبّر.

وقوله (١) : «فنقول : يجب أن يتوهّم الواحد منّا كأنّه خلق دفعة» ـ إلى آخره ـ.

إشارات إلى هذا الإثبات. وتحريره : أنّه يجب في هذه الإشارة أن يتوهّم الواحد منّا كأنّه خلق دفعة ، أي أوّل خلقه حتّى لا يكون له تذكّر أصلا لشيء مطلقا ، وخلق كاملا ، أي صحيح العقل حتّى يمكنه التنبّه لذاته ، وصحيح الهيئة لئلّا يؤذيه مرض ، فيدرك حالا لذاته غير ذاته ، لكنّه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات عن ذاته ، أي بحيث لا يبصر أجزاءه ولا شيئا غيرها ، لئلّا يدرك شيئا من هذه ، فيحكم بأنّ ذاته هو ؛ وخلق يهوي ويسقط في هواء ، أي في هواء طلق غير محسوس بكيفيّة غريبة من حرّ أو برد أو خلاء ، هويّا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدم ما يحوج إلى أن يحسّ ، حتّى يحسّ بصدمه أو كيفيّته.

وبالجملة بشيء خارج عن جسده أيضا ، لئلّا يحكم بأنّ ذلك ذاته أو جزء ذاته ،

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ١٣ ، الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الباب السادس.

٩٤

وفرّقت بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماسّ ، بل كانت مفرّقة في ذلك الهواء لئلّا يحسّ بأعضائه ، ثمّ يتأمّل أنّه هل يثبت وجود ذاته؟ ولا شكّ أنّه لا يشكّ حينئذ في اثباته لذاته موجودا ، ولا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه الظاهرة ، ولا باطنا من أحشائه وأعضائه الباطنة ، ولا قلبا ولا دماغا ولا شيئا من الأشياء من خارج ، بل كان يثبت ذاته ، ولا يثبت لها طولا ولا عرضا ولا عمقا. ولو فرضنا أنّه أمكنه في تلك الحال أن يتخيّل شيئا مما ذكر أو عضوا آخر ، فلا شكّ أنّه لم يتخيّله جزءا من ذاته ولا شرطا في ذاته ، وأنت تعلم أنّ المثبت غير الذي لم يثبت ، وأنّ المقرّ به غير الذي لم يقرّ به. فإذن للذات التي أثبت وجودها خاصيّة هي أنّها مثبتة ، وهي ذات ذلك المتنبّه المتوهّم المتأمّل المفروض بعينه غير جسمه وغير أعضائه وغير شيء آخر خارج ، وبالجملة غير ما لم يثبته أيّا كان.

ثمّ إنّ ذلك المتأمّل المتنبّه ، لو تأمل أدنى تأمّل ، تنبّه لأنّه ليس هذا الذات التي أثبت وجودها سوى نفسه ، فيحصل له سبيل على التنبّه على وجود النفس له شيئا غير جسمه وبدنه وأعضائه ومزاجه وأعراضه ، بل غير ما هو غير لهذا الجسم من الأشياء الخارجة.

ويجب أن يكون عارفا بذلك مستشعرا له ، فإنه مع ذلك التنبّه لو كان ذاهلا عنه ، كان أعمى القلب ضالّا عن السّبيل السويّ ، ككثير من العوام وأصحاب الطبائع الكثيفة المتورّطين في الجهالات ، يحتاج إلى أن يقرع عصاه حتّى يهتدي إلى السبيل ، ويشهد بذلك ما نقل عن أرسطو.

إنّه سئل أنّه كيف تعمى النفس عن معرفة نفسها وهي أمّ الحكمة؟

فقال : إذا غابت الحكمة عن النفس ، عميت عن نفسها وغيرها كما يعمى البصر عن نفسه وغيره اذا غاب عنه المصباح.

فحاصل هذه الإشارة : أنّه من الفروض الممكنة غير الممتنعة أن يفرض الإنسان كونه في أوّل الخلقة صحيح العقل والهيئة ، في هواء طلق أو خلاء ، منفرج الأعضاء غير متلامسها ، وغير مستعمل للحسّ في شيء أصلا ، فإنّه حينئذ يكون واجدا لذاته ولنفسه ، مثبتا لها مستشعرا إيّاها وفاقدا غير مستشعر وغير مثبت لكلّ شيء سواها ، وغافلا عن

٩٥

كلّ شيء كأعضائه الظاهرة والباطنة ، وككونه جسما ذا أبعاد ، وكحواسّه وقواه ومزاجه وأعراضه ، وكالأشياء الخارجة عنه جميعا ، إلّا عن ثبوت ذاته ونفسه فقط التي يشير إليها بقوله : «أنا».

وبعبارة اخرى ، يمكن أن يفرض أنّ إنسانا خلق دفعة واحدة ، وخلق متباين الأطراف ولم يبصر أطرافه ، واتّفق أن لم يمسها ولا تماسّت ، ولم يسمع صوتا ولا استعمل حسّا من الحواسّ الظاهرة والباطنة ، بحيث جهل وجود جميع أعضائه وغيرها ، وعلم وجود إنّيته شيئا واحدا مع جهله جميع ذلك.

فإذن يحصل له إدراك هو أوضح الإدراكات وأجلاها ، وعلم ضروريّ غير مكتسب من حدّ أو رسم أو حجّة أو برهان بوجود نفسه لنفسه ، وكونها مغايرة لجميع ما ذكر ، حيث إنّ الموجود غير المفقود ، والمعلوم غير ما ليس بمعلوم ، والمشهور به غير المغفول عنه ، والمثبت غير ما ليس بمثبت.

وهذا الذي ذكرناه إنّما هو تحرير كلامه في ذلك في الشفاء ، وسنزيده توضيحا.

وأمّا هو في الإشارات فقد ذكر هذه الإشارة وهذا التنبيه هكذا : (١)

«تنبيه :

ارجع إلى نفسك وتأمّل هل إذا كنت صحيحا؟ بل وعلى بعض أحوالك غيرها ، بحيث تفطّن للشيء فطنة صحيحة ، هل تغفل عن وجود ذاتك ولا تثبت نفسك؟ ما عندي أنّ هذا يكون للمستبصر ، حتّى أنّ النائم في نومه ، والسكران في سكره ، لا يعزب ذاته عن ذاته ، وإن لم يثبت تمثّله لذاته في ذكره ، ولو توهّمت أنّ ذاتك خلقت (٢) أوّل خلقتها (٣) صحيحة العقل والهيئة ، وفرض (٤) أنّها على جملة من الوضع والهيئة لا تبصر أجزاؤها ولا تتلامس أعضاؤها ، بل هي منفرجة ومعلّقة لحظة ما في هواء طلق ، وجدتها قد غفلت عن كلّ شيء الّا عن ثبوت إنّيّتها».

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ / ٢٩٢ ، أوفست دفتر نشر الكتاب على طبعة المطبعة الحيدريّة ، ١٤٠٣ ه‍.

(٢) في المصدر : ذاتك قد خلقت ...

(٣) خلقها ...

(٤) وقد فرض.

٩٦

وحاصل ما ذكره فيه يرجع إلى ما في «الشفاء» ، إلّا أنّه اقتصر في «الشفاء» على فرض حالة للإنسان يكون هو في مثل تلك الحالة غافلا البتّة عن كلّ شيء غيره ، أي غير ذاته ونفسه ، ولا يكون غافلا عن ذاته ، بل يكون مستشعرا له البتّة ، كما عرفت بيانه.

وأمّا هو في «الإشارات» ، فقد بيّن أوّلا أنّ الإنسان إذا كانت له فطنة صحيحة ، فهو لا يغفل عن ذاته وإثبات إنّيّة ذاته في شيء من الحالات ، وإن كان يغفل عما سوى ذاته.

ثمّ ازداد إيضاحا ، وترقّى عن ذلك ، ففرض تلك الحالة التي يغفل الإنسان فيها البتّة عمّا سوى ذاته ، ولا يغفل عن ذاته وثبوت إنيّة ذاته البتّة. وتحريره : أنّه من المعلوم الضروريّ الوجدانيّ الذي يجد الإنسان من نفسه إذا كان مستبصرا وكانت له فطنة صحيحة ، أنّه لا يغفل عن وجود ذاته ، ولا يعزب ذاته ونفسه عن ذاته في شيء من الحالات ، سواء كان صحيحا أو على بعض أحوال آخر غير الصحّة. وسواء غير مختلّ الإدراك ، أو مختلّ الإدراك ، يختلّ إدراكه إمّا بالحواسّ الظاهرة ، كالنائم ؛ وإمّا بالحواسّ الباطنة والظاهرة ، كالسكران ؛ فإنّه في جميع تلك الأحوال يدرك ذاته البتّة ، ولو فرضنا غفلته عن ذاته في شيء من تلك الحالات ، فإنّما هي غفلة عن إدراكه لذاته ، لا عن ذاته ، أي أنّه يعلم ذاته البتّة ، وإن عرض له غفلة عن العلم بعلمه ، بدليل أنّه إذا زالت تلك الحالة كالسكر عنه ، يتذكّر أنّه هو بعينه كان يفعل كذا ، أو يقول كذا مثلا في تلك الحالة. ولا ضير في الغفلة عن الإدراك ، فإنّ العلم بالعلم غير أصل العلم ، وإن كانت المغايرة بالاعتبار.

وكذلك من المعلوم بالوجدان أنّه في تلك الحالات التي لا يعزب فيها ذاته ونفسه عن ذاته. قد يعزب عنه غير ذاته ، كبدنه وقواه وأعضائه والأشياء الخارجة ، فذاته غير تلك ، لأنّ المشعور به غير المغفول عنه. بل نقول : إنّه يمكن فرض حالة لا يعزب فيها ذاته ونفسه عن ذاته البتّة ، ويعزب تلك الأشياء البتّة عنه. كما لو توهّم أنّه خلق أوّل مرّة ـ إلى آخره ـ فإنّه من المعلوم بالوجدان أنّه في تلك الحالة المفروضة ـ كما عرفت بيانها ـ يجد ذاته بحيث غفلت عن كلّ شيء إلّا عن ثبوت إنّيّتها ووجود نفس له.

فهذا حاصل كلامه في «الإشارات» ، ويعلم منه وكذا مما ذكره في «الشفاء» أنّ

٩٧

الإنسان لو تأمّل أدنى تأمّل في الفرض المذكور ، أمكن له التنبّه بأنّ إدراكه لذاته ، الذي هو عبارة عن تصوّر ذاته والتصديق بثبوت وجود لها ، إدراك أوّليّ ضروريّ لا يحتاج فيه إلى حدّ أو رسم أو حجّة وبرهان ، كما يكون ذلك في الإدراكات الكسبيّة.

ولذلك المدرك ـ بصيغة اسم الفاعل ـ أوّلا وبالذات في هذا الإدراك ، إنّما هو ذاته بذاته ، ونفسه بنفسها ، من غير افتقار إلى قوّة أخرى أو آلة أو مشعر من المشاعر الظاهرة أو الباطنة ، كما يكون في إدراك المحسوسات وما شابهها من المتخيّلات والموهومات ، وكذلك المدرك ـ بصيغة اسم المفعول ـ إنّما هو ذاته بذاته ، ونفسه بنفسها ، من غير أن يكون ذلك عضوا من أعضاء بدنه ، أو جملة بدنه ، أو شيئا آخر غير نفسه وذاته.

وبالجملة لا مغايرة بين المدرك والمدرك بالذات ، وكيف يكون هذا الإدراك بآلة أو قوّة اخرى غير النفس بذاتها ، والحال أنّ المفروض الغفلة عن جميع المشاعر والحواسّ ، وأن لا استعمال لشيء من الحواسّ أصلا؟ وكيف يكون المدرك غير ذاته من بدنه وجسده وأعضائه الظاهرة والباطنة ومزاجه وأعراضه ، أو أمر خارج ، والمفروض عدم الشعور لشيء من ذلك أصلا؟ وكيف يكون هذا الإدراك كسبيّا ، والمفروض عدم إدراك شيء هنا سوى الذات وإنّيّتها ، حتّى يمكن أن يكون بسببه يحصل هذا الإدراك؟ وهذا كلّه ظاهر في الصورة المفروضة. ويعلم منه أنّ للمتنبّه أن يتنبّه أنّ الحال في إدراك الذات في غير هذه الصور أيضا ، أي في جميع حالات إدراكه لذاته ، كذلك ، كما هو ظاهر على من راجع وجدانه.

ذكر أوهام مع رفعها

ثمّ إنّ في هذا المقام أوهاما ربّما يمكن ذهاب وهم أحد إليها ، فيجب علينا أن نتصدّى لدفعها ، حتّى تنكشف جليّة الحال حقّ الانكشاف.

منها ما ذكره الشيخ في الإشارات ودفعه ، قال (١) :

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧.

٩٨

«وهم وتنبيه ،

ولعلّك تقول إنّما أثبتّ ذاتي بوسط من فعلي ، فيجب أن يكون لك فعل تثبته في الفرض المذكور ، أو حركة أو غير ذلك. ففي اعتبارنا الفرض المذكور ، جعلناك بمعزل عن (١) ذلك ، وأمّا بحسب الأمر الأعمّ ، فإنّ فعلك إن أثبتّه فعلا مطلقا ، فيجب أن تثبت به فاعلا مطلقا ، لا خاصّا هو ذاتك بعينها. وإن أثبتّه فعلا لك فلم تثبت (٢) به ذاتك ، بل ذاتك جزء من مفهوم فعلك من حيث هو فعلك ، فهو مثبت في الفهم قبله ، ولا أقلّ من أن يكون معه لا به ، فذاتك مثبتة لا به» انتهى.

وتحريره : أنّه عسى أن يذهب وهم أحد إلى أنّ إثبات الإنسان ذاته ونفسه في هذا الفرض ليس أوّليا ، بل إنّه يفتقر إلى وسط ، وهو فعله في هذا الفرض المذكور. أي أنّه كسبيّ يستفاد من ذلك الفعل ، والعلم به نظير برهان الإنّ ، أي الدليل الذي فيه يستدلّ على العلّة بمعلولها ، وعلى المؤثّر بأثره ، كما أنّ أكثر القوى تثبت بأفعالها وآثارها.

وهذا الوهم باطل من وجهين :

احدهما ـ وهو الوجه الخاصّ بهذا الفرض ـ هو أنّ الإنسان في الفرض المذكور لم يكن له فعل ، حتّى يمكن له أن يستدلّ به على ذاته ، بل كان غافلا عن أفعاله مع إدراك ذاته.

ولو فرضنا أنّه صدر عنه في الفرض المذكور فعل أيضا ، فهذا الفعل ـ وإن كان في بادئ النظر فعلا ـ لكنّه في التّحقيق ترك كلّ فعل. ومع ذلك فهذا الترك أيضا ليس منشأ لإثبات الذات ، بل هو كاشف عن ثبوتها في الواقع ، فمن أين يحصل فيه الاستدلال بالفعل على الفاعل؟

والثاني ـ وهو الوجه العامّ لهذا الموضع ولغيره ـ أنّه على تقدير تسليم كون ذلك فعلا أيضا ، أنّ الفعل الذي يستدلّ به على الفاعل ، إن كان مأخوذا من حيث كونه فعلا ما ، وفعلا مطلقا من غير اختصاصه بفاعله الخاصّ ، فهو لا يكون دليلا إلّا على فاعل ما غير معيّن ،

__________________

(١) في المصدر : من ذلك ...

(٢) يثبت.

٩٩

ولا سترة في أنّه لا يمكن أن يستدلّ الإنسان بفعل ما على فاعل معيّن هو ذاته ، وإن كان مأخوذا من حيث كونه فعلا خاصّا ، وكونه فعلا لفاعل معيّن ومنسوبا إليه ، فالفاعل المعيّن من حيث اعتباره وملاحظته في ذلك الفعل الخاصّ ، وكونه جزءا من مفهومه من حيث هو هذا الفعل الخاصّ ، يجب أن يكون معلوما قبله. ولا أقلّ من أن يكون معلوما معه لا بعده ، كما هو في الاستدلال بالفعل على الفاعل. ولا سترة أيضا في أنّه لا يمكن أن يستدلّ الإنسان بفعله الخاصّ ، الذي خصوصيّته من جهة أنّه منسوب إليه وهو جزء من مفهوم هذا الفعل وملحوظ فيه ، على ذاته التي هي الفاعل المعيّن هنا ؛ لأنّ ذاته في هذا الاستدلال يجب أن تكون معلومة قبل هذا الفعل ، ولا أقلّ من أن تكون معلومة معه. وكيفما كان ، فلا تكون معلومة بعده ، كما هو مقتضى الاستدلال.

وحيث عرفت ذلك ، عرفت أنّه لا يمكن أن يستدلّ الإنسان بفعله مطلقا على ذاته المعيّنة المخصوصة استدلال إنّ. ومن المعلوم أيضا أنّه لا يمكن الاستدلال اللمّيّ هنا أيضا ، أي الاستدلال على ذاته بعلل ذاته ، لأنّ وجود ذاته له أظهر عنده من وجود علله وعلل ذاته ، فلا يمكن له أن يستدلّ عل ذاته استدلالا مطلقا إنيّا ولا لميّا فتبصّر.

فإن قلت كيف يصحّ ما ادّعيت من نفي الاستدلال ، والحال أنّ ما ذكره الشيخ في الفرض المذكور تنبيها على إدراك الإنسان ذاته ، وإثبات إنّيّتها في قوّة القياس على هيئة الشكل الثاني هكذا : إنّا لا نغفل عن ذواتنا في حالة من الحالات ، وكلّ ما هو غير ذاتنا (١) من البدن وأعضائه وأجزائه وأعراضه والأشياء الخارجة ، فإنّا قد نغفل عنه ، ينتج أنّ ذاتنا (٢) شيء موجود وليست شيئا من هذه.

قلت : سلّمنا ذلك ، لكنّا نقول : إنّ هذه النتيجة بديهيّة ، وإنّ هذا القياس البديهيّ بمقدّمتيه ، أعني صغراه وكبراه كما تبيّن بداهتهما في الفرض المذكور ، تنبيه عليها ، لا حجّة عليها حتّى تكون كسبيّة ، ولا منافاة بين أن تكون مقدّمة بديهيّة وأن يكون هنا

__________________

(١) ذواتنا خ ل.

(٢) ذواتنا خ ل.

١٠٠