منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-341-1
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٥٦

متقدّمة عليها ، وكذلك حال كلّ على جنس ونوع. انتهى بخلاصته.

وأقول : إنّ توضيح ما ذكره وتحريره ، أنّا إذا أخذنا الجسم مثلا ، مجرّد أنّه جوهر ذو طول وعرض وعمق من جهة ما له هذا المعنى ، أي مركّبا من الهيولى الاولى والصّورة الجسميّة المنفرضة فيها تلك الأقطار الثلاثة ، وأخذناه بالنسبة إلى هذا المعنى بشرط شيء وشيئا محصّلا ، لم يبق له تحصّل منتظر ، وتمّمنا حقيقته وختمناها به. ثمّ أخذناه بالنسبة إلى غير هذا المعنى من المعاني التي يمكن أن تدخل فيه أيّ معنى كان بشرط لا شيء ، أي أنّه يشترط أنّه ليس داخلا فيه معنى غير هذا ، أو أنّه بحيث لو انضم إليه وزيد عليه معنى غير هذا ، مثل حسّ وتغذية أو غير ذلك من المعاني ، كان ذلك المعنى الزائد خارجا عن الجسميّة ومضافا إليها زائدا عليها ، كان الجسم المأخوذ بهذا الاعتبار مادّة ؛ أي مادّة خارجيّة بالمعنى الأخصّ ، بالقياس إلى ما اعتبر مضافا إليه زائدا عليه وجزءا خارجيّا بالنسبة إلى المجموع المركّب منه ، وممّا اعتبرنا زائدا عليه متقدّما عليه في الوجودين ؛ وعلّة مادّية بالنسبة إليه ، وغير محمول لا على ذلك المجموع ، ولا على ما اعتبر زائدا عليه.

أمّا كونه مادّة كذلك ، فلأنّ قياس إلى ما يمكن أن يؤخذ معه مضافا إليه ، قياس المادّة الخارجيّة المقابلة إلى الصورة المقبولة التي يمكن اعتبار إضافتها إليها ، وجعلها إيّاها شيئا محصّلا غير ما كان أوّلا.

وأمّا كونه جزءا خارجيّا بالنسبة إلى المجموع المركّب منه ، وممّا اعتبر زائدا عليه ، فلأنّه حيث فرض متحصّلا باعتبار ما أخذ داخلا فيه وختم معناه به ، يكون موجودا بوجود مغاير لوجود المجموع. وكذا لوجود الجزء الآخر المضاف إليه. وحيث اخذ جزءا لهذا المجموع وموجودا بوجود مغاير ، فيكون جزءا خارجيّا. ويلزم كونه متقدّما عليه في الوجود الخارجيّ والذهنيّ ، كما هو شأن الأجزاء الخارجيّة ، ويكون أيضا علّة مادّيّة له ، حيث أنّ وجود ذلك المجموع إذا كان مسبّبا عن وجود جزئيه ، وأحدهما (وهو الجسم بهذا الاعتبار) مادّة للجزء الآخر الذي بمنزلة الصّورة أو هو الصّورة ، كان الجسم علّة

٤١

مادّيّة له.

وأمّا كونه غير محمول على المجموع وعلى ذلك الزائد ، فلأنّ مناط الحمل ـ على ما هو التحقيق ـ هو الاتّحاد في الوجود ، وهذا منتف هنا ، إذ المفروض كون الجسم بهذا الاعتبار متحصّلا في نفسه ، موجودا بوجود مغاير لوجود المجموع ولوجود ذلك الأمر الزائد.

أليس من المستبين أنّ الجسم المأخوذ بهذا الاعتبار ، إنّما هو مجرّد أنّه جوهر ذو أقطار ثلاثة ، بشرط أن لا يدخل فيه معنى آخر ، وأنّ كلّ جملة من المجتمعات من الجسم بهذا المعنى وممّا اعتبر زائدا عليه لو لوحظ مجتمعا معه ، ليست مجرّد أنّه ذو طول وعرض وعمق ، بل هذا مع شيء آخر زائد عليه. وكذا ليس ما اعتبر زائدا عليه نفس كونه مجرّد أنّه ذو أقطار ثلاثة ، بل بمعنى آخر ، لا يصدق أحدهما على الآخر.

ثمّ إنّا لو أخذنا الجسم جوهرا ذا طول وعرض وعمق ، وأخذناه بالنسبة إلى ما سوى هذا المعنى من المعاني التي يمكن أن تؤخذ معه لا بشرط شيء ، أي بشرط أن لا نتعرّض لشرط آخر معه أو فيه نفيا ولا إثباتا ، ولا نوجب أن يكون جسميّته لجوهريّة مصوّرة بهذه الأقطار فقط ، بل نجوّز كون تلك المعاني داخلة في معناه ، أعني أن نجوّز كون جوهريّته جوهريّة كيف كانت ، ولو مع ألف معنى من تلك المعاني ، وألف صورة من الصّور ، يكون ذلك المعنى المأخوذ مقوّما لخاصيّة جوهريّة الجسم المأخوذ أوّلا ، وتلك الصّورة المأخوذ بحيث يكون فيها أو معها تلك الأقطار أيضا ، أعني أن يكون للجملة من المجتمع من الجسم ومن ذلك المعنى وتلك الصورة ، أقطار ثلاثة أيضا على ما هي للجسم المأخوذ أوّلا. وأن يكون كلّ جملة من تلك المنضمّات إليه المجتمعات معه ، إن كانت هناك مجتمعات ، بعد أن تكون كلّها جوهرا ذا أقطار ثلاثة ، داخلة في هويّة جوهريّة الجسم ، لا أن تكون جوهريّته تمّت بالأقطار الثلاثة ثمّ عرضت تلك المعاني خارجة عن الشيء الذي تمّ ، أي عن حقيقة الجسم. أعني أن لا نختم جوهريّة الجسم بكونه ذا أقطار ثلاثة ولا نتمّ معناه به ، حتّى يكون ما يمكن أن يؤخذ معه بعد ذلك خارجا عن حقيقته ،

٤٢

بل أن نأخذه مع تحصّله في الجملة على هذا الوجه ، بحيث يبقى له تحصّل منتظر ، يكون ذلك التحصّل المنتظر بتلك المعاني والصور التي يمكن أن تؤخذ معه.

وبالجملة إنّا لو أخذنا الجسم المأخوذ من حيث هو هو ، من غير اشتراط قيد وجوديّ أو عدميّ غير ما اخذ معه أوّلا ، مع تجويز كونه مع قيد من القيود التي يمكن أن تؤخذ معه ، أو مع عدم ذلك القيد ؛ ومع احتمال صدقه على المأخوذ مع القيد وعلى المأخوذ مع عدمه ؛ وأخذناه غير متحصّل في نفسه التحصّل المطلوب الباقي المنتظر عند العقل ، وقابلا لأن يكون مشتركا بين أشياء متخالفة المعاني ، بان يكون عين كلّ منها ؛ وإنّما يتحصّل بما ينضاف إليه ذلك التحصّل المطلوب ، ويصير به أحد تلك الأشياء ، فعلى هذا الاعتبار يكون الجسم المأخوذ بهذا الوجه جنسا ، أي طبيعة مبهمة ناقصة غير محدودة وغير كاملة ، يكون تحصّله المنتظر المطلوب حصوله وكذا تماميّته وكماله بذلك المعنى الآخر المأخوذ معه ، كما هو شأن الجنس.

وكذا يكون هو محمولا على كلّ مجتمع من مادّة وصورة ، واحدة كانت أو ألفا ، وفيها أو معها الأقطار الثلاثة ، أي على كلّ مجتمع من الجسم المأخوذ أوّلا ومن صورة هي بعد تلك الجسميّة كالنفس ، نباتيّة كانت أم حيوانيّة ، أو غير النّفس من الصور التي هي الطبائع.

وكذا يكون هو محمولا على تلك المجتمعات معه ، والمنضمّات إليه ؛ فإنّ مناط الحمل هو الاتّحاد في الوجود وهو حاصل هنا ، إذ لا يكون الجسم المأخوذ على هذا الوجه موجودا بوجود مغاير لوجود ذلك الأمر المجتمع معه المنضمّ إليه ، ولا لوجود المجموع ، بل يكون هو وما يعتبر معه موجودا بوجود واحد.

أليس من المستبين أنّه يصدق على كلّ جملة من تلك المجموعات ، أنّها جوهر ذو أقطار ثلاثة؟ وأنّها موجودة لا في موضوع ، وإن صدق هنا معنى آخر أيضا؟ وكذلك يصدق على كلّ من تلك الامور المجتمعة معه أنّه موجود لا في موضوع ، وأنّه جوهر ذو أقطار ثلاثة أعمّ من أن تكون تلك الأقطار الثلاثة فيه أو معه ؛ فإنّ فرض الأقطار الثلاثة

٤٣

قد يكون في شيء كالصّورة الجسميّة ونحوها ، وقد يكون معه كالنّفس مثلا ، أي بعض أقسامها ، وبالجملة فيصدق عليه هذا المعنى ، وإن صدق هنا معنى آخر أيضا.

وكذا يكون الجسم بهذا الاعتبار جزءا عقليّا للمجموع المركّب منه ومن ذلك الأمر الآخر المقوّم له ، أي النوع الذي هو عبارة عن مجموع الأمرين العقليين من حيث إنّهما متّحدان في الوجود الخارجيّ.

وإن شئت قلت : إنّه عبارة عن الجسم بشرط شيء ، أي بشرط دخول ذلك الأمر الآخر المقوّم في حقيقته ، بحيث كان أمرا محصّلا في نفسه ، باعتبار أخذ ذلك الأمر الآخر معه ، ولم يبق له تحصّل منتظر.

وإن شئت قلت : إنّه عبارة عن ذلك الأمر الآخر ، بشرط دخوله في حقيقة الجسم ، وجعله له شيئا محصّلا كذلك.

فإنّ مآل الجميع إلى أمر واحد يسمّى بالنّوع ، كما سيجيء الإشارة إليه.

وبالجملة ، فالجنس يكون جزءا عقليّا بالنسبة إلى النوع ، مقدّما عليه في الوجود العقليّ ، وبحسب ملاحظة العقل ، كالجزء الآخر المسمّى بالفصل ؛ حيث يقال للجنس أو للفصل : إنّه جزء من النوع ، لأنّ كلّا منهما يقع جزءا من حدّه ، ويكون متقدّما عليه عند ملاحظة العقل صورة مطابقة لنوع داخل تحت جنس نوعا من التقدّم ، كالتقدّم بالطبع.

وأمّا بحسب الوجود ، فهذان الجزءان ـ وخصوصا الجنس ـ متأخّر عنه ، لأنّه ما لم يوجد الإنسان مثلا ، لم يعقل له شيء يعمّه وشيء يخصّه ويحصّله معنى متحصلا بالفعل.

وهذا الذي ذكرنا إنّما هو تصوير كون الشيء مادّة باعتبار ، وجنسا باعتبار آخر في الجسم.

وأمّا تصويره في غير الجسم كالحيوان مثلا ، فبأن يقال : الحيوان إذا أخذ حيوانا بشرط أن لا يكون في حيوانيّته إلّا جسميّة وتغذّ وحسّ ، وأن يكون ما بعد ذلك خارجا عنه ، أي إذا اخذ بالنسبة إلى ما هو داخل في حيوانيته بشرط شيء ، وبالنسبة إلى ما بعد ذلك من المعاني التي يمكن أخذها معه بشرط لا شيء ، فربّما كان لا يبعد أن يكون مادّة

٤٤

للإنسان أو موضوعا ، وصورته النّفس الناطقة ، أي ينبغي أن يكون الحيوان المأخوذ بهذا الاعتبار مادّة للإنسان ، كالجسم المأخوذ بهذا الاعتبار.

وإنّما يجزم به الشيخ هنا على ما يشعر به قوله : «فربّما كان لا يبعد» ـ إلى آخره ـ كما جزم به في الجسم ، لأنّ القياس وإن كان يقضي أن يكون الحيوان المأخوذ بهذا الاعتبار مادّة بالمعنى الأخصّ ، وأن يكون المأخوذ معه خارجا عن حقيقته صورة بالمعنى الأخصّ أيضا ، أي صورة مقارنة للمادّة كما في صورة فرض الجسم مادّة ، لكنّه غير ظاهر في الحيوان بالنسبة إلى الإنسان ، لأنّ ما يؤخذ مع الحيوان حينئذ بشرط لا شيء هو النفس الناطقة ، وهي ليست بصورة مقارنة للمادّة بل مفارقة عنها ، فليس الحيوان أيضا إذا فرض مادّة لها ، مادّة بالمعنى الأخصّ بالنسبة إليها ، كما أنّ تلك الصورة ليست صورة مقارنة للمادّة.

فلذلك قال الشيخ فيما نقلنا عنه في مقام تحديد النّفس (١) : «إنّ ما كان (٢) من الكمال مفارق الذّات لم يكن بالحقيقة صورة للمادّة وفي المادّة ، فإنّ الصورة التي هي في المادّة ، هي الصورة المنطبعة فيها القائمة بها ، اللهمّ إلّا أن يصطلح فيقال لكمال النوع : صورة النوع.»

وحيث كان الأمر كذلك ، لم يجزم به الشيخ هنا ، بل قال على سبيل الاحتمال «فربّما كان لا يبعد أن يكون مادّة للإنسان أو موضوعا وصورته النفس الناطقة» أي فربّما كان لا يبعد أن يكون مادّة للإنسان أو موضوعا بالمعنى الأعمّ المتناول لما نحن فيه ، يعنى إن أطلقنا المادّة عليه ، أطلقناها وأردنا بها المعنى الأعمّ الذي يشمل ما يتعلّق به شيء آخر نوعا من التعلّق ، كالبدن بالنسبة إلى النفس المجرّدة المتعلّقة به ، وإن لم يصحّ إطلاق المادّة عليه أطلقنا الموضوع عليه ، وأردنا به هذا المعنى الأعمّ أيضا ، وعلى التقديرين ، لو صحّ إطلاق الصورة على ذلك الأمر الزائد الآخر ـ وهو هنا النّفس الناطقة ـ ولو لم يكن

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٧ ، الفصل الأوّل من المقالة الأولى من الفنّ السادس.

(٢) في المصدر : فما كان من الكمال.

٤٥

الإطلاق على سبيل الحقيقة ، بل على نوع من التجوّز ، أو على سبيل الاصطلاح ، أطلقنا الصّورة على النّفس وإن لم يصحّ الإطلاق ، قلنا انّها كالصورة. وبالجملة أردنا بها أنّها ليست كالفصل بالنسبة إلى الجنس.

وهذا كما أنّ القياس يقتضي أن يصحّ اعتبار النوع أيضا ـ كالإنسان ـ بشرط لا شيء بالنسبة إلى ما يؤخذ معه مشخّصا له ، أو كالمشخّص ، والأمارة للتشخّص ، أي الأعراض الحالّة فيه. إلّا أنّه لا يخفى أن ليس الإنسان بالنّسبة إلى تلك الأعراض مادّة بالمعنى الأخصّ ، بل موضوعا لها ، كما أنّ تلك الأعراض ليست بصورة بمعنى الأخصّ ، فتدبّر.

ثمّ إنّا لو أخذنا الحيوان بالاعتبار الذي أخذنا الجسم بذلك الاعتبار جنسا ، كان هو أيضا جنسا ، أي لو أخذنا الحيوان ، مع أخذه بالنّسبة إلى ما يدخل في حيوانيّته ، كالجسميّة والتغذّي والحسّ ، بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المعاني ، كالنطق وما يقابل النطق لا بشرط شيء ، بمعنى أن لا نتعرّض لرفع شيء من تلك المعاني الأخر أو لوضعه ، بل نجوّز وجود أيّ معنى من تلك المعاني داخلا في هويّة الحيوان ، مقوّما لحقيقته ، محصّلا له شيئا آخر متحصّلا منتظرا ، بعد أن كان متحصّلا في الجملة ، ومبهما غير محدود ، بحسب ذلك التحصّل الباقي المنتظر. أي نجوّز كون الحيوان مع كونه ممّا يدخل بالضرورة في حقيقته الجسميّة ، وقوّة التغذية والحسّ والحركة ، بحيث يمكن أن ينضمّ إليه ما يحصّله شيئا آخر ، ويقوّمه كالنطق ومقابله ، وبحيث لا ضرورة هنا في ذلك.

والحاصل أن لا نختم معنى الحيوان بما يدخل في حقيقته ، ولا نجعل ما يمكن أن ينضمّ إليه من الأمر المقوّم المحصّل له خارجا عنه البتّة ، بل نجوّز مع ذلك انضمامه إليه ، وتحصيله إيّاه وتقويمه له ، فحينئذ يكون الحيوان حيوانا بمعنى الجنس ، كما أنّه إذا اخذ الحيوان بشرط شيء ، أي بشرط دخول الأمر الآخر المنضمّ إليه في حقيقته ، وكونه أمرا محصّلا في نفسه ، ولم يبق له تحصّل منتظر كان نوعا.

وهذا الذي ذكرنا ، هو اعتبار كون الشيء الواحد مادّة أو جنسا ؛ ومنه يعلم اعتبار كون الشيء الواحد صورة أو فصلا ، حيث يعلم منه أنّه بالاعتبار الذي يؤخذ الشيء به

٤٦

مادّة إذا أخذنا ما يمكن أن ينضمّ إليه أيضا يكون صورة ، وبالاعتبار الذي يؤخذ الشيء جنسا إذا أخذ به ما يمكن أن ينضمّ إليه يكون فصلا.

وكما أنّه إذا اخذ الشيء بشرط لا شيء ، وبشرط أن لا يدخل في حقيقته ذلك الأمر الزائد ، بل أن يكون خارجا عنه ، يؤخذ ذلك الأمر الزائد أيضا بشرط لا شيء ، أي بشرط أن لا يدخل هو في حقيقة ذلك الشيء ، بل أن يكون خارجا عنه. وحينئذ يكون ذلك الشيء مادّة ، وذلك الأمر الزائد صورة ؛ ويكونان موجودين بوجود على حدة ، أي متغايرين بحسب الوجود الخارجيّ ، ومغايرا كلّ منهما للآخر بحسبه وللمجموع المركّب الذي هو شيء آخر غيرهما في الخارج.

وكما أنّه إذا اخذ الشيء لا بشرط شيء بالنسبة إلى ذلك الأمر الزائد ، ومع تجويز دخوله فيه وتحصيله له ، فيكون الأوّل جنسا والثاني فصلا منوّعا ، كما أنّه يكون ذلك الأمر الزائد ، بشرط أخذه داخلا في حقيقة الجنس وتقوّمه به نوعا ، وهو عبارة عن المجموع باعتبار كونه متّحدا مع جزئيه في الوجود ، وكون الجزءين متّحدين معا فيه ؛ وبالجملة فيكون كلّ من الجزءين والمجموع متّحدا في الوجود الخارجيّ ؛ فحينئذ ينبغي أن يكون معنى ما أطلقوه على بعض الصور ، أنّها صورة نوعيّة ، أي محصّلة نوعا ، لكن لا باعتبار ما يطلق عليها الصورة ؛ فإنّه حينئذ لا يكون المجموع نوعا ، بل باعتبار ما يطلق عليها الفصل المنوّع. إلّا أنّه حيث كانت الذات واحدة ، أطلقوا على تلك الذات ، التي هي صورة باعتبار أنّها نوعيّة ، وإن كان ذلك باعتبار كونها فصلا.

وتصوير الفرق بين الصورة والفصل في ضمن المثال : أنّ الحسّاس ـ مثلا ـ إذا اخذ بشرط لا شيء ، أي اخذ جسما وشيئا له حسّ ، بشرط أن لا يكون هنا زيادة اخرى ، أي أن لا يدخل في حقيقة الحيوان أو الإنسان ، بل يكون خارجا عن حقيقتهما ، كما أنّ الحيوان والإنسان قد اخذا حينئذ على أن يكون الحسّاس خارجا عن حقيقتهما ، لم يكن فصلا لهما ، وإن كان جزءا لهما ، أي جزءا خارجيّا وصورة لهما ، لعدم حصول الاتّحاد في الوجود الذي هو مناط الحمل ، وصدق أحدهما على الآخر ؛ فإنّه بهذا الاعتبار لا يمكن أن

٤٧

يحمل الحيوان أو الإنسان على الحسّاس ، ولا الحسّاس عليهما ، ولا على المجموع المركّب من الجزءين ، بل يكونان موجودين بوجود مغاير ، كما هو شأن الصّورة والجزء الخارجيّ.

وأمّا لو اخذ الحسّاس لا بشرط شيء ، اخذ جسما أو شيئا له الحسّ ، ومجوّزا له أو فيه أو معه ، أيّ الصّور والشرائط كانت ، أي أن يكون هو داخلا في حقيقة الحيوان أو الإنسان ، بعد أن يكون في تلك الصور والشرائط حسّ ؛ كان حينئذ فصلا لهما ، أي فصلا مقوّما للحيوان بالذات ، وللإنسان بواسطة دخول الحيوان في حقيقته ، وكان هو محمولا عليهما ، كما أنّهما محمولان عليه لحصول مناط الحمل ، وهو الاتّحاد في الوجود ، وكان المجموع ـ أعني مجموع المقوّم والمتقوّم به ـ نوعا ، وكذلك المتقوّم به بشرط دخول المقوّم فيه. وكذا المقوّم بشرط دخوله في المتقوّم به ، وكان هو ـ أي النوع أيضا ـ متّحدا مع هذين في الوجود اتّحادا هو منشأ الحمل.

وكذلك الناطق مع أخذه شيئا له النطق ، إذا اخذ بشرط لا شيء ؛ أي بشرط أن لا يدخل في حقيقة الإنسان مقوّما له ، ولا في حقيقة الحيوان محصّلا إيّاه نوعا محصّلا ، بل أن يكون خارجا عنهما ، لم يكن فصلا وإن كان جزءا خارجيّا وصورة. وإن اخذ لا بشرط شيء ، أي إن اخذ مع أخذه شيئا له النطق ، مجوّزا له أو فيه أو معه أن يكون داخلا في حقيقة الإنسان مقوّما له ، وفى حقيقة الحيوان محصّلا له نوعا كان فصلا ، أي فصلا مقوّما للإنسان وفصلا مقسّما للحيوان ، وكان يتحقّق الحمل بينها للاتّحاد في الوجود.

ومن هذه الجملة يعلم كيفيّة أخذ الشيء نوعا ، حيث يعلم أنّه إن اخذ المعنى الجنسيّ بشرط أخذ الفصل معه منضمّا إليه ، أو اخذ المعنى الفصليّ بشرط أخذه مع الجنس ، أي أخذ مجموع الأمرين ، يكون الحاصل حينئذ نوعا.

فالملخّص إذن ، أنّ أيّ معنى أخذته ممّا يشكل الحال في جنسيّته أو مادّيّته ، فوجدته قد يجوز انضمام الفصول إليه ـ أيّها كان ـ على أنّها منه وفيه ، كان جنسا والمضاف فصلا.

٤٨

وإن أخذتها (١) من جهة بعض الفصول وتمّمت به المعنى وختمته حتّى أنّه لو دخل شيء آخر لم يكن من تلك الجملة ، بل مضافا من خارج ، لم يكن جنسا ، بل مادّة ، والمضاف صورة أو كالصّورة. وإن أوجبت لها تمام المعنى ، حتّى أنّه دخل فيه ما يمكن أن يدخل صار نوعا ، وإن كنت في الإشارة إلى ذلك المعنى لا تتعرّض لذلك ، كان جنسا. فإذن باشتراط أن لا تكون زيادة ، يكون مادّة ؛ وباشتراط أن تكون زيادة ، يكون نوعا ، وإن لم (٢) يتعرّض لذلك ، بل يجوّز أن يكون كلّ واحد من الزيادات ، على أنّها داخلة في جملة معناه ، يكون جنسا.

ويعلم من هذه الجملة أنّ هذه الاعتبارات الخمسة المذكورة ، أي اعتبار كون الشيء مادّة وصورة وجنسا وفصلا ونوعا ، يمكن في جميع مراتب وجود الجسم إلّا في بعض مراتبه ، فإنّه يمكن ذلك في صورة أخذ الجسم مركّبا من الهيولى والصّورة الجسميّة ، ثمّ أخذه بالنسبة إلى ما بعد ذلك ، كالصّورة النوعيّة للبسائط من الأجسام بشرط لا شيء ، ولا بشرط شيء ، أو بشرط شيء ؛ وكذا في صورة أخذه مع الصّورة النوعيّة للبسائط ، ثمّ أخذه بالنسبة إلى الصورة النوعيّة للمركّبات مطلقا بالاعتبارات المذكورة. وكذا في صورة أخذه مع الصورة النوعيّة للمركّبات ، ثمّ أخذه بالنسبة إلى النفس النباتيّة بهذه الاعتبارات. وكذا في صورة أخذه مع النّفس النباتيّة ، ثمّ أخذه بالنسبة إلى النفس الحيوانيّة بهذه الاعتبارات. وكذا في صورة أخذه مع النفس الحيوانيّة ، ثمّ أخذه بالنسبة إلى النفس الإنسانيّة بهذه الاعتبارات. إلّا أنّه في هذه الصورة ، وإن أمكن كون المأخوذ ـ أي الحيوان ـ جنسا ، والنّفس الإنسانيّة فصلا ، والمجموع نوعا ؛ لكنّه لا يظهر كونه مادّة بالمعنى الأخصّ ، وكون النّفس صورة بالمعنى الأخصّ ، أي الصّورة المقارنة للمادّة ، إلّا على نوع من التعميم ، أو على سبيل الاصطلاح ؛ كما عرفت بيانه.

وبالجملة ، فهذه الاعتبارات يمكن فرضها في جميع تلك المراتب ، سواء كان

__________________

(١) أخذته خ ل.

(٢) لا خ ل.

٤٩

الجنس جنسا عاليا أو متوسّطا أو سافلا ، وسواء كان النوع نوعا عاليا أو سافلا أو متوسّطا ، وسواء كان الفصل قريبا أم بعيدا ، وسواء كانت الصورة صورة البسائط أو صورة المركّبات أو نفسا.

غير أنّ هذه الاعتبارات الخمسة ، لا يمكن فرضها في الهيولى الاولى بالنسبة إلى الصورة الجسميّة ، فإنّه في هذه الصورة ، وإن امكن اعتبار كون الهيولى الاولى مادّة ، والصورة الجسميّة صورة ، لكنّه لا يمكن اعتبار كون تلك المادّة جنسا ، وتلك الصورة فصلا ، والمجموع نوعا ، لأنّ المعتبر في الجنس أن يكون له ـ أوّلا ـ طبيعة محصّلة في الجملة ، ثمّ ينتظر له تحصّل آخر يكون هو بالفصل ، والهيولى الاولى ليس لها تحصّل أصلا ، بل هي بالقوّة المحضة ، فلا يمكن اعتبارها جنسا ، وإذا لم يمكن ذلك ، فلم يمكن اعتبار الصورة الجسميّة فصلا أيضا ، ولا اعتبار المجموع نوعا.

فعلى هذا ، فما ذكره القوم : من أنّ الطبيعة الجسميّة طبيعة نوعيّة ، لعلّهم ـ كما يدلّ عليه كلامهم في ذلك المقام ـ لم يريدوا به أنّها نوع كسائر الأنواع ، بل أرادوا به أنّها طبيعة واحدة محصّلة متّفقة في الحقيقة ، كالطبيعة النوعيّة.

وغير أنّ هذه الاعتبارات لا يمكن فرضها في النوع الأخير ، كالإنسان بالنسبة إلى الأعراض الحالّة فيه ، مشخّصة كانت أم غير مشخّصة ، فإنّه ليس الإنسان بالنسبة إليها مادّة بالمعنى الأخصّ ، بل موضوعا ؛ ولا تلك الأعراض صورة بمعنى الصورة التي يكون تحصّل المحل وتقوّمه بها ، بل عرضا يتقوّم بالمحل. وكذلك لا يمكن أن يكون الإنسان جنسا ، حيث إنّ المعتبر في الجنس كونه طبيعة تامة من وجه ، ناقصة من وجه آخر ، مبهمة يبقى لها تحصّل منتظر وتماميّة بحسب الإشارة العقليّة ، يكون ذلك الجنس وتلك التماميّة بالفصل ، وهو ليس كذلك ؛ فإنّه ـ حيث فرض نوعا أخيرا ، كان تامّا متحصّلا ـ لم يبق له تحصّل منتظر بحسب الإشارة العقليّة ، حتّى يكون تحصّل ذلك بالفصل ، بل إنّما بقى تماميّته بحسب الوجود الشخصيّ والإشارة الحسيّة ، وتكون تلك التماميّة بالعوارض المشخّصة ، وهذا لا يكون منشأ لإبهامه ، ومنافيا لتحصّله العقليّ. وإذ لم يمكن

٥٠

اعتباره جنسا ، فلم يمكن اعتبار تلك الأعراض فصلا ، ولا المجموع نوعا آخر ، وكيف يمكن اعتبار ذلك نوعا آخر ، مع أنّ المفروض كونه بدون تلك الأعراض نوعا أخيرا؟! هذا خلف.

وحيث عرفت ما ذكرنا ، علم أنّ هذا الإشكال ، في الفرق بين الجنس والمادّة والصّورة والفصل والنّوع ، والاشتباه بينها ، الذي يكون رفعه بتلك الاعتبارات المذكورة إنّما يكون فيما ذاته مركّبة ، أي في النّوع الجوهريّ الذي يكون ذاته مركّبة من مادّة وصورة ، كالجسم والحيوان ، وأمّا فيما ذاته بسيطة غير مركّبة فيهما ، كبعض الأنواع الجوهريّة ، مثل العقل والنّفس ، بل الهيولى الاولى أيضا وكأنواع الأعراض مطلقا ، سواء كانت أنواعا عالية أو سافلة أو متوسّطة ، فلا يقع فيه هذا الإشكال والاشتباه ، ولا يمكن فيه تلك الاعتبارات المذكورة من الجهة التى اعتبرت في الأنواع الجوهريّة المركّبة من مادّة وصورة ، بل إنّ العقل عسى أن يفرض فيه هذه الاعتبارات في نفسه ، على النحو الّذي ذكره الشيخ قبل هذا الفصل في بيان إمكان انتزاع امور متعدّدة مختلفة من ذات واحدة بسيطة ، وأما في الوجود الواقعيّ ، فلا يكون منه شيء متميّز في الواقع هو جنس ، وشيء متميّز كذلك هو مادّة ، ولا شيء متميّز هو فصل ، وشيء متميّز هو صورة.

وتوضيح ذلك : أنّ للعقل في تحديد العقل أو النّفس ، بل الهيولى الاولى أيضا ، أن يعتبر أنّه جوهر من شأنه كذا وكذا ، فيعتبر الجوهر جنسا ، بناء على أنّه جنس لما تحته من الجواهر.

ويعتبر قولنا : من شأنه كذا وكذا ، فصلا محصّلا له نوعا متحصّلا ، ويعتبر الجنس باعتبار كونه بشرط ذلك الفصل ، أو الفصل بشرط دخوله في معنى ذلك الجنس نوعا متحصّلا.

وكذلك للعقل في تحديد أجناس الأعراض ، كالكمّ والكيف والأين وغيرها ، التي هي أنواع عالية باعتبار ، إذا قلنا : إنّ معنى العرض جنس لما تحته من الأعراض ، أن يعتبر أنّه عرض من شأنه كذا وكذا ، فيعتبر العرض جنسا ، وما بعده من القيد أو القيود فصلا

٥١

محصّلا ، والمتحصّل نوعا. وكذلك له أن يعتبر في تحديد أنواعها التي هي أنواع لتلك الأجناس ، وهي أنواع عند كلّ فريق من الحكماء ، كالخطّ والسطح والجسم التعليميّ ، التي هي أنواع للمقدار وهو جنس لها ؛ بأن يقول : إنّ الخطّ مثلا هو مقدار متّصل من شأنه الانقسام في جهة ، وإنّ السّطح هو مقدار متّصل من شأنه الانقسام في جهتين ، وإنّ الجسم التعليميّ مقدار متّصل من شأنه الانقسام في الجهات الثلاث ؛ فيعتبر المقدار جنسا ، وما بعده فصلا والمتحصّل نوعا وكذلك له أن يعتبر في جميع هذه الفروض ما اعتبره جنسا مادّة ، وما اعتبره فصلا صورة ، من حيث إنّه يمكن أن يعتبر الجنس مادّة ، والفصل صورة في الأنواع الجوهريّة المركّبة من المادّة والصّورة ، إلّا أنّه لا يكون على هذا شيء متميّز في الخارج أو في الواقع هو جنس ، وشيء متميّز مادّة ، ولا شيء متميّز كذلك هو فصل ، وشيء هو صورة ؛ بل كلّ هذه موجود واحد ، وشيء غير متعدّد. وكيف يمكن التميّز والتعدّد والمفروض كون الذّات واحدة غير مركّبة من مادّة وصورة؟

فإن قلت : إذا أخذ العقل الجنس والفصل من نفس ذات بسيطة ، ثمّ اعتبرهما اعتبارا يكونان به مادّة وصورة ، فيكون الانضمام حينئذ انضمام متحصّل بمتحصّل ، واقتران متميّز بمتميّز ؛ فيلزم من هذا أن يكون المأخوذ منه مركّبا خارجيّا ، بناء على أنّ الامور المتغايرة وخصوصا المتباينة لا تطابق موجودا واحدا وذاتا واحدة بسيطة.

قلت : ما ذكرنا مبنيّ على جواز انتزاع الامور المتباينة أو المتخالفة ، وأخذ المعاني الكثيرة من ذات واحدة وبسيطة ، وعلى أنّ الأخذ على هذا الوجه إنّما هو بمجرّد التعمّل العقليّ ، وبمحض الاحتيال الذهنيّ ، حيث إنّ البسيط لا مادّة له ولا صورة إلّا بمجرّد اعتبار العقل ، وعلى أنّ التركيب في الحدّ لا يوجب التركيب في المحدود ، وإن كان الحدّ عين المحدود باعتبار ، إذ التّفاوت بالإجمال والتفصيل ، إنّما هو في الملاحظة لا في الملحوظ ؛ ولا مانع من ذلك كلّه ، كما حقّق في موضعه.

وهذا الذي ذكرناه ، إنّما هو تحرير ما نقلنا من كلام الشيخ في إلهيات الشفاء ، ويتّضح به شرح ما قصدنا شرحه من عبارته في تحديد النفس هنا ، حيث يتّضح منه أنّ معنى قوله :

٥٢

«ويصحّ أن يقال أيضا .. إلى آخره» أنّه يصحّ أن يقال أيضا للنّفس ، بالقياس إلى استكمال الجنس بها ؛ أي استكمال الجسم الذي هو متعلّق النفس ، نباتيّة كانت أم حيوانيّة ، بل إنسانيّة أيضا ، إذا اخذ ذلك الجسم بالاعتبار الذي يكون به جنسا لا مادّة ، كما يدلّ عليه كلامه فيما بعد أيضا ، أي «في أنّ النّفس كمال لجسم طبيعيّ» إلى آخره ـ.

حيث قال (١) : «ويجب أن يؤخذ الجسم بالمعني الجنسي لا بالمعنى المادّة (٢)». وبالجملة أن يقال لها ، بالقياس إلى استكمال ذلك الجسم ـ الذي هو جنس باعتبار ـ بها ، نوعا محصّلا في الأنواع العالية أو السافلة ، كالجسم النامي والحيوان والإنسان : إنّها كمال ؛ أي منشأ لحصول ذلك الكمال والتماميّة النوعيّة ، لأنّ طبيعة الجنس بما هي جنس تكون ناقصة غير محدودة ما لم يحصّلها طبيعة الفصل البسيط ، أي الفصل الذي هو جزء متميّز في الوجود ، كما في الأنواع الجوهريّة المركّبة من المادّة والصورة ، وما لم يحصّلها الفصل غير البسيط ، أي الفصل الذي هو بمجرّد اعتبار العقل ، من غير أن يكون جزءا متميّزا ، كما في الأنواع البسيطة ، حال كون ذلك الفصل البسيط أو غير البسيط منضافا إلى تلك الطبيعة الجسميّة الجنسيّة ، محصّلا لها ومقوّما إيّاها. فإذا انضاف إليها ، كمل النوع وتمّ ؛ فالفصل حينئذ كمال النوع بما هو ذلك النوع ، سواء كان نوعا عاليا أم سافلا ، وسواء كان نوعا إضافيّا أم حقيقيّا ، وسواء كان بسيطا أم مركّبا.

وقد عرفت ـ أي بما ذكره في إلهيّات الشفاء كما نقلناه وحرّرناه ـ أن ليس لكلّ نوع فصل بسيط بالمعنى المذكور ، بل إنّما هو للأنواع المركّبة من مادّة وصورة ، والصّورة منهما هو الفصل البسيط لما هو كماله ، أي النوع.

وقد أشعر الشيخ بما ذكره ، أنّ الفصل ـ وإن كان أعمّ من الصورة باعتبار أنّه يكون للنوع البسيط وغير البسيط جميعا ـ بخلاف الصورة فإنّها إنّما تكون للنوع المركّب من مادّة وصورة وحده ، وأنّ الفصل حيث كان كمالا للنوع ، كان كمالا للنوع البسيط

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ١٠ ، الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

(٢) في المصدر : الماديّ.

٥٣

والمركّب جميعا ، وهذا يمكن وجها لأولويّة إطلاق الكمال في تحديد النفس ، من إطلاق الصورة لعمومه وشموله لكلّ نوع ، بخلاف الصورة ، إلّا أنّ ما نحن فيه لمّا كان من قبيل النوع المركّب ، لم يمكن أن يكون ذلك وجها للأولويّة ، بل الوجه فيها ما سيذكره بعد.

أمّا بيان أنّ الحال فيما نحن بصدده كذلك ، مع بيان أنّ النّفس فيه فصل وكمال ، فلأنّ كلامنا في النبات والحيوان ، ولا خفاء في أنّهما كذلك ، حيث إنّهما بما هما نوعان مركّبان من مادّة ـ هي جسمهما إذا اخذ ذلك بالمعنى الذي يؤخذ به الشيء مادّة ـ ومن صورة هي نفسهما إذا اخذت بالمعنى الذي يؤخذ به الشيء صورة. ولا يخفى أنّ إطلاق المادّة والصّورة بالمعنى الأخصّ المراد في المركّب منهما ، وإن لم يصحّ على جزئي الإنسان ، أعني بدنه ونفسه المفارقة ، لكنّه يصحّ على نوع من التعميم أو الاصطلاح أو التجوّز.

والحاصل أنّه يصحّ الإطلاق على جزئيه أنّهما كالمادّة والصورة ، في أنّ بدنه جزء به يكون الإنسان بالقوّة كالمادّة ، وأنّ نفسه جزء به يكون الإنسان إنسانا بالفعل كالصّورة ، وكأنّه لذلك أطلق فيما قبل على جسم النّبات والحيوان وبدنهما مطلقا ـ بحيث يشمل بدن الإنسان أيضا ـ أنّه جزء يكون به النّبات والحيوان بالقوّة ، واطلق على النّفس النباتيّة والحيوانيّة مطلقا ـ بحيث تشمل النفس الإنسانيّة أيضا ـ أنّها جزء يكونان به بالفعل.

فبالجملة ، التركيب من المادّة والصورة ، أو من مثل المادّة ومثل الصورة ، حاصل في النبات والحيوان والإنسان.

ولا خفاء أيضا في أنّ جسم النبات والحيوان ، الذي هو المادّة باعتبار ، وكذا بدن الإنسان الذي هو كالمادّة ، يمكن أن يؤخذ بالمعنى الذي يمكن أن يؤخذ به الشيء جنسا ، وكذلك النفس النباتيّة والحيوانيّة المقارنة للمادّة ، اللّتان هما صورة النبات والحيوان ، وكذا النفس الانسانيّة المفارقة عنها ، التي هي كالصّورة للانسان ، يمكن أن تؤخذ بالمعنى الذي به يؤخذ الشيء فصلا ، فتكون هي فصولا لها ، فتكون منشأ لاستكمال أجناسها بها أنواعا محصّلة ، ومنشأ لحصول كمال تلك الأنواع ، فتكون كمالا بهذا المعنى.

وهذا الذي ذكرنا مع ابتنائه على ما ذكر ، يبتني أيضا على مقدّمة اخرى قد حقّقها

٥٤

الشيخ وغيره في موضعه هي : أنّ ما يعبّر به عن فصول النبات والحيوان والإنسان ، كالنّامي والحسّاس والناطق ، إنّما هي أمارات للفصول وعلامات لها وتعبيرات عنها ، وليست هي بالفصول حقيقة ؛ إنّما الفصول بالحقيقة هي ما يصدق عليه تلك المشتقّات ، وهي النّفوس لها.

وبيان ذلك على الإجمال ، أنّه وإن كان المميّز للنبات ـ مثلا ـ عن غيره هو النّموّ ، والمميّز للحيوان عن غيره هو الحسّ ، والمميّز للإنسان عن غيره هو النطق ، إلّا أنّ هذه المعاني ، التي هي مبادي اشتقاق النامي والحسّاس والناطق ، ليست بمحمولة بالتواطؤ على ما فرضت هي مميّزات لها ، أي النبات والحيوان والإنسان ، إذ لا يقال : إنّ النبات نموّ ، ولا الحيوان حسّ ، ولا الإنسان نطق ؛ بل إنّما تحصل هذه بالتواطؤ ، على ما ليست هي بفصول لها. كما يقال : نموّ هذا الشجر نموّ ذلك الشجر نموّ ، وحسّ هذا الحيوان حسّ ، وحسّ ذلك حسّ ، ونطق زيد نطق ، ونطق عمرو نطق. أو يقال : التزايد في الأقطار نموّ ، والبصر والسمع حسّ ، وإدراك الكليّ نطق ، ونحو ذلك.

ولا يخفى أنّ المعتبر في الفصل المميّز ، أنّ يكون محمولا بالمواطأة على ما هو فصل له ، إذ قد عرفت أنّ الفصل ما كان متّحدا في الوجود مع الجنس والنوع ، وهذا الاتّحاد يقتضي أن يكون هو محمولا على الجنس والنّوع بالمواطاة ، وليس الأمر في هذه المبادي للاشتقاق كذلك ، بل إنّها تحمل على الجنس والنوع حملا بالاشتقاق ، وهو ليس بمناط للفصليّة.

فظهر أنّ تلك المبادي ليست بفصول حقيقة ، فلننظر في أنّ المشتقات منها ، أي النّامي والحسّاس والناطق ، هل يمكن أن تكون فصولا حقيقيّة أم لا؟

فنقول : إنّ لتلك المشتقّات مفهومات ، وكذا ما يصدق تلك المفهومات عليه ؛ أمّا مفهوماتها ، فهي عبارة عن شيء ما ثبت له النموّ وشيء ما ثبت له الحسّ ، وشيء ما ثبت له النطق ؛ فتكون عبارة عن مفهوم الشيء مع نسبة ما إضافيّة إلى تلك المبادي للاشتقاق.

ولا يخفى أنّ شيئا من ذلك لا يصلح لكونه فصلا ، لأنّ مفهوم الشيء مفهوم عرضيّ

٥٥

بالنسبة إلى ما يصدق هو عليه ، لا ذاتيّ ، كما هو البيّن والمبيّن في موضعه ؛ فكيف يمكن أن يكون فصلا ، والفصل يجب أن يكون ذاتيّا لما هو فصل له؟ وأيضا مفهوم الشيء مفهوم عامّ يعمّ ما فرض هو فصل له وغيره ؛ والفصل يجب أن يكون مختصّا بما هو فصل له. وكذلك تلك النسبة الإضافيّة عرض متقوّم بطرفيها ، أي الشيء وتلك المبادي للاشتقاق ؛ فكيف يمكن أن تكون فصلا؟ فإنّها لو كانت فصلا للأنواع الجوهريّة ، لزم تقوّم الجوهر بالعرض ، وهو محال. وقد عرفت أنّ تلك المبادي للاشتقاق ، التي هي إحدى طرفي تلك النسبة ، ليست بفصل ، فليس شيء من أجزاء هذا المفهوم فصل. وظاهر أيضا أنّه لا يمكن أن يكون المجموع المركّب من تلك الأجزاء فصلا ، إذ ليس هنا سوى تلك الأجزاء أمرا آخر ـ من هيئة تركيبيّة أو نحوها ـ يصلح أن يكون فصلا ـ.

فظهر أنّ ليس تلك المفهومات فصلا ، وبقي النظر فيما صدق عليه تلك المفهومات ؛ فنقول : إنّ ما صدق عليه النامي مثلا ، إن كان المراد به الجسم من حيث هو جسم ، كان جنسا ، فلم يكن فصلا. وإن كان المراد به الجسم النامي من حيث هو جسم ، نام ، كان نوعا ، فلم يكن فصلا أيضا ، وكذلك الحال في الحسّاس ، فإنّه إن اريد به الجسم النامي. لم يكن فصلا بل جنسا ، وإن كان المراد به الحيوان ، كان نوعا ، فلم يكن فصلا أيضا. وكذلك الحال في الناطق ، فإنّه إن اريد بما صدق هو عليه الحيوان ، كان جنسا ، وإن كان المراد به الإنسان ، كان نوعا ، فلم يكن فصلا أيضا. فبقي أن يكون المراد بما صدق عليه تلك المفهومات أمر آخر وراء هذه ، يمكن أن يكون فصلا ، وهو الموصوف حقيقة بهذه المشتقّات ، وبتوسّطه ، أي بتوسّط اتّحاده مع ذلك الجنس والنوع ، اتّصف الجنس والنوع بها ، وصحّ الحمل بينها بالتّواطؤ ، أي النفس النباتيّة للنبات ، والحيوانيّة للحيوان ، والناطقة للإنسان ، التي بها امتازت هذه عمّن غيرها وتحصّلت وتقوّمت ، ولا نعني بالفصل إلّا هذا.

إيراد شبهة هنا ودفعها

لا يقال : إذا كان امتياز تلك الأنواع بتلك الفصول التي قلت إنّها تلك النفوس ، فامتياز

٥٦

تلك النفوس مع أنّها واقعة تحت أعمّ المقولات البتّة بما ذا؟

لأنّا نقول : هذه شبهة لا اختصاص لها بهذا الموضع ، بل واردة على كلّ فصل ؛ وحلّها أن يقال : إنّ امتياز تلك الفصول إنّما هو بذواتها وأنفسها ، بفصول اخر.

وبيان ذلك أنّ امتياز تلك الفصول بفصول اخر ، إنّما يلزم لو كانت أعمّ المقولات التي فرضتها مقولة على تلك الفصول قولا ذاتيّا ، كقول الجنس على النوع ، وليس الأمر كذلك ، بل قولها عليها قول عرضيّ ، مثلا الحيوان وإن كان يقال على الإنسان والناطق ، إلّا أنّ قوله على الإنسان قول ذاتيّ ، بمعنى أنّه جنس له ، وهو نوع له يحتاج في تميّزه عن غيره بفصل ، وهو النّاطق. وقوله على الناطق ليس كذلك ، فإنّه لو كان كذلك ، لكان الناطق أيضا نوعا والحيوان جنسا له أيضا ، فيحتاج إلى فصل آخر ، وهذا الفصل الآخر لو كان قول الحيوان عليه قولا ذاتيّا كذلك ، فيحتاج إلى فصل آخر ، وهكذا ؛ فيلزم التسلسل ، وهو محال.

فبقي أن يكون قول الحيوان على الناطق قولا عرضيّا ، وأن يكون امتياز الناطق عن غيره بذاته ، من غير احتياج إلى فصل آخر يميّزه عن غيره ، كما هو رأي الشيخ وكثير من الحكماء.

وإن شئت قلت : إن امتيازه عن غيره بذاته ، وكذا بوجوده الخاصّ الذي هو متميّز بذاته ، حتّى يستقيم أيضا على رأي من يجعل الفصل بالحقيقة هو الوجود الخاصّ ، كما في المشخّص. والله أعلم بحقيقة الحال.

ثمّ إنّ قول الشيخ (١) «ثمّ كلّ صورة كمال وليس كلّ كمال صورة ، فإنّ الملك كمال المدينة» إلى آخر ما ذكره بيان للفرق بين الصورة والكمال ، وأنّه إذا قلنا في تعريف النّفس «إنّها كمال» ، كان أولى ، حيث كان أدلّ على معناها المقصود منها ؛ وكان أيضا يتضمّن جميع أنواع النفس من جميع وجوهها النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة ، ولا يشذّ النفس المفارقة عن المادّة كالإنسانيّة عنه ، بخلاف ما إذا قيل في تعريفها : «إنّها صورة» ،

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٧ ، الفصل الأوّل من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

٥٧

ظاهره أنّه بيّن ذلك الفرق بوجهين ، وفرّع على الأوّل منهما الأولويّة من جهة تضمّن جميع أنواع النفس ، وعلى الثاني الأولويّة من جهة كونه أدلّ على معناها.

وبيان الأول : أنّه لا يخفى أنّ كلّ صورة كمال ، أي أنّ كلّ صورة نوعيّة منطبعة في المادّة كمال ، لأنّها ممّا يكمل بها ذو الصورة ، سواء اعتبر كونها كمالا من جهة اعتبار كونها صورة ، حتّى تكون كمالا للجملة منها ومن المادّة ، أو من جهة اعتبارها فصلا ، حتّى تكون كمالا للنوع.

وبالجملة فالصورة كمال ، ولا يخفى أيضا أن ليس كلّ كمال صورة كذلك ، فإنّ الملك كمال المدينة ، والرّبان كمال للسفينة ، من حيث إنّهما يتمّ بهما ما هو المقصود من المدينة والسفينة ويكمل معهما ، والحال أنّهما ليسا بصورتين كذلك للمدينة والسفينة ، بل هما مفارقا الذات عنهما ، وما كان من الكمال مفارق الذات ، لم يكن بالحقيقة صورة للمادّة وفي المادّة ، أي صورة بالمعنى المراد منها عند القوم ؛ فإنّ الصّورة بالمعنى المصطلح عليه هي الصورة المنطبعة في المادّة القائمة بها ، وظاهر أنّ الكمال المفارق الذات ليس كذلك ، اللهمّ إلّا أن يصطلح ويقال لكمال النوع ، وإن كان مفارق الذات : إنّه صورة النوع بالحقيقة. فظهر أنّ الكمال قد يكون صورة منطبعة في المادّة ، وقد يكون مفارق الذات ؛ بخلاف الصورة فإنّها لا تكون مفارقة الذّات إلّا بنوع من الاصطلاح. وظاهر أيضا أنّ النفس التي نحن بصدد تحديدها ، أعمّ من المنطبعة والمفارقة ، حيث إنّها أعمّ من النباتيّة والحيوانيّة المنطبعتين ، ومن الإنسانيّة المفارقة.

فلو قلنا في تحديدها : إنّها صورة ، وأردنا ما بها الكمال أيضا ، لكانت مخصوصة بالاوليين خاصّة ، بخلاف ما إذا قلنا : إنّها كمال ، فإنّه حينئذ يشمل الجميع ، أي جميع أنواع النفس من جميع وجوهها ، ولا يشذّ النفس المفارقة للمادّة عنه ، وهذا هو تحرير ما ذكره.

مناقشة مع الشيخ

إلّا أنّك خبير بأنّ ما ذكره من الشاهد على الكمال المفارق الذات ، كأنّه لا ينطبق على

٥٨

ما نحن بصدده.

فإنّ المقصود وجود كمال مفارق الذات ، أي الّذي ليس بصورة ، مع هذا يكون كونه كمالا باعتبار أنّه فصل للنوع وكمال له ، كالنفس الإنسانيّة على ما عرفت من بيان حالها ، وظاهر أنّ الملك والرّبان ، كما أنّهما ليسا بصورتين للمدينة والسفينة ، ليسا بفصلين لهما أيضا. فالأحسن في بيان الفرق وتفريع الشمول عليه أن يقول : إنّ الصورة المنطبعة كمال ، وليس كل كمال صورة كذلك ، لأنّه قد يكون الكمال للنوع فصلا للنوع ، فصلا ليس صورة في المادّة وللمادّة ، كالنفس المفارقة الإنسانيّة على ما عرفت ؛ ثمّ يفرّع الشمول الذي ادّعاه كما ذكرنا ، لكنّه أعلم.

وأمّا بيان الثاني : فلأنّ الاصطلاح قد استقرّ على أن يكون الشيء بالقياس إلى المادّة صورة ، وبالقياس إلى الجملة غاية وكمالا ؛ أي بالقياس إلى جملة المادّة والصورة من جهة ما هما صورة ومادّة ، بل بالقياس إلى جملتهما من جهة ما هما جنس وفصل ، أي النوع ، غاية باعتبار انتهاء الحركة إليه ، وكمالا باعتبار تماميّة النوع وكماله به ، وبالقياس إلى التحريك ، أي بالقياس إلى تحريكه للمادّة حتّى تصير شيئا بالفعل مبدأ فاعليّا وقوّة محرّكة. وإذا كان الأمر كذلك ، فالصورة من حيث إنّها صورة ، وبالنظر إلى نفس مفهومها الاصطلاحيّ ، تقتضي نسبة إلى شيء بعيد مباين في الوجود من ذات الجوهر الحاصل من الصّورة المتقوّم بها ، وإلى شيء يكون الجوهر الحاصل منها هو ما هو بالقوّة ، وإلى شيء لا ينسب الأفاعيل إليه ؛ وذلك الشيء الموصوف بهذه الأوصاف الثلاثة هو المادّة ، لأنّها صورة باعتبار وجودها للمادّة ؛ والكمال من حيث هو كمال ، وبالنّظر إلى نفس مفهومه الاصطلاحيّ ، يقتضي نسبة إلى الشيء التامّ الذي يصدر عنه الأفاعيل. وبالجملة نسبة إلى الشيء الذي هو بخلاف الشيء الأوّل ، لأنّه كمال باعتباره للنّوع.

فبيّن من هذا : أنّا إذا قلنا في تعريف النّفس : إنّها كمال ، كان أدلّ بمفهومه على معنى النفس الذي هو المقصود هنا ، إذ ظاهر أنّ المقصود من معناها أنّها ممّا يكمل ويتمّ الشيء الذي يصدر عنه الأفاعيل المقصودة منها ، فبهذا الاعتبار أيضا يكون إطلاق الكمال على

٥٩

النفس النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة أولى من إطلاق الصورة عليها ، كما كان ذلك باعتبار الوجه الأوّل ، أي الشمول لجميع أنواع النفس من جميع الوجوه أولى.

وقوله : «وأيضا إذا قلنا : إنّ النفس كمال ، فهو أولى أن نقول : قوّة ، وذلك لأنّ الامور الصادرة عن النفس.» ـ إلى آخر ما ذكره ـ بيان لأولويّة إطلاق الكمال عليها من إطلاق القوّة ، وقد عرفت تحريره مع ما فيه.

وقوله : «لكنّا إذا قلنا : كمال ، لم يعلم من ذلك بعد أنّها جوهر أو ليست بجوهر ، فإنّ معنى الكمال هو الشيء الذي بوجوده يصير الحيوان بالفعل حيوانا ، والنبات بالفعل نباتا ؛ وهذا لا يفهم عنه بعد أنّ ذلك جوهر أو ليس بجوهر ، لكنّا نقول» ـ إلى آخر ما ذكره ـ.

بيان لأنّه بمجرّد إطلاق الكمال على النفس لا يثبت كونه جوهرا بالمعنى الذي اصطلح عليه ، إلّا أنّ توضيحه يستدعي الإحاطة بما ذكره في إلهيّات الشّفاء في فصل تعريف الجوهر وأقسامه بقول كليّ (١)

«قال : إنّ الوجود للشيء قد يكون بالذات ، مثل وجود الإنسان إنسانا ، وقد يكون بالعرض ، مثل وجود زيد أبيض. والامور التي بالعرض لا تحدّ. فلنترك الآن ذلك ولنشتغل بالموجود ، والوجود الذي بالذات.

فأقدم أقسام الموجودات بالذات هو الجوهر ، وذلك لأنّ الموجود على قسمين :

أحدهما : الموجود في شيء آخر ، ذلك الشيء الآخر متحصّل القوام والنوع في نفسه ، وجودا لا كوجود جزء منه ، من غير أن يصحّ (٢) مفارقته لذلك الشيء ، وهو الموجود في موضوع.

والثاني : الموجود من غير أن يكون في شيء من الأشياء بهذه الصّفة ، فلا يكون في موضوع البتّة ، وهو الجوهر.

وإن كان ما اشير إليه في القسم الأوّل موجودا في موضوع ، فذلك الموضوع لا يخلو

__________________

(١) الشفاء ـ الإلهيّات / ٥٧ ـ ٦٠.

(٢) في المصدر : تصحّ.

٦٠