منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-341-1
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٥٦

عمّا ذكرناه من الإشكال الثاني ، وكأنّ وجه التفصّي أنّ الأفعال المنسوبة إلى النّفس الإنسانيّة ، وإن لم يكن لها فيها احتياج إلى الآلة في حصول أصل تلك الأفعال حتّى يلزم خلاف ما هو المقرّر عند الحكماء ، إلّا أنّ لها فيها احتياجا إلى الآلة واستعانة بها بنحو آخر ، وهو حصول التنبّه أو حصول التذكّر.

والحاصل أنّ العلوم والإدراكات الكلّيّة التي هي أفعال النّفس النّاطقة الإنسانيّة ليس فيها احتياج إلى الآلة في حصول أصلها ، كما في الأفعال المنسوبة إلى النّفسين الأخريين ، بل إنّ تلك العلوم والإدراكات مطلقا حاصلة للنّفس الإنسانيّة بذاتها ، وهي أفعال لها بنفسها ، وأمّا استعمال الحواسّ والآلات ، فهو لأجل أن تكون مقرّبة لها عندها على سبيل التنبّه كما هو رأي فرقة ، أو على سبيل التذكّر كما هو رأي فرقة أخرى. ولا يخفى عليك أنّ هذين القولين أيضا باطلان.

أمّا أوّلا ، فلأنّ الإشكال الأوّل الذي أوردناه وارد عليهما أيضا ، ولا يمكن التفصّي عنه بهما.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ معنى التنبّه الذي قالت به الفرقة الأولى كأنّ مبناه على أنّ تلك العلوم والإدراكات حاصلة للنّفس أوّلا على سبيل حصول البديهيّات لها وعلمها بها ، أي علمها بها علما إجماليّا ، وأنّها إذا استعملت الحواسّ والآلات كان ذلك مقرّبا لها هنا ، فتتنبّه لها ويكون بذلك علمها الإجماليّ علما تفصيليّا ، ويكون ذلك منبّها لها كما في العلم بالبديهيّات بعد حصول المنبّه لها ، وهذا باطل ، لأنّه على هذا يلزم أن يكون معلومات النّفس الإنسانيّة ومدركاتها كلّها بديهيّة ، وأن لا يكون شيء منها نظريّا ، حيث إنّ المنبّه إنّما يكون في البديهيّات دون النظريّات ، وذلك خلاف الواقع وخلاف ما نجده بالوجدان.

وكذلك معنى التذكّر الذي قالت به الفرقة الثانية ، كأنّ مبناه على أن علوم النّفس وإدراكاتها نظريّاتها وبديهيّاتها ، حاصلة لها علوما تفصيليّا ، إلّا أنّها عرض لها أن نسيتها. ثمّ إنّها إذا استعملت القوى والحواسّ ، زال عنها النسيان وتذكّرت لها كما هي عليه قبل النسيان. وهذا أيضا باطل من وجهين :

٢٦١

أحدهما أنّه أيضا خلاف ما نجده بالوجدان.

والثاني أنّه على تقدير صحّته ، إنّما يصحّ إذا كانت النّفس قديمة أو موجودة قبل البدن بأزمنة كثيرة. حصل لها في تلك الأزمنة تلك العلوم والإدراكات المفصّلة ثمّ نسيتها بسبب من الأسباب ـ كالتعلّق بالبدن مثلا ـ ثمّ زال عنها باستعمال الحواسّ ذلك النسيان وعادت كما كانت أوّلا ، إذ من المعلوم أن ليست لها بعد تعلّقها بالبدن زمان يكون لها فيه حصول تلك العلوم والإدراكات بنفسها ، من غير أن تكون قد استعملت الحواسّ حتّى تكون بعد ذلك قد نسيتها ، ثمّ استعملت الحواسّ فتذكّرت لها. وهذا أيضا باطل ، لأنّا سنقيم الحجّة على كون النّفس الانسانيّة حادثة بحدوث البدن.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما احتجّ به الفرقتان على ما ادّعتاه كما نقله الشيخ عنهما ونقلناه عنه سابقا ، باطل بما أبطله به الشيخ.

قال (١) : «وأمّا من تشكّك فجعل النّفس عالمة بذاتها (٢) فهو فاسد ، فإنّه ليس يجب إذا كان جوهر النّفس خاليا بذاته عن العلم (٣) يستحيل له وجود العلم ، فإنّه فرق بين أن يقال : إنّ جوهر الشيء باعتبار ذاته لا يقتضي العلم ، وبين أن يقال : إنّ جوهره بذلك الاعتبار يقتضي أن لا يعلم. فإنّ لزوم الجهل مع كلّ واحد من القولين يختلف (٤). فإنّا إذا (٥) سلّمنا أنّ النّفس بجوهرها جاهلة ، فإنّما نعني أنّ جوهرها إذا انفرد ولم يتّصل به سبب من خارج لزمه الجهل ، بشرط الانفراد مع شرط الجوهر ، لا بشرط الجوهر وحده ، ولسنا نعني بهذا أنّ جوهرها جوهر لا يعرى عن الجهل. وإن لم نسلّم ، بل قلنا : إنّ ذلك أمر عارض لنا (٦) ، فليس يجب أن يكون مثل هذا العارض واردا على الأمر الطبيعيّ ، فإنّه ليس إذا قلنا : إنّ الخشبة خالية عن صورة السرير (٧) ، وإنّ ذلك الخلوّ ليس لجوهرها ، بل لأمر عارض (٨) له حائز الزوال. كان هذا القول كأنّك تقول : يجب أن يكون قد كانت فيه صورة السرير (٩)

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٢٢٧ ، الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.

(٢) في المصدر : لذاتها ...

(٣) أن يستحيل ...

(٤) مختلف ...

(٥) فإنّا وإن سلّمنا ...

(٦) عارض لها ...

(٧) صورة السريريّة ...

(٨) عارض لها ...

(٩) صورة السريريّة ثمّ انفسخت.

٢٦٢

وانفسخت.

ومن المحال أيضا ما قاله المتشكّك من ارتداد الشيء إلى ذاته ، فإنّ الشيء لا يغيب البتّة (٢) من ذاته ، بل ربّما قيل (٣) يغيب عن أفعال تخصّ (٤) بذاته ، وتتمّ بذاته وحدها ، وإنّما يتوسّع فيقال هذا لأنّ هذه الأفعال لا تكون موجودة له ، بل لا تكون موجودة أصلا. وأمّا ذاته فكيف تكون غير موجودة لنفسها وبالحقيقة ، فإنّ أفعاله لا يجوز أن يقال فيه (٥) إنّه يغيب عنها ، لأنّ الغائب هو موجود في نفسه غير موجود للشيء ، وهذه الأفعال ليست موجودة أصلا إلّا وقت ما يوجدها ، فلا يكون غائبا عنها ، وأمّا ذات الشيء فلا يغيب الشيء عنه ولا يرجع إليه.

وأمّا أصحاب الذّكر (٦) فقد نقض احتجاجهم في الصناعة الآليّة». ـ انتهى كلامه ـ

وأقول : قوله : وأمّا اصحاب الذّكر ـ إلى آخره ـ كأنّه إشارة إلى ما تقرّر في علم المنطق من أنّ المطلوب المجهول الذي يراد تحصيله بالنظر ، يجب أن يكون معلوما بوجه حتّى لا يكون طالبه طالبا للمجهول مطلقا ، وأن يكون مجهولا من وجه آخر ، حتّى لا يكون تحصيله تحصيلا للحاصل ، وأنّه إذا طلبته النّفس وحصّلته بالنّظر وعلمته من الوجه الذي كان مجهولا وظفرت به وعلمت أنّه المطلوب الأوّل الذي كانت تطلبه ، فعلمها بأنّه المطلوب إنّما هو من جهة أنّه كان معلوما أوّلا بوجه ، وليس يلزم من ذلك كونه معلوما أوّلا من كلّ وجه حتّى من الوجه الذي كان هو مجهولا بذلك الوجه ، كما هو ظنّ أصحاب الذّكر ومبنى احتجاجهم المنقول عنهم عليه ، فتدبّر.

وإمّا أن يقال باستناد تلك الأفعال أوّلا وبالذات إلى قوى مختلفة للنّفس الإنسانيّة التي هي ذات واحدة ، وباستنادها إلى تلك الذات الواحدة بتوسّط تلك القوى المختلفة ، وهذا هو المذهب الذي نقله الشيخ عن بعض القدماء ، حيث قال (١) :

«ومنهم من جعل النّفس ذاتا واحدة ، وتفيض عنها هذه القوى ، ويختصّ (٧) كلّ قوّة

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٢٢١ ، الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.

(٢) في المصدر : عن ذاته ...

(٣) قيل إنّه قد يغيب ...

(٤) تختصّ ...

(٥) فيها ...

(٦) التذكّر ...

(٧) وتختصّ.

٢٦٣

بفعل ، وأنّها إنّما تفعل ما تفعله من الامور المذكورة بتوسّط هذه القوى».

ثمّ اختار هذا المذهب وقال (١) : «وليس بصحيح (٤) من هذه المذاهب إلّا هذا المذهب» ، ثمّ صحّحه بأن قال (١) : «قد بان ممّا ذكرناه أنّ الأفعال المتخالفة هي لقوى (٥) متخالفة ، وأنّ كلّ قوّة من حيث هي ، فإنّما هي كذلك من حيث يصدر عنها الفعل الأوّل الذي لها ، فتكون القوّة الغضبيّة لا تنفعل من اللذّات ، ولا الشهوانيّة من المؤذيات ، ولا يكون (٦) القوّة المدركة متأثّرة ممّا تتأثّر هاتان (٧) عنه ، ولا شيء من هاتين من حيث هما قابل للصّور المدركة متصوّر لها. فإذا كان هذا متقرّرا ، فنقول : إنّه يجب أن يكون لهذه القوى رباط يجمع (٨) كلّها ، فتجتمع إليه وتكون نسبته إلى هذه القوى نسبة الحسّ المشترك إلى الحواسّ التي هي الرواضع ، لأنّا (٩) نعلم يقينا أنّ هذه القوى يشغل بعضها بعضا ، ويستعمل بعضها بعضا ، وقد عرفت هذا فيما سلف ، ولو لم يكن رباط يستعمل هذه فيشتغل ببعضها عن بعض ، فلا يستعمل ذلك (١٠) ولا يدبّره ، لما كان بعضها يمنع بعضا عن فعله بوجه من الوجوه ولا ينصرف عنه ، لأنّ فعل قوّة من القوى إذا لم يكن له اتّصال بقوّة اخرى ، لا تمنع (١١) القوّة الاخرى عن فعلها إذا لم تكن الآلة مشتركة ، ولا المحلّ مشتركا ، ولا أمر يجمعها (١٢) غير ذلك مشتركا. ونحن نرى أنّ الإحساس يثير الشهوة» إلى آخر ما ذكره في بيان وجوب رباط لهذه القوى ، وذكرنا محصّله في بيان وحدة المدبّر للبدن ، وكون ذلك المدبّر الواحد ما به الارتباط بين النّفوس الأخر.

ثمّ ذكر أنّ هذا الشيء أي الذي هو مجمع القوى ، لا يجوز أن يكون جسما ، وبيّن ذلك بالوجوه الثلاثة التى ذكرنا محصّلها فيما سبق ، إلّا ، أنّه ذكر في ذيل الوجه الثاني من تلك الوجوه كلاما بهذه العبارة (٣) : «فإن تشكّك مشكّك ، فقيل : إنّه إن جاز أن يكون (١٣) هذه القوى لشيء واحد مع أنّها لا تجتمع معا فيه ، إذ بعضها لا تحلّ (١٤) الأجسام ، وبعضها تحلّها (١٥) ،

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٢٢٣ ، الفصل السابع من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

(٤) في المصدر : وليس يصحّ منها الّا ...

(٥) بقوى متخالفة ...

(٦) ولا تكون ...

(٧) تتأثّر عنه هاتان ...

(٨) يجمعها كلّها ...

(٩) فإنّا نعلم ...

(١٠) ذلك البعض ولا ...

(١١) لا يمنع ...

(١٢) يجمعهما ...

(١٣) أن تكون ...

(١٤) لا يحلّ ...

(١٥) يحلّها ، فتكون.

(٣) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٢٢٤ ، الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.

٢٦٤

فيكون مع افتراقها من غير أن تكون بصفة واحدة منسوبة إلى شيء واحد ، فلم لا يكون كذلك الآن ، ويكون (١) كلّها منسوبة إلى جسم أو جسمانيّ ، فنقول : لأنّ ، هذا الذي ليس بجسم يجوز أن يكون منبع القوى يفيض (٢) عنها بعضها في الآلة ، وبعضها يختصّ بذاته ، وكلّها يؤدي إليه نوعا من الأداء ، واللواتي تكون في الآلة تجتمع في مبدأ يجمعها في الآلة ذلك المبدأ ، وهو فائض عن الغني عن الآلة ، كما تبيّن حاله (٣) في حلّ الشبهة. وأمّا الجسم فلا يمكن أن يكون (٤) هذه القوى كلّها فائضة منه ، فإنّ نسبة القوى إلى الجسم ليس على سبيل الفيضان ، بل على سبيل القبول ، والفيضان يجوز أن يكون على سبيل مفارقة للفيض عن المفيض ، والقبول لا يجوز أن يكون على تلك السّبيل (٥)» ـ انتهى ملخّص ما ذكره دليلا على ما اختاره ومحصّله ـ.

وأقول : لمّا كان مبنى هذا المذهب المختار عنده على أنّ النّفس المدبّرة للبدن إنّما هي ذات واحدة بالعدد ، وأنّ اختلاف أفعالها إنّما هو لاختلاف قواها ، وأنّ تلك القوى فائضة عن تلك الذات الواحدة ، بيّن الثاني بقوله أوّلا : «قد بان ممّا ذكرناه أنّ الأفعال المتخالفة هي لقوى متخالفة» وبيّن الأوّل والثالث بما ذكره بعد ذلك ، فإنّه متضمّن لكون النّفس ذاتا واحدة رباطا لتلك القوى وفائضا عنه تلك القوى ، وكأنّ قوله «قد بان ممّا ذكرناه في الفصول المتقدّمة» كالفصل الذي عقده لبيان أنّ اختلاف أفاعيل النّفس لاختلاف قواها. ويخدشه أنّه في ذلك الفصل أيضا وإن ادّعى ذلك ، لكنّا لم نظفر فيه بذكر ما يمكن أن يكون دليلا على أنّ اختلاف الأفاعيل مطلقا ـ كما هو ظاهر إطلاق كلامه هنا ـ أو أنّ اختلاف أفاعيل النّفس ـ كما هو مقصوده هنا وفيما تقدّم ـ إنّما هو لقوى متخالفة. بل لا يظهر منه فيه ولا في شيء من الفصول المتقدّمة على ما تصفّحنا كلامه ما يدلّ على ما هو مطلوبه هنا ، وهو أنّه لا يمكن أن تكون النّفس التي هي الذّات الواحدة تفعل بنفسها أفعالا مختلفة باختلاف الآلات من غير توسّط القوى في ذلك ، كما هو مبنى المذهب الأوّل من المذاهب التي نقلها ، حيث إنّه في كلّ موضع ذكر أنّ اختلاف أفعال

__________________

(١) في المصدر : وتكون كلّها ...

(٢) فيفيض ...

(٣) حاله بعد ...

(٤) تكون ...

(٥) تلك السبيل.

٢٦٥

النّفس لاختلاف قواها ذكره على سبيل الادّعاء من غير إقامة دليل عليه ، كما يظهر على من تصفّح كلماته.

اللهم إلّا أن يكون أحال ذلك على الظهور ، وعلى أنّه بيّن بنفسه لا يحتاج إلى دليل ، فإنّه إذا كانت النّفس المدبّرة للبدن ذاتا واحدة كما بيّنه ، والحال أنّا نجد للإنسان أنّه يصدر عنه أفاعيل مختلفة ،

فإمّا أن تكون تلك الأفاعيل تصدر عن تلك الذّات الواحدة بنفسها من غير مدخليّة شيء ممّا يوجب الاختلاف سوى تلك الذّات الواحدة أو بنفسها ، باختلاف الآلات ، فهذان الاحتمالان باطلان ، كما بيّنّاه فيما سبق. وبالجملة فعلى هذين الاحتمالين ، لا يكون للقوى والحواسّ والمشاعر حظّ في تلك الأفاعيل أصلا ، وهو باطل بالضّرورة والوجدان ، حيث إنّا نجد أنّ لتلك القوى والحواسّ حظّا أيضا فيها ، وأنّ لكلّ قوّة فعلا يخصّها كما أشار هو إليه فى بيان نقل المذهب المختار عنده ، حيث قال : ويختصّ كلّ قوّة بفعل».

وإمّا أن تكون تلك الأفاعيل تصدر عن تلك القوى بنفسها من غير أن تصدر هي عن تلك الذّات الواحدة أيضا بتوسّط تلك القوى ، فعلى هذا يلزم أن لا يكون لتلك الذات الواحدة حظّ في تلك الأفعال أصلا ، وهذا أيضا باطل. لأنّه لو كان كذلك ، لما كانت تلك الذّات حاكمة بين تلك الأفعال ، كما هو معلوم بالضّرورة ، ولما كان غلط الحواسّ وتلك القوى يردّ على تلك الذّات ، كما بيّنّاه فيما سبق. حيث إنّ الحاكم بين الشيئين لا بدّ وأن يكون مدركا لهما ، وكذا الحاكم بالغلط يجب أن يكون مدركا له. والإدراك أيضا من جملة تلك الأفاعيل ، حيث إنّ تلك الأفاعيل إنّما هي الإدراكات والتحريكات.

وحيث انتفت هذه الاحتمالات ، ثبت أنّ لكلّ من تلك الذّات الواحدة وتلك القوى حظّا في تلك الأفعال ، أي أن تكون تلك الأفعال تصدر عن تلك القوى بنفسها ، وعن تلك الذّات بتوسّط تلك القوى ، لا بالعكس. حيث إنّه لا يعقل صدورها عن تلك الذّات بنفسها ، وعن تلك القوى بتوسّط تلك الذّات ، فإنّ تلك القوى آلات لتلك الذّات لا بالعكس. وإلى

٢٦٦

ما ذكرنا أشار في بيان نقل المذهب المختار عنده بقوله : «ويختصّ كلّ قوّة بفعل ، وأنّها إنّما تفعل ما تفعله من الامور المذكورة بتوسّط هذه القوى».

والحاصل أنّه يمكن أن يكون قد أحال وجه ما ذكره على الظّهور ، كما بيّنّا. وهذا الذي هو غاية توجيه ما ذكره وتصحيحه.

وفيه مع ذلك أيضا أنّه على هذا التوجيه ، إنّما يتمّ الدلالة على أنّ الأفاعيل المختلفة الجزئيّة التي للقوى والحواسّ والآلات مدخل فيها ، إنّما هي تصدر عن تلك الذّات الواحدة بتوسّط القوى المتخالفة ، ولا يتمّ الدّلالة على أنّ الأفاعيل الكلّيّة التي هي مختصّة بذات تلك الذّات الواحدة من غير مدخليّة للآلات فيها ، كالتعقّلات والإدراكات الكلّيّة ، هي أيضا إنّما تصدر عن تلك الذّات الواحدة بتوسّط القوى المتخالفة ، إذ لا امتناع في أن تكون تلك الأفعال الكلّيّة تصدر عن تلك الذّات الواحدة بنفسها ، من غير مدخليّة القوى فيها ـ كما هو مذهب بعض من الحكماء ـ إذ ليست تلك [أفعال] آليّة ، حتّى يصار فيها إلى ما يصار إليه في الأفعال الآليّة. ولا يخفى أنّ ذلك أيضا ، أي كون الأفاعيل المختلفة الذّاتيّة للنّفس صادرة عنها بتوسّط القوى المختلفة مطلوبة أيضا ، كما هو ظاهر كلامه في بيان نقل ذلك المذهب المختار عنده ، بل صريح كلامه في بيان كيفيّة إفاضة تلك القوى المختلفة عن تلك الذّات الواحدة وكونها منبع القوى ، على ما نقلنا كلامه في ذلك.

وحينئذ ، ففي تتميم مدّعاه إمّا أن يقال بأنّه لما دلّ الدليل على أنّ الأفاعيل المختلفة الآليّة تصدر عن تلك الذّات الواحدة بتوسّط القوى المختلفة ، فينبغي أن يحكم بذلك في الأفاعيل المختلفة الذّاتية غير الآليّة أيضا ، ليكون الكلّ على نسق واحد. وفيه ، أنّ هذا وجه استحسانيّ لا يفيد الاطمئنان ، بل لا يفيد الإقناع أيضا.

وإمّا أن يقال : كما أنّ الأفاعيل الآليّة أفاعيل مختلفة تصدر عن تلك الذّات والحال أنّها واحدة بسيطة لا اختلاف فيها ولا تعدّد ، ويجب أن يكون هناك ما به الاختلاف ، وهو توسّط القوى المتخالفة على ما تقرّر عندهم من أنّ الواحد بالذّات لا يصدر عنه من جهة واحدة إلّا أمر واحد ، كذلك الأفاعيل الذّاتيّة غير الآليّة أفاعيل مختلفة ، حيث إنّ العقل

٢٦٧

النظريّ والعقل العمليّ فعلان مختلفان ، ومع هذا فمراتب كلّ واحد منهما مختلفة ، وأصولها الكلّيّة أربع ، كما سيجيء بيانه ، والمفروض أنّها أجمع صادرة عن تلك الذّات الواحدة. فلو لم يكن هناك ما به الاختلاف أيضا لم يمكن أن تصدر هي عنها بنفسها ، حيث إنّها واحدة بسيطة ، فيجب أن يكون هناك أيضا ما به الاختلاف ، وما هو إلّا القوى المتخالفة.

فإن قلت : إنّا لا نسلّم أن ليس هناك ما به الاختلاف سوى القوى المتخالفة ، فإنّه يمكن أن يكون هناك جهات واعتبارات بها تصدر عن تلك الذّات الواحدة تلك الأفاعيل المختلفة ، من غير أن يكون هناك قوى متخالفة بتوسّطها تصدر هي عنها. وبعبارة أخرى : إمّا أن تكون هناك جهات واعتبارات مختلفة ، أو لا تكون. فعلى الأوّل ، فتلك الجهات المختلفة أنفسها يمكن أن تكون كافية في صدور تلك الأفاعيل المختلفة عن تلك الذّات الواحدة من غير احتياج إلى القوى المتخالفة ، وإلى توسّطها في ذلك. وعلى الثّاني فلا يمكن أيضا أن تفيض تلك القوى المتخالفة عن تلك الذّات الواحدة ، كما هو مذهب الشيخ في ذلك ، أو أن تفيض عليها من المبدأ الفيّاض كما هو الاحتمال ، وسنشير إلى وجهه ، لأنّ القوى المتخالفة أيضا حيث كانت أمورا مختلفة إنّما تفيض عن تلك الذّات الواحدة أو عليها إذا كانت هناك جهات واعتبارات مختلفة ، بناء على ما هو المقرّر عندهم من أنّ الذات الواحدة البسيطة لا تفيض عنها ولا عليها من جهة واحدة إلّا أمر واحد.

وبعبارة أخرى إنّهم ذكروا أنّ النّفس الإنسانيّة جوهر واحد وله نسبة وقياس إلى جنبتين ، جنبة هي تحته وهي البدن ، وجنبة هي فوقه وهي المبادي العالية ، وله بحسب كلّ جنبة وكلّ نسبة قوّة ، وأنّ له بحسب النسبة إلى ما فوقه القوّة النظريّة ، وبحسب النسبة إلى ما تحته القوّة العمليّة ، وكذلك له بحسب كلّ نسبة من تينك النسبتين ، نسب مختلفة إلى مدركاتها وأفعالها ، وبتلك النسب المختلفة يكون له مراتب القوى النظريّة والعمليّة ، كما سيأتي بيان ذلك مفصّلا فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وحينئذ نقول : إذا كانت هناك تلك النسب المختلفة والجهات المتغايرة ، فلم لا يجوز

٢٦٨

أن تكون تلك النسب أنفسها كافية في صدور تلك الأفعال الذّاتيّة غير الآليّة عن تلك الذّات الواحدة ، من غير أن يكون هناك قوى مختلفة متوسّطة في ذلك؟

قلت : لا كلام في كون النسب المختلفة والاعتبارات والجهات المتغايرة هناك ، إلّا أنّ من يقول بالقوى المتخالفة وبتوسّطها في صدور تلك الأفاعيل المختلفة عن تلك الذّات الواحدة ، كالشّيخ ونظرائه بل الأكثرين منهم ، كأنّ نظره في ذلك أنّ تلك النسب المختلفة بأنفسها لا تصحّ أن تكون منشأ لصدور الأفاعيل المختلفة ، إلّا أن يكون هناك أمر آخر من حال لتلك الذّات الواحدة ، باعتبار يصحّ استناد فعل إليه ، ولا نعني بقوّة النّفس إلّا ذلك الأمر ، حيث إنّهم أطلقوا لفظ القوّة على قوّة النّفس بمعنى الحال التي تكون في الشيء وتكون مبدأ تغيّر في آخر ، كما أشرنا إليه فيما سلف ، وهذا كالقدرة التي أثبتوها لبعض الفواعل ، وقالوا بأنّ الفاعل الذي له أن يفعل وأن لا يفعل بحسب المشيّة وعدم المشيّة ، سواء كان ذاتا واحدة بسيطة فرض له فعل واحد من جهة واحدة ، أو أفعال متخالفة بحسب جهات مختلفة ، أو ذاتا مركّبة فرض لها أفعال متخالفة بحسب جهات فيه ، إنّما يفعله بالقدرة ، فأثبتوا القدرة زائدة على تلك الجهة أو الجهات ، فما وجه ذلك في إثبات القدرة هناك فهو الوجه في إثبات القوّة فيما نحن فيه سواء بسواء.

وحيث تحقّقت ما تلوناه عليك ، ظهر تلك تصحيح ما ذهب إليه الشيخ ، وتبعه الأكثر من القول بأنّ الأفاعيل المختلفة ـ سواء كانت آليّة أو غير آليّة ـ إنّما تصدر عن النّفس التي هي الذّات الواحدة بتوسّط القوى المتخالفة. فما ذهب إليه بعضهم كالمحقّق الطوسي وغيره من أنّ الأفعال الآليّة إنّما تصدر عنها بتوسّط القوى والآلات ، وأنّ الأفعال التي هي غير آليّة إنّما تصدر عنها بذاتها ، لعلّهم أرادوا بالصدور عنها بذاتها ، أنّ ذاتها مصدر لتلك من غير توسّط قوّة بدنيّة وآلة جسمانيّة وحواسّ ومشاعر ، وإلّا فإن أرادوا به أنّ ذاتها بذاتها من غير توسّط قوّة أصلا مصدر لتلك ، ففيه خفاء.

فإن قلت : قد ذكر بعض مفسّري كلام أرسطو أنّه لو كانت النّفس النّاطقة تدرك المحسوسات بقوّة ما ، وتدرك المعقولات بقوّة أخرى ، لما جاز أن تردّ حكم الحسّ فيما

٢٦٩

يغلط فيه ، وتردّه إلى ما حكم به العقل ، كما لا تردّ ما حكمت به حاسّة إلى ما حكمت به حاسّة أخرى ، والحال أنها تردّ حكم الحسّ كثيرا إلى ما حكم به العقل ، وذكر الشاهد عليه الأمثلة التي ذكرتها سابقا ، ثمّ ذكر أنّ النّفس النّاطقة تدرك الأمور المعقولة بغير النّحو الذي تدرك به الأمور المحسوسة ، لأنّها إذا طلبت الأمور المعقولة انبسطت ورجعت إلى ذاتها كأنّها تطلب شيئا هو عندها ، وإذا همّت تحصيل رأي بديع أو فكر في عاقبة أو استخراج علم غامض عويص ، خلت بنفسها وأبعدت جميع المحسوسات عنها ، وكرهت أن يشغلها شيء من الحواسّ ، واجتهدت في تعطيلها ، وانبسطت انبساطا راجعا إلى ذاتها ، وإذا طلبت الأمور المحسوسة خرجت عن ذاتها ، كأنّها تطلب شيئا خارجا عنها ، فتحتاج حينئذ إلى آلة تتوسّل بها إلى مطلوبها ، فإن وجدت الآلة صحيحة استعملها وأدركت الأمر الخارج ، ثمّ حصّلت صورتها عندها في الوهم. وإن لم تجد الآلة ، فإنّها تعدم ذلك المطلوب. مثال ذلك الأكمه لأنّه لا يمكنه أن يتصوّر الألوان ، لأنّه لم يجد آلتها. فالنّفس الإنسانيّة تدرك الأمور البسيطة بغير آلة ، بل بنفسها ، وتدرك الأمور المركّبة المحسوسة بتوسّط الحواس ، وهذا المذهب لأرسطاطاليس ، ويتبيّن منه رأيه في النّفس الناطقة ، فإنّها تدرك المحسوسات والمعقولات معا ، وليس كما يظنّه قوم من أنّ الأشياء المحسوسة إنّما تدركها الحواسّ فقط ، والأشياء المعقولة يدركها العقل فقط ـ انتهى بخلاصته ـ.

وهذا الذي ذكره ذلك البعض من المفسّرين ، يدلّ على عدم صحّة القول باستناد الأفعال الذّاتيّة إلى النّفس الإنسانيّة بتوسّط القوى ، كما هو مذهب الشيخ. بل ينبغي القول ـ على تقديره ـ باستنادها إلى ذات النّفس بذاتها من غير توسّط قوى في ذلك ، فكيف ذلك؟

قلت : هذا الذي ذكره ذلك البعض أوّلا غير مسلّم ، فإنّ المسلّم أنّ النّفس لا تردّ حكم ما حكمت به قوّة بدنيّة آليّة إلى ما حكمت به قوّة أخرى آليّة بدنيّة ، وأمّا أنّها لا تردّ ما حكمت به قوة آليّة إلى ما حكمت به قوّة أخرى غير آليّة بل ذاتيّة ، فليس بمسلّم. كيف

٢٧٠

وهذا أيضا في الحقيقة ردّ إلى ذات النّفس؟ وكيف وذلك البعض نفسه ذكر أنّها تردّ ما حكمت به حاسّة إلى ما يحكم به العقل؟ والحال أنّ المراد بالعقل هنا عندهم ليس إلّا قوّة للنّفس.

وأمّا ما ذكره بعد ذلك من الاختلاف بين الأفعال الذّاتيّة غير الآليّة ـ كالأمور المعقولة ـ وبين الأفعال الآليّة ـ كالأمور المحسوسة ـ فمسلّم ، إلّا أنّه ليس فيه عند التّأمّل دليل على أنّ النّفس تدرك المعقولات بذاتها من غير توسّط قوّة في ذلك ، بل ربّما يمكن أن يوجّه ما أسنده إلى أرسطو من المذهب بما وجّهنا به كلام المحقّق الطوسي (ره) ، فتدبّر.

وحيث عرفت صحّة ما اختاره الشيخ من المذهب ، فاعلم أنّ ما ذكره في كيفيّة إفاضة القوى عن النّفس ، حيث قال (١) : «إنّ (٢) هذا الذي ليس بجسم يجوز أن يكون منبع القوى يفيض (٣) عنها بعضها في الآلة ، وبعضها يختصّ بذاته ، وكلّها يؤدّي إليه نوعا من الأداء ، واللواتي تكون في الآلة تجتمع في مبدأ يجمعها في الآلة ذلك المبدأ ، وهو فائض عن الغنيّ عن الآلة».

وحاصله أنّ تلك النّفس التي هي الذّات الواحدة تفيض أوّلا عن المبدأ الفيّاض الذي هو الغنيّ عن الآلة مطلقا ، ثمّ تفيض باقتضاء العناية الأزليّة عن تلك النّفس قوى متخالفة. إلّا أنّ القوى الآليّة منها تفيض عن تلك النّفس في الآلة وهي حالّة فيها ، وأنّ القوى غير الآليّة منها أي الذاتيّة تفيض عنها وتختصّ بذاتها وهي قائمة بها ، وأنّ تلك الذات بالنسبة إلى كلّ تلك القوى منبع ومجمع ومخدوم ولها تسلّط واقتدار على تلك القوى في أن تستعملها في أفعالها ، وأنّ تلك القوى كلّها بالنسبة إلى تلك الذات خوادم ورواضع.

فهذا الذي ذكره ، وإن كان صحيحا على أصوله لكون النّفس مجمع القوى الآليّة والذّاتيّة التي بتوسّطها تصدر عنها تلك الأفعال ، إلّا أنّ الأنسب بقواعد الشرع أن يقال إنّ

__________________

(١) الشفاء الطبيعيّات ٢ / ٢٢٤ ، الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.

(٢) في المصدر : لأنّ ...

(٣) فيفيض عنه بعضها.

٢٧١

تلك الذّات تفيض عن المبدأ الفيّاض ثمّ تفيض عنه لأجل تلك الذّات قوى متخالفة بعضها تحلّ في آلاتها وبعضها تقوم بها بذاتها ، وجعل لها اقتدار على استعمال كلّ تلك القوى في أفعالها ، وكلّ تلك القوى خوادم لها.

وكيف ما كان ، سواء بنى على ما ذكره أو على ما ذكرنا ، فمحصّل الكلام أنّه يجوز أن يكون النّفس التي هي المدبّرة للبدن ذاتا واحدة بسيطة مجرّدة عن المادّة في ذاتها ، ويفيض عنها أو عن المبدأ الفيّاض لأجلها في أعضاء مختلفة قوى مختلفة ، أو أن يفيض عنها أو عن المبدأ الفيّاض لأجلها أوّلا في البذر والمنيّ قوّة الإنشاء ، فتنشأ أعضاء على حسب موافقة أفعال تلك القوّة ، يستعدّ كلّ عضو لقبول قوّة خاصّة به تفيض فيه. ولو لا ذلك لكان خلق البدن معطّلا لها. وهذا هو القول فى كيفيّة فيضان القوى الآليّة.

وأمّا القول في كيفيّة فيضان القوى الذّاتيّة ، فبأن يقال : يجوز أن يفيض عن تلك النّفس ، أو عن المبدأ الفيّاض لأجلها بحسب استعدادات حاصلة لها بسبب تعلّقها بالبدن قوى مختلفة عليها تقوم هي بذاتها تستعملها فى أفعالها الذّاتيّة ، والله أعلم بكيفيّة الحال.

فى الإشارة إلى أنّ تلك القوى المتخالفة كيف يخدم بعضها بعضا

ثمّ اعلم ، أنّهم ذكروا ـ كما سيتّضح لك فيما بعد في باب تعديد القوى أيضا ـ أنّ تلك القوى كيف يرؤس بعضها بعضا وكيف يخدم بعضها بعضا ، حيث يظهر لك أنّ العقل المستفاد رئيس للكلّ ويخدمه الكلّ ، وهو الغاية القصوى. ثمّ العقل بالفعل يخدمه العقل بالملكة. ثمّ العقل العمليّ يخدم جميع هذه ، لأنّ العلاقة البدنيّة ـ كما سيتّضح بعد ـ لأجل تكميل العقل النظريّ وتزكيته. والعقل العمليّ هو مدبّر تلك العلاقة ، ثمّ العقل العمليّ يخدمه الوهم. والوهم يخدمه قوّتان : قوّة بعده ، وقوّة قبله. فالقوّة التي بعده هي القوّة التي تحفظ ما أدّاه الوهم ، أي الذاكرة. والقوّة التي قبله هي جميع القوى الحيوانيّة. ثمّ المتخيّلة يخدمها قوّتان مختلفتا المأخذين : فالقوّة النزوعيّة تخدمها بالائتمار لأنّها تبعثها على

٢٧٢

التحريك نوعا من البعث ، والقوّة الخياليّة تخدمها لعرضها الصّور المخزونة فيها المهيّأة لقبول التركيب والتفصيل ، ثمّ هاهنا رئيسان لطائفتين ، أمّا القوّة الخياليّة فيخدمها بنطاسيا ، وبنطاسيا يخدمها الحواسّ الخمس. وأمّا القوّة النزوعيّة فيخدمها الشهوة والغضب ، والشهوة والغضب يخدمهما القوّة المحرّكة في الفعل. ثمّ القوى الحيوانيّة يخدمها النباتيّة ، أوّلها ورأسها المولّدة. ثمّ النّاميّة تخدم المولّدة ، ثمّ الغاذية تخدمها جميعا. ثمّ القوى الطبيعيّة الأربع تخدم هذه ، والهاضمة منها تخدمها الماسكة من جهة ، والجاذبة من جهة ، والدافعة تخدم جميعها ، ثمّ الكيفيّات الاربع تخدم جميع ذلك ، لكن الحرارة تخدمها البرودة ، فإنّها إمّا أنّ تعدّ للحرارة مادّة أو تحفظ ماهيّتها ، ولا مرتبة للبرودة في القوى الداخلة في الأعراض الطبيعيّة إلّا منفعة تابع وتال ، وتخدمهما جميعا اليبوسة والرطوبة ، فهذه درجات القوى.

ومنه يعلم كيفيّة تقدّم بعضها في الوجود وتأخّرها في الشّرف وبالعكس ، وكذا يعلم منه كيفيّة ارتباط تلك القوى بعضها ببعض ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

في الإشارة إلى أنّ أيّا من الأفاعيل تقتضي قوّة على حدة

وإذا انتهى الكلام إلى هذا المقام ، فنتكلّم في أنّ أيّا من الأفاعيل تقتضى قوّة على حدة وأيّا منها يمكن أن يكون لها قوّة مشتركة ، وأنّه هل يجب أن يكون لكلّ نوع من الفعل قوّة تخصّه أو لا يجب؟ وفي أنّه بأيّ سبب يكون القوى متغايرة تغايرا ذاتيّا ، وبأيّ سبب وجهة يمكن أن يكون بينها جامع مشترك؟

فنقول : إنّ للنفس أفعالا تختلف على وجوه ، فيختلف بعضها بالشدّة والضّعف ، وبعضها بالسّرعة والبط ، فإنّ الظّن اعتقاد ما يخالف اليقين بالتأكّد والشّدّة ، والحدس مخالف لليقين بسرعة الفهم. وقد تختلف أيضا بالعدم والملكة ، مثل أنّ الشكّ يخالف الرأي ، فإنّ الشّك عدم اعتقاد من طرفي النقيض ، والرأي اعتقاد أحد طرفي النقيض ، ومثل التحريك والتسكين. وقد تختلف بالنسبة إلى أمور متضادّة ، مثل الإحساس

٢٧٣

بالأبيض والإحساس بالاسود ، وإدراك الحلو وإدراك المرّ. وقد تختلف بالنسبة إلى أمور متغايرة بالذات ، بل متباينة كإدراك الصّورة وإدراك المعنى ، وكإدراك المعنى الجزئيّ وإدراك المعنى الكلّيّ. وقد تختلف بالحسّ مثل إدراك اللّون وإدراك الطّعم. وقد تختلف بالذّات مثل الإدراك والتحريك ، ومثل الشهوة والغضب. وقد تختلف مع بعض هذه الاختلافات بالتقدّم والتأخّر أيضا ، كالأفعال النّباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة ، كما قالوا من أنّ المنيّ في الرّحم يكون له أوّلا الأفعال النباتيّة ، ثمّ الحيوانيّة ، ثمّ الإنسانيّة. وقد تختلف مع ذلك بالاختلاف في الموضوع أيضا ، كهذه الأفعال أيضا ، فإنّ النباتيّة قد توجد في النبات دون الحيوانيّة ، وكذلك الحيوانيّة قد توجد في الحيوان دون الإنسانيّة ، إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف التي تعلم بالتّتبع.

والذي يقتضيه التدبّر في كلام الحكماء ، وفي دليلهم على إثبات القوى الخاصّة والمشتركة ، أنّ الأفعال المختلفة بالشدّة والضّعف ، أو بالسرعة والبطء ، فإنّ مبدأها قوّة واحدة ، لكنّها تكون تارة أتمّ فعلا وتارة تكون أنقض فعلا ، إذ لو اقتضى ذلك قوى متعدّدة متغايرة ، وأن يكون للأنقص قوّة غير القوّة التي للأتمّ ، لوجب أن يكون عدد القوى بحسب عدد مراتب النقصان والزيادة التي تكاد لا تتناهى. كما أنّه لو كان اختلاف الأفعال بحسب التشخّصات التي لا تكاد تنتهي إلى حدّ يوجب اختلاف القوى وتغايرها ، لوجب أن يكون عدد القوى بحسب ذلك غير متناه ، بل القوّة الواحدة يعرض لها أن تفعل الفعل أشدّ أو أضعف أو أسرع أو ابطأ بحسب الاختيار ، أو بحسب مواتاة الآلة ، أو بحسب عوائق من خارج أن يكون وأن لا يكون ، أو أن يقلّ أو أن يكثر. كما أنّه يعرض للقوّة الواحدة اعتبارات وتشخّصات متعدّدة مع كون ذاتها واحدة.

وكذلك الأفعال المختلفة بالعدم والملكة ، فمبدؤها قوّة واحدة يعرض لها تارة أن تفعل ، وتارة أن لا تفعل ، مع كون شأنها أن تفعل لو لا العائق عنه.

وأيضا كلّ قوّة من حيث هي قوّة أوّلا وبالذات على فعل من الأفعال التي تقتضي قوى خاصّة ، وإن كانت قوّة على ذلك الفعل الذي تخصّه ، ويستحيل أن يكون مبدأ لفعل

٢٧٤

آخر غير بالقصد الأوّل. لكنّه قد يجوز أن يكون مبدأ الأفعال كثيرة غيره بالقصد الثاني. وهذا مثل إنّ الإبصار إنّما هو قوّة أوّلا وبالذات على إدراك الكيفيّة التي هي اللّون ، واللّون يكون بياضا وسوادا وغيرهما. ومثل القوّة المتخيّلة التي شأنها أن تستثبت صور الأمور المادّيّة من حيث هي مادّيّة مجرّدة نوعا من التجريد غير بالغ ، ثمّ يعرض أن يكون ذلك لونا أو طعما أو عظما أو صوتا أو غير ذلك ، ومثل القوّة العاقلة التي شأنها أن تستثبت صور الأمور من حيث هي بريئة عن المادّة وعلائقها ، ثمّ يتّفق أن يكون ذلك شكلا أو عددا أو غير ذلك.

وكذلك قد يجوز أن يكون القوّة معدّة نحو فعل بعينه تحتاج إلى أمر آخر ، فينضمّ إليها حتّى يصير بها ما بالقوّة حاصلا بالفعل. فإن لم يكن ذلك الأمر لم تفعل ، فيكون مثل هذه القوّة تارة مبدأ للفعل بالفعل ، وتارة غير مبدأ له بالفعل ، بل بالقوّة. وهذا مثل القوّة المحرّكة ، فإنّها إذا صحّ الإجماع من القوّة الشوقيّة بسبب داع من التخيّل أو التعقّل إلى التحريك ، حرّكت لا محالة. فإن لم يصحّ ، لم تحرّكه. وليس يصدر عن قوّة محرّكة واحدة بآلة إلّا حركة واحدة أو الحركات الكثيرة لكثرة آلات الحركة التي هي العضل فينا ، وفي كلّ عضلة قوّة محرّكة جزئيّة ، لا تحرّك إلّا حركة بعينها. وقد تكون الواحدة أيضا يختلف تأثيرها بحسب القوابل المختلفة والآلات المختلفة.

هذا ، وأمّا الأفعال التي بينها ترتيب وتقدّم وتأخّر زمانيّ ، ولها اختلاف في الموضوع كالأفعال التي هي أقسام أوّليّة من جملة أفعال النّفس ، وهي ثلاثة أقسام : أفعال يشترك فيها الإنسان والحيوان والنبات ، كالتغذية والتنمية والتوليد ؛ وأفعال يشترك فيها الإنسان والحيوان كلّها أو جلّها ولا حظّ للنبات فيها ، مثل الإحساس والتخيّل والحركة الإراديّة ؛ وأفعال تختصّ بالإنسان ، مثل تعقّل المعقولات واستنباط الصنائع والرويّة في الكائنات والتفرقة بين الجميل والقبيح ، فلها قوى متعدّدة ، ولكلّ قسم منها قوّة على حدة ، إذ ليس يمكن أن يكون لهذه الأقسام الثلاثة الأوّليّة التي قلنا إنّها مختلفة بالتقدّم والتأخّر الزمانيّ وفي الموضوع ، ومع ذلك فهي مختلفة غاية الاختلاف ، قوّة واحدة هي

٢٧٥

مبدأ للجميع ، وهذا هو القول في تلك الأقسام الأوّليّة.

وأمّا القول في خصوص كلّ قسم ، قسم ، فهو أنّ ما للإنسان من الأفعال الأوّليّة المختصّة به فعلان : علم وعمل ، وحيث كانا فعلين مختلفين وأمرين متغايرين تغايرا بالذّات ، ينبغي أن يكون لكلّ من العلم والعمل قوّة مختصّة ، فلذلك كانت القوّة العمليّة مغايرة للقوّة النظريّة.

ثمّ إنّه حيث كانت مراتب كلّ منهما مختلفة متغايرة ، ينبغي أن يكون لكلّ مرتبة من تلك المراتب قوّة أخرى تخصّها ، وبيان ذلك : أمّا في مراتب العمليّة ، فلأنّ تلك المراتب على ما قالوه أربع :

أوّلها : تهذيب الظاهر باستعمال النواميس الإلهيّة والشرائع النبويّة.

وثانيتها : تهذيب الباطن وتطهير القلب عن الملكات الرديّة والأخلاق الظلمانيّة ، ونقض آثار شواغله عن عالم الغيب.

وثالثتها : تنويرها بالصّور العلميّة والصفات المرضيّة ، وبعبارة أخرى ما يحصل بعد الاتّصال بعالم الغيب ، وهو تجلّي النّفس بالصّور القدسيّة.

ورابعتها : فناء النفس عن ذاتها ، وقصر النظر على ملاحظة جمال الله تعالى وجلاله ، حتّى يرى كلّ قدرة مضمحلّة في جنب قدرته الكاملة ، وكلّ علم مستغرقا في علمه الشامل ، وأنّ كلّ وجود وكمال فائض عن جنابه تعالى.

ولا يخفى أنّ تلك المراتب أمور متغايرة بالذّات ، ليست إحداها هي الأخرى. وحيث كانت كذلك ، فينبغي أن يكون لكلّ واحدة منها قوّة تخصّها.

وأمّا في مراتب النظريّة التي هي أربع أيضا عندهم : وهي العقل الهيولانيّ ، وبالملكة ، وبالمستفاد ، وبالفعل ، فلأنّها وإن كانت من جهة يغاير بعضها بعضا بالكماليّة والاستعداد نحو الكمال ، وبأنّ الاستعداد إمّا قريب أو بعيد أو متوسّط ، حيث إنّ العقل المستفاد كمال والهيولانيّ استعداد بعيد وبالملكة استعداد متوسّط وبالفعل استعداد قريب كما قالوه ، ويمكن أن يذهب الوهم إلى أنّ المبدأ للكلّ قوّة واحدة يختلف أحوالها

٢٧٦

وأفعالها بالكماليّة والاستعداد والقرب والبعد والمتوسّط ، كما ذكرنا أنّ القوّة الواحدة يمكن أن تكون تارة مبدأ لفعل بالفعل ، وتارة مبدأ له بالقوّة ، إلّا أنّك ستعلم ممّا نذكره في بيان أحوال هذه القوّة ، أنّ مراتبها مرتّبة في التقدّم والتأخّر الزمانيّين ، وبعضها متقدّم على بعض في الزمان ، وبعضها متأخّر عن بعض فيه ، وكذلك بعضها رئيس ومخدوم لبعض ، وبعضها مرءوس وخادم. وتعلم أيضا أنّ تلك المراتب التي حالها ما ذكر تكون مختلفة متغايرة البتّة ، لا يجوز أن يكون لجميعها قوّة واحدة بالذّات ، بل ينبغي أن يكون لكلّ مرتبة قوّة تخصّها ، لأنّهم لذلك أثبتوا لتلك المراتب قوى متعدّدة وإن لم تكن تلك القوى متباينة بالذات ، كالقوى الحيوانيّة مثلا. فإنّ القوى الحيوانية متباينة بالذّات لكونها مبادي أفعال مختلفة ، والقوى الإنسانية غير متباينة بالذّات لكونها متعلّقة بذات واحدة مجرّدة. وإنّما تختلف بحسب الاعتبارات التي هي بالقياس إلى تلك الذات عوارض ، وهذا هو القول في القوى المتعدّدة التي للنّفس النّاطقة الإنسانيّة.

وأمّا القول في قوى النّفس الحيوانيّة ، فهو أنّ لها بالقسمة الاولى فعلان : أحدهما التحريك ، والآخر الإحساس والإدراك. وحيث كان التحريك والإدراك فعلين متغايرين بالذات ، ومع ذلك فقد يفترقان بالموضوع أيضا ، كما في الرية من جملة الأعضاء ، حيث قالوا إنّها دائمة الحركة ، ولم يجعل لها حسّ وإدراك لئلا تتألّم باصطكاك بعضها ببعض ، فينبغي أن يكون لكلّ من التحريك والإدراك قوّة على حدة خاصّة ، تسمّى إحداهما قوّة محرّكة والأخرى قوّة حاسّة مدركة. ثمّ إنّ المحرّكة حيث كانت على قسمين : محرّكة ، بمعنى أنّها باعثة على الحركة هي النزوعيّة ، ومحرّكة ، بمعنى أنّها فاعلة للحركة ، وكان البعث والفعل أمرين متغايرين ، حيث إنّ الباعثة النزوعيّة هي التي إذا ارتسمت في التخيّل صورة مطلوبة أو مهروبة عنها ، بعثت القوّة المحرّكة الفاعلة على التحريك. وهي التي تنبعث في الأعصاب والعضلات ، ومن شأنها أن تشنّج العضلات ، فتجذب الأوتار والرّباطات المتّصلة بالأعضاء إلى نحو جهة المبدأ ، أو ترخيها أو تمدّهما طولا فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف جهة المبدأ ، فينبغي أن يكون لكلّ من الفعلين قوّة

٢٧٧

على حدة تخصّه وكذلك الباعثة للحركة ، حيث كانت لها شعبتان : شعبة تسمّى شهوانيّة ، وهي ما تنبعث على تحريك يقرب به من الأشياء المطلوبة طلبا للّذّة ؛ وشعبة تسمّى غضبيّة ، وهي ما تنبعث على تحريك يدفع به الشيء المهروب عنه طلبا للغلبة ، وكان الغضب والشهوة فعلين متغايرين مختلفين ، ينبغي أن يكون لكلّ منهما قوّة تخصّه ، وعسى أن نشير فيما بعد إن شاء الله تعالى إلى بعض جهات المغايرة أيضا. وكذلك الإدراك وإن كان معنى واحدا ، إلّا أنّه لمّا كان ينقسم بانقسام المدركات وبتبعيّتها إلى أقسام كثيرة بعدد الحواسّ والمشاعر الظاهرة والباطنة ، وكانت تلك المدركات التي هي مدركات أوّليّة مختلفة بالذّات ، وكذا كانت إدراكاتها باعتبارها وبالعرض ، ومع ذلك كانت تلك الإدراكات متفارقة بالموضوع وبحسب الآلة ، وكانت لكلّ منها آلة غير ما هي للاخرى ، إن صحّت تلك الآلة صحّ ذلك الإدراك المنسوب إليها ، وإن فسدت فسد ، كما يعلم ذلك بالتجربة والاعتبار ، فعلى هذا ، كان ينبغي أن يكون لكلّ من تلك الإدراكات المختلفة قوّة تخصّها ، وعسى أن نشير فيما بعد إن شاء الله تعالى إلى بعض جهات المغايرة أيضا ، وهذا هو الكلام في قوى النّفس الحيوانيّة.

وأمّا الكلام في قوى النّفس النباتيّة ، فهو أنّهم وإن أثبتوا لها بالقسمة الاولى قوى ثلاثا : هي القوّة الغاذية والمنمية والمولّدة ، وأثبتوا لها بالقسمة الثانية قوى أخرى ، كالهاضمة والجاذبة والدافعة والماسكة ، إلّا أنّ لبعضهم في وحدة بعض هذه وتعدّده كلاما يعلم ذلك من النظر في كتب الحكماء والاطبّاء ، فلا نطيل الكلام بذكره. والضّابط فيها أيضا أنّ ما كان من تلك الأفعال مختلفة بالذّات ، أو في الموضوع ، أو من جهة الخادميّة والمخدوميّة أو نحو ذلك من الجهات التي بها تكون قواها مختلفة ـ كما سيظهر لك في بيان تعديد القوى النباتيّة ـ ، فيقتضي كلّ منها قوّة على حدة خاصّة ، وإلّا فلا وجه لإثبات القوّة الخاصّة لها ، بل يمكن أن يكون هناك قوّة واحدة تختلف اعتباراتها وحالاتها.

٢٧٨

في الكلام في آلات النّفس والأعضاء التي

يتعلّق بها القوّة الرّئيسة من النّفس

وحيث انتهى الكلام إلى هذا المقام ، فلنتكلّم في آلات النّفس والأعضاء التي يتعلّق بها القوّة الرئيسة من النّفس ، وحيث كان تفصيل ذلك وتحقيقه على الوجه الأتمّ مذكورا في الشّفاء ، فلنكتف فيه بنقل ما قال هو فيه ، فنقول :

قال الشّيخ في «الشّفاء» (١) : «إنّه قد أفرط النّاس في أمر الأعضاء التي يتعلّق (٢) بها القوّة الرّئيسة من النّفس إفراطا في جنبي (٣) اللّجاج ، وركنوا إلى تعسّف كثير وتعصّب شديد ، مال إليه كلّ واحد من الفريقين حتّى خرج من الحقّ ، وأكثرهم (٤) من جعل النّفس ذاتا واحدة وقضى مع ذلك أنّ الأعضاء الرّئيسة كثيرة ، فإنّه لما تخالف (٥) فيه الفلاسفة القائلة بتكثّر أجزاء النّفس ، ووافق من قال بوحدانيّتها ، لم يعلم أنّه يلزمه أن يجعل العضو الرئيس واحدا ، وهو الذي يكون به أوّل تعلّق النّفس ، وأمّا المكثّرون لأجزاء النّفس ، فما عليهم أن يجعلوا لكلّ جزء (٦) معدنا مخصوصا ومركزا مفردا ، فنقول : أوّلا أنّ القوى النّفسانيّة البدنيّة ، مطيّتها الأولى جسم لطيف نافذ في المنافذ روحانيّ ، وأنّ ذلك الجسم هو الرّوح ، وأنّه لو لا أنّ قوى النّفس النّاطقة المتعلّقة بالجسم ينفذ (٧) محمولة في جسم ، لما كان سدّ المسالك حابسا لنفوذ القوى المحرّكة والحسّاسة والمتخيّلة أيضا ، وهو (٨) أيضا حابس ظاهر الحبس عند من جرّب التّجارب الطبيّة ، وهذا الجسم نسبته إلى لطافة الأخلاط وبخاريّتها نسبة الأعضاء إلى كثافة الأخلاط ، وله مزاج مخصوص ، ومزاجه أيضا (٩) يتغيّر بحسب الحاجة إلى اختلاف يقع (١٠) فيصير به حاملا لقوى مختلفة ، وأنّه ليس (١١) يصحّ المزاج الذي منه يغضب للمزاج الذي معه يشتهي (١٢) ، ولا المزاج الذي يصلح للرّوح الباصرة (١٣) هو بعينه الذي يصلح للرّوح المحرّك. ولو كان المزاج واحدا ، لكانت (١٤) المستقرّة

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٢٣٢ ، الفصل الثامن من المقالة الخامسة.

(٢) في المصدر : تتعلّق ...

(٣) جنبتي ...

(٤) وأكثرهم غلطا من ...

(٥) لمّا خالف ...

(٦) جزء منه معدنا ...

(٧) تنفذ ...

(٨) وهو حابس ...

(٩) يتغيّر أيضا ...

(١٠) يقع فيه ليصير به ...

(١١) فإنّه ليس يصلح المزاج ...

(١٢) يشتهي أو يحسّ ...

(١٣) الباصر ...

(١٤) لكانت القوى المستقرّة.

٢٧٩

في الرّوح واحدة وأفعالها واحدة. فإذا كانت النّفس واحدة ، فيجب أن يكون لها أوّل تعلّق بالبدن ، ومن هناك تدبّره وتنميه ، وأن يكون ذلك بتوسّط هذا الرّوح ، ويكون أوّل ما تفعل النّفس (١) تفعل بفعل العضو الّذي لوساطته (٢) تنبعث قوّته في سائر الأعضاء بتوسّط هذا الروح ، وأن (٣) ذلك العضو متكوّن من الأعضاء ، وأوّل (٤) معدن لتولّد الرّوح ، وهذا هو القلب ، يدلّ على ذلك ما حقّقه التّشريح المتقن ، وسنزيد لهذا (٥) المعنى شرحا في الفن الذي في الحيوان.

فيجب أن يكون أوّل تعلّق النّفس بالقلب ، وليس يجوز أن تتعلّق بالقلب ، ثمّ بالدّماغ ، فإنّها إذا تعلّقت بأوّل عضو ، صار البدن نفسانيّا.

وأمّا الثّاني : فانّما يعقل (٦) لا محالة بتوسّط هذا الأوّل ، فالنّفس تحيي الحيوان بالقلب ، لكن يجوز أن يكون (٧) قوى الأفعال الاخرى تفيض من القلب إلى الأعضاء الأخرى ، لأنّ الفيض يجب أن يكون صادرا من أوّل ما يتعلّق (٨) ، فيكون الدّماغ هو الذي يتمّ فيه مزاج الرّوح الذي يصلح لأن يكون حاملا لقوى الحسّ والحركة إلى الأعضاء حملا يصحّ (٩) معه أن يصدر معها أفعالها حال (١٠) الكبد بالقياس إلى قوى التغذية ، ولكن يكون القلب هو المبدأ الأوّل الذي أوّل تعلّقه به ، ومنه ينفذ (١١) إلى غيره ويكون الفعل في أعضاء أخرى ، كما أنّ مبدأ الحسّ عند مخالف (١٢) هذا القول إنّما هو في الدّماغ ، لكنّ أفعال الحسّ لا تكون به وفيه ، بل في أعضاء (١٣) كالجلد وكالعين وكالأذن ، وليس يجب من ذلك أن لا يكون الدّماغ مبدأ ، كذلك أيضا يجوز أن يكون القلب مبدأ لقوى التّغذية ، ولكن أفعالها في الكبد ، ولقوى التّخيّل والتّذكّر والتّصوّر (١٤) لكن أفعالها في الدّماغ ، بل ينبغي أن (١٥) يكون مبدأ القوى المختلفة غير صالح لأن يصدر عن معدنه جميع أفعالها ، بل يجب أن (١٦) يتفرّع في آلات مختلفة تتخلّق بعد ذلك العضو تخلّقا ، وتفيض من ذلك العضو إليها قوّة ملائمة

__________________

(١) في المصدر : النّفس يفعل العضو ...

(٢) بوساطته تنبعث قواها ...

(٣) وأن يكون ...

(٤) أوّل متكوّن ...

(٥) هذا المعنى ...

(٦) تفعل فيه ...

(٧) تكون ...

(٨) متعلّق به ...

(٩) يصلح معه أن تصدر عنها أفعالها ...

(١٠) وكذلك حال ...

(١١) تنفذ ...

(١٢) مخالفي هذا ...

(١٣) أعضاء أخرى كالجلد ...

(١٤) والتصوّر ولكنّ ...

(١٥) يكون المبدأ للقوى ...

(١٦) تتفرّع.

٢٨٠