منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-341-1
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٥٦

لمزاج ذلك الرّوح واستعداده ، على ما ستقف عليه في ذكر الحيوان ، حتّى لا يكون على العضو الذي هو المبدأ ثقل ، ولذلك خلقت العصب للدّماغ والأوردة للكبد ، وكان (١) الدّماغ مبدأين أوّلين للحسّ والحركة والتغذية ، وكانتا (٢) مبدأين ثانيين. وإذ فاض من القلب قوّة التكوين والتّخليق إلى الدّماغ ، فيكون (٣) الدّماغ ، فلا كثير بأس أن (٤) يكون الدّماغ يرسل من نفسه آلة يستمدّ بها الحسّ والحركة من القلب (٥) ، فلا يجب من القلب أو يكون القلب أن ينفذ إليه الآلة التي بتوسّطها ينفذ إليه الحسّ والحركة. فلا يجب أن يقع من المضايقة في أمر خلقة العصب أنّ مبدأها من القلب أو (٦) الدّماغ ما هو ذا يقع ، بل (٧) يسلّم أنّه من الدّماغ ويستمدّ من القلب ، كما أنّ الكبد يرسل إلى المعدة ما يستمدّ منها فيه ، ولها أيضا عروق تمدّ غيرها بها. فليس يجب أن يكون العضو ـ الذي هو مبدأ قوّة فيه أيضا ـ أوّل (٨) تلك القوّة ، وأن يكون آلة لأفعال تلك القوّة ، بل يجوز أن (٩) يكون الآلة خلقت للاستمداد من شيء آخر ، وأن تكون (١٠) إنّما تستمدّ بعد تخلّقها ، حتّى يكون الدّماغ أوّل ما يخلق (١١) لم يكن مبدأ للحسّ والحركة بالفعل ، بل مستعدّا لأن يصير مبدأ (١٢) للأعضاء التي بعده إذا استمدّ من غيره بعد أن يتخلّق (١٣) آلة الاستمداد من غيره له ، فلمّا تخلّق منه عصب ذاهب إلى القلب ، استمدّ الحسّ والحركة منه حينئذ ، ويمكن أن يكون مع تخلّق هذا المنفذ بلا تأخّر ، فلا يكون (١٤) في نفوذه عنه إلى القلب حجّة أيضا ، ولا شبه حجّة ، بل كما تخلّق الدّماغ تخلّق (١٥) معه عن مادّته شيء نافذ إلى القلب غريب عن القلب يستمدّ (١٦) منه الحسّ والحركة. على أنّ نبات هذا العصب من الدّماغ ، ومصيره منه إلى القلب ليس شيئا يظهر الظّهور الذي يظنّه مدّعي نبات العصب الذي (١٧) من الدّماغ أو القلب من الدّماغ إلى القلب ، لا من القلب إلى الدّماغ ، على ما سنوضّحه في موضعه من كلامنا في طبائع الحيوان (١٨).

ومع ذلك فلنعد إلى معاملة أخرى ، فنقول : إنّه ليس بمستحيل أن يكون مبدأ وجوده (١٩)

__________________

(١) في المصدر : كان الدماغ ...

(٢) أو كانا مبدأين ...

(٣) فتكوّن ...

(٤) بأن يكون ...

(٥) من القلب ، أو يكون القلب ينفذ ...

(٦) أو من الدماغ ...

(٧) بل نسلّم ...

(٨) أول أفعال تلك ...

(٩) أن تكون ...

(١٠) وأن تكون إنّما تستمدّ ...

(١١) ما تخلق ...

(١٢) مبدأ ما للأعضاء ...

(١٣) أن تتخلّق ...

(١٤) فلا تكون ...

(١٥) يخلق معه من مادّته ...

(١٦) استعدّ منه ...

(١٧) الذي بين الدماغ والقلب ، من الدماغ ...

(١٨) الحيوان ، ونطول الكلام فيه طولا يشفي ويقنع ...

(١٩) وجود قوّة.

٢٨١

قوّة هي في عضو ، فينفذ (١) من ذلك العضو إلى عضو آخر ، وهناك تتمّ القوّة وتستكمل ثمّ ينعطف (٢) إلى هذا العضو الأوّل فيرقده (٣) ، فإنّ الغذاء إنّما يصير إلى الكبد من المعدة ، ثمّ إذا صار هنالك على نحو ما أعاد (٤) ، فغذاء المعدة في عروق تنبعث من الطّحال (٥) في الأجوف وتنبثّ في المعدة. فلا ضير أن يكون مبدأ القوّة ينبعث من القلب (٦) ولا تكون القوّة في القلب كاملة تامّة ، ثمّ إنّها تعيد (٧) القلب إذا استكملت في عضو آخر.

وهكذا حال الحسّ المشترك ، فإنّ مبدأ القوّة الحسّاسة الجزئيّة منها (٨) ، ثمّ إنّها تعود إليه بالفائدة.

على أنّ حسّ القلب (٩) بنفسه ـ وخصوصا اللّمس ـ أعظم من حسّ الدماغ نفسه ولذلك أوجاعه لا تحمل (١٠). وعلى [أنّه يمنع في القوى أن يصير (١١)] أقوى وأشدّ في غير مباديها المصادفة (١٢) موادا تحملها بتلك الحالة ، ويشبه أن يكون (١٣) قوّة أطراف الأوتار على الجذب أشدّ من قوّة أوائلها التي على (١٤) العصب ، فالقلب مبدأ أوّل تفيض منه إلى الدّماغ قوى ، بعضها (١٥) يتمّ أفعالها في الدّماغ وأجزائه ، كالتّخيّل والتّصوّر وغير ذلك ، وبعضها (١٦) يفيض من الدّماغ إلى أعضاء خارجة عنه ، كما يفيض (١٧) إلى الحدقة وإلى العضل المتحرّكة ، ويفيض (١٨) من القلب إلى الكبد قوّه التّغذية ، ثمّ (١٩) يفيض من الكبد بتوسّط العروق في جميع البدن ، ويغذو (٢٠) القلب أيضا ، فيكون (٢١) القوّة مبدؤها من القلب ، والمادة مبدؤها من الكبد.

وأمّا القوى الدّماغيّة ، فإنّ البصر يتمّ بالرّطوبة الجليديّة التي هي كالماء الصّافي ، فيقبل (٢٢) صور المبصرات ويؤدّيها (٢٣) إلى الرّوح الباصرة (٢٤) ، ويكون تمام الأبصار عند ملتقى العصبة المجوّفة ، على ما علم من تشريحه وتعريف حاله.

وأمّا الشّمّ فبزائدتين في مقدّم الدّماغ كحلمتي الثّدي.

وأمّا الذّوق فبأعصاب دماغيّة (٢٥) في اللّسان والحنك ، وتعطيها (٢٦) قوّة الحسّ

__________________

(١) في المصدر : فتنفذ ...

(٢) تنعطف ...

(٣) فترفده ...

(٤) عاد فغذّى المعدة ...

(٥) الطحال والأجوف ...

(٦) القلب مثلا ...

(٧) تفيد القلب ...

(٨) منها ...

(٩) القلب نفسه ...

(١٠) لا تحتمل ...

(١١) أنّه ليس بممتنع في القوى أن تصير ...

(١٢) لمصادفة مواد تجعلها بتلك ...

(١٣) تكون ...

(١٤) تلي العصب ...

(١٥) فبعضها تتمّ ...

(١٦) تفيض من ...

(١٧) تفيض إلى ...

(١٨) وتفيض من ...

(١٩) ثمّ تفيض ...

(٢٠) وتغذو ...

(٢١) فتكون ...

(٢٢) فتقبل ...

(٢٣) وتؤدّيها ...

(٢٤) الباصر ...

(٢٥) دماغيّة بقي في ...

(٢٦) وتؤتيهما قوّة.

٢٨٢

والحركة.

وأمّا السّمع فبأعصاب أيضا (١) دماغيّة تأتي الصّماخ فتغشّي السّطح المحيط به.

وأمّا اللّمس فبأعصاب دماغيّة نخاعيّة منتشرة (٢) في البدن كلّه. وأكثر عصب الحسّ من مقدّم الدّماغ ، لأنّ مقدّم الدّماغ ألين ، واللّين أنفع في الحسّ. ومقدّم الدّماغ كما يتأدّى إلى خلف وإلى نخاع (٣) ، فيصير أصلب لتدرّج إلى النّخاع الذي يجب أن يعين (٤) وفيه الصّلابة. وأكثر عصب الحركة التي من الدّماغ إنّما ينبت (٥) من مؤخّر الدّماغ ، لأنّه أصلب ، والصّلابة أنفع في الحركة وأعون عليها ، والعصبة (٦) التي للحركة في أكثر الأمر يتولّد (٧) منها العضل ، فإذا جاوزت العضل حدث منها ومن الرّطوبات الأوتار ، وأكثر اتّصال أطرافها بالعظام ، وقد تتّصل في مواضع بغير العضلة (٨) ، وقد يتّصل العظام أنفسها بالعضو المحرّك من غير توسّط وتر ، والنّخاع كجزء من الدّماغ ينفذ في ثقب الفقارات ، لئلّا يبعد ما يتولّد من العصب من الأعضاء ، بل يتولّد منها العصب مرسلة بالقرب إلى الموضع المحتاج كونها (٩).

وأمّا القوّة المصوّرة والحسّ المشترك ، فهما (١٠) مقدّم الدّماغ في روح يملأ (١١) ذلك التجويف ، وإنّما (١٢) كان هناك ليطّلعا على الحواسّ التي أكثرها إنّما تنبعث من مقدّم الدّماغ ، فيبقى (١٣) الفكر والذكر في التّجويفين الآخرين ، لكنّ الذّكر قد تأخّر موضعه ، فيكون (١٤) الرّوح المفكّرة متوسّطا بين خزانة الصّورة (١٥) بين خزانة المعنى ، ويكون (١٦) مسافته بينهما واحدة. والوهم مستول على الدّماغ كلّه ، وسلطانه في الوهم (١٧).

وأخلق بأن يتشكّك مشكّك ، فيقول : كيف يرتسم (١٨) صورة جبل ، بل صورة العالم في الآلة اليسيرة (١٩) تحمل القوّة المصوّرة؟

فنقول (٢٠) : إنّ الإحاطة بانقسام الأجسام إلى غير (٢١) النّهاية تكفي مئونة هذا التّشكّك ،

__________________

(١) في المصدر : دماغيّة أيضا ...

(٢) تنتشر ...

(٣) وإلى النخاع يصير أصلب ليتدرّج ...

(٤) تعين دقته ...

(٥) تنبت ...

(٦) والعصب ...

(٧) تتولّد ...

(٨) بغير العظام ، وقد تتّصل العضلة نفسها بالعضو ...

(٩) كونها به ...

(١٠) فهما من مقدّم ...

(١١) تملأ ...

(١٢) وإنّما كانا هناك ليطلّا ...

(١٣) فبقي ...

(١٤) ليكون مكان الروح ...

(١٥) الصور ...

(١٦) وتكون ...

(١٧) في الوسط متشكّك ...

(١٨) ترتسم ...

(١٩) التي تحمل ...

(٢٠) فنقول له ...

(٢١) غير نهاية.

٢٨٣

فإنّه كما يرتسم العالم في مرآة صغيرة ، وفي الحدقة بأن ينقسم ما يرتسم فيه بحذاء أقسامه ، إذ الجسم الصّغير (١) بحسب قسمة الكبير عددا وشكلا ، وإن كان يخالف القسم (٢) في المقدار ، فكذلك حال ارتسام الصّور الخياليّة في موادّها ، ثمّ يكون (٣) نسبة ما يرتسم فيه الصّور الخيالية بعضها إلى بعض في عظم ما يرتسم فيه وصغر ما (٤) يرتسم فيه ، نسبة لشيئين (٥) من خارج في عظمهما وصغرهما ، مع مراعاة التّشابه في البعد.

وأمّا قوّة العصب (٦) وما يتعلّق بها ، فلم تجتمع (٧) إلى عضو غير المبدأ ، لأنّ فعلها فعل واحد ، ويلائم (٨) المزاج الشّديد الحرّ ويحتاج (٩) إليه ، وليس تأثير المتّفق منه أحيانا تأثير المتّصل من المفكّرة (١٠) والحركة حتّى يخاف أن يشتعل اشتعالا مفرطا ، وذلك لأنّه ممّا يعرض أحيانا ، وذلك (١١) كاللّازم ، مثل الفهم ، والمفكّرة (١٢) وما يشبههما ممّا يحتاج إلى ثبات وإلى قبول ، ويجب أن يكون العضو المعدّ لها (١٣) أرطب وأبرد ، وهو الدّماغ ، لئلّا يشتعل الحارّ الغريزيّ اشتعالا شديدا ، وليقاوم الالتهاب الكائن بالحركة ، ولمّا كانت التّغذية ممّا يجب أن يكون العضو (١٤) عديم الحسّ ، حتّى يمتلئ من الغذاء ويفرغ منه ، فلا يوجعه ذلك ولا يتألّم كثيرا ممّا (١٥) ينفذ فيه ومنه وإليه ، وأن يكون أرطب جدّا كيما يحفظ الحارّ الغريزيّ (١٦) بالمفارقة والمقاومة ، فجعل ذلك العضو الكبد ، وجعل قوّة التّوليد في عضو آخر شديد الحسّ ليعين على الدعاء إلى الجماع بالشّبق ، وإلّا لم (١٧) يتكلّف ذلك ، ولو لم يكن فيه لذّة وإليه شبق ، إذ لا حاجة إليه في بقاء الشخص ، واللذّة تتعلّق بعضو حسّاس ، فجعل له الأنثيان ، وأعينا (١٨) بآلات اخرى بعضها لذبّ (١٩) المادّة وبعضها لدفعها ، كما يأتيك ذكره حيث نتكلّم في الحيوان ـ انتهى كلامه ـ.

__________________

(١) في المصدر : الصغير ينقسم ...

(٢) القسم القسم في ...

(٣) تكون نسبة ما ترتسم فيه الصورة الخياليّة ، بعضه ...

(٤) ما ترتسم ...

(٥) الشيئين ...

(٦) الغضب ...

(٧) فلم تحتج ...

(٨) وتلائم ...

(٩) وتحتاج ...

(١٠) الفكرة ...

(١١) وذانك ...

(١٢) والفكرة ...

(١٣) المعدّ له ...

(١٤) يكون بعضو ...

(١٥) بما ينفذ ...

(١٦) الحارّ القويّ بالمعادلة والمقاومة ...

(١٧) لم يكن يتكلّف ذلك ، لو لم يكن ...

(١٨) وأعينتا ...

(١٩) لجذب.

٢٨٤

في الإشارة إلى المناسبة بين النّفس والبدن

واحتياج أحدهما إلى الآخر والارتباط بينهما

وأقول : وأنت بعد تدبّرك فيما نقلنا عنه من هذا الكلام ، وتذكّرك لما أسلفنا لك في الأبواب السّالفة ، يظهر لك أنّه كما أنّ النّفس الإنسانيّة ذات واحدة بالعدد ، ولها قوى مختلفة مرتبطة بعضها ببعض ، وهي منبع تلك القوى وما به الارتباط بينها ؛ وأنّ قواها يرؤس بعضها بعضا ، ويخدم بعضها بعضا ، والرّئيس للكلّ واحد بالعدد ، كذلك العضو الرّئيس من آلاتها ـ أي القلب ـ عضو واحد بالعدد ، وهو بما فيه من الرّوح أوّل ما يتعلّق به النّفس ، وهو أيضا منبع الآلات ، وهي مرتبطة بعضها ببعض ارتباطا تامّا كما ذكر. فيكون المناسبة بين النّفس والبدن بهذا الاعتبار تامّة.

وكذلك يظهر لك أنّه كما أنّ البدن محتاج إلى النّفس لأجل حفظ تركيبه ومزاجه وبقائهما ، كذلك النّفس محتاجة إلى البدن ، لأجل أفعالها الآليّة ، وكذا للاستعانة في أفعالها الذّاتيّة.

وكأنّه لأجل ذلك اشتبه الأمر على بعض الأقدمين من الحكماء ، فظنّ أنّ النّفس لا فعل لها بدون مشاركة البدن أصلا حتّى الأفعال الذّاتية لها كالتّعقّل وإدراك الأمور الكلّيّة على ما نقله صاحب «الملل والنحل» عن الاسكندر الأفريدوسي تلميذ أرسطو (١) ، وإن كان رأيه هذا مخالفا لرأي أستاده ، ولرأي الجمهور من الحكماء.

وبذلك يظهر أنّ بين النّفس والبدن احتياجا شديدا لا غنى لأحدهما من الآخر بوجه ، وبه يظهر أيضا أنّ بينهما ارتباطا تامّا ، وكفاك شاهدا على هذا تأثّر كلّ منهما عن الآخر ، وتأثير كلّ واحد منهما في الآخر. ليس إذا أحسست بشيء من أعضائك شيئا أو تخيّلت أو اشتهيت أو غضبت ، تأثّرت نفسك منها ، وحصل فيها هيئة وكيفيّة من الكيفيّات النفسانيّة تسمّى حالا ما دامت سريعة الزّوال؟ فإذا تكرّرت وأذعنت النّفس لها ، فصارت كلّ مرّة أسهل تأثّرا حتّى تتمكّن تلك الكيفيّة منها وتصير بطيئة الزّوال ، فصارت

__________________

(١) الملل والنحل ٢ / ٤٤٣ ، طبع القاهرة ، ١٣٦٧ ه‍.

٢٨٥

تلك الهيئة ملكة وعادة وخلقا. وأ ليس إذا عرضت في النّفس هيئة ما عقليّة تأثّر بدنك منها ، فحصل أثر ما منها إلى قواك ثمّ في أعضائك؟ انظر أنّك إذا استشعرت جانب الله عزوجل وفكّرت [في] جبروته كيف يقشعرّ جلدك ويقف شعرك! فمن هذه الجملة يظهر لك كيفيّة الارتباط والاتّحاد بينهما. فتبارك الله أحسن الخالقين. وحيث انتهى الكلام إلى هذا المقام ، فلنختم هذا الباب به ، ولنصرف عنان العناية إلى صوب المقصد الآخر ، فنقول :

٢٨٦

الباب الثّالث

في تعديد قوى النّفس الإنسانيّة

على ما هو المشهور بين الجمهور

٢٨٧
٢٨٨

الباب الثّالث في تعديد قوى النّفس الإنسانيّة على ما هو المشهور بين الجمهور ، والإشارة إلى نبذ من الحكمة فيما لعلّه يحتاج إلى بيان الحكمة فيه.

اعلم أنّهم ذكروا أنّ للنّفس النّاطقة الإنسانيّة قوى تشارك بها الحيوانات العجم والنّبات ، وقوى أخرى تشارك بها الحيوانات العجم دون النّبات ، وقوى أخرى أخصّ من الأوليين تختصّ بالإنسان.

أمّا القوى الأولى التي بها تشارك الكلّ ، وهي التي تسمّى نباتيّة لا لاختصاص النّبات بها ، بل لانحصار قواه فيها ، ويسمّيها الأطباء قوى طبيعيّة ، وهي مبادي لأفعال مختلفة من غير إرادة ، وتلك الأفعال إنّما هي حركات لحفظ البدن وتوليده ، وتصرّفات في مادّة الغذاء.

وآلة تلك القوى إمّا من الكيفيّات الفعليّة فالحرارة الغريزيّة ، فإنّ الحارّ هو المستعدّ لتحريك الموادّ ، ويتبعها البرد لتسكينها عند الكمالات. وإمّا من الكيفيّات الانفعاليّة فالرّطوبة ، فإنّها هي التي تتخلّق وتتشكّل ، وتتبعها اليبوسة لحفظ الموادّ ، فأصولها ثلاثة : الغاذية ، والنّامية والمولّدة ، اثنتان منها ـ وهما الغاذية والنّامية ـ لأجل الشّخص ، وواحدة منها ـ وهى المولّدة ـ لأجل النّوع :

أمّا الغاذية ، ففعلها إحالة الغذاء إلى مشاكلة المغتذي وإضافته إليه بدلا عما يتحلّل ، ويتمّ فعلها بأفعال ثلاثة جزئيّة :

٢٨٩

أحدها تحصيل جوهر البدن وهو في الحيوان والإنسان الدّم والخلط الذي هو بالقوّة القريبة من الفعل شبيه بالعضو ، وقد يخلّ به كما يقع في علّة تسمّى أطروقيا وهو عدم الغذاء.

والثاني الإلزاق ، وقد يخلّ به كما في الاستسقاء اللحميّ.

والثالث التّشبيه بالعضو المغتذي حتّى في قوامه ولونه ، وقد يخلّ به كما في البرص والبهق ، فإنّ جوهر البدن والإلزاق موجودان فيهما ، والتّشبيه غير موجود.

فهذه الأفعال الثّلاثة بقوى ثلاث الغاذية مجموعها ، أو قوّة أخرى هي رئيسة لها تستخدم كلّ واحدة منها. والقوّة التي يصدر منها التشبيه يسمّونها مغيّرة ثانية. أمّا التّغيير فظاهر ، وأمّا كونها مغيّرة ثانية ، فلما سيأتي. وهي واحدة بالجنس في الإنسان وغيره من المركّبات التي لها أعضاء وأجزاء مختلفة بالحقيقة بمنزلة الأعضاء وتختلف بالنّوع ، إذ في كلّ عضو منها قوّة تغيّر الغذاء إلى شبيه مخالف لشبيه الأخرى.

وأمّا النّامية ، فهي التي تداخل الغذاء بين أجزاء المغتذي فتزيد في الأقطار الثّلاثة بنسبة طبيعيّة ، بأن تزيد في الأعضاء الأصليّة ، أعني ما يتولّد عن المني كالعظم والعصب والرّباط وغيرها. وبقولنا : «بنسبة طبيعيّة» يخرج الورم ، فإنّه خارج عن المجرى الطبيعيّ ، وبذلك يظهر الفرق بين النّموّ والسّمن ، فإنّ السّمن إنّما هو زيادة في الأعضاء المتولّدة من الدم كاللحم والشّحم السّمن ، لا في الأعضاء الأصليّة.

وقيل : إنّ النّمو والسّمن مع اشتراكهما في شيء واحد وهو الازدياد الطّبيعيّ للبدن بانضياف مادّة الغذاء إليه ، يفترقان في أشياء ، منها التّناسب في الأقطار ، ومنها طلب غاية ما يقصدها الطبع ، ومنها الاختصاص بوقت معيّن ، فالنّموّ يختصّ بجميعها ، السّمن يخالفه أحيانا فيها ويوافقه أحيانا ، والذّبول يقابل النّموّ ، والهزال يقابل السّمن.

وبالجملة فالغاذية تخدم هذه القوّة في تحصيل المادّة.

٢٩٠

وأمّا المولّدة ، فقد قال بعضهم ك «شارح التجريد» (١) : «إنّ (٤) المراد بها قوّتان ، فوحدتها اعتباريّة كما في الغاذية ، فإنّها كما ذكر (٥) عبارة عن ثلاث قوى : «إحداهما يجعل فضلة الهضم الرابع منيّا ، وهذه القوّة عملها في الأنثيين ، لأنّ ذلك الدّم يصير منيّا فيهما ، وثانيتهما (٦) ما يهيّئ كلّ جزء من المنيّ الحاصل من الذّكر والأنثى في الرّحم لعضو مخصوص ، بأن يجعل بعضه مستعدّا للعظميّة ، وبعضه مستعدّا للعصبيّة ، وبعضه مستعدّا للرّباطيّة ، إلى غير ذلك.

وهذه القوّة تسمّى (٧) المغيّرة الأولى ، لأنّ المغيّرة كما تطلق على هذه القوّة ، تطلق على إحدى القوى الثّلاث من القوى الغاذية أيضا لوجود (٢) (٨) التغيير فيها ، فخصّت هذه بالمغيّرة الأولى ، وتلك بالمغيّرة الثانية ، لتقدّمها عليها في بدن المولود. وفعل هذه القوة إنّما يكون حال كون المنيّ في الرّحم ، ليصادف (٩) ذلك فعل القوّة المصوّرة ، لأنّها تعدّ موادّ الأعضاء ، والمصوّرة تلبسها صورها الخاصّة بها. وإنّما لم يذكر المصنّف القوّة المصوّرة لأنّه سيبطلها».

وقال الشيخ في «الشّفاء» : «وأمّا المولّدة فلها فعلان : أحدهما تخليق البذر (١٠) وتشكيله وتطبيعه ، والثّاني إفادة أجزائه في الاستحالة (١١) النباتيّة صورها من القوى والمقادير والأشكال والأعداد والخشونة والملاسة (١٢) ، وما يتّصل بذلك ، متسخّرة تحت تدبير المنفرد بالجبروت ، فيكون (١٣) الغاذية تمدّها بالغذاء والنّامية تخدمها بالتمديدات المشاكلة» ـ انتهى ـ.

وقال المحقّق الطّوسيّ (ره) في قول الشّيخ في «الإشارات» (٣) : «والثّالثة (١٤) المولّدة للمثل ، وتنبعث بعد فعل القوّتين مستخدمة لهما» هكذا : «هذه القوّة تنقسم إلى نوعين :

__________________

(١) شرح التجريد ٢٣١ و٢٣٢ ، للقوشجي.

(٤) في المصدر : أمّا المولّدة فالمراد بها ...

(٥) كما ذكرنا آنفا ...

(٦) وثانيهما ...

(٧) بالمغيّرة الاولى ...

(٨) لوجود معنى التغيير ...

(٩) لتصادف ...

(١٠) البزر ...

(١١) الاستحالة الثانية ...

(١٢) الملاسة ...

(١٣) فتكون ...

(١٤) والثالث القوّة.

(٢) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٤٧ ، الفصل الاوّل في المقالة الثانية.

(٣) شرح الإشارات ٢ / ٤٠٩.

٢٩١

مولّدة ومصوّرة ، والمولّدة تنقسم إلى نوعين : محصّلة للبذر (١) ومفصّلة إيّاه إلى أجزاء مختلفة كالأعضاء ، وهي الّتي تسمّى مغيّرة أولى بالقياس إلى التي تغيّر الغذاء خدمة للغاذية ، والغاذية المنمية تخدمان المولّدة» ـ انتهى ـ.

وأقول : إنّ من أبطل القوّة المصوّرة ـ كالمحقّق الطّوسيّ ـ نظر إلى أنّه يستحيل صدور الأفعال المحكمة المتقنة عن قوّة بسيطة عديمة الشعور ، وأمّا من أثبتها ـ كالشّيخ والأكثر ـ نظر إلى أنّ تلك الأفعال إنّما تصدر عنها بتدبير المنفرد بالجبروت تعالى شأنه ـ كما دلّ عليه كلام «الشّفا» ـ وحينئذ فلا استبعاد في إثباتها.

في الإشارة إلى الحكمة في القوى النباتيّة

وحيث عرفت ذلك فاعلم ، أنّهم ذكروا في الحكمة في هذه القوى الثلاث وسبب الاحتياج إليها : أنّ النّفوس إنّما تفيض على الأبدان المركّبة بحسب قرب أمزجتها من الاعتدال وبعدها عنه ، ولا بدّ في الأمزجة المعتدلة من أجزاء حارة بالطّبع ، وتنبعث أيضا من كلّ نفس كيفيّة فاعلة مناسبة للحياة تكون آلة لها في أفعالها وخادمة لقواها ، وهي الحرارة الغريزيّة. فالحرارتان تقبلان على تحليل الرّطوبات الموجودة في البدن المركّب ، وتعاونهما على ذلك الحرارة الغريبة من خارج. فإذن لو لا شيء يصير بدلا لما يتحلّل منه لفسد المزاج ، وبطل استعداد الممتزج لاتّصال النّفس به ، ففسد التركيب. فالعناية الإلهيّة جعلت النّفس ذات قوّة تتّخذ ما يشبه بدنها المركّب بالقوّة ، وتحيله إلى أن يشبهه بالفعل ، فتضيفه إليه بدلا عمّا يتحلّل ، وهي قوّة لا تخلو ذات نفس أرضية عنها.

ثمّ لمّا كانت الأسطقسّات متداعية إلى الانفكاك ولم يكن من شأن القوى الجسمانيّة أن تجبرها على الالتيام أبدا ، وكانت العناية المتعالية الإلهيّة مستبقية للطّبائع النّوعيّة دائما ، فقدّر بقائها بتلاحق الأشخاص.

أمّا فيما لم يتعذّر اجتماع أجزائه ، لبعده عن الاعتدال ولسعة عرض مزاجه ، فعلى

__________________

(١) في المصدر : .. للبدن.

٢٩٢

سبيل التولّد.

وأمّا فيما تعذّر ذلك لقربه منه ولضيق عرض مزاجه ، فعلى سبيل التّوالد.

وجعلت النّفس الأخيرة ذات قوّة تختزل من المادّة التي تحصّلها الغاذية ما تجعلها مادّة شخص آخر من نوعه.

ولمّا كانت المادّة المختزلة للتّوليد ـ لا محالة ـ أقلّ من المقدار الواجب لشخص كامل ، إذ هي مختزلة من شخص ، جعلت النّفس المدبّرة لها ذات قوّة تضيف من المادّة التي تحصلها الغاذية شيئا فشيئا إلى المادّة المختزلة ، فيزيد بها مقدارها في الأقطار على تناسب يليق بأشخاص ذلك النوع إلى أن يتمّ الشخص ، فإذن النّفوس النباتيّة التامّة إنّما تكون ذات ثلاث قوى تحفظ بها الشخص إذا كان كاملا ، وتكمله مع ذلك إذا كان ناقصا ، وتستبقى النوع بتوليد مثله ، وهي المسمّاة بالغاذية والمنمية والمولّدة للمثل.

فظهر من ذلك أنّ أفعال جميع هذه القوى إنّما تتمّ بتصرّفات في مادّة الغذاء ، وأنّ هاهنا قوى ثلاثا لأفعال ثلاثة ، وأنّ الاحتياج إلى الغاذية والمنمية لأجل الشّخص ، وإلى المولّدة لأجل النّوع. وأنّ غاية فعل الغاذية الإحالة إلى المشابهة سدّا لبدل ما يتحلّل. وأنّ غاية فعل المنمية ، الزّيادة في النشء على تناسب محفوظ مقصود في أجزاء المغتذي في الأقطار يتمّ بها الخلق. وإنّ غاية فعل المولّدة ، الاختزال من ذلك فضلة تعدّ مادّة ومبدءا لشخص آخر. وأنّ الغاذية متقدّمة على النّامية والمولّدة ، لتقدّم فعلها على فعليهما. وكذا هي خادمة للنّامية في تحصيل المادّة.

ثمّ إنّ النّامية والمولّدة ، وإن كانتا جميعا متأخرتين عن الغاذية لكون فعليهما ـ أي الإنماء والتوليد ـ محوجين إلى كثرة المادّة المتعذّر تحصيلها والتصرّف فيها إلّا بالغاذية ، إلّا أنّه لمّا كان الإنماء الذي هو فعل المنمية أهمّ ، لأنّه يتعلّق بإكمال الشّخص ، وإنّما احتيج إلى توليد المثل لكون الشّخص معرّضا للفناء ، فجعل الإنماء متقدّما على التوليد نوعا من التقدّم ، فجعلت المنمية متقدّمة على المولّدة ، وجعلت المولّدة في ثالث المراتب ، وجعلت المنمية خادمة لها ، كما جعلت الغاذية خادمة للنّامية وللمولّدة أيضا.

٢٩٣

وذكروا أيضا أنّ الغاذية في أوّل الأمر تقوى على تحصيل مقدار أكثر ممّا يتحلّل ، لصغر الجثّة وكثرة الأجزاء الرّطبة فيها ، فتعمل المنمية فيما فضل من الغذاء ، ثمّ تعجز عن ذلك لكبر الجثّة وزيادة الحاجة ، لنفاد أكثر الرّطوبات الأصليّة الصالحة لتغذية الحرارة الغريزيّة ، فيصير ما تحصّله مساويا لما يتحلّل ، وحينئذ يقف المنمية. ثمّ يقوى المولّدة حينا ، ثمّ تقف هي أيضا ، أي أنّه عند القرب من تمام النّموّ ، تفرغ النّفس للتّوليد ، فتقوى المولّدة حينا ، وأنّه إذا عجزت الغاذية من إيراد بدل ما يتحلّل ، بحيث لم يفضل شيء تتصرّف فيه المولّدة ، أو انحرف المزاج بسبب الانحطاط المفرط فصارت المادّة غير مستعدّة لذلك ، وقفت المولّدة أيضا ، وتبقى الغاذية عمّالة إلى أن تعجز ، فيحلّ الأجل عند عجزها عن إيراد البدل ، لسرعة تحلّل الأجزاء وانحراف المزاج عن الاعتدال ، وانطفاء الحرارة الغريزيّة لعدم غذائها ووجود ما يضادّها.

ثمّ إنّهم ذكروا أنّه يخدم الغاذية قوى أربع ، هي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدّافعة. وذكروا في وجه الاحتياج إلى تلك القوى الأربع وبيان أفعالها : أنّه لما كان وجود الشّخص ـ بل بقاء النّوع بتوليد المثل أيضا ـ لا يمكن إلّا بتحصيل الغذاء النافع وإصلاحه ودفع فضلاته ، احتيج إلى فعل قوى أربع.

أمّا الاحتياج إلى الجاذبة ، فلأنّ الغذاء لا يمكن أن يصل بنفسه إلى جميع الأعضاء ، لأنّه إن كان ثقيلا لا يصل إلى الأعضاء العالية ، وإن كان خفيفا لا يصل إلى الأعضاء السّافلة ، فاحتيج إلى قوّة تجذب الغذاء إلى الأعضاء.

وأمّا إلى الماسكة ، فلأنّ الغذاء لا بدّ فيه من الاستحالة ، حتّى يصير شبيها بجوهر المغتذى ، والاستحالة حركة ، وكلّ حركة في زمان ، فلا بدّ من زمان في مثله يستحيل الغذاء إلى جوهر المغتذي. ولأنّ الخلط جسم رطب سيّال ، استحال أن يقف بنفسه ، فلا بدّ من قاسر يقسره على الوقوف وذلك القاسر هو الماسكة.

وأمّا إلى الهاضمة ، فلأنّ حالة القوّة المغيّرة إنّما تكون لما هو متقارب الاستعداد للصّورة العضويّة ، وإنّما يمكن ذلك بعد فعل القوّة التي تجعله متقارب الاستعداد ، وتلك

٢٩٤

هي القوّة الهاضمة.

ومراتب الهضم أربع : أوّلها في المعدة ، وثانيتها في الكبد ، وثالثتها في العروق ورابعتها في الأعضاء. كما فصّل ذلك في الكتب الطّبّيّة.

وأمّا إلى الدّافعة ، فلأنّه ليس الغذاء يصير بتمامه جزءا من المغتذي ، بل يفضل منه ما يضيق المكان ، ويمنع ما يرد من الغذاء عن الوصول إلى الأعضاء ، ويوجب ثقل البدن ، بل يفسد ويفسد ، فلا بدّ من قوّة تدفع تلك الفضلات ، وهي الدّافعة ، وقد يتضاعف هذه القوى لبعض الأعضاء ، كما للمعدة ، فإنّ فيها الجاذبة والماسكة والهاضمة والدّافعة بالنسبة إلى غذاء جميع البدن ، وفيها أيضا هذه القوى بالنسبة إلى ما تغتذي به خاصّة ، فهذه هي القوى الخادمة للغاذية ، ويلزم منه أن تكون هي خادمة للنامية والمولّدة ، كما أنّ الغاذية خادمة لهما ، فهذا هو الكلام في القوى النّباتيّة.

وأمّا الكلام في القوى الحيوانيّة

أي القوى التي يشارك بها الإنسان الحيوانات العجم دون النّبات ، فهو أنّهم ذكروا أنّ القوّة الحيوانيّة بالقسمة الأولى تنقسم إلى قوّتين : محرّكة ومدركة ، أمّا المحرّكة ـ والمراد بها ما تكون مبدأ للحركات الجزئيّة الاختياريّة التي تصدر عن شيء يقدر على الفعل والترك ، ويتساوى نسبتها إليه بحسب إرادة ترجّح أحدهما. وبعبارة أخرى ما تكون مبدأ للأفعال المختلفة المقترنة بإرادة التي تنسب إلى النّفس الحيوانيّة في الحيوان ـ فهي تنقسم [إلى] قسمين : محرّكة بأنّها باعثة على الحركة ، ومحرّكة بأنّها فاعلة للحركة.

والباعثة هي القوّة النّزوعيّة الشّوقيّة ، وهي التي إذا ارتسمت في التخيّل مثلا صورة مطلوبة أو مهروبة عنها ، بعثت القوّة المحرّكة الفاعلة للحركة على الحركة ، ولهذه الباعثة شعبتان :

شعبة تسمّى قوّة شهوانيّة ، وهي قوّة تنبعث على تحريك يقرب به من الأشياء المتخيّلة ضروريّة كانت أو نافعة ، طلبا للّذة.

٢٩٥

وشعبة تسمّى قوّة غضبيّة ، وهي قوّة تنبعث على تحريك يدفع به الشّيء المتخيّل ، ضارّا كان أو مفسدا طلبا للغلبة.

وأمّا القوّة المحرّكة على أنّها فاعلة للحركة ، فهي قوّة تنبعث في الأعصاب والعضلات ، من شأنها أن تشنّج العضلات ، فتجذب الأوتار والرّباطات المتّصلة بالأعضاء إلى نحو جهة المبدأ ، أو ترخيهما أو تمدّهما طولا ، فيصير الأوتار والرّباطات إلى خلاف جهة المبدأ.

والتفصيل أنّ لهذه الحركات الاختياريّة مبادي أربعة مترتّبة ، أبعدها عن الحركات هي القوى المدركة ، وهي الخيال أو الوهم في الحيوان ، والعقل العمليّ بتوسّطهما في الإنسان.

ويليها قوّة الشّوق ، فإنّها تنبعث عن القوى المدركة ، وتنبعث إلى شوق نحو طلب إنّما ينبعث عن إدراك الملائمة في الشّيء اللّذيذ أو النافع إدراكا مطابقا أو غير مطابق ، وتسمّى شهوة ، وإلى شوق نحو دفع وغلبة إنّما ينبعث عن إدراك منافاة في الشّيء المكروه أو الضّارّ ، ويسمّى غضبا ؛ ومغايرة هذه القوّة للقوّة المدركة ظاهرة ، وكما أنّ الرّئيس في القوى المدركة هو الوهم ، على ما سيأتي بيانه ، كذلك الرّئيس في القوى المحرّكة هو هذه القوّة.

ويليها الإجماع ، وهو العزم الذي ينجزم بعد التردّد في الفعل والتّرك ، وهو المسمّى بالإرادة والكراهة ، ويدلّ على مغايرته للشّوق ، كون الإنسان مريدا لتناول ما لا يشتهيه ، وكارها لتناول ما يشتهيه ، وعند وجود هذا الإجماع يترجّح أحد طرفي الفعل والتّرك اللذين يتساوى نسبتهما إلى القادر عليهما.

ويليه القوى المنبثّة في مبادي العضل المحرّكة للأعضاء ، ويدلّ على مغايرتها لسائر المبادي كون الإنسان المشتاق العازم غير قادر على تحريك أعضائه ، وكون القادر على ذلك غير مشتاق ولا عازم ، وهي المبادي القريبة للحركات ، وفعلها تشنيج العضل وإرسالها ، ويتساوى الفعل والتّرك بالنسبة إليهما. فيظهر أنّ القوى المنبثّة في مبادي

٢٩٦

العضل فاعلة للحركة وهي محرّكة بالحقيقة ، وكذا هي خادمة ومطيعة لتلك القوى الثلاث التي هي آمرة وباعثة على الحركة ، وأنّ تلك القوى الثلاث بعضها مباد بعيدة لها وهي القوى المدركة ، وبعضها أقرب منها وهي القوّة الشّوقيّة الغضبيّة أو الشّهوانيّة المتوسّطة بين القوى المدركة وبين الإجماع ، وبعضها أقرب منها أيضا ، وهي الإجماع المذكور ، وهو الذي تطيعه القوّة الفاعلة للحركة بلا واسطة.

في الحكمة في القوى المحرّكة الحيوانيّة

ثمّ إنّهم ذكروا في بيان الحكمة في تلك القوى وسبب الاحتياج إليها : أنّه كما أنّ الحكمة في القوى النّباتيّة حفظ الشّخص وبقاء النوع ، كذلك الحكمة في هذه القوى المحرّكة الحيوانيّة في الحيوان المحافظة على الأبدان بحسب كمالاتها الشّخصيّة أو النّوعيّة وفي الإنسان ، فهذه المحافظة مع ما يتوسّل بها الشّخص إلى اكتساب الخير الحقيقيّ والكمال الأبديّ بحسب العمل والعلم.

انظر إلى أنّ العناية الأزليّة كيف جعلت في جبلّة الحيوانات داعية الجوع والعطش ، لتدعو نفوسها إلى الأكل والشّرب ، ليخلف بدلا عما يتحلّل ساعة فساعة من البدن الدائم التحلّل والذوبان ، لأجل استيلاء الحرارة الغريزيّة الحاصل من نار الطبيعة. وجعلت لنفوسها أيضا الآلام والأوجاع عند الآفات العارضة لأبدانها ، لتحرص النفوس على حفظ الأبدان من الآفات إلى أجل معلوم. ذلك تقدير العزيز العليم.

في القوى المدركة الحيوانيّة

وهذا الذي ذكرناه هو الكلام في القوى المحرّكة الحيوانيّة ، وأمّا القوى المدركة الحيوانيّة ، فتنقسم ـ على المشهور ـ إلى الحواسّ الخمس الظاهرة المشهورة ، والحواسّ الخمس الباطنة المستورة. أمّا الخمس الظاهرة التي هي لظهورها غنية عن الإثبات ، فمنها اللّمس.

٢٩٧

في اللّامسة

وهي قوّة مرتّبة في أعصاب البدن في أعصاب البدن كلّه ولحمه ، تدرك بالمماسّة ، وتؤثّر فيه بالمضادّة المحيلة للمزاج ولهيئة التّركيب. وحيث كان الإحساس بهذه القوّة بالمماسّة والملاقاة ، فلا تحتاج إلى متوسّط كما في الحواسّ الأخر على ما سيأتي بيانه.

وأوّل الحواسّ الذي يصير به الحيوان حيوانا هو هذه القوّة ، فإنّه كما أنّ كلّ ذي نفس حيوانيّة أو أرضيّة ، فإنّ له قوّة غاذية ، ويجوز أن يفقد قوّة أخرى ، ولا ينعكس ، كذلك حال كلّ ذي نفس حيوانيّة ، فله حسّ اللّمس ، ويجوز أن يفقد قوّة أخرى ولا ينعكس.

وحال الغاذية عند سائر قوى النّفس الأرضيّة حال اللّمس عند سائر قوى الحيوان ، وذلك لأنّ الحيوان تركيبه الأوّل هو من الكيفيّات الملموسة ، فإنّ مزاجه منها وفساده باختلالها ، والحسّ طليعة للنّفس ، فيجب أن يكون الطّليعة الاولى هو ما يدلّ على ما يقع به الفساد ، ويحفظ به الصّلاح ، وأن يكون قبل الطّلائع التي تدلّ على أمور تتعلّق ببعضها منفعة خارجة عن القوام ، ومضرّة خارجة عن الفساد. والذّوق وإن كان دالّا على الشيء الذي به يستبقى الحياة من المطعومات ، فقد يجوز أن يعدم الذّوق ويبقى الحيوان حيوانا ، فإنّ الإحساس الآخر ربّما أعان على ارتياد الغذاء الموافق واجتناب المضارّ. وأمّا الحواسّ الأخرى ، فلا تعين على معرفة أيّ هواء محيط بالبدن مثلا محرق أو مجمد.

وبالجملة ، فإنّ الجوع شهوة اليابس الحارّ ، والعطش شهوة البارد الرّطب ، والغذاء بالحقيقة ما يتكيّف بهذه الكيفيّات التي يدركها اللمس. وأمّا الطّعوم فتطييبات ، فلذلك كثيرا ما يبطل حسّ الذّوق لآفة تعرض ، والحال أنّ الحيوان باق. فظهر أنّ اللّمس هو أوّل الحواسّ ، ولا بدّ منه لكلّ حيوان أرضيّ. ولشدّة الاحتياج إلى هذه القوّة ، كانت منبثّة في جميع البدن ، وسارية بمعونة الأعصاب في جميع الأعضاء ، إلّا ما كان عدم الحس أنفع له ، كالكبد والطّحال والكلية ، لئلّا تتأذّى ممّا يلاقيها من الحادّ اللذّاع ، فإنّ الكبد مولّد للصّفراء والسّوداء ، والطّحال والكلية مصبّتان لما فيه لذع ، وكالرّية ، فإنّها دائمة الحركة ، فتتألّم باصطكاك بعضها ببعض ، وكالعظام فإنّها أساس البدن ودعامة الحركات. فلو

٢٩٨

أحسّت لتألّمت بالضغط والمزاحمة وبما يرد عليها من المصاكّات ، وكالشّعر فإنّه ضعيف بارز من البدن ، ولو كان له حسّ لتأذّي دائما.

وبالجملة ، فهذه القوّة من بين القوى الحسّاسة الظاهرة أقدمها ، ولذلك قد توجد هذه القوّة معرّاة عن سائر الحواسّ الظاهرة ، كما يوجد ذلك في الإسفنج البحريّ وغير ذلك ممّا هو متوسّط الوجود بين النّبات والحيوان ، ولا توجد سائر القوى معرّاة عنها ، وإنّما كان كذلك ، لأنّ هذه القوّة أكثر ضروريّة في وجود الحيوان من سائر قوى الحسّ.

ثمّ من بعد هذه القوّة ، قوّة الذّوق ، فإنّها أيضا لمس ما ، وأيضا فإنّها القوّة التي بها يختار الحيوان الملائم من الغذاء من غير الملائم.

ثمّ قوّة الشّمّ ، إذ كانت هذه القوّة أكثر ما يستعملها الحيوان في الاستدلال على الغذاء ، كالحال في النّمل والنّحل ، فهذه القوى الثّلاث هي القوى الضروريّة في وجود الحيوان.

وأمّا قوّتا السّمع والبصر ، فموجودتان في الحيوان من أجل الأفضل ، لا من أجل الضرورة ، ولذلك كان الحيوان المعروف بالخلد لا بصر له ، إلّا أنّهما ألطف الحواسّ ، كاد أن تكون مدركاتهما خارجة عن عالم المادّة ، والبصر أشرفهما ، والكلام في ذلك طويل.

ثمّ اعلم أنّه ربّما يقال إنّ الحركة أخت اللّمس في الحيوان. وكما أنّ من الحسّ نوعا متقدّما هو اللّمس ، كذلك قد يشبه أن يكون من قوى الحركة نوع متقدّم ، والمشهور أنّ من الحيوان ما له حسّ اللّمس وليس له قوّة الحركة ، مثل ضروب من الأصداف.

وقال الشّيخ في الشّفاء في تحقيق ذلك (١) : «إنّ الإرادة (٢) على ضربين : حركة انتقال من مكان إلى مكان ، وحركة (٣) انبساط وانقباض للأعضاء من الحيوان من (٤) دون انتقال الجملة من موضعها ، فيبعد من أن يكون (٥) له حسّ اللّمس ، ولا (٦) يكون له قوّة الحركة ، فإنّه كيف يعلم أنّه له حسّ اللّمس ، إلّا بأن يشاهد فيه نوع هرب من ملموس وطلب

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٥٩ ، الفصل الثالث في المقالة الاولى.

(٢) في المصدر : إنّ الحركة الإراديّة على ...

(٣) وحركة انقباض وانبساط ...

(٤) وإن لم يكن به انتقال الجملة عن موضعها ...

(٥) يكون حيوان له ...

(٦) ولا قوّة حركة فيه البتة ، فإنّه.

٢٩٩

ملموس (٢).

وأمّا ما يتمثّلون (٣) به من الأصداف والإسفنجات وغيرها ، فإنّا نجد للأصداف في غلفها حركات انقباض وانبساط والتواء وامتداد في أجوافها ، وإن كانت لا تفارق أمكنتها ، ولذلك يعرف (٤) أنّها تحسّ بالملموس ، فيشبه أن يكون (٥) ما له لمس ، فله في ذاته حركة ما إراديّة ، إمّا لكلّيّته وإمّا لأجزائه». ـ انتهى ـ.

وأمّا الأمور الّتي تلمس ، فالمشهور من أمرها أنّها الحرارة والبرودة والرّطوبة واليبوسة والخشونة والملامسة والثّقل والخفّة ، وأمّا الصّلابة واللّين والزّوجة والهشاشة وغير ذلك ، فإنّها تحسّ تبعا لهذه المذكورات.

وللشّيخ في ذلك كلام مبسوط في «الشّفاء» ، وكذا لابن رشد المغربي في «جامع الفلسفة» بعض كلمات مع الشّيخ ، فليرجع إليهما.

ثمّ إنّهم اختلفوا ، فذهب الجمهور إلى أنّ القوّة اللامسة قوّة واحدة ، بها يدرك جميع الملموسات كسائر الحواسّ ، لأنّ اختلاف المدركات لا يوجب اختلاف الإدراكات ، ليستدلّ بذلك على تعدّد مباديها.

وذهب كثير من المحقّقين إلى أنّها قوى متعدّدة حسب تعدّد أنواع الملموسات ، وأنّه حيث كانت لهذه القوّة آلة واحدة مشتركة فيها ، فلهذا يظنّ اتّحادها ؛ وإلى هذا المذهب يميل كلام الشّيخ في «الشّفاء» حيث قال (١) : «ويشبه أن تكون هذه القوّة عند قوم ، لا نوعا أخيرا بل جنسا للقوى (٦) الأربع أو فوقها منبثّة معا في الجلد كلّها ، واحدة (٧) حاكمة في التّضادّ الذي بين الحارّ والبارد ، والثانية حاكمة في التّضادّ الذي بين الرّطب واليابس ، والثالثة حاكمة في التّضادّ الذي بين الصّلب واللّين ، والرابعة حاكمة في التضادّ الذي بين الخشن والأملس ، إلّا أنّ اجتماعها في آلة واحدة يوهم (٨) المحسوسات». ـ انتهى ـ.

__________________

(٢) في المصدر : لملموس ...

(٣) يتمثّلون هم به ...

(٤) نعرف ...

(٥) يكون كلّ ما له ...

(٦) جنسا لقوى أربع ...

(٧) كلّها ، وإحداها ...

(٨) يوهم تأحّدها في الذات».

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٣٤ ، الفصل الخامس من المقالة الأولى.

٣٠٠