منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-341-1
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٥٦

وتحقيق القول في هذا المرام يقتضي بسطا في الكلام لا يناسب المقام.

في الذّائقة

ومنها الذّوق ، وهي كما ذكره الشّيخ في «الشّفاء» «قوّة مرتّبة في العصب المفروض (١) على جرم اللسان ، تدرك الطّعوم المتحلّلة من الأجرام المماسّة له ، المخالطة للرّطوبة العذبة التي فيها مخالطة محيلة».

وذكر علماء التشريح : أنّ الحامل لهذه القوّة هو الشعبة الرابعة من الزّوج الثالث ، الذي منبته الحدّ المشترك بين مقدّم الدّماغ ومؤخّره من لدن قاعدة الدّماغ ، وتنفذ هذه الشعبة في ثقبة في الفكّ الأعلى إلى اللّسان.

ثمّ إنّ هذه القوّة ـ كما أشرنا إليه ـ تالية للّمس في الاحتياج إليها ، ومنفعتها أيضا في الفعل الذي به يتقوّم البدن ، وهي معرفة الصّالح من الغذاء والفاسد منه. وتجانس هذه القوّة اللّمس في شيء ، وهو أنّ المذوق في أكثر الأمر يدرك بالملاسة ، وتفارقها في أنّ نفس الملامسة تؤدّي الطعم. كما أنّ نفس ملامسة الحارّ تؤدّي الحرارة ، بل كان يحتاج إلى متوسّط يقبل الطّعم ويكون في نفسه لا طعم له ، وهو الرّطوبة اللّعابيّة المنبعثة من الآلة المسمّاة بالملعبة ، فإن كانت هذه الرّطوبة عديمة الطّعم ، أدّت الطّعوم بصحّة ، وإن خالطها طعم ، كما يكون للممرورين من المرارة ، لمن كان في معدته خلط حامض مثلا ، يشوب ما يؤدّيه بالطّعم الذي فيه.

وأمّا أنّ هذه الرّطوبة اللّعابيّة هل هي تتوسّط ، بأن يخالطها أجزاء ذي الطّعم مخالطة تنتشر فيها ثمّ تتغذّى فتغوص في اللّسان ، حتّى تخالط اللّسان فيحسّه ، أو يكون نفس هذه الرّطوبة تستحيل إلى قبول الطعم من غير مخالطة ، فهو موضع نظر ، وتحقيقه في «الشّفاء» فليرجع إليه.

__________________

(١) في المصدر : المفروش.

٣٠١

في الشّامّة

ومنها الشّمّ ، وهي كما ذكره في «الشّفاء» (١) ، «قوّة مرتّبة في زائدتي مقدّم الدّماغ الشبيهتين بحلمتي الثّدي ، تدرك ما يؤدّي إليه (٢) من الهواء المستنشق من الرّائحة الموجودة في البخار المخالط له ، أو الرّائحة المنطبعة فيه باستحالة (٣) من جرم ذي الرّائحة» ، وواسطة الشّمّ أيضا جسم لا رائحة له ، كالهواء في الحيوان البرّيّ ، والماء في الحيوان البحريّ ، وهذا المتوسّط يحمل رائحة المشمومات.

وذكر علماء التّشريح أنّ حامل هذه القوّة هو تانك الزّائدتان النّابتتان من مقدّم الدّماغ ، وهما قد فارقتا لين الدّماغ قليلا ، ولم يلحقهما صلابة العصب.

وبالجملة فهذه القوّة من شأنها أن تدرك الرّوائح المشمومة ، وليست فصول الرّوائح عندنا بيّنة كفصول الطّعوم ، وإنّما نسمّيها بفصول الطّعوم ، مثل أن نقول رائحة حلوة ورائحة طيّبة.

ويشبه أن يكون هذه الحاسة فينا أضعف منها في كثير من الحيوان ، كالنّسر والنّحل وما أشبههما من الحيوان القويّ الشمّ.

ثمّ إنّهم قد اختلفوا في الرّائحة.

فمنهم من زعم أنّها تتأدّى بمخالطة شيء من جرم ذي الرّائحة ، يتحلّل فيتنجّز فيخالط المتوسّط.

ومنهم من زعم أنّها تتأدّى باستحالة من المتوسّط ، من غير أن يخالط شيء من جرم ذي الرّائحة متحلّل عنه.

ومنهم من قال أنّها تتأدّى من غير مخالطة شيء آخر من جرمه ، ومن غير استحالة من المتوسّط. ومعنى هذا أنّ الجسم ذا الرّائحة يفعل في الجسم عديم الرّائحة ، وبينهما جسم لا رائحة له من غير أن يفعل في المتوسّط ، وتحقيق القول في ذلك مذكور

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٣٤ ، الفصل الخامس من المقالة الاولى.

(٢) في المصدر : يؤدّي إليها الهواء ...

(٣) بالاستحالة.

٣٠٢

في «الشّفاء».

في السّامعة

ومنها السّمع ، وهي كما ذكره في «الشّفاء» (١) : «قوّة مرتّبة في العصب المنفرش (٣) في سطح الصّماخ تدرك صورة تتأتّى (٤) إليه من تموّج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له ، لانضغاط (٥) بعنف يحدث منه صوت ، فيتأدّى تموّجه إلى الهواء المحصور الرّاكد في تجويف الصّماخ ، ويحرّكه بشكل حركته ، وتماسّ أمواج تلك الحركة العصبة» (٦). وذكر علماء التّشريح : إنّ الحامل لهذه القوّة هو القسم الأوّل من قسمي الزّوج الخامس الذي منشؤه خلف الزّوج الثّالث ، ومنبت هذا القسم بالحقيقة هو الجزء المقدّم من الدّماغ.

وبالجملة فالمحسوس الأوّل لهذه القوّة هو الصّوت ، وتحتاج أيضا إلى متوسّط حامل للصّوت ، وأمّا بيان كيفيّة إحساسها وبيان ماهيّة الصّوت ـ بل الصّدى ـ فيقتضي بسطا في الكلام ليس هنا محلّه.

في الباصرة

ومنها البصر ، وهي على ما ذكره في «الشّفاء» (١) : «قوّة مرتّب في العصب (٧) المجوّفة تدرك صورة ما ينطبع في الرّطوبة الجليديّة من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدّية في الأجسام الشّفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصقيلة».

وعلى ما ذكره بعضهم : هي قوّة مودعة في ملتقى العصبتين المجوّفتين اللّتين تنبتان من غور البطنين المقدّمين من الدّماغ عند جوار الزّائدتين الشّبيهتين بحلمتي الثّدي ، يتيامن النابت منهما يسارا ، ويتياسر النّابت منهما يمينا. حتّى يلتقيا ويصير تجويفهما واحدا ، ثمّ يمتدّ النّابت يمينا إلى الحدقة اليمنى والنّابت يسارا إلى الحدقة اليسرى ، فذلك

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٣٤ ، الفصل الخامس من المقالة الاولى.

(٣) في المصدر : المتفرّق في ...

(٤) ما يتأدّى إليها ...

(٥) انضغاطا بعنف ...

(٦) العصبة فيسمع ...

(٧) في العصبة.

٣٠٣

التّجويف الذي هو في الملتقى أودع فيه القوّة الباصرة ، ويسمّى بمجمع النّور. وإنّما جعلت هاتان العصبتان مجوّفتين للاحتياج إلى كثرة الرّوح الحامل للقوّة الباصرة ، بخلاف سائر الحواسّ الظّاهرة.

وذكر علماء التّشريح أنّ الحامل لهذه القوّة هو الزّوج الأوّل من الأزواج السّبعة التي هي الأعصاب النّابتة من الدّماغ ، وهما مجوّفتان تتلاقيان فتفترقان إلى العينين.

وبالجملة ، فيتعلّق البصر بالذّات بالضّوء واللّون ، وبتوسّطهما بسائر المبصرات كالشّكل والمقدار والحركة وغيرها ، وهذا أيضا يحتاج إلى متوسّط ، أي جسم شفّاف بين الرائي والمرئيّ ، كما أنّه يشترط فيه شروط ، وهي عشرة على المشهور ، أحدها : توسّط الشّفاف ، والباقية : المقابلة بين الرائي والمرئيّ ، وعدم البعد والقرب المفرطين ، وعدم الصّغر المفرط ، وعدم الحجاب ، وكون المرئيّ كثيفا أي مانعا من نفوذ الشّعاع منه ، وكونه مضيئا أو مستضيئا ، وسلامة الحاسّة ، والقصد إلى الإحساس.

وأمّا أنّ ماهيّة الضّوء واللّون والشّفّاف ما ذا؟ وأنّ كيفيّة الإبصار ما هي؟

هل هي بخروج الشّعاع من العين؟ كما هو مذهب الرّياضيّين على اختلاف بينهم في ذلك الشّعاع الخارج ، حيث ذهب بعضهم إلى أنّه مخروط مصمت ، مركزه عند البصر ، قاعدته عند سطح المبصر. وبعضهم إلى أنّه مخروط مركّب من الخطوط الشّعاعيّة المستقيمة أطرافها التي تلي البصر مجتمعة عند مركزها ، ثمّ تمتدّ متفرّقة إلى المبصر. وبعضهم إلى أنّه خطّ واحد مستقيم ، فإذا انتهى إلى المبصر تحرّك على مسطّحه في جهتي طوله وعرضه حركة في غاية السّرعة ، ويتخيّل بحركته هيئة مخروط.

أو أنّ المشفّ الذي بين البصر والمرئيّ يتكيّف بكيفيّة الشّعاع الذي في البصر ، ويصير بذلك آلة للإبصار ، كما هو المذهب المنسوب إلى أفلاطون.

أو بأن ينطبع شبح المرئيّ في جزء من الرّطوبة الجليديّة التي هي كالبرد والجمد في الصّقالة ، كما ينطبع في المرآة ، لا بأن ينفصل منه شيء ويتحرّك إلى العين ، بل بأن يفيض عليها صورة مثل صورته ، بسبب استعداد يحدث لها بعد اجتماع شرائط الإبصار ، كما هو

٣٠٤

المناسب المختار عند أرسطو وأتباعه كالشيخ وغيره من الحكماء الطّبيعيّين.

أو أنّ الإبصار ليس بخروج الشّعاع ، ولا بتكيّف المشفّ ، ولا بالانطباع ، بل إذا اجتمع شرائط الإبصار يحصل للنّفس علم جزئيّ خاصّ بالمبصر على سبيل الحضور والمشاهدة من طريق البصر ، علما خاصّا لنور البصر وشعاعها الخارج منها. وكذا التكيّف الهواء به مدخل فيه ، فلذا عبّر عنه قوم بخروج الشّعاع وبتكيّف الهواء ، وكذا الحاصل هناك إنّما هو شبح المرئيّ ، أي المرئيّ بوجوده الظّلي لا العينيّ ، فلذا عبّر عنه قوم بالانطباع ، كما هو المنسوب إلى جماعة من حكماء الاسلام. ومنهم المعلم الثّاني في الجمع بين الرأيين ، حيث جمع بين رأيي أفلاطون وأرسطو بهذا الوجه ، وقال (١) :

«ليس مقصود أفلاطون وأرسطو وأشباههما إلّا هذا المعنى. وكذلك كثير من المباحث المتعلّقة بالإبصار».

فالكلام فيه طويل يستدعي تأليف رسالة منفردة في ذلك ، فلذا أعرضنا عن تحقيق القول في ذلك ، مع أنّه ليس غرضنا في هذا المقام تحقيق أمثال هذه المسائل ، بل ذكر قوى النّفس على سبيل الإجمال.

في الحواسّ الباطنة

وأمّا الحواسّ الباطنة ، فهي أيضا خمس على المشهور : الحسّ المشترك ، والخيال ، والوهم ، والحافظة ، والمتخيّلة ، وهي التي لمعرفتها كثير ارتباط بمعرفة أحوال النّفس النّاطقة التي نحن بصدد بيان أحوالها ، وهي التي تسمّى قوى مدركة باطنة. أمّا كونها باطنة ، فلبطونها وعدم ظهورها ظهور الحواسّ الظّاهرة ، ولذا كانت محتاجة إلى الإثبات كما سيأتي بيانه. بخلاف الحواسّ الظّاهرة حيث كانت غنيّة عن الإثبات. وأمّا كونها مدركة مع كون المدرك بالحقيقة اثنتين منها وهما الحسّ المشترك والوهم ، وكون الثّلاثة الباقية معينة على الإدراك لأنّ الإدراكات الباطنة لا تتمّ إلّا بالجمع ، مع أنّ الإعانة بالحفظ

__________________

(١) الجمع بين الرأيين / ٣١ ـ ٤٠ ، للفارابيّ.

٣٠٥

أو التّصرّف يستلزم الإدراك.

وبيان ذلك : إنّهم ذكروا : أنّ المدركة من هذه ، إمّا مدركة لما يمكن أن يدرك بالحواسّ الظّاهرة ، وهو ما يسمّى صورا ، وإمّا لما لا يمكن أن يدرك بها ، وهو ما يسمّى معاني ، وأنّ المعينة التي تعين على الإدراك ما تحفظ المدركات من غير تصرّف ، ليتمكّن المدركة من المعاودة إلى إدراكها أو بالتّصرّف فيها ، وكذلك المعينة بالحفظ معينة ، إمّا لمدركة الصّور أو لمدركة المعاني. فهذه خمس قوى :

الاولى ، مدركة الصّور ، وتسمّى حسّا مشتركا ، لأنّها خيالات المحسوسات الظّاهرة بالتّأدية إليها.

والثّانية ، معينتها بالحفظ ، وتسمّى خيالا ومصوّرة.

والثّالثة ، المتصرّفة في المدركات ، وتسمّى متخيّلة ومفكّرة باعتبارين كما سيأتي بيانه.

والرابعة ، مدركة المعاني وتسمّى وهما ومتوهّمة.

والخامسة ، معينتها بالحفظ ، وتسمّى حافظة وذاكرة.

في الاشارة إلى أنّ إثبات تلك القوى الخمس بالدّليل

وأنّ الحكماء والأطبّاء اختلفوا في ذلك ظاهرا

ثمّ إنّه حيث كانت هذه القوى لبطونها وعدم ظهورها محتاجة إلى الإثبات ، استدلّ كلّ فريق من الحكماء والأطبّاء على وجودها ، ومغايرة بعضها لبعض ، وكذا للحواسّ الظّاهرة بطريق.

فالأطبّاء قد قيل : إنّهم استدلّوا على ذلك بعروض الآفات والأمراض في محالّها ، فلم يثبتوا إلّا ثلاث قوى في الباطن ، في ثلاثة مواضع :

الاولى في التّجويف الأوّل من التّجاويف الثلاثة التي للدّماغ المترتّبة ولاء بين الجبهة والقفاء ، وبعبارة أخرى في البطن الأوّل من البطون الثّلاثة للدّماغ ، ويسمّونها

٣٠٦

الحسّ المشترك والخيال.

والثانية في التجويف الثّاني والبطن الثّاني ، ويسمّونها المفكّرة والوهم.

والثّالثة في الثّالث ويسمّونها الحافظة والمتذكّرة ، لأنّ الآفات التي وجدوها ، إنّما هي ثلاثة أصناف في هذه المواضع.

وأمّا الحكماء فقد قيل : إنّهم قالوا : إنّ للدّماغ تجاويف وبطونا ثلاثة مترتّبة ولاء بين الجبهة والقفاء ، أعظمها البطن الأوّل ، ثمّ الثّالث. وأمّا الثّاني فكمنفذ فيما بينهما مزرّد على شكل الدودة. وينقسم كلّ من التّجاويف والبطون الثّلاثة إلى قسمين ، كلّ قسم موضع موضع (كذا) لواحدة من الحواسّ الباطنة ، إلّا القسم الأخير من التّجويف الأخير والبطن الأخير ، فإنّه لبعده من الحواسّ الظّاهرة التي هي جواسيس الآفات ، وقربه من حلول العاهات ، لم يودّع فيه شيء من القوى. فمقدّم التّجويف الأوّل والبطن الأول من التّجاويف والبطون الثّلاثة موضع الحسّ المشترك ، ومؤخّره موضع الخيال. ومقدّم البطن الثّاني والتجويف الثّاني موضع المتخيّلة ، ومؤخّره موضع الوهم. ومقدّم البطن الثّالث والتّجويف الثّالث موضع الحافظة ، ومؤخّره لم يودع فيه شيء.

وقالوا أيضا في وجه التّرتيب بينها أنّ القوى الحيوانيّة الباطنة المدركة للجزئيّات ، إمّا أن تكون مدركة فقط أو مدركة ومتصرّفة ، والاولى إمّا أن تكون مدركة للصّور الجزئيّة ، كصورة زيد وعمرو وهو الحسّ المشترك وبنطاسيا ، وإمّا أن تكون مدركة للمعاني الجزئيّة كصداقة زيد وعداوة عمرو وهو الوهم. ولكلّ واحدة من هاتين القوّتين خزانة ، فخزانة الحسّ المشترك الخيال ، وخزانة الوهم الحافظة. والحسّ المشترك ينبغي أن يكون مقدّم الدّماغ ، ليكون قريبا من الحواسّ الظّاهرة ، فيكون التّأدّي إليه سهلا ، وخزانة كلّ شيء خلفه ، فينبغي أن يكون الخيال موضوعا خلفه ، فلذلك ينبغي أن يكون الحسّ المشترك في مقدّم البطن المقدّم من الدماغ ، والخيال في القسم المؤخّر منه ، والوهم ينبغي أن يكون بقرب الخيال ، لتكون الصّورة الجزئيّة التي يحكم على معانيها الجزئيّة بحذائه وبقربه ، فينبغي أن يكون في البطن الأوسط من الدّماغ وخزانته وراءه ، فيكون الحافظة في

٣٠٧

البطن المؤخّر من الدّماغ.

والقسم الثاني ، أعنى المدركة المتصرّفة ، هي القوّة التي تسمّى مفكّرة بالقياس إلى النّفس الإنسانية النّاطقة ، ومتخيّلة بالقياس إلى النّفس الحيوانيّة. وينبغي أن تكون في الوسط مع الوهم ، لتكون قريبة من الصّور والمعاني حتّى تركّب بينهما بسهولة ، لأنّه من شأنها تركيب بعض الصّور مع بعض ، أو بعض المعاني مع بعض ، أو بعض الصّور مع بعض المعاني. فتارة يكون ذلك على وفق الخارج ، وتارة يكون مخالفا ، كإنسان يطير ، وجبل من زمرّد.

وأقول : ومنه يعلم أن لا خلاف بين الحكماء والأطبّاء في مواضع تلك القوى ، إلّا في أنّ الحكماء قسّموا كلّا من البطون الثلاثة إلى قسمين ، وجعلوا كلّ قسم موضع قوّة ، إلّا القسم الأخير من البطن الأخير ، والأطبّاء لم يفعلوا ذلك ، وجعلوا كلّ بطن من البطنين الأوّلين موضع قوّتين ، والبطن الثّالث موضع قوّة واحدة. وهذا الخلاف أيضا يمكن أن يرتفع لو كان الأطبّاء قائلين بتغاير ما في البطنين الأوّلين من القوى ، أي قالوا بالمغايرة بين الحسّ المشترك والخيال ، وكذا بين المفكّرة والوهم كما هو الاحتمال ، حيث إنّ القوى المتغايرة يستدعي كلّ واحدة منها موضعا غير ما للاخرى ، فيعلم منه أنّهم أيضا جعلوا كلا من البطنين الأوّلين قسمين ، وجعلوا كلّ قسم موضعا لقوّة ، وإن لم يعلم منه أيّ قسم موضع لأيّة قوّة ، وأنّ موضع الحسّ المشترك مثلا هو مقدّم البطن المقدّم أو المؤخّر منه ، وكذا موضع الوهم مثلا أهو مقدّم البطن الثّاني أو مؤخّره؟ وهذا أيضا نوع اختلاف بين الفريقين ، وكذلك على هذا التقدير ، أي القول بتغاير تلك القوى ، يرتفع الخلاف بين الفريقين في عدد القوى ، فإنّه عند الجميع خمسة لا ثلاثة.

نعم لو كانت الأطبّاء قائلين بوحدة ما في كلّ بطن ، بطن ، كما يدلّ عليه كلام سديد الدين الكازروني في شرح الموجز ، حيث قال : «وأمّا عند الأطبّاء فإنّ المدركة في الباطن ثلاث قوى ، فإنّ الحسّ المشترك والخيال عندهم واحدة ، وكذلك المتخيّلة والوهم ، فيثبتون لكلّ بطن من بطون الدماغ قوّة واحدة ، ولا يحتاجون إلى غيرها ، لأنّهم يستدلّون

٣٠٨

من آفة كلّ واحدة منها ومن أفعالها على آفة محلّها. فعلى هذا يكون الاختلاف بين الفريقين كثيرا في ذلك.

وبالجملة من المعلوم أنّ الفريقين مختلفان في طريق إثبات تلك القوى ، وأنّ الأطبّاء استدلّوا عليها بعروض الآفات على مواضعها ومحالّها كما ذكر.

وأمّا الحكماء ، فالعمدة في دليلهم على وجودها وتعدّدها ومغايرة بعضها لبعض ، وكذا للحواس الظّاهرة إنّما هو مشاهدة الآثار والأفعال المختلفة التي تدلّ على وجودها وتعدّد مباديها واختلافها. وقد يستدلّون أيضا نادرا على ذلك بما استدلّ به الأطبّاء. فلنذكر نبذا ممّا قالوه في ذلك ، ونتبعه بالتوضيح إن احتاج إليه.

فنقول : قال الشّيخ في «الشّفاء» في فصل تعديد قوى النّفس الإنسانيّة هكذا (١) : «ومن (٢) القوى المدركة الباطنة الحيوانيّة قوّة بنطاسيا (٣) ، والحسّ المشترك ، وهي قوّة مرتّبة في التجويف الأوّل من الدّماغ ، تقبل بذاتها جميع الصّور المنطبعة في الحواس الخمس المتأدّية إليه ، ثمّ الخيال والمصوّرة ، وهي قوّة مرتّبة أيضا في آخر التّجويف المقدّم من الدّماغ ، تحفظ ما قبله الحسّ المشترك من الحواسّ الجزئيّة الخمس ، ويبقى فيه بعد غيبته (٤) تلك المحسوسات.

واعلم أنّ القبول لقوّة غير القوّة التي بها الحفظ ، فاعتبر ذلك من الماء ، فإنّ له قبول النّقش والرّقم ، وبالجملة الشكل ، وليس له قوّة حفظه ، على أنّا نزيدك لهذا تحقيقا من بعد. وإذا أردت أن تعرف الفرق بين فعل الحسّ (٥) العامّ وفعل الحسّ المشترك وفعل المصوّرة ، فتأمّل حال القطرة التي تنزل من المطر فترى خطّا مستقيما ، وحال الشيء المستقيم الذي يدور فيرى طرفه دائرة ، ولا يمكن أن يدرك الشيء خطّا أو دائرة إلّا ويرى فيه مرارا. والحسّ الظّاهر لا يمكن أن يراه مرّتين ، بل يراه حيث هو. لكنّه إذا

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٣٥ ـ ٣٧ ، الفصل الخامس من المقالة الاولى.

(٢) في المصدر : فمن القوى ...

(٣) بنطاسيا وهي الحسّ ...

(٤) بعد غيبة تلك ...

(٥) الحسّ الظاهر وفعل.

٣٠٩

ارتسم في الحسّ المشترك وزال قبل أن ينمحي (٢) الصّورة من الحسّ المشترك ، أدركه الحسّ الظاهر حيث هو ، وأدركه الحسّ المشترك كأنّه كائن حيث كان فيه ، وكائن حيث صار إليه فرأى امتدادا مستديرا أو مستقيما. وذلك لا يمكن أن ينسب إلى الحسّ الظّاهر البتّة ، وأمّا (٣) المصوّرة فتدرك الأمرين وتتصوّرهما ، وإن بطل الشيء وغاب.

ثمّ القوّة التي تسمّى متخيّلة بالقياس إلى النّفس الحيوانيّة ، ومتفكّرة (٤) بالقياس إلى النّفس الإنسانيّة ، وهي قوّة مرتّبة في التّجويف الأوسط من الدّماغ عند الدّودة ، من شأنها أن تركّب بعض ما في الخيال مع بعض ، وتفصل بعضه عن بعض بحسب الإرادة.

ثمّ القوّة الوهميّة ، وهي قوّة مرتّبة في نهاية التّجويف الأوسط من الدّماغ ، تدرك المعاني الغير (٥) المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئيّة ، كالقوّة الموجودة في الشاة ، الحاكمة بأنّ هذا الذئب مهروب عنه ، وأنّ هذا الولد هو المعطوف عليه ، ويشبه أن تكون هي أيضا المتصرّفة في المتخيّلات تركيبا وتفصيلا.

ثمّ القوّة الحافظة الذاكرة ، وهي قوّة مرتّبة في التّجويف المؤخّر من الدّماغ ، تحفظ ما يدركه (٦) القوّة الوهميّة من المعاني الغير (٧) المحسوسة في المحسوسات الجزئيّة ، ونسبة القوّة الحافظة إلى القوّة الوهميّة كنسبة القوّة التي تسمّى خيالا إلى الحسّ (٨) المشترك ، ونسبة تلك القوّة إلى المعاني كنسبة هذه القوّة إلى (٩) القوّة المصوّرة ، فهذه هي قوى النّفس الحيوانيّة». ـ انتهى كلامه ـ.

وقال أيضا في الفصل الذي فيه قول كلّي على الحواسّ الباطنة التي للحيوان هكذا (١) : «وأمّا الحسّ المشترك ، فهو بالحقيقة غير ما ذهب إليه من ظنّ أنّ للمحسوسات المشتركة حسّا مشتركا ، بل الحسّ المشترك هو القوّة التي (١٠) يتأدّى إليها المحسوسات كلّها ، فإنّه لو لم تكن قوّة واحدة تدرك الملوّن والملموس ، لما كان لنا أن نميّز بينهما قائلين إنّه ليس

__________________

(٢) في المصدر : أن تمحى ...

(٣) وأمّا القوّة المصوّرة ...

(٤) ومفكّرة بالقياس ...

(٥) غير المحسوسة ...

(٦) ما تدركه ...

(٧) غير المحسوسة ...

(٨) الحسّ ، ونسبة ...

(٩) إلى الصور المحسوسة ، فهذه هي ...

(١٠) التي تتأدّى.

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ١٤٥ ـ ١٥٠ ، الفصل الأوّل من المقالة الرابعة.

٣١٠

هذا ذاك.

وهب أنّ هذا التّميّز (١) هو للعقل ، فيجب (٢) أن يكون لا محالة أن يكون العقل يجدهما معا ، حتّى يميّز بينهما ، وذلك لأنّها من حيث هى محسوسة ، وعلى النّحو المتأدّي من المحسوس لا يدركها العقل ، لمّا (٣) سنوضّح بعد. وقد نميّز نحن (٤) بينهما ، فيجب أن يكون لها اجتماع عند مميّز ، إمّا في ذاته أو (٥) في غيره ، ومحال ذلك في العقل على ما ستعلم ، فيجب أن يكون في قوّة أخرى ، ولو لم يكن قد اجتمع عند الخيال من البهائم التي لا عقل لها ، المائلة بشهوتها إلى الحلاوة. مثلا أنّ شيئا صورته كذا هو حلو ، لما كانت إذا رأته همّت بأكله. كما أنّه لو لا (٦) عندنا أنّ هذا الأبيض هو هذا (٧) المعنى لما كنّا إذا سمعنا معناه (٨) الشخصيّ ، أثبتنا عينيته (٩) الشخصيّة ، وبالعكس ، ولو لم يكن في الحيوان ما يجتمع (١٠) فيه صور المحسوسات ، لتعذّر (١١) عليه الحياة ، ولو لم (١٢) يكن الشّمّ دالّا لها على الطّعم ، ولم يكن الصّوت دالّا إيّاها على الطّعم ، ولم (١٣) يكن الصّورة الخشبيّة تذكّرها صورة الألم حتّى تهرب (١٤) منه ، فيجب لا محالة أن يكون لهذه (١٥) مجمع واحد من باطن.

وقد يدلّنا على وجود هذه القوّة اعتبارات أمور تدلّ على أنّ لها آلة غير الحواسّ الظّاهرة.

منها (١٦) : ما نراه من تخيّل المدوّريّة أنّ كلّ شيء يدور ، فذلك إمّا عارض عرض في المرئيّات ، أو عارض عرض في الآلة (١٧) بها يتمّ الرؤية ، وإذا لم يكن في المرئيّات كان ـ لا محالة ـ في شيء آخر ، وليس الدّور (١٨) إلّا بسبب حركة البخار في الدّماغ وفي الرّوح التي فيه ، فيعرض لذلك (١٩) الرّوح أن يدور ، فيكون إذن القوّة المرئيّة هناك هي التي يعرض لها أمر قد فرغنا منه. وكذلك يعرض للإنسان دوار من تأمّل ما يدور كثيرا على ما أنبأنا به ، وليس يكون ذلك بسبب أمر في جزء من العين ولا في روح مصبوب فيه.

__________________

(١) في المصدر : هذا التمييز ...

(٢) فيجب لا محالة أن يكون العقل ...

(٣) كما سنوضّح ...

(٤) نحن بينها ...

(٥) وإمّا في غيره ...

(٦) لو لا أن عندنا نحن أن ...

(٧) هذا المغني ...

(٨) غناءه الشخصيّ ...

(٩) أثبتنا عينه ...

(١٠) ما تجتمع ...

(١١) لتعذّرت ...

(١٢) ولم يكن الشمّ ...

(١٣) ولم تكن ...

(١٤) تهرب منها ...

(١٥) لهذه الصور مجمع ...

(١٦) منها ممّا نراه ...

(١٧) الآلة التي بها تتمّ الرؤية ...

(١٨) الدوار ...

(١٩) لتلك الروح أن تدور ، فتكون إذن القوّة المرتّبة هناك.

٣١١

وكذلك تخيّل (١) استعجال المتحرّك النقطيّ مستقيما أو مستديرا على ما سلف من قبل ، ولأنّ تمثّل الأشباح الكاذبة وسماع الأصوات الكاذبة قد يعرض لمن يفسد (٢) لهم آلات الحسّ ، أو كان مثلا مغمّضا لعينيه (٣) ، ولا يكون (٤) السّبب إلّا تمثّلها في هذا المبدأ. والتخيّلات التي تقع في النوم ، إمّا أن تكون لارتسام (٥) الصّورة في خزانة حافظة للصورة (٦) ، ولو كان كذلك ، لوجب أن يكون كلّ ما اقترن (٧) فيها متمثّلا في النّفس ، ليس بعضها دون بعض ، حتّى يكون ذلك البعض كأنّه مرئيّ أو مسموع وحده ؛ أو أن (٨) يعرض لها التّمثّل في قوّة أخرى ، وذلك إمّا حسّ ظاهر وإمّا حسّ باطن ، لكنّ الحسّ الظّاهر معطّل في النوم ، وربّما كان (٩) ذلك الذي يتخيّل في النوم ألوانا ما مسمول العين ، فيبقى (١٠) أن يكون حسّا باطنا ، وليس يمكن أن يكون إلّا المبدأ للحواسّ الظّاهرة ، والذي كان إذا استولت القوّة الوهميّة وجعلت تستعرض ما في الخزانة ، تستعرضه ولو في اليقظة ، فإذا استحكم ثباتها فيها ، كانت كالمشاهدة. فهذه القوّة هي التي تسمّى الحسّ المشترك ، وهي مركز الحواسّ ، ومنها يتشعّب (١١) الشّعب ، وإليها تؤدّى الحواسّ ، وهي بالحقيقة هي التي تحسّ ، لكن إمساك ما تدركه هذه (١٢) للقوّة التي تسمّى خيالا وتسمّى مصوّرة وتسمّى متخيّلة ، وربّما فرّق بين الخيال والمتخيّلة بحسب الاصطلاح ، ونحن ممّن نفصل (١٣) ذلك والصّور التي في الحسّ المشترك والحسّ المشترك والخيال كأنّهما قوّة واحدة ، وكأنّهما لا تختلفان (١٤) في الموضوع ، بل في الصّورة ، وذلك (١٥) لأنّه ليس أن يقبل هو أن يحفظ ، فصورة المحسوس يحفظها (١٦) القوّة التي تسمّى المصوّرة ، والخيال ، وليس إليها حكم البتّة ، بل حفظ ، وأمّا الحسّ المشترك والحواسّ الظاهرة فإنّها تحكم بجهة ما ، أو بحكم ما ، فيقال : إنّ هذا المتحرّك أسود ، وأنّ هذا الأحمر حامض ، وهذا الحافظ لا يحكم به على شيء من الموجود إلّا على ما في ذاته ، بأنّ فيه صورة كذا. ثمّ قد نعلم يقينا ، أنّ (١٧) ما في طبيعتنا أن

__________________

(١) في المصدر : نتخيّل ...

(٢) لمن تفسد ...

(٣) لعينه ...

(٤) ولا يكون السبب في ذلك ...

(٥) لارتسام في ...

(٦) المصوّر ...

(٧) ما اختزن فيها ...

(٨) أو أن يكون يعرض ...

(٩) كان الذي يتخيّل ألوانا ...

(١٠) فبقي ...

(١١) تتشعّب ...

(١٢) هذه هو للقوّة ...

(١٣) يفصّل ، والحسّ المشترك ...

(١٤) لا يختلفان ...

(١٥) وذلك أنّه ...

(١٦) تحفظها ...

(١٧) أنّ في طبيعتنا.

٣١٢

نركّب المحسوسات بعضها إلى بعض ، وأن نفصّل بعضها (١) من بعض ، لا على الصّورة التي وجدناها عليها من خارج ، ولا مع تصديق بوجود شيء منها أو لا وجوده ، فيجب أن (٢) يكون فينا قوّة تفعل ذلك بها ، وهذه هي التي تسمّى إذا استعملها العقل : مفكّرة ، وإذا استعملها (٣) قوّة حيوانيّة : متخيّلة.

ثمّ إنّا قد نحكم في المحسوسات بمعان لا نحسّها ، إمّا أن لا تكون في طبائعها محسوسة البتّة ، وإمّا أن تكون محسوسة ، لكنّا (٤) لا نحسّها وقت الحكم.

أمّا التي لا تكون محسوسة في طباعها ، فمثل العداوة والرّداءة والمنافرة التي تدركها الشاة في صورة الذئب. وبالجملة المعنى الذي ينفّرها عنه ، والموافقة التي تدركها من صاحبها ، وبالجملة المعنى (٥) الذي يؤنسها به ، وهذه أمور تدركها النّفس الحيوانيّة ، والحسّ لا يدلّها على شيء منها ، فإذن القوّة التي بها تدرك قوّة اخرى ، ولتسمّ الوهم.

وأمّا التي تكون محسوسة ، فإنّا نرى مثلا شيئا أصفر ، فنحكم أنّه عسل وحلو ، فإنّ هذا ليس يؤدّيه إليه الحاسّ في هذا الوقت وهو من جنس المحسوس ، على أنّ الحكم نفسه ليس بمحسوس البتّة ، وإن كانت أجزاؤه من جنس المحسوس ، وليس يدركه في الحال ، إنّما هو حكم (٦) يحكم به ، وربّما غلط به ، وهو أيضا لتلك القوّة. وفي الإنسان للوهم أحكام خاصّة ، من جملتها حملها (٧) النّفس على أن تمنع وجود أشياء لا تتخيّل ولا ترتسم فيه (٨) ، وثانيها التّصديق بها. فهذه القوّة لا محالة موجودة فيها (٩) ، وهي الرئيسة الحاكمة في الحيوان حكما ليس فصلا كالحكم العقليّ ، ولكن حكما (١٠) تخييليّا مقرونا بالجزئيّة ، وبالصّورة الحسّيّة ، وعنه (١١) يصدر أكثر الأفعال الحيوانيّة.

وقد جرت العادة بأن يسمّى مدرك الحسّ صورة ومدرك الوهم معنى ، ولكلّ واحد منهما خزانة.

فخزانة مدرك الحسّ هي القوّة الخياليّة ، وموضعها مقدّم الدّماغ ، فلذلك إذا حدثت

__________________

(١) في المصدر : عن بعض ...

(٢) تكون فينا قوّة يفعل ...

(٣) إذا استعملتها ...

(٤) لكننا ...

(٥) المعنى يؤنسها ...

(٦) حكم نحكم به ربّما غلط به ...

(٧) حمله ...

(٨) فيه ويأبى التصديق ...

(٩) فينا ...

(١٠) حكما تخيليّا ...

(١١) وعنها تصدر.

٣١٣

هناك آفة ، فسدّ هذا الباب من التّصور ، إمّا بأن (١) يتخيّل صورا ليست ، أو يصعب استثبات الموجود (٢).

وخزانة مدرك (٣) المعنى هي القوّة التي تسمّى الحافظة ، ومعدنها مؤخّر الدّماغ ، ولذلك إذا وقع هناك آفة يوقع (٤) الفساد فيما يختصّ بحفظ هذه المعاني ، وهذه القوّة تسمّى أيضا متذكّرة ، فتكون حافظة لصيانتها ما فيها ، ومتذكّرة لسرعة استعدادها لاستثباته والتصوّر (٥) بها يستعدّه إيّاها إذا فقدت ، وذلك إذا أقبل الوهم بقوّته المتخيّلة ، فجعل يعرض واحدا واحدا من الصّور الموجودة في الخيال ، ليكون كأنّه يشاهد الأمور التي هذه صورها ، فإذا عرض له الصّورة الّتي أدرك معها المعنى الذي بطل ، لاح له المعنى (٦) كما لاح من خارج ، واستثبته (٧) القوّة الحافظة في نفسها كما كانت حينئذ تستثبت ، فكان ذكرا (٨) ، وربّما كان المصير من المعنى إلى الصّورة ، فيكون المتذكّرة (٩) المطلوب ليس نسبته إلى ما في خزانة الخيال (١٠) وكان إعادة ، إمّا في وجود العود إلى هذه المعاني التي في الحفظ ، حتّى يضبط (١١) المعنى إلى لوح الصّورة ، فيعود (١٢) النّسبة إلى ما في الخيال ثانيا ، وإمّا بالرجوع إلى الحسّ. مثال الأوّل : أنّك إذا نسيت نسبته إلى صورة ، وكنت عرفت تلك النسبة ، تأمّلت الفعل الذي كان يقصد منها ، فلمّا عرفت (١٣) أنّه أيّ طعم وشكل ولون يصلح له ، فاستثبتّ النسبة به ، وفالّفت (١٤) ذلك ، وحصّلته (١٥) نسبته إلى صورة في الخيال ، وأعدت النسبة في الذّكر ، فإنّ خزانة الفعل هو الحفظ لأنّه من المعنى ، فإن أشكل ذلك عليك من هذه الجهة أيضا ولم يتّضح ، فأورد عليك الحسّ صورة (١٦) شيء ، عادت مستقرّة في الخيال وعادت النّسبة إليه مستقرّة في التي تحفظ.

وهذه القوّة المركّبة بين الصّورة والصّورة ، وبين الصورة والمعنى ، وبين المعنى والمعنى (١٧) كأنّها القوّة الوهميّة بالموضوع ، لا من حيث تحكم بل من حيث يعمل (١٨) ليصل

__________________

(١) في المصدر : بأن تتخيّل ...

(٢) الموجود فيها ...

(٣) مدرك الوهم ...

(٤) وقع الفساد ...

(٥) التصوّر به مستعيدة إيّاه إذا فقد ، وذلك ...

(٦) المعنى حينئذ ...

(٧) استثبتته القوّة ...

(٨) ذاكرا ...

(٩) فيكون التذكّر للمطلوب ليست نسبته ...

(١٠) خزانة الحفظ ، بل نسبته إلى ما في خزانة الخيال ، فكأنّ إعادته إمّا في وجه العود ...

(١١) حتّى يضطرّ ...

(١٢) فتعود ...

(١٣) عرفت الفعل ووجدته وعرفت أنّه ...

(١٤) وألّفت ...

(١٥) وحصّلته نسبة إلى ...

(١٦) صورة الشيء ...

(١٧) والمعنى هي كأنّها ...

(١٨) تعمل لتصل.

٣١٤

إلى الحكم. وقد جعل مكانها وسط الدّماغ ، ليكون لها اتّصال بخزانتي المعنى والصّورة. ويشبه أن تكون القوّة الوهميّة (١) بعينها المفكّرة والمتخيّلة والمتذكّرة ، وهي بعينها الحاكمة ، فتكون (٢) حاكمة ، وبحركاتها وأفعالها متخيّلة ومتذكّرة ، فتكون متخيّلة بما تعمل في الصّورة (٣) والمعاني ، ومتذكّرة بما ينتهي إليه عملها.

وأمّا الحافظة ، فهي قوّة خزانتها. ويشبه أن يكون التّذكّر الواقع بالقصد معنى للإنسان وحده ، وأنّ خزانة الصّورة هي المصوّرة والخيال ، وأنّ خزانة (٤) المعاني هي الحافظة ولا يمتنع أن يكون (٥) الوهميّة بذاتها حاكمة (٦) وبحركاتها متخيّلة وذاكرة». ـ انتهى كلامه ـ.

وقال ابن رشد المغربي في كتابه الموسوم بجامع الفلسفة ، بهذه العبارة : «القول في الحسّ المشترك وهذه القوى الخمس التي عددناها يظهر من أمرها أنّ لها قوّة واحدة مشتركة ، وذلك أنّه لمّا كانت هنا محسوسات لها مشتركة ، فها هنا إذا لها قوّة مشتركة بها تدرك المحسوسات المشتركة ، سواء كانت مشتركة لجميعها ، كالحركة والعدد أو لاثنتين منها فقط ، كالشكل والمقدار المدركين بحاسّة البصر وحاسّة اللّمس.

وأيضا فلمّا كنّا بالحسّ ندرك التغاير بين المحسوسات الخاصّة بحاسّة حاسّة ، حتّى نقضي مثلا على هذه التّفّاحة أنّها ذات لون وطعم وريح ، وأنّ هذه المحسوسات متغايرة فيها ، وجب أن يكون هذا الإدراك لقوّة واحدة ، وذلك أنّ القوّة التي تقضي على أنّ هذين المحسوسين متغايران هي ضرورة قوّة واحدة. فإنّ القول بأنّ القوّة التي بها يدرك التغاير بين شيئين محسوسين ليست بقوّة واحدة بمنزلة القول بأنّي أدرك المخالفة التي بين المحسوس الذي أنا ، والمحسوس الذي أحسسته أنت وأنا لم أحسّه ، وهذا بيّن بنفسه.

وقد يوقف أيضا على وجود هذه القوّة من فعل آخر ليس يمكننا أن ننسبه إلى واحد من الحواسّ الخمس ، وذلك أنّا نجد كلّ واحد من هذه الحواسّ تدرك محسوساتها ، وتدرك مع هذا أنّها تدرك. فهي تحسّ الإحساس ، وكان نفس الإحساس هو الموضوع

__________________

(١) في المصدر : الوهميّة هي بعينها ...

(٢) فتكون بذاتها حاكمة ...

(٣) في الصور ...

(٤) خزانة المعنى ...

(٥) أن تكون ...

(٦) حاكمة متخيّلة ، وبحركاتها.

٣١٥

لهذا الإدراك ، إذ كانت نسبته إلى هذه القوّة نسبة المحسوسات إلى حاسّة حاسّة. ولذلك لسنا نقدر أن ننسب هذا الفعل إلى حاسّة واحدة من الحواسّ الخمس ، وإلّا لزم أن يكون المحسوسات أنفسها هي الإحساسات أنفسها. وذلك أنّ الموضوع مثلا للقوّة الباصرة إنّما هو اللّون ، والموضوع لهذه القوّة هو نفس إدراك اللّون. فلو كان هذا الفعل للقوّة الباصرة ، لكان اللّون هو نفس إدراكه ، وذلك محال. فإذن باضطرار ما يلزم عن هذه الأشياء كلّها وجود قوّة مشتركة للحواسّ كلّها هي من جهة واحدة ، ومن جهة كثيرة. أمّا كثرتها ، فمن جهة ما تدرك محسوساتها بآلات مختلفة تتحرّك عنها حركات مختلفة ، وأمّا كونها واحدة ، فلأنّها تدرك التغاير بين الإدراكات المختلفة ، ولكونها واحدة تدرك الألوان بالعين ، والأصوات بالأذن ، والمشمومات بالأنف ، والمذوقات باللّسان ، والملموسات باللّحم. وتدرك جميع هذه بذاتها ، وتحكم عليها ، وكذلك تدرك جميع المحسوسات المشتركة لكلّ واحدة من هذه الآلات ، فتدرك العدد مثلا باللّسان والاذن والعين واللحم والأنف ، وهي بالجملة واحدة بالموضوع ، كثيرة بالقوى ، واحدة بالماهيّة ، كثيرة بالآلات. والحال في تصوّر هذه القوّة واحدة من جهة ، كثيرة من أخرى ، كالحال في الخطوط التي تخرج من مركز الدائرة إلى محيطها ، فإنّ هذه الخطوط كثيرة بالأطراف التي تنتهي إلى المحيط ، واحدة بالنقطة التي تجمع أطرافها عندها وهي المركز.

وكذلك هذه الحركات التي تكون عن هذه المحسوسات ، هي من جهة المحسوسات والآلات كثيرة ، وهي من جهة أنّها تنتهى إلى قوّة واحدة ، واحدة» ـ انتهى موضع الحاجة من كلامه ـ.

في الكلام في الحسّ المشترك

وأقول : وبالله التّوفيق ، إنّ ما ذكره الشّيخ في معنى الحسّ المشترك ، بقوله : «وأمّا الحسّ المشترك ، فهو غير ما ذهب إليه من ظنّ أنّ للمحسوسات المشتركة حسّا مشتركا ، بل الحسّ المشترك هو القوّة الّتي يتأدّى إليها المحسوسات كلّها».

٣١٦

توضيحه : أنّه ظنّ بعضهم أنّ معنى الحسّ المشترك أنّه قوّة بها يحصل الإحساس بالمحسوسات المشتركة ، ومبناه على أنّ المحسوسات بعضها ما هي مختصّة بحاسّة حاسّة ، كالألوان المختصّة بالبصر ، والأصوات المختصّة بالسّمع ، والرّوائح المختصّة بالشّمّ ، والطّعوم المختصّة بالذّوق ، والحرارة والبرودة المختصّتين باللّمس.

وبعضها ما هي غير مختصّة بحاسّة واحدة ، بل هي إمّا مشتركة بين جميع تلك الحواسّ كالحركة والعدد ، وإمّا مشتركة بين أكثر من واحدة كالشّكل والمقدار حيث إنّهما مشتركان بين البصر واللّمس. وكما أنّ لكلّ من المحسوسات الخاصّة قوّة خاصّة ، كذلك لتلك المحسوسات المشتركة قوّة اخرى غير تلك القوى الخمس ، هي المسمّاة بالحسّ المشترك ، أي هو حسّ يدرك المحسوسات المشتركة.

وهذا الظّنّ باطل ، إذ لو كان معنى الحسّ المشترك ما ذكر ، لما كان لإثباته قوّة أخرى غير تلك الخمس وجه ، لأنّ تلك المحسوسات المشتركة التي ذكرت ، إنّما تدركها تلك الحواسّ الخاصّة أيضا ، إلّا أنّ مدركاتها على نوعين : نوع هو مدرك لها بالذّات ، ونوع هو مدرك لها بالواسطة وبالعرض. فمدرك البصر مثلا أوّلا وبالذّات وإن كان هو الضّوء واللّون ، إلّا أنّه يدرك تلك المحسوسات المشتركة أيضا ثانيا وبالواسطة. وكذلك الحال في اللّمس وسائر القوى الأخرى ، ولا محذور أيضا أن يتعدّد إدراكات قوّة واحدة ومدركاتها ، وأن يصدر عن الواحد أكثر من واحد إذا لم يكن ذلك الصّدور من جهة واحدة ومن حيثيّة واحدة ، بل أن يكون بعضها بالذّات وبعضها بالعرض ، وبالجملة أن يكون من حيثيّات متعدّدة.

وحيث بطل هذا الظّنّ ، بطل الوجه الأوّل الذي ذكره ابن رشد في إثبات الحسّ المشترك ، إذ هو مبنيّ على هذا الظّنّ ، وعلى أنّ معنى الحسّ المشترك هو ذلك.

بل أنّ معنى الحسّ المشترك كما هو مبنى الوجه الثاني الذي ذكره ابن رشد ، أنّه القوّة التي يتأدّى إليها المحسوسات ، أي محسوسات الحواسّ الظّاهرة كلّها ، سواء كانت تلك المحسوسات محسوسات مختصّة ، أو محسوسات مشتركة ، بل قد يتأدّى إليها

٣١٧

محسوسات بعض الحواسّ الباطنة أيضا ، كما في من تعطّل حواسّه الظّاهرة ، واستولت المتخيّلة ونقشت في لوح هذه القوّة صورا كانت مخزونة في الخيال ، أو صورا ركّبتها من تلك الصّور المخزونة على طريقة انتقاشها فيه من الخارج ، على ما سيأتي بيانه.

فهذه القوّة قوّة تقبل بذاتها جميع الصّور المنطبعة في الحواسّ الظّاهرة ، وبعض ما في الباطنة المتأدّية لتلك الصّور إليها من طرق تلك الحواسّ ، سواء كانت تلك الصّور صورا خاصّة بحاسّة حاسّة ، أو مشتركة بينها.

وعلى هذا فمعنى كون تلك القوّة حسّا مشتركا ، أنّها حسّ مشترك بين محسوسات الحواسّ الظّاهرة كلّها مختصّاتها ومشتركاتها ، وأنّها تدرك محسوساتها كلّها ، لا اختصاص لها بإدراك محسوس حسّ خاصّ ، وكذا هي مشتركة بين محسوسات الحواسّ الظّاهرة كلّها ومحسوسات الحواسّ الباطنة في الجملة. فالقوّة الباصرة مثلا تبصر ولا تسمع ولا تشمّ ولا تذوق ولا تلمس ، وهذه القوّة تفعل الجميع ، أي تبصر وتسمع وتشمّ وتذوق وتلمس. وكذا الحال في سائر الحواسّ الظّاهرة ، فإنّ كلّ واحدة منها تدرك ما يختصّ بها من المحسوس ولا تدرك الجميع ، بخلاف الحسّ المشترك.

وبهذا يحصل الفرق بينها وبين الحواسّ الظّاهرة.

مع أنّه فيما بينها وبين تلك الحواسّ في إدراك ما يختصّ بكلّ واحدة فرقا أيضا ، وهو أنّ القوّة الباصرة ـ مثلا ـ إنّما تدرك المبصر إذا كانت النسبة المخصوصة محفوظة بينها وبين المبصر ، وأمّا هذه فتدرك المبصر وتثبت فيها الصّورة المأخوذة من خارج منطبعة فيها ، أي في الرّوح الّتي فيها هذه القوّة ، سواء كانت النسبة المذكورة بينها وبين المبصر محفوظة ، أو قريبة العهد.

وكذلك بينها وبين الحواسّ الباطنة التي تتأدّى الصّورة منها إليها فرق ، وهو أنّ الحسّ المشترك قابلة للصّور لا حافظة لها ، والقوّة الخياليّة مثلا حافظة لما قبلت الحسّ المشترك ، وذلك أنّه إذا غاب المبصر مثلا انمحت الصّورة عن الحسّ المشترك ولم تثبت زمانا يعتدّ به ، وأمّا الرّوح التي فيها الخيال مثلا فإنّ الصّورة تثبت فيها ، ولو بعد حين كثير ،

٣١٨

كما سيأتي بيانه.

وأيضا إذا كانت الصّورة في الحسّ المشترك ، كانت محسوسة بالحقيقة فيها ، حتّى إذا انطبعت فيها صورة كاذبة أيضا أحسّتها كما يعرض للممرورين ، وأمّا إذا كانت في الخيال مثلا كانت متخيّلة لا محسوسة.

ثمّ نقول في بيان كيفية تأدّي صور المحسوسات إليها من طرق الحواسّ : إنّهم ذكروا : أنّ لكلّ حاسّة من الحواسّ الخمس الظّاهرة عصبا هو بما فيه من الرّوح آلة لتلك القوّة ، ومبدأ أعصاب الحواسّ الأربع غير اللّمس هو مقدّم الدّماغ ، ومبدأ أعصاب اللّمس هو الدّماغ والنّخاع الذي مبدؤه أيضا الدّماغ ، وأكثرها نخاعيّة ، وأنّ آلة الحسّ المشترك هو الرّوح المصبوب في مبادي عصب الحسّ ، لا سيّما في مقدّم الدّماغ ، والرّوح المصبوب في مبادي البطن المقدّم هو آلة للحسّ المشترك والخيال ، إلّا أنّ ما في مقدّم ذلك البطن بالحسّ المشترك أخصّ ، وما في مؤخّره بالخيال أخصّ. فالحسّ المشترك كرأس عين ينشعب منه خمسة أنهار من خارج ، وبعض أنهار من داخل ، أو مثل حوض ينصبّ فيه خمسة أنهار من خارج وبعض أنهار من داخل ، وإنّما يتأدّى الإدراكات الحسّيّة من الحواسّ الظّاهرة بواسطة الأرواح الّتي في الأعصاب إلى التي في مبادئها المتّصلة بالرّوح المصبوب في البطن المقدّم ، وكذا يتأدّى من الخيال ـ مثلا ـ إلى الحسّ المشترك بواسطة اتّصال الرّوحين في مقدّم البطن المقدّم ومؤخّره ، وليس معنى التّأدية أنّ الكيفيّات المحسوسة تسير في الأعصاب إلى آلة الحسّ المشترك ، أو تسير من الرّوح التي هي آلة الخيال إليها كما فهمه بعض ، حتّى يرد أنّ الكيفيّات التي هي أعراض ، كيف يمكن أن تنتقل عن موضوعاتها إلى غيرها؟ بل معنى التأدية أنّها استعارة عن إدراك النّفس بواسطة الرّوح المصبوب إلى كلّ حسّ محسوسه ، وبواسطة الرّوح الذي هو مبدأ مشترك للجميع ، مثل المحسوسات الظّاهرة ، وكذا مثل بعض المحسوسات الباطنة. واتّصال الأعصاب والأرواح ليس لتمهيد طرق تسير فيها الكيفيّات ، فإنّ الكيفيّات لا تنتقل عن موضوعاتها ، وإدراك النّفس ليس بمتأخّر عن ملاقاة الحواسّ للمحسوسات بزمان يقطع

٣١٩

فيه تلك المسافات ، بل هو لاتّصال الأرواح بمبدإ واحد مجتمعة في موضع يعدّها للإحساس.

وحيث تحقّقت ما تلوناه عليك ، فاعلم أنّ الصّادر عن الحسّ المشترك التي هي قوّة واحدة بالقصد الأوّل ، إنّما هو فعل واحد هو استثبات الصّور المادّيّة ، ثمّ تصير مستثبتة للألوان والأصوات والطّعوم وغيرها بقصد ثان ، وذلك لانقسام تلك الصّور إليها ، وهذا كالإبصار الذي فعله إدراك اللّون.

ثمّ إنّه يصير مدركا للضدّين ، كالسّواد والبياض ، لكون اللّون مشتملا عليهما ، وذلك لانقسام تلك الصّور إليهما ، والشيء الواحد يمكن أن يصدر عنه الكثير إذا كان الصّادر بالقصد الأوّل شيئا واحدا ثمّ يتكثّر بقصد ثان ، كما في الصّورتين المذكورتين ، كما أنّه يمكن صدور الكثير عنه إذا كانت وجوه الصّدورات مختلفة متكثّرة ، كما في أفعال النّفس.

وعلى هذا ، فلا يرد أنّ الحسّ المشترك مع كونها قوّة واحدة كيف يصدر عنها الكثير؟ والله أعلم بحقيقة الحال.

في الدليل على وجود الحسّ المشترك

ثمّ إنّ قول الشّيخ : «فإنّه لو لم تكن قوّة واحدة تدرك المكوّن والملموس ، لما كان لنا أن نميّز بينهما قائلين إنّه ليس هذا ذاك» ـ إلى آخر ما ذكره ـ دليل على إثبات الحسّ المشترك.

وبيانه : قد إنّا نميّز بين المحسوسات الظّاهرة ، ونحكم ببعضها على بعض ، سواء كان حكما سلبيّا ، كما نحكم أنّ هذا الملوّن ليس هذا الملموس ، أو حكما إيجابيّا ، كما نحكم بأنّ هذا الأحمر حلو ، ولو لم يكن لنا قوّة تجتمع فيها صور المحسوسات ، لما كان لنا أن نميّز بينها ونحكم ، لأنّ الحاكم المميّز بين الشيئين يحتاج إلى إدراكه لهما وحصولهما عنده واجتماعهما لديه ، إمّا في ذاته ، أو في غيره. ومحال أن يكون حصول هذين الأمرين في حسّ من الحواسّ الظّاهرة ، لأنّه لا يدرك غير نوع واحد من المحسوسات كما

٣٢٠