منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-341-1
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٥٦

سلف. سلّمنا أنّ هذا التّمييز هو للعقل ، أي للنّفس بذاتها إلّا أنّه يجب لا محالة أنّ العقل يجدهما معا حتّى يميّز بينهما ويحكم ، وذلك أيضا محال ، لأنّ المحسوسات من حيث هي محسوسة ، وعلى النحو المتأدّي من المحسوس ، لا يدركها العقل ، لما سنوضّح من بعد ، فمحال أن يكون حصول ذلك في العقل أيضا. فإذن لا بدّ من قوّة أخرى غير الحسّ الظّاهر يجتمع فيها صور المحسوسات بالتأدّي إليها من طرق الحواسّ ، حيث إنّها كجواسيس لهذه القوّة ، تؤدّي مدركاتها إليها ، فيجتمع تلك المدركات فيها ، ولذلك سمّيت بالحسّ المشترك وهو المطلوب.

وفي قوله : «وذلك لأنّها من حيث هي محسوسة ، وعلى النحو المتأدّي من المحسوس لا يدركها العقل» إيماء إلى دفع إيراد ربّما يمكن أن يورد هاهنا.

بيان إيراد مع دفعه

بيان الإيراد : أنّ الحاكم والمميّز بالحقيقة ليس إلّا العقل ، وإسناد الحكم والتمييز إلى القوّة مجاز ، واجتماع الأشياء عند النّفس حال حكمها عليها وبها قد يكون بارتسامها كلّها في ذاتها أو في قواها العقليّة ، كما إذا حكمت بين المعقولات وميّزت بينها ، وقد يكون بارتسام بعضها في ذاتها أو في قواها العقليّة وارتسام بعض آخر في آلاتها وقواها الجسمانيّة ، كما إذا حكمت مثلا على زيد بأنّه إنسان ، وعلى هذا الحجر بأنّه ليس بإنسان ، وميّزت بينهما ، وقد يكون بارتسامها في آلتين وقوّتين جسمانيّتين لها ، كما إذا حكمت ـ مثلا ـ على هذا اللّون بأنّه غير هذا الطّعم ، وعلى هذا الأحمر بأنّه حلو ، وميّزت بينهما ، وحينئذ فلا حاجة إلى قوّة أخرى يجتمع فيها صور المحسوسات. بل إنّ تلك الصّور المحسوسة إنّما هي في قواها المختصّة بها ، وهي حاضرة عند النّفس ، لكونها حاصلة في آلات النّفس التي علم النفس بها علم حضوريّ ، وبذلك تحكم بينها وتميّز بينها.

وأمّا بيان الدفع لهذا الإيراد ، فهو مبنيّ على مقدّمة ، أحال وضوحها على ما ذكره من كلماته من بعد ذلك ، وسبقت أيضا الإشارة منه إليها في بعض كلماته المتقدّمة على ذلك ،

٣٢١

وسلفت الإشارة منّا إليها أيضا فيما سبق من كلماتنا ، وهي أنّ كلّ إدراك حصوليّ إنّما هو أخذ صورة المدرك بنحو من الأنحاء ، وأنّه إن كان ذلك الإدراك إدراكا لشيء مادّيّ ، فهو أخذ صورته مجرّدة عن المادّة وعلائقها تجريدا.

إلّا أنّ أصناف التّجريد مختلفة ، ومراتبه متفاوتة ، كما في إدراك الصّور المحسوسة التي تدركها الحواسّ الظّاهرة والباطنة ، وإدراك الصّورة المعقولة التي تدركها النّفس ، وأنّ لتلك الصّور المأخوذة نسبتين : نسبة إلى الشيء الذي انتزعت تلك الصّورة منه ، ونسبة إلى المحلّ القابل لها الذي هي حصلت فيه.

وبالاعتبار الأوّل ، فهي مطابقة بحسب الماهيّة مع الشيء المأخوذ منه الصّورة ، ولذلك يسري الحكم منها إليه. وكذا هي مجرّدة عن الوجود الخارجيّ مطلقا ، وكذا عن المادّة وعلائقها إن كان الشيء مادّيّا ، ولذلك كانت مخالفة له في كثير من اللّوازم كما مرّ بيانه. وبالاعتبار الثّاني فهي معروضة لنحو وجود عينيّ جزئيّ باعتبار قيامها بمحلّ عينيّ وجزئيّ.

وكذلك هي بالاعتبار الأوّل معلومة ، أي معلومة بالذات ، وبتوسّطها يكون الشيء المنتزع هي منه معلومة بالعلم الحصوليّ ، أي أنّها إن كانت صورا مادّيّة جزئيّة تحصل في الآلات البدنيّة التي هي آلات للنّفس ، وكذا هي آلات لقوى النّفس ، فتدركها تلك القوّة المختصّة بكلّ واحدة أوّلا ، وبتوسّط تلك القوّة تدركها النّفس إدراكا حصوليّا ، وإن كانت صورا كلّيّة تحصل في النّفس بذاتها ، فتدركها بقوّتها العقليّة إدراكا حصوليّا أيضا. وأمّا هي بالاعتبار الثّاني ، فمعلومة للنّفس علما حضوريّا ، إذ ليس يتوسّط بينها وبين تلك الصّورة صورة أخرى ، بتلك الصّورة يحصل علم النّفس بالصّورة الأولى علما حصوليّا ، بل إنّ الصّورة الأولى حاضرة بذاتها عند النفس ، مثل علمها بآلاتها وبقواها وبذاتها وبعلمها لعلمها وأمثال ذلك ممّا هو معلوم للنّفس علما حضوريّا.

وبعد تمهيد تلك المقدّمة ، نقول : لا شكّ إنّا إذا رجعنا إلى وجداننا في صورة تمييزنا بين المحسوسات ، وحكمنا عليها وبها ، نجد أنّ إدراكنا المحسوسين اثنين أو أكثر ، مثل

٣٢٢

إدراكنا لمحسوس واحد ، وبقوّة واحدة ، ولا نجد فرقا بين أن ندرك صورة مبصرة مثلا ، وأن ندرك صورتين مبصرة ومذوقة حين تمييزنا بينهما ، فيجب أن يكون إدراكنا في الحالتين على نسق واحد غير مختلف ، وكما إنّا إذا أبصرنا شيئا يكون إبصارنا ، له بحصول صورته في آلة الباصرة فتدركها القوّة الباصرة ثمّ تدركها النّفس بتوسّطها ، كذلك ينبغى أن يكون إدراكنا للمبصر والمذوق معا مثلا بحصول صورتيهما في آلة من الآلات البدنيّة ، فتدركهما قوّة شأنها إدراك المحسوسات كلّها التي قلنا إنّها الحسّ المشترك ، وآلتها الرّوح المصبوب في مقدّم البطن المقدّم من الدماغ. وإسناد الحكم والتّمييز إلى هذه القوّة لا ينافي إسنادهما إلى النّفس أيضا ، حيث إنّ الحاكم والمميّز أوّلا هو هذه القوّة ، وبتوسّطها تكون النّفس أيضا مميّزة وحاكمة ، لكونها قوّة من قواها ، وبتوسّطها تصدر الأفعال عن النّفس ، كما في القوى والحواسّ الأخر.

وبالجملة ، فإنّا لا نجد فرقا في ذلك بين إدراكنا لمحسوس واحد ، وبين إدراكنا لأزيد من واحد ، فكيف يكون إدراك المحسوس الواحد بحصول صورته في آلة حاسّة من الحواسّ تدركها تلك الحاسّة أوّلا وبتوسّطها تدركها النّفس إدراكا حصوليّا كما هو المقرّر عندهم ، ويكون إدراك المحسوسات إذا كانت أزيد من واحد ، بحصول صورة كلّ واحد في آلة مخصوصة بها ، فتدركها الحواسّ الخاصّة بها أوّلا إدراكا حصوليّا ثمّ تدركها النّفس إدراكا حضوريّا بحصولها في آلاتها وحضور الآلات مع ما فيها عندها ، كما في علم النّفس بآلاتها وبذاتها وعلمها بعلمها ، كما هو مبنى الإيراد.

وعلى هذا ، فكأنّ معنى كلام الشيخ : «وذلك لأنّها من حيث هي محسوسة ، وعلى النّحو المتأدّي من المحسوس لا يدركها العقل».

أنّها من هذه الحيثيّة لا يدركها العقل أصلا ، لا بأن يحصل صورها في ذات النّفس بدون حصولها في آلاتها ، فتدركها النّفس إدراكا حصوليّا كما في إدراكها للصّور المعقولة ، حيث إنّها لكونها مجرّدة عن المادّة وتوابعها ، يحتاج إدراكها للصّور المحسوسة إلى قوى جسمانيّة وآلات بدنيّة ، ولا بأن تحصل تلك الصّور في آلاتها ، فتدركها النّفس إدراكا

٣٢٣

حضوريّا لحضور تلك الآلات مع ما فيها عندها ، لأنّا لا نجد فرقا بين إدراكنا لمحسوس واحد وإدراكنا لأكثر من واحد.

إيراد آخر مع دفعه

فإن قلت إذا كان إدراك أمرين محسوسين أو أكثر والتمييز بينهما أو بينها دليلا على إثبات قوّة على حدة ، تدرك ذينك الأمرين أو تلك الأمور ، لكان لا يجب أن يكون إدراك الكلّيّ والجزئيّ والتمييز بينهما ، والحكم بأحدهما على الآخر ، كما في قولنا : زيد إنسان وهذا الحجر ليس بإنسان ، دليلا على إثبات قوّة على حدة تدركهما وتميّز بينهما ، ولم يقل به أحد.

قلت : ذلك إنّما هو لأجل أنّ إثبات قوّة واحدة على حدة تدرك الكلّيّ والجزئيّ ، ممّا لا يمكن ، حيث إنّ إثبات قوّة كذلك يستلزم القول بكونها مجرّدة وغير مجرّدة معا ، وهذا محال. ولذلك قالوا : إنّ النّفس في تمييزها بين الكلّيّ والجزئيّ تدركهما بقوّتين ، يعنى إنّها تدرك الكلّيّ بقوّة عقليّة ، وبحصول صورته في ذاتها ، وتدرك الجزئيّ بقوّة جسمانيّة ، وبحصول صورته في آلتها ، وبما ذكرنا تمّ الدليل على هذا المرام ، واندفع الإيراد عنه ، إلّا أنّه بقي هاهنا دقيقة.

دقيقة

ينبغى التنبيه عليها ، وهي أنّ التمييز بين المحسوسات والحكم بينها ، كما هو دليل على إثبات الحسّ المشترك كما ذكره الشّيخ ، وبيّنّا وجهه ، كذلك هو دليل على إثبات الخيال أيضا ، كما سيومئ كلامه إليه ، ولذلك قال في الإشارات (١) : «وبهاتين القوّتين يمكنك أن تحكم أنّ هذا اللّون غير هذا الطّعم» وأشار بقوله : «هاتين القوّتين» إلى الحسّ المشترك والخيال.

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ / ٣٣٨.

٣٢٤

وقال المحقّق الطّوسيّ (ره) في شرحه (١) : (٢) «إنّ (٣) هذا الاستدلال مشترك على وجودهما معا ، وهو بناء على أنّ النّفس لا تدرك المحسوسات إلّا بقوى جسمانيّة ، وتقريره أنّها لا تدرك بحسّ واحد من الحواسّ الظّاهرة غير نوع واحد من المحسوسات. فإذن لا بدّ لها حين تحكم على أبيض ما أنّه ذو حلاوة ، من قوّة تدرك البياض والحلاوة معا بها ، ولا محالة يكون (٤) نسبة جميع المحسوسات إلى تلك القوّة نسبة واحدة. وأيضا كما أنّ النّفس لا تقدر على هذا الحكم إلّا بقوّة مدركة للجميع ، فإنّها أيضا لا تقدر على ذلك إلّا بقوّة حافظة للجميع ، وإلّا فينعدم (٥) صورة كلّ واحد من البياض والحلاوة عند إدراك الآخر والالتفات إليه» ـ انتهى ـ.

وبما ذكره يظهره وجه إثبات الخيال أيضا بذلك.

في إثبات الحسّ المشترك للحيوانات العجم أيضا

والإشارة إلى دفع ذلك الإيراد بوجه آخر

ثمّ قول الشيخ : «ولو لم يكن قد اجتمع عند الخيال من البهائم التي لا عقل لها ، المائلة بشهوتها إلى الحلاوة ـ إلى آخره ـ».

بيان لأنّ هذا التّمييز بين المحسوسات والحكم بينها ، كما أنّه معلوم التّحقّق في الإنسان ، ودليل على وجود الحسّ المشترك له ـ كما ذكر بيانه ـ كذلك هو معلوم التّحقّق في غير الإنسان من البهائم الّتي لا عقل لها ، والحيوانات العجم ؛ فيدلّ على وجوده فيها أيضا ، وعلى أنّه من قوى النّفس الحيوانيّة بما هي حيوانيّة ، سواء كانت في الإنسان أو في غيره من الحيوانات ، وأنّه ـ على هذا التقدير ـ لا مجال لتوهّم الإيراد الذي يتوهّم وروده على تقدير الاستدلال بوجود ذلك التّمييز والحكم في الإنسان على وجود الحسّ المشترك له ، حيث إنّه في الحيوانات العجم والبهائم التي لا عقل لها أو غير معلوم وجود

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩.

(٢) في المصدر : وأمّا قول الشّيخ (...)

(٣) فاستدلال مشترك ...

(٤) تكون ...

(٥) فتنعدم.

٣٢٥

العقل والنّفس الناطقة المجرّدة لها ، بل إنّ المعلوم أنّ نفوسها منطبعة في المادّة ، لا يمكن أن يحصل لها العلم الحضوريّ بما في قواها وحواسّها ، لا مجال لتوهّم أنّ تلك الصّور حاصلة في آلاتها وحواسّها ، وهي حاضرة عند نفوسها ، وبذلك تحكم وتميّز بينها ، كما يمكن أن يتوهّم ذلك في الإنسان.

أمّا بيان وجود هذا الحكم والتّمييز في الحيوانات العجم ، فلأنّه لو لم يكن قد اجتمع عند الخيال من البهائم التي لا عقل لها المائلة بشهوتها وبقوّتها الشهوانيّة إلى الحلاوة ، وبالجملة إلى الشيء الملائم لها ، إنّ شيئا صورته كذا هو حلو وملائم لها ، لما كانت إذا رأته همّت بأكله ، وحيث كانت حالها كذلك ، فهي تحكم بأنّ المبصر الكذائيّ هو حلو وملائم لذائقتها ، ومذوق مثلا وتميّز بينهما. كما أنّه لو لا عندنا أنّ هذا الأبيض هو هذا المعنى ، لما كنّا إذا سمعنا معناه الشخصيّ أثبتنا عينيّته الشّخصيّة ، وبالعكس ، حيث إنّا نميّز بين المبصر والمسموع ، ونحكم بينهما. وبالجملة فحال البهائم التي لا عقل لها في ذلك ، مثل حالنا فيه سواء بسواء ، فحيث كانت هي صدر عنها ذلك التّمييز والحكم ، فتدرك هي أيضا نوعين من المحسوس معا ، فإذن لا بدّ لها من قوّة لذلك ، وليست تلك القوّة إحدى الحواسّ الظّاهرة ، لأنّها لا تدرك إلّا نوعا واحدا من المحسوسات كما سلف بيانه ، ولا النّفس الحيوانيّة ، لأنّها لا تدرك محسوساتها إلّا بقوى جسمانيّة ، وليس لها لكونها منطبعة في المادّة أن تدرك الصّور التي في قواها وآلاتها إدراكا حضوريّا كالنّفس المجرّدة ، فبقي أن يكون هي قوّة من القوى الباطنة ، ونحن نسمّيها بالحسّ المشترك وفيه المطلوب.

وإنّما قال : «لو لم يكن قد اجتمع عند الخيال» ، إيماء إلى أنّ للخيال أيضا دخلا ما في ذلك الحكم والتّمييز من جهة حفظ تلك الصّور ، كما أنّ للحسّ المشترك دخلا فيه من حيث الإدراك كما عرفت بيانه.

وأيضا لو لم يكن في الحيوان مطلقا قوّة يجتمع فيها صور المحسوسات ، لتعذّر عليه الحياة. إذ لو لم يكن الشّمّ مثلا دالّا لها على الطّعم الملائم أو المنافر ، ولم تكن تدرك أنّ هذا المشموم مذوق ملائم أو غير ملائم ، وكذا لو لم يكن الصّوت دالّا إيّاها على الطّعم ، ولم

٣٢٦

تكن تدرك أنّ هذا المسموع مذوق ملائم أو غير ملائم. وكذا لو لم يكن المبصر كالصّورة الخشبيّة مثلا تذكّرها صورة ودليلا لها على أنّ هذا المبصر ملموس متنفّر عنه ، يحصل من لمسها ألم لها حتّى تهرب منها ، لتعذّر عليها الحياة. وحيث كان كذلك ، فيجب ـ لا محالة ـ أن يكون لهذه المحسوسات مجمع واحد من باطن ، وقوّة باطنيّة مدركة لها ، وهو المطلوب.

وقوله : «وقد يدلّنا على وجود هذه القوّة ، اعتبارات أمور تدلّ على أنّ لها آلة غير الحواسّ الظّاهرة» ـ إلى آخره ـ».

استدلال بوجوه أخر على وجود هذه القوّة للإنسان ، ومبنى الوجهين الأوّلين على أنّ الدّوران والدّوّار كما ذكره إنّما يعرض بسبب حركة البخار في الدّماغ ، وفي الرّوح التي فيه ، أي الرّوح الّتي في البطن المقدّم منه ، وهي آلة للحسّ المشترك ، وذلك مقرّر بين الأطبّاء وحكماء الطّبيعيّين. فالاستدلال بالوجهين على ذلك ، لا غبار عليه على أصولهم.

وقوله : «وكذلك تخيّل استعجال المحرّك النّقطيّ مستقيما أو مستديرا على ما سلف من قبل» وجه آخر مشهور بينهم ، وبيانه يظهر ممّا نقلنا أوّلا من كلامه في فصل تعديد قوى النّفس الإنسانيّة.

وقد اكتفى في الإشارات بهذا الدّليل على وجود الحسّ المشترك في مقام بيان الدّليل المنفرد عليه.

وبيّنه المحقّق الطّوسي (ره) في شرحه ، بأن قال (١) : «والحاصل أنّ الموجود في الخارج كنقطة ، والمرئيّ كخطّ ، والنقطة المتحرّكة ترتسم في البصر عند وصولها إلى مكان ما يحدث (٢) بحسب المقابلة بينهما ، وتزول عنه بزوال المقابلة. والمقابلة إنّما تحصل في آن يحيط به زمانان لا حصول لها فيهما ، لكون الحركة غير قارّة ، فلو لا شيء آخر غير البصر ترتسم فيه تلك النّقطة ، وتبقى قليلا على وجه يتّصل الارتسامات المتتالية في البصر

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ / ٣٣٣.

(٢) في المصدر : ما تحدث بحسبه.

٣٢٧

وفيه بعضها ببعض ، لم يكن اتّصال ، فلم ير خطّ ، فإذن هاهنا قوّة قد بقي فيها الارتسام البصريّ شاهدا (٣)».

ثمّ ذكر أنّه اعترض الإمام الرّازي على هذا الاستدلال بأن قال (١) : «لم لا يجوز أن يكون اتّصال الارتسامات في الهواء ، بأن يكون كلّ شكل (٤) يحدث في جزء من الهواء ، لوصول (٥) النّقطة إليه ، فإنّه يحدث قبل زوال الشّكل السّابق ، فيتّصل (٦) التّشكّلات وترى (٧) خطّا ، قال : وهذا أولى ممّا قالوه ، لأنّ القول بمشاهدة ما ليس في الخارج سفسطة وجهالة».

ثمّ قال : «ولم لا يجوز أن يكون ذلك في البصر ، والعلم بأنّ البصر لا يرتسم (٨) فيه إلّا صورة المقابل ليس ببرهانيّ ، والتجربة لا تفيده».

ثمّ أجاب المحقّق (ره) عن هذا الاعتراض بأن قال (٢) :

«والجواب عن الأوّل ، بأنّ بقاء التّشكّل السّابق عند تشكّل (٩) بعده يقتضي الخلاء ، فإنّ التّشكّل إنّما حدث في الهواء لنهاياته المحيطة بالجسم المتحرّك فيه ، وبقاء النهايات بحالها بعد خروج المتحرّك عنها ، يقتضي إحالة (١٠) النهايات بالخلاء.

وعن الثّاني أنّ (١١) القول بذلك أولى بأن ينسب إلى السفسطة والجهالة ، من القول بوجود قوّة للإنسان يدرك بها شيئا بعد غيبته ، لأنّه مع كونه مشتملا على القول بمشاهدة ما ليس في الخارج ، قول بمشاهدة ما لا يقابله البصر ، ولا يكون في حكم ما يقابله». ـ انتهى كلامه ره ـ.

ثمّ إنّ قول الشّيخ : «ولأنّ تمثّل الأشباح الكاذبة وسماع الأصوات الكاذبة قد يعرض لمن يفسد لهم آلات الحسّ ، أو كان مثلا مغمضا لعينيه.» ـ إلى آخره ـ.

دليل آخر على وجود الحسّ المشترك ، مبناه على تأدّي الصّور إليه من قبل الحواسّ

__________________

(٣) في المصدر : مشاهدا ...

(٤) كلّ تشكّل تحدث ...

(٥) بوصول ...

(٦) فتتّصل ...

(٧) ويرى ...

(٨) لا ترتسم ...

(٩) عند حصول التشكّل بعده ...

(١٠) إحاطة ...

(١١) بأنّ.

(١) شرح الإشارات ٢ / ٣٣٤.

(٢) شرح الإشارات ٢ / ٣٣٤.

٣٢٨

الباطنة ، كما أنّ ما تقدّم مبناه على تأدّي الصّور إليه من قبل الحواسّ الظّاهرة. وبيان هذا الدليل ظاهر كما ذكره.

وقوله : «فهذه القوّة هي التي تسمّى الحسّ المشترك» نتيجة لما تقدّم من الوجوه ؛ وقوله : «وهي مركز الحواسّ ومنها ينشعب الشعب ، وإليها تؤدّي الحواسّ ، أي الحواس الظّاهرة مطلقا ، والحواسّ الباطنة في الجملة» ، وفيه دلالة على وحدة هذه القوّة من جهة ، وكثرتها من جهة أخرى ، وهو مطابق لما ذكره ابن رشد ، ومثّله موافقا لما هو المنقول عن المعلّم الأوّل بالخطوط التي تخرج من مركز الدائرة إلى محيطها ، حيث إنّ هذه القوّة كالمركز ، وتلك الحواسّ كتلك الخطوط الخارجة.

وقوله : «وبالحقيقة هي التي تحسّ» فيه دلالة على أمرين :

الأوّل أنّ هذه القوّة ممّا تحسّ ، وبيانه ظاهر ممّا تقدّم. والثّاني أنّ الحاسّ بالحقيقة هو هذه القوّة دون غيرها من الحواسّ ، وكأنّ وجهه أنّ الحواسّ الأخر لمّا كانت تحسّ من غير استثبات الصّورة فيها ، وكانت هذه تحسّ مع استثباتها فيها ، فكانت هي بالحقيقة تحسّ.

وقوله : «لكن إمساك ما يدركه هذه للقوّة التي تسمّى خيالا وتسمّى مصوّرة وتسمّى متخيّلة».

يعني أنّ إمساك ما يدركه الحسّ المشترك بعد غيبة المحسوس إنّما هو للقوّة التي تسمّى بهذه الأسامي باعتبارات مختلفة» وفيه دلالة على إثبات الخيال ، مع إشارة ما إلى أنّ الخيال غير الحسّ المشترك ، حيث إنّ الحسّ المشترك هو المدرك للصّور المحسوسة ، والخيال هو الممسك لها ، والممسك غير المدرك كما سيأتي وجهه.

وقوله : «وربّما فرّق بين الخيال والمتخيّلة بحسب الاصطلاح».

فيه إشعار بأن لا فرق بين الخيال والمصوّرة بحسب الاصطلاح ، فإنّهما واحدة ، وتسمّى مصوّرة وخيالا باعتبار إمساك الصّور فيها وحفظها لها ، كما يدلّ عليه كلامه الآتي ، حيث قال : «فصورة المحسوس يحفظها القوّة التي تسمّى المصوّرة والخيال» ،

٣٢٩

ويدلّ أيضا عليه ما نقلنا عنه في تعديد القوى ، فتذكّر.

وقوله : «ونحن ممّن نفصّل ذلك والصّور الّتي في الحسّ المشترك» أي نحن ممّن نفرّق بين الخيال والمتخيّلة ، وكذا بين الصّور التي في الحسّ المشترك المتأدّية إليه من طرق الحواسّ الباطنة الّتي يسمّى حافظها الخيال والمصوّرة ، والصّور المتأدّية إليه من طرق الحواسّ الباطنة الّتي يسمّى مركّبها ومفصّلها متخيّلة ، كما سيأتي في كلامه.

وقوله : «والحسّ المشترك والخيال كأنّها قوّة واحدة». ـ إلى آخره ـ أي قوّة واحدة بالموضوع ، وكأنّهما لا تختلفان في الموضوع ، حيث إنّ موضوعهما جميعا هو البطن المقدّم من الدّماغ ، وإن كان مقدّمه موضوعا للحسّ المشترك ، ومؤخّره موضوعا للخيال ، بل في الصّورة. أي بل إنّما تختلفان في الصّورة الحاصلة فيهما ، لكن لا في ذات الصّورة نفسها ، بل من جهة أخرى يدلّ عليها قوله «وذلك لأنّه ليس أن يقبل هو أن يحفظ ، فصورة المحسوس يحفظها القوّة التي تسمّى المصوّرة والخيال» يعني أنّ تلك الصّور إنّما تحصل في الحسّ المشترك من حيث إنّه مدرك لها ، قابل إيّاها ، وتحصل في الخيال من حيث إنّه حافظ لها ، ممسك إيّاها ، وحيث كان القبول والحفظ أمرين متغايرين ، كان لا محالة مبدءاهما ، وهما الحسّ المشترك والخيال متغايرين.

ومعنى قوله : «وذلك لأنّه ليس أن يقبل هو أن يحفظ» كما يدلّ عليه قوله فيما نقلنا عنه في فصل تعديد القوى : «واعلم أنّ القبول لقوّة غير القوّة التي بها الحفظ ، فاعتبر ذلك من الماء ، فإنّ له قبول النّقش والرّقم وبالجملة الشّكل وليس له قوّة حفظ» أنّ القبول من حيث هو قبول مغاير للحفظ من حيث هو حفظ ، فإنّهما لو كانا متّحدين ، لما تخلّف أحدهما عن الآخر ، كما في الماء ، حيث إنّ له القبول دون الحفظ. وحيث كان متخلّفا أحدهما عن الآخر ، فكان أحدهما غير الآخر ، وكان مصدراهما أيضا متغايرين ، لأنّ الواحد لا يصدر عنه من جهة واحدة إلّا الواحد ، كان الحسّ المشترك من حيث إنّه قابل للصّور غير الخيال من حيث إنّه حافظ لها ، وبهذا يتمّ الدّليل على وجودهما ، وعلى مغايرة أحدهما للآخر.

٣٣٠

ولا يرد النقض بالأشياء التي تجتمع فيها القبول والحفظ معا ، كالأرض التي يجتمع فيها قبول صورة ما وحفظها ، لأنّ ذلك إنّما هو لقوّتين فيها ، وكالخيال نفسه الذي هو مع حفظ الصّورة قابل لها أيضا حيث إنّ حفظ الصّورة لا يتصوّر بدون القبول ، لأنّ الخيال ليس شأنه بذاته قبول الصّور ، بل إنّما ذلك القبول من جهة أنّه لمّا كان خزانة للحسّ المشترك القابل للصّور وحافظا لها ، وكان الحفظ متوقّفا على القبول مسبوقا به ، فلذا كان قابلا لها أيضا ، وكان قبولها لها لا بالذات ، بل بالواسطة وبالعرض ، كما أنّ كثيرا من القوى يصدر عنها بالذّات فعل ، وبالواسطة فعل آخر مغاير للأوّل ، والمقصود إثبات قوّة شأنها بالذّات أن تكون قابلة للصّور. وظاهر أنّ الخيال ليس كذلك ، بل إنّما هي الحسّ المشترك ، كما أنّ المقصود ، إثبات قوّة شأنها بالذّات حفظ الصّور ، وهي ليست بالحسّ المشترك ، بل إنّما هي الخيال.

وكذلك لا يرد النّقض بالأشياء التي يصدر عنها الكثير ، كالحسّ المشترك الذي يجتمع فيه صور المحسوسات ويدركها جميعا ، وكالنّفس التي تصدر عنها أفعال مختلفة أشرنا إليه من قبل ، حيث قلنا إنّ الصّادر بالذّات من الحسّ المشترك هو استثبات الصّور ، ثمّ يصير مستثبتا لأنواع المحسوسات ، كالألوان والطّعوم والروائح وغيرها بقصد ثان ، لانقسام تلك الصّور إليها ، وأنّ النّفس إنّما يتكثّر فعلها لتكثّر وجوه الصّدورات عنها.

وقوله : «وليس إليها حكم البتّة بل حفظ ، وأمّا الحسّ المشترك والحواس الظّاهرة ، فإنّها تحكم بجهة ما ، أو بحكم ما ، فيقال : إنّ هذا المتحرّك أسود ، وإنّ هذا الأحمر حامض ، وهذا الحافظ لا يحكم به على شيء من الموجود إلّا على ما في ذاته ، بأنّ فيه صورة كذا».

بيان لفرق آخر بين الحسّ المشترك والخيال غير ما تقدّم.

وشرحه : أنّه كما أنّهما متغايران من جهة الصّورة الحاصلة فيهما باعتبار أنّ أحدهما ـ وهو الحسّ المشترك ـ قابل لها لا حافظ ، والآخر ـ وهو الخيال ـ حافظ بذاته لا قابل ، وأنّ قبولها لها لا لذاته بل بالعرض. ولأجل أنّ الحفظ يتوقّف على القبول ، كذلك بينهما فرق آخر يدلّ على تغايرهما ، وهو أنّ الخيال والمصوّرة ليس إليهما حكم البتّة بوجه من

٣٣١

الوجوه ، بالقياس إلى الصّور التي هي حافظة لها إلّا على ما فى ذاتها بأنّ فيها صورة كذا ، وأمّا الحسّ المشترك ، فإنّه يحكم بها وعليها حكما إيجابيّا أو سلبيّا ، ويميّز بينها كما مرّ.

وإنّما قال : «وأمّا الحسّ المشترك والحواسّ الظّاهرة ، فإنّها تحكم» وضمّ إلى الحسّ المشترك الحواسّ الظّاهرة في ذلك ، مع أنّه ليس إليها أيضا حكم كما مرّ. إشعارا بأنّ الحسّ المشترك له حكم بمعونة الحواسّ الظّاهرة ، ويتأدّى الصّور منها إليه ، فكأنّها شريكة له في ذلك.

وقوله : «ثمّ قد نعلم يقينا أنّ في طبيعتنا أن نركّب المحسوسات بعضها إلى بعض ، وأن نفصّل بعضها عن بعض لا على الصّورة التي وجدناها عليها من خارج ، ولا مع تصديق بوجود شيء منها أو لا وجوده ، فيجب أن يكون فينا قوّة تفعل ذلك بها ، وهذه هي التي تسمّى إذا استعملها العقل مفكّرة ، وإذا استعملها قوّة حيوانيّة متخيّلة».

بيان لإثبات القوّة المتخيّلة ، ولمغايرتها لقوّة الخيال ، ولتسميتها مفكّرة ومتخيّلة باعتبارين ، وشرحه واضح ، وإنّما خصّها هنا بتركيب الصّور التي لا وجود لها في الخارج وتفصيلها إشعارا بأنّ أغلب أفعالها وأظهرها إنّما هو تركيب الصّور التي لا وجود لها في الخارج وتفصيلها ، وإلّا فمن شأنها تركيب الصّور الموجودة في الخارج أيضا وتفصيلها ، كما يدلّ عليه إطلاق كلامه فيما نقلنا عنه في تعديد القوى ، حيث قال : «من شأنها أن تركّب بعض ما في الخيال مع بعض ، وتفصّل بعضها عن بعض بحسب الإرادة».

وبقي شيء ، وهو أنّ كلامه في «الإشارات» حيث قال في بيان هذه القوّة : «لها أن تركّب وتفصّل ما يليها من الصّور المأخوذة من الحسّ ، والمعاني المدركة بالوهم ، وتركّب أيضا الصّور بالمعاني وتفصّلها عنها ، وتسمّى عند استعمال العقل مفكّرة ، وعند استعمال الوهم متخيّلة ، مع دلالته على أنّه من شأنها أيضا تركيب المعاني بالمعاني وتفصيلها عنها ، والحال أنّه لم يذكر ذلك في هذا الكلام منه في «الشفاء» ، كأنّه موهم لاختصاص الصّور المركّبة والمفصّلة بالصّور الموجودة في الحال ، حيث إنّ الحسّ أي الحسّ الظّاهر لا يدرك إلّا الموجودة دون المخترعة. فعلى هذا فيكون بين كلامه في

٣٣٢

«الشفاء» وكلامه في «الإشارات» مخالفة من وجهين.

فيه رفع المخالفة بين كلامي الشيخ في الشفاء والإشارات

وأمّا رفع تلك المخالفة من الوجه الأوّل ، فيمكن بأن يقال : لعلّه في هذا القول من «الشّفاء» لو أراد بالصّور مقابل المعاني ، ولم يرد بها الصّورة الحاصلة من الشيء مطلقا ـ سواء كانت صورا بحسب الاصطلاح أو معان بحسبه ـ اكتفى ببيان بعض أفعال تلك القوّة ، وهو تركيب الصّور بعضها ببعض وتفصيلها عنها ، حيث إنّ المقصود وهو إثبات القوّة المتخيّلة يتمّ به ، وهذا لا ينافي أن يكون من شأنها أيضا تركيب المعاني بالمعاني وتفصيلها عنها ، وكذا تركيب الصّور بالمعاني وتفصيلها عنها ، ويدلّ عليه أنّه فيما بعد ذلك من كلامه ، قال هكذا : «وهذه القوّة المركّبة بين الصّورة والصّورة ، وبين الصّورة والمعنى ، وبين المعنى والمعنى ، كأنّها القوّة الوهميّة بالموضوع» ـ إلى آخره ـ فذكر جميع أفعالها.

وأمّا هو في «الإشارات» فبيّن جميع أفعالها المذكورة.

وأمّا رفع المخالفة من الوجه الثاني ، فيمكن بأن يقال : لعلّه في «الشّفاء» ـ كما ذكرنا ـ خصّص في أحد كلاميه الصّور بالصّور غير الموجودة إشعارا بأنّها الأعمّ الأغلب الأظهر ، وفي كلامه الآخر ، أطلق الصّور إشعارا ببيان الواقع.

وفي «الإشارات» إمّا أن أراد بالصّور المأخوذة من الحسّ الصّور المأخوذة من الحسّ مطلقا ، سواء كان حسّا ظاهرا ، أم حسّا باطنا ، فتشمل الصّور الواقعيّة الموجودة التي تدركها الحواسّ الظّاهرة ، فتدركها الحسّ المشترك ، وتجتمع في الخيال والصّور المخترعة ، غير الموجودة التي يخترعها الخيال ، ويصدق عليها أنّها مأخوذة من الخيال.

وإمّا أن أراد بالصّور المأخوذة من الحسّ الصّور التي من شأنها أن يدركها الحسّ الظّاهر ، ويمكن أن تؤخذ منه ، سواء كانت صورا واقعية أو غير واقعيّة ، بل مخترعة ، فإنّ هذه أيضا من شأنها أن تؤخذ من الحسّ الظّاهر على تقدير إمكان وجودها. وعلى

٣٣٣

التقديرين ، فيكون كلامه موافقا لما ذكره في «الشّفاء» في فصل تعديد القوى. وعلى تقدير تسليم أنّه أراد بالصّور المأخوذة من الحسّ الصّور الواقعيّة المأخوذة بالفعل من الحسّ الظّاهر ، فلعلّه اكتفى في تركيب الصّور وتفصيلها بالصّور الواقعة ، إشعارا بأنّ هذا أيضا من جملة أفعال تلك القوّة ، وبأنّه به أيضا يتمّ المقصود ، وهو إثبات المتخيّلة ، ولا ينافي ذلك أن يكون من شأنها أيضا تركيب الصور غير الواقعيّة وتفصيلها.

ثمّ إنّ قوله : «ثمّ إنّا قد نحكم في المحسوسات بمعان لا نحسّها ، إمّا أن لا تكون في طبائعها محسوسة البتّة وإمّا أن تكون محسوسة ، لكنّا لا نحسّها وقت الحكم» ـ إلى آخره ـ.

بيان لإثبات القوّة التي تسمّى وهما ولمغايرتها للنّفس النّاطقة ولسائر القوى الحيوانيّة.

وقوله : «إنّا قد نحكم» ـ إلى آخره ـ أي إنّا قد نحكم حكما جزئيّا في المحسوسات الجزئيّة المخصوصة بمعان جزئيّة مخصوصة لا نحسّها.

وقوله : «إمّا أن تكون في طبائعها محسوسة» ـ إلى آخره ـ أي أنّ تلك المعاني الجزئيّة التي لا نحسّها ، وهي المحكوم بها في المحسوسات المخصوصة الجزئيّة ، قسمان : قسم لا يكون من شأنها أن تكون محسوسة بإحدى الحواسّ الظّاهرة ، وقسم يكون من شأنها أن تكون محسوسة ، لكنّا لا نحسّها وقت الحكم بها في تلك المحسوسات.

وفيه دلالة على أنّ المعاني تطلق على القسمين جميعا ، وكأنّه اصطلاح خاصّ. ويوافقه أيضا ما سيأتي في كلامه من قوله : «وقد جرت العادة بأن يسمّى مدرك الحسّ صورة ، ومدرك الوهم معنى» وكذا ما ذكره في فصل تعديد القوى بهذه العبارة (١) : «والفرق بين إدراك الصّورة ، وإدراك المعنى ، أنّ الصّورة هو الشيء الذي يدركه الحسّ الباطن والحسّ الظّاهر (٢) ، والحسّ الظّاهر يدركه أوّلا ويؤدّيه إلى الحسّ الباطن ، مثل إدراك الشاة صورة (٣) الذئب أعني بشكله (٤) وهيئته ولونه ، فإنّ الحسّ الباطن من الشاة يدركها ، لكن

__________________

(١) الشفاء الطبيعيّات ٢ / ٣٥ ، الفصل الخامس من المقالة الاولى.

(٢) في المصدر : والحسّ الظاهر معا ، لكن الحسّ ...

(٣) لصورة ...

(٤) أعني لشكله.

٣٣٤

إنّما يدركها أوّلا حسّها الظاهر. وأمّا المعنى فهو الشيء الذي يدركه (٣) النّفس من المحسوس من غير أن يدركه الحسّ الظاهر أوّلا ، مثل إدراك الشّاة للمعنى المضادّ في الذئب أو للمعنى الموجب لخوفها إيّاه وهربها (٤) منه ، من غير أن يدرك الحسّ ذلك البتّة. فالذي يدرك من الذّئب أوّلا الحسّ الظاهر ، ثمّ الحسّ الباطن ، فإنّه يخصّ في هذا الموضع باسم الصّورة ، والذي يدركه (٥) القوى الباطنة دون الحس فيخصّ في هذا الموضع باسم المعنى» ـ انتهى ـ حيث إنّ قوله : «وأمّا المعنى فهو الشيء الذي يدركه النّفس من المحسوس من غير أن يدركه الحسّ الظاهر أوّلا» أعمّ من أن يكون ممّا لا يمكن أن يدركه الحسّ الظّاهر أصلا ، وأن يكون ممّا يمكن أن يدركه لكنّه لم يدركه حين الحكم. وكذا قوله : «والذي يدركه القوى الباطنة دون الحسّ فيخصّ في هذا الموضع باسم المعنى» فتدبّر.

وعلى هذا فقوله في تعديد القوى في بيان القوّة الوهميّة (١) : «إنّها (٦) قوّة مرتّبة في نهاية التجويف الأوسط من الدّماغ ، تدرك المعاني الغير (٧) المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئيّة ، كالقوّة الموجودة في الشّاة الحاكمة بأنّ هذا الذّئب مهروب عنه ، وأنّ هذا الولد هو المعطوف عليه» ينبغي أن يحمل على أنّ القوّة الوهميّة تدرك المعاني الغير المحسوسة ، سواء كانت غير محسوسة أصلا أو محسوسة ، لكنّها تكون غير محسوسة وقت الحكم ، فهذا أيضا يشمل القسمين جميعا ، وأمّا ذكر القسم الأوّل بخصوصه فعلى سبيل المثال.

وكذلك ينبغي أن يحمل عليه كلامه في «الإشارات» حيث قال في مقام إثبات القوّة الوهميّة والقوّة الحافظة هكذا (٢) : «وأيضا فإنّ الحيوانات ناطقها وغير ناطقها تدرك في المحسوسات الجزئيّة معان جزئيّة غير محسوسة ولا متأدّية من طريق الحواسّ ، كإدراك (٨) الشّاة معنى في الذئب غير محسوس ، وإدراك الكبش معنى في النعجة غير

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٣٦ الفصل الخامس من المقالة الاولى.

(٢) شرح الإشارات ٣ / ٣٤١.

(٣) في المصدر : الذي تدركه ...

(٤) وهربها عنه ...

(٥) تدركه القوّة ...

(٦) وهي قوّة ...

(٧) غير المحسوسة ...

(٨) مثل إدراك الشاة.

٣٣٥

محسوس ، إدراكا جزئيّا يحكم به ، كما يحكم الحسّ بما يشاهده ، فعندك قوّة هذا شأنها ، وأيضا فعندك وعند كثير من الحيوانات العجم قوّة تحفظ هذه المعاني بعد حكم الحاكم (١) غير الحافظ للصّورة (٢)» ـ انتهى ـ ، فإنّ الظّاهر أنّ قوله : «معان جزئية غير محسوسة» إشارة إلى القسم الأوّل ، وقوله : «ولا متأدّية من طريق الحواسّ» إشارة إلى القسم الثّاني ، وأنّ ذكر إدراك الشّاة معنى في الذئب ـ إلى آخره ـ على سبيل المثال.

دقيقة

وحيث عرفت ذلك ، ظهر لك أنّ ما ذكره المحقّق الطّوسي (ره) في «شرح الإشارات» في ذيل كلام الشّيخ في شرح القوى الدّرّاكة من باطن ، «إنّ الصّورة هي ما يمكن أن تدرك بالحواسّ الظاهرة ، والمعنى ما لا يمكن أن يدرك بها» وقد تبعه في ذلك كثير من المتأخّرين ، وبالجملة قد خصّوا المعنى بالقسم الأوّل فقط ، كأنّه اصطلاح آخر منهم أو غفلة عن كلام الشيخ ، وحينئذ فكلام هؤلاء في إثبات القوّة الوهميّة بإدراك المعاني الجزئيّة التي أرادوا بها القسم الأوّل فقط ، إن كان مبناه على أنّ هذا الطريق أوضح طريق في اثباتها وفيه غنية ، فلا غبار عليه ، وإن كان مبناه على أنّ إثباتها إنّما هو بإدراك القسم الأوّل فقط ، ففيه شيء ، لأنّه كما يمكن إثباتها بذلك ، يمكن إثباتها بإدراك القسم الثّاني أيضا ، كما ذكره الشّيخ هنا ، ويأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وقوله : «أمّا التي لا تكون محسوسة في طباعها» ـ إلى آخره ـ بيان القسم الأوّل من المعاني الغير المحسوسة ، ولإثبات القوّة الوهميّة بإدراكها ولمغايرتها لما سواها. وإنّما أسند هنا إدراك تلك المعاني إلى الشاة ، مع أنّه فيما تقدّم من قوله : «ثمّ إنّا قد نحكم في المحسوسات بمعان لا نحسّها» أسنده إلينا ـ أي إلى النّفس الناطقة ـ إشعارا بأنّ إدراكها إنّما هو من خواصّ النّفس الحيوانيّة بما هي حيوانيّة ، وكما أنّها يدركها الإنسان يدركها

__________________

(١) في المصدر : الحاكم بها ...

(٢) للصور.

٣٣٦

الحيوان أيضا. ولا فرق في ذلك بين الإنسان والحيوانات العجم. فالإنسان أيضا إنّما يدركها بقوّته الحيوانيّة.

وقوله : «وهذه امور تدركها النّفس الحيوانيّة» فيه ـ مع التّصريح بما علم ضمنا من كون إدراكها من خواصّ النّفس الحيوانيّة بما هي حيوانيّة ـ دلالة على كون مدرك هذه الأمور مغايرا للنّفس الناطقة الإنسانيّة ، لأنّه لو كان عينها ، لما أدركها الحيوانات العجم التي ليس لها نفس ناطقة ، وهذا مع قطع النظر عن أنّ النّفس النّاطقة الإنسانيّة ـ بما هي نفس ناطقة ـ إنّما تدرك الكلّيّ من حيث هو كلّيّ ، وهذه الأمور أمور جزئيّة مخصوصة ، لا يمكن أن يدركها بالذّات ما هو مدرك للكلّيّ.

وقوله : «والحسّ لا يدلّها على شيء منها» فيه دلالة على مغايرة مدرك هذه الأمور للحسّ المشترك ، فإنّه وإن كان حاكما بين الجزئيات مدركا لها مميّزا بينها ، إلّا أنّ مدركاته يجب أن تكون متأدّية إليه من طرق الحواسّ مجتمعة عنده ، وهذه الأمور ليست كذلك ، لأنّها حيث لم يكن من شأنها أن تكون محسوسة ، كيف يمكن تأدّيها إليه من طرق الحواسّ ، فلا هي ممّا يتأدّى إليه من طرق الحواسّ الظّاهرة ـ وهذا ظاهر ـ ولا من طرق الحواسّ الباطنة كالخيال ، إذ ما في الخيال أيضا يجب أن يكون ممّا أن يتأدّى من طرق الحواسّ الظّاهرة ، وتكون مخزونة فيه.

وإنّما لم يشر إلى وجه مغايرتها للحواسّ الظّاهرة وللباطنة أيضا غير الوهم ، لظهور وجه المغايرة.

وقوله : «فإذن القوّة التي بها تدرك قوّة اخرى ولتسمّ الوهم» أي أنّه حيث ظهر أنّ مدرك هذه الأمور يجب أن يكون غير النّفس النّاطقة وغير الحسّ المشترك وغير الحواسّ الظاهرة وما سوى الوهم من الباطنة ، ظهر أنّ مدركها قوّة أخرى غير هذه ، ونحن نسمّيها الوهم ، وفيه المطلوب.

وقوله : «وأمّا التي تكون محسوسة ، فإنّا نرى مثلا شيئا أصفر ، فنحكم أنّه عسل وحلو ، فإنّ هذا ليس يؤدّيه إليه الحاسّ في هذا الوقت ، وهو من جنس المحسوس» بيان

٣٣٧

للقسم الثّاني من المعاني ، وإثبات القوّة الوهميّة بإدراكه ، أي أنّا قد نرى مثلا شيئا أصفر ولم نر عسلا قطّ ، إلّا أنّا سمعنا أنّ العسل يكون أصفر وحلوا ، أو رأيناه وقتا ما ولم يثبت صورته في خيالنا أيضا ، فنحكم بسبب رؤيتنا شيئا أصفر أنّه عسل وحلو ، ولا شكّ أنّ هذا الحكم ـ حيث كان حكما جزئيّا ـ ليس الحاكم به أوّلا وبالذّات هو النّفس النّاطقة ، ولا الحسّ المشترك ، إذ هو ، وإن كان حاكما جزئيّا في المحسوسات ، إلّا أنّ مدركه يجب أن يتأدّى إليه من طرق الحواسّ ، والمفروض أنّ الصّورة العلميّة ليست كذلك ، لأنّها لم تتأدّ إليه في ذلك الوقت من طرق الحواسّ الظّاهرة ـ وهذا ظاهر كما هو المفروض ـ ولا من طريق الحواسّ الباطنة كالخيال مثلا ، لأنّ ما في الخيال أيضا ينبغي أن يكون متأدّيا من الحواسّ الظّاهرة إلى الحسّ المشترك ، ثمّ إلى الخيال حتّى يمكن تأديته ثانيا من الخيال إلى الحسّ المشترك ، وهذا ليس كذلك. إذا المفروض أنّا لم نر العسل قطّ ، وعلى تقدير فرض رؤيتنا له وقتا ما ، فالمفروض عدم ثبوت صورته في الخيال حتّى يمكن تأدّيها منه إليه. وظاهر أيضا أنّ الحاكم به ليس شيئا من الحواسّ الظّاهرة مطلقا ، ولا القوى الثلاث الباطنة ، أي الخيال والمتخيّلة والحافظة غير الحسّ المشترك ، فبقي أن يكون مدركة قوّة اخرى ، ونحن نسمّيها الوهم ، وفيه المطلوب.

وقوله «على أنّ الحكم نفسه ليس بمحسوس البتّة ، وإن كانت أجزاؤه من جنس المحسوس ، وليس يدركه في الحال ، إنّما هو حكم يحكم به ، وربّما غلط به وهو أيضا لتلك القوّة».

بيان لإثبات الوهم بوجه آخر ، ومعناه على أنّ هذا الحكم الجزئيّ نفسه ليس بمحسوس البتّة ، أي ليس كما يحكم الحسّ بما يشاهده من الحكم الفصل القطعيّ ، بل حكما جزئيّا تخييليّا ليس بفصل ، وليس معناه أنّ هذا الحكم ليس من جنس الصّور ، بل من جنس المعاني ، حتّى يرد أنّ الحكم مطلقا سواء كان حكما كلّيّا كحكم النّفس النّاطقة ، أو جزئيّا كحكم الحسّ المشترك ، كذلك ولا اختصاص له بحكم القوّة الوهميّة ، وبالجملة ، فهذا الحكم ليس كحكم الحسّ بما يشاهده من الحكم الفصل ، بل حكما ليس كذلك وإن

٣٣٨

كانت أجزاؤه من جنس ما يمكن أن يدرك بالحسّ ، ومع ذلك فليس الحاكم به يدرك جنس أجزائه في الحال ، بل لم يدرك بعض أجزائه بحسب الحسّ كما هو المفروض ، بل إنّما هو حكم يحكم به الحاكم به على سبيل البغتة والفلتة من غير تدبّر فيه ، وربّما غلط فيه ، فالحاكم به ليس هو النّفس النّاطقة التي هي تحكم حكما كلّيّا فصلا ، ولا الحسّ المشترك الذي هو أيضا يحكم حكما فصلا وإن كان جزئيّا ، ولا شيئا من القوى الحيوانيّة الأخر. فبقي أن يكون الحاكم به هو القوّة الاخرى الّتي نسمّيها القوّة الوهميّة.

ومنه يظهر أنّه على تقدير فرض تأدّي الصّورة العسليّة من الحواسّ الظّاهرة ، أو من الخيال أيضا ، حينئذ لا يمكن إسناد هذا الحكم إلى الحسّ المشترك ، لأنّه إنّما يحكم حكما جزئيّا فصلا ، وهذا الحكم ليس بفصل كما عرفت.

فإن قلت : إذا كان فعل القوّة الواهمة الحكم في المحسوسات بمعان غير محسوسة كما ذكرت ، فلا شكّ أنّ تلك المحسوسات من أجزاء حكمها ، فيجب أن تدركها أيضا حتّى يمكن لها أن تحكم فيها أو عليها بتلك المعاني ، فكيف ذلك؟

قلت : لعلّ فعلها بالذّات إنّما هو إدراك تلك المعاني والحكم بها ، وأمّا إدراك تلك المحسوسات في ضمن الحكم ، فلعلّه هو فعلها بالعرض وبالواسطة ، أو بتوسّط آلة مدركة للصّور المحسوسة ، حيث كانت القوى الحيوانيّة خوادم لها ، ولا حجر في ذلك إذا كانت الجهتان متغايرتين ، والله أعلم.

وقوله : «وفي الإنسان للوهم أحكام خاصّة ، من جملتها حملها النّفس على أن تمنع وجود أشياء لا تتخيّل ، ولا ترتسم فيه ، وثانيها التّصديق بها ، فهذه القوّة لا محالة موجودة فيها» ، أي أنّه من جملة الأحكام الخاصّة المستندة إلى الوهم في الإنسان ، أنّ الوهم ربّما يحمل النّفس الإنسانيّة على أن تمنع وجود أشياء لا تتخيّل ، ولا ترتسم فيه ، أي في الوهم كالمعقولات الكلّيّة والمجرّدات عن المادّة ، ومن جملتها أنّه ربّما يحملها على التّصديق بوجود أشياء متخيّلة مرتسمة في الوهم ، وإن كان يمنع منه العقل ، فيعلم منه أنّ هذه القوّة لا محالة موجودة في النّفس الإنسانيّة ، ومن جملة قواها.

٣٣٩

وقوله : «وهي الرئيسة الحاكمة في الحيوان حكما ليس فصلا كالحكم العقليّ ، ولكن حكما تخييليّا مقرونا بالجزئيّة وبالصّور الحسّيّة ، وعنه يصدر أكثر الأفعال الحيوانيّة».

فيه بيان لمعنى كون حكم الوهم ليس بمحسوس ، أي ليس بفصل كالحكم العقليّ وكحكم الحسّ بما يشاهده ، بل حكما تخييليّا ، وكذا فيه بيان لكون الوهم رئيسا في الحيوان للقوى الحيوانيّة. ومعنى رئاسته أنّه مستخدم لسائر القوى الحيوانيّة ، ولا سيّما الباطنة ، ولا سيّما المتخيّلة ، كما سيأتي. وإشارة إلى أنّه ـ حيث كان رئيسا للقوى الحيوانيّة ، وعنه يصدر أكثر أفعالها ـ ينبغي أن يكون آلتها الدّماغ كلّه ، أي الرّوح المصبوب في الدّماغ كلّه ، وأنّ ما ذكروه من أنّ آلتها التجويف الأوسط من الدّماغ أو المؤخّر منه إنّما هو لمزيد اختصاصه بذلك التجويف الأوسط والمؤخّر منه ، لأجل استخدام القوّة المتخيّلة المرتّبة في ذلك التجويف وفي المقدّم منه ، ولذلك قال في الإشارات : «وآلتها الدّماغ كلّه ، لكنّ الأخصّ بها هو التجويف الأوسط» (١).

وقوله «وقد جرت العادة بأن يسمّى مدرك الحسّ صورة ومدرك الوهم معنى» قد مضى معناه.

وقوله «ولكلّ واحد منهما خزانة» ـ إلى آخره ـ.

فيه إشارة إلى إثبات الخيال بعد ما أشار إليه أوّلا. وكذا فيه إشارة إلى إثبات الحافظة. وبالجملة ، ففيه إشارة إلى إثبات هاتين القوّتين بطريقين : أحدهما الطريق الذي يناسب مذهب الحكماء ، والآخر الطريق الذي يناسب مسلك الأطبّاء ، يعني أنّ لكلّ واحد من مدرك الحسّ ومدرك الوهم خزانة هي الحافظة لما يدركه المدرك له.

فخزانة مدرك الحسّ هي القوّة الخياليّة والمصوّرة وموضعها مقدّم الدّماغ ، أي آخر التجويف المقدّم من الدّماغ تحفظ ما قبله الحسّ المشترك من الحواسّ الجزئيّة الخمس ، ويبقى فيها بعد غيبة تلك المحسوسات ، فلذلك إذا حدثت في مقدّم الدّماغ آفة فسد هذا الباب من التّصوّر والحفظ ، وفساده إمّا بأن يتخيّل الخيال صورا ليست في الواقع ، وإمّا

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ / ٣٤٥.

٣٤٠