منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-341-1
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٥٦

من الأشياء ، فإمّا أن يكون ذلك اللزوم بأن يكون المقدّم ملزوما وعلّة للتّالي ، والتّالي معلولا ولازما له ، فهذا مشكل ؛ لأنّه على هذا يلزم أن يكون الممتنعات والمعدومات أيضا ربّا ، حيث إنّها أيضا تعجز الحواسّ عن إدراكها ، وعلى تقدير تخصيص ذلك بما سوى المعدومات والممتنعات ، أي بالأشياء الموجودة التي تعجز الحواسّ عن إدراكها ، يلزم أن يكون كثير من الأشياء الممكنة الوجود الموجود في الخارج أو العقل ربّا صانعا للعالم.

أمّا على تقدير تعميم الموجود ، بحيث يشمل الموجود في العقل أيضا ، فظاهر ؛ لأنّه لا يخفى أنّ المعاني الكلّيّة موجودات عقليّة ، وهي ممّا يعجز الحواسّ عن إدراكها.

وأمّا على تقدير التخصيص بالموجود في الخارج ، فكذلك ؛ لأنّ الكلّيّ الطبيعيّ ، أي الطبيعة من حيث هي ـ على رأي القائلين بوجودها في ضمن أفرادها في الخارج كما هو المذهب الحقّ ـ موجودة في الخارج ، وهي ممّا تعجز الحواسّ عن إدراكها ، بل إنّما يدركها العقل خاصّة. وعلى تقدير عدم القول بوجود الطبيعة من حيث هي في ضمن أفرادها في الخارج ـ كما هو مذهب بعضهم ـ فلا يخفى أنّ نفس الحواسّ والقوى الحسّاسة والمشاعر الدرّاكة ممّا هي موجودات عينيّة خارجيّة ، وهي ممّا يعجز الحواسّ عن إدراكها ، كما هو المتبيّن والمبيّن في محلّه ، بل المدرك لها هو العقل ، أي النّفس بذاتها إدراكا حضوريّا لكونها آلات لها حاضرة عندها. والحاصل أنّه لو كان عجز الحواسّ عن الإدراك في الشرطيّة المذكورة علّة وملزوما للربوبيّة ، لزم أن يكون غيره تعالى أيضا ربّا ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

ومنه يعلم أنّه لا يمكن أن يكون العلم بهذا المقدّم أيضا علّة وملزوما للعالم بهذا التالي ولليقين به ، أي أن يكون اليقين بعجز الحواسّ عن إدراكه ، علّة لليقين بكونه ربّا ؛ للزوم ذلك المحذور على تقديره أيضا.

وبالجملة ، فيظهر ممّا ذكرنا : أنّه لا يمكن أن يكون مقدّم هذه الشرطيّة دليلا على تاليها ، أي دليل لمّ على الصّانعيّة ، وكونه ربّا كما اعترف به الشّارح الجليل نفسه أيضا ،

٢٤١

وحيث بطل احتمال كون مقدّم هذه الشرطيّة علّة وملزوما لتاليها ، فبقي أن يكون معلولا ولازما له ، أي أن يكون كونه تعالى ربّا ، أو اليقين بكونه ربّا علّة وملزوما. لكونه ممّا يعجز الحواسّ عن إدراكه أو لليقين بذلك ، وهذا لازما له ومعلولا له ، كما اعترف الشّارح الجليل بأنّ عدم الإدراك بحاسّة لازم للربوبيّة. فلننظر في ذلك.

فنقول : إنّ هذا اللازم في بادي النظر لا يخلو عن أن يكون لازما أخصّ للربوبيّة ، أو لازما مساويا لها ، أي خاصّة لها أو لازما أعمّ. والأوّل باطل بالضّرورة ، إذ لا معنى للّازم الأخصّ هنا ، وكذا الثاني ، إذ اللازم المساوي ما يكون مساويا للملزوم ، وأن لا يتحقّق في غيره. فيلزم أنّه أينما تحقّق هذا اللازم ـ أي عجز الحواسّ عن إدراكه ـ تحقّق ذلك الملزوم أي الربوبيّة ، وقد عرفت بطلانه ، حيث عرفت أنّه في كثير المواضع يتحقّق عجز الحواسّ واليقين به ، ولا يتحقّق الربوبيّة ولا اليقين بها ، فيظهر أنّه لا يمكن أن يكون لازما مساويا لها ، أي أنّه لا يمكن أن يكون عجز الحواسّ عن إدراكه دليلا على الربوبيّة ، أي دليل إنّ عليها ، كما تضمّن اعتراف الشّارح الجليل : بأنّ عدم الإدراك بالحواسّ ليس دليلا على الصّانعيّة لذلك أيضا ، فبقي أن يكون لازما أعمّ.

وعلى تقديره ، يكون عجز الحواسّ عن الإدراك كما يتحقّق في الربّ تعالى شأنه ، كذلك يتحقّق في غيره من الأشياء التي تعجز الحواسّ عن إدراكها ، أي المجرّدات في ذاتها دون فعلها ، كما في النّفس ، أو في ذاتها وفعلها جميعا ، كالعقول المفارقة إن قلنا بها. وحينئذ فيكون ردّ إنكار السائل بأنّ عدم الإدراك بالحواسّ لا يمكن أن يكون دليلا على كونه لا شيئا ، فإنّ الربّ تعالى شأنه يلزمه أن يكون الحواسّ تعجز عن إدراكه ، كما في بعض الاشياء الممكنة الوجود أيضا.

والحاصل أنّك لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته ، ونحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه ، أيقنّا أنّه ربّنا ، إذ الرّبّ تعالى شأنه لا يكون إلّا كذلك. وإنّا حيث أيقنّا بسبب ذلك أنّه ربّنا ، والحال أنّ الرّبّ تعالى يكون بخلاف شيء من الأشياء ، أيقنّا أيضا أنّه بخلاف شيء من الأشياء ، لأنّ هذين اليقينين متلازمان ، وعند ذلك يظهر انعكاس

٢٤٢

الاستدلال ، حيث إنّ ما استدلّ به الشّارح الجليل على عدم مجرّد سوى الله تعالى ، يدلّ على ثبوت مجرّد سواه تعالى. وإنّ ما يتوّهم هنا : من أنّه لو كان مجرّد سواه تعالى ، لكان مشاركا معه تعالى في صفة التجرّد فيلزم أن يكون بينهما مشترك ذاتيّ ، أو أن يكون ما يختصّ به تعالى موجودا في غيره أيضا ، وكلّ منهما محال ، فمدفوع ، لأنّ عجز الحواسّ عن إدراكه ، أو معنى التجرّد ، ليس أمرا وجوديّا ذاتيّا له تعالى ، بل إنّه أمر عدميّ ، وكذلك ليس لازما مساويا له وأمرا يختصّ به تعالى كما عرفت ، بل اللازم المساوي للربوبيّة وما يختصّ بها الذي لا يوجد في غيرها ، هو مجموع ما تضمّنه قوله عليه‌السلام في صدر الحديث على الرّوايتين : فلا يعرف بالكيفوفيّة ولا بأينونيّة ، ولا يدرك بحاسّة ولا يقاس بشيء ، وكذا مجموع ما تضمّنه قوله عليه‌السلام بعد ذلك ـ على رواية الطبرسيّ (ره) ـ : هو أجلّ من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل. فإنّ ذلك لازم مساو للربوبيّة لا يتحقّق في غيره تعالى.

وكذلك ما يمكن أن يتوهّم هنا : أنّ التجرّد بمعنى عدم الاحتياج إلى المادّة في القوام ، وإن كان معنى عدميّا كما ذكر ، إلّا أنّ معنى القيام بالذّات اللازم للتجرّد أمر وجوديّ. فلو كان مجرّد سوى الله تعالى ، يلزم أن يشاركه تعالى في هذا المعنى الوجوديّ.

فمدفوع أيضا ، لأنّ هذا المعنى الوجوديّ لا نسلّم أنّه ذاتيّ له تعالى بل عرضيّ ، وليس أيضا عرضيّا لازما مساويا له تعالى ، أي خاصّة له ، لأنّه يوجد في غيره تعالى أيضا كما في الجسم ، حيث إنّ الجسم ـ أي مجموع الهيولى والصّورة ـ قائم بالذّات ، غير محتاج إلى المادّة في قوامه وتحصّله ، وإن كان جزءاه متحصّلا أحدهما بالآخر.

نعم لو أريد من معنى القيام بالذّات أنّه لا يحتاج في وجوده إلى شيء غيره أصلا ، لكان ذلك المعنى مختصّا به تعالى لا يوجد في غيره. ولا نسلّم أنّه لو كان مجرّد سواه تعالى ، كان ذلك المعنى متحقّقا فيه أيضا ، حتّى يلزم الاشتراك فيما هو مخصوص به تعالى ، فإنّ معنى القيام بالذّات في المجرّدات الممكنة أنّها مع احتياجها إلى فاعلها في وجودها لا تحتاج إلى المادّة في قوامها وتحصّلها.

٢٤٣

بل نقول : إنّ القيام بالذّات له معنيان :

أحدهما أنّه ليس بمحتاج في وجوده وتحصّله إلى غيره مطلقا ، وهذا المعنى مختصّ به تعالى ليس يوجد في غيره تعالى ، لا في الجسمانيّات ولا في المجرّدات.

والثاني أنّه مع احتياجه إلى فاعله في ذلك غير محتاج إلى المادّة فيه ، وهذا المعنى لا يتحقّق فيه تعالى ، ويتحقّق فى غيره ممّا هو كذلك ، كالجسم وكالمجرّدات. وكيفما كان ، فلا يلزم من وجود مجرّد سواه تعالى ، اشتراكه معه في معنى القيام بالذّات ، حتّى يلزم الاشتراك فيما هو مختصّ به تعالى ، فضلا عن أن يكون هناك اشتراك في ذاتيّ. حيث إنّ القيام بالذّات بكلا المعنيين لا نسلم أنّه أمر ذاتيّ لشيء ؛ فتبصّر.

وحيث عرفت ما ذكرنا وبيّنا [في] شرح الحديث الشريف ، عرفت أنّ الاستدلال به على عدم مجرّد سوى الله تعالى في غاية الضّعف ، بل أنّه لو أمكن الاستدلال به على شيء ، لكان دالّا على ثبوت مجرّد سواه تعالى كما عرفت. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

ثمّ اعلم أنّه ربّما ذهب ظنّ بعض من العلماء المتأخّرين (١) إلى الاستدلال على عدم كون مجرّد سوى الله تعالى بما تضمّنه الدعاء الذي دعا به سيّد السّاجدين وزين العابدين عليه وعلى آبائه المعصومين وأولاده الطّاهرين أجمعين أفضل التحيّات وأكمل الصّلوات في التضرّع إلى الله تعالى ، وهو مذكور في الصّحيفة الكاملة (٢) ، قال عليه‌السلام : «لك يا إلهي وحدانيّة العدد ، وملكة القدرة الصّمد ، وفضيلة الحول والقوّة ، ودرجة العلوّ والرّفعة ، ومن سواك مرحوم في عمره ، مغلوب على أمره ، مقهور على شأنه ، مختلف الحالات ، متنقّل في الصّفات».

فلا بأس أن ننظر في كيفيّة الاستدلال على المطلوب ، ثمّ الجواب عنه.

بيان الاستدلال : انّ ذلك المستدلّ زعم أنّ قوله عليه‌السلام : «ومن سواك مرحوم في عمره» ـ الى آخره ـ حيث يدلّ على أنّ من سواه تعالى مطلقا مختلف الحالات متنقّل في

__________________

(١) وهو بعض الفضلاء القميّين. منه (ره).

(٢) الصحيفة السّجاديّة / ١٩٤ و١٩٥ ، الدعاء ٢٨ ، طبع طهران.

٢٤٤

الصّفات ، يدلّ على نفي مجرّد سواه تعالى ، لأنّه لو كان مجرّد سواه تعالى ، والحال أنّ المجرّد على اصول الحكماء غير مختلف الحالات وغير متنقّل في الصّفات ، بل أنّ كمالاته بالفعل من كلّ وجه ، فلا يكون كلّ من سواه مختلف الحالات متنقّلا في الصّفات ، وهذا مخالف لما دلّ عليه قولهعليه‌السلام.

وبيان الجواب : أنّ هذا لو أجري في النّفس النّاطقة الإنسانيّة فلا يتّجه ، لأنّها عند الحكماء وإن كانت مجرّدة بالذّات عن المادّة ، لكنّها محتاجة إليها في فعلها وكمالاتها تخرج من القوّة إلى الفعل بتوسّط آلاتها البدنيّة ، ولها مراتب وحالات مختلفة وصفات متفاوتة متنقّلة هي من بعضها إلى أخرى ، كالمرتبة الهيولانيّة وبالملكة وبالمستفاد ، وبالفعل من مراتب العقل النظريّ ، وكذا لها مراتب مختلفة وحالات متفاوتة من مراتب العقل العمليّ. وأيّ اختلاف حالات وتنقّل في صفات أعظم من هذا وأظهر منه؟

نعم لو أجري ذلك في العقول المفارقة التي هي على أصول الحكماء مجرّدات في الذّات والفعل جميعا وكمالاتها بالفعل من كلّ وجه ، وقلنا بها ، لربّما أمكن اتّجاهه ، ومع ذلك يمكن الجواب عنه بأنّ تلك العقول أيضا ، حيث إنّها ممكنة الوجود حادثة بالذّات عند الجميع ، وبالزّمان وبالدّهر أيضا كما هو الحقّ ، وبالجملة فهي ممّا أخرجه الموجد لها عن كتم العدم إلى الوجود ، فلها نوع اختلاف في الحالات ونحو تنقّل في الصّفات. وبذلك يمكن أن يصدق عليها أيضا أنّها مختلفة الحالات متنقّلة في الصفات ، بخلاف ذاته تعالى ، فإنّه لا اختلاف له مطلقا ولا تنقّل في صفته أصلا. والله أعلم بالصّواب وإليه المرجع والمآب.

في الاشارة إلى أنّه باتّضاح الدّليل على تجرّد النّفس

النّاطقة الإنسانية يتّضح الدّليل على جوهريّتها أيضا

وحيث انتهى الكلام إلى هذا المقام ، واتّضح لك الدّليل على تجرّد النّفس الناطقة

٢٤٥

الإنسانيّة ، واندفع ما يوهم خلافه ، واتّضح الدليل على جوهريّتها أيضا ، كما هو أحد المقاصد في الباب ، حيث إنّ الموجود الممكن المجرّد عن المادّة في ذاته ليس إلّا جوهرا موجودا لا في موضوع ، كما هو معنى الجوهر على ما عرّفوه ، فحريّ بنا أن نصرف عنان العناية إلى صوب المقصود الآخر من مقاصد الباب ، أي في أنّ النّفس الإنسانيّة واحدة بالذّات مختلفة بحسب الأفعال وباعتبار المراتب والحالات ، وأنّ لها قوى متعدّدة يختلف أفاعيلها لاختلاف قواها.

في أنّ النّفس الإنسانيّة واحدة بالذّات مختلفة بالاعتبار

فنقول : قال الشيخ في «الشّفاء» : فصل في عدّ المذاهب الموروثة عن القدماء في أمر النّفس وأفعالها وأنّها واحدة أو كثيرة ، وتصحيح القول الحقّ فيها (١) : «إنّ المذاهب (٢) في ذات النّفس (٣) وأفعالها مختلفة ، فمنها قول من زعم : أنّ النّفس ذات واحدة ، وإنّما تفعل جميع الأفعال بنفسها باختلاف الآلات. ومن هؤلاء من زعم أنّ النّفس عالمة بذاتها ، تعلم كلّ شيء ، وإنّما تستعمل الحواسّ والآلات المقرّبة للمدركات منه (٤) بسبب أن تتنبّه (٥) لما في ذاتها. ومنهم من قال : إنّ ذلك على سبيل التذكّر لها ، فكأنّها عرض لها عنده إن نسيت.

ومن الفرقة الاولى من قال : إنّ النّفس ليست واحدة ، بل عدّة ، وأنّ النّفس التي في بدن واحد هو مجموع : نفس حسّاسة درّاكة ، ونفس غضبيّة ، ونفس شهوانيّة ، فمن هؤلاء من جعل النّفس الشّهوانيّة هي النّفس الغذائية ، وجعل موضعها القلب ، وجعل له شهوة الغذاء والتوليد جميعا. ومنهم من جعل التوليد لقوّة من هذا الجزء من أجزاء النّفس فائضة إلى الأنثيين في الذّكر والأنثى. ومنهم من جعل النّفس ذاتا واحدة ، وتفيض عنها هذه القوى ، ويختصّ (٦) كلّ قوّة بفعل ، وأنّها إنّما تفعل ما تفعله من الامور المذكرة بتوسّط هذه القوى.

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٢٢١ ـ ٢٢٣ ، الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.

(٢) في المصدر : المذاهب المشهورة ...

(٣) وفي أفعالها ...

(٤) منها ...

(٥) تتنبّه به ...

(٦) وتختصّ.

٢٤٦

فمن قال : إنّ النّفس واحدة فعّالة بذاتها ، احتجّ بما سيحتجّ به أصحاب المذهب الأخير (١) ممّا نذكره. ثمّ قال : فإذا كانت واحدة غير جسم ، استحالت (٢) أن تنقسم في الآلات وتتكثّر ، فإنّها حينئذ تتكثّر (٣) صورة مادّيّة ، وقد ثبت عندهم أنّها جوهر مفارق بقياسات لا حاجة (٤) إلى تعدادها هنا. قالوا : فهي بنفسها تفعل ما تفعل بآلات مختلفة.

والذين قالوا من هؤلاء : إنّ النّفس علّامة بذاتها ، احتجّوا وقالوا : لأنّها إن كانت جاهلة عادمة للمعلوم (٥) ، فإمّا أن يكون ذلك لها لجوهرها أو يكون عارضا لها ، فإن كان لجوهرها استحال أن تعلم البتّة ، وإن كان عارضا لها ، فالعارض يعرض على الأمر الموجود للشيء ، فيكون موجودا للنّفس أن تعلم الأشياء ، لكن عرض لها إن جهلت بسبب ، فيكون السّبب إنّما يتسبّب للجهل لا للعلم. فإذا رفعنا الأسباب العارضة ، بقي لها الأمر الذي في ذاتها. ثمّ إذا كان الأمر الذي لها في ذاتها هو أن تعلم ، فكيف يجوز أن يعرض لها بسبب من الأسباب أن تصير لا تعلم وهي بسيطة روحانيّة لا تنفعل ، بل يجوز أن يكون عندها العلم وتكون معرضة عنه مشغولة إذا نبّهت علمت ، وكان معنى التنبيه ردّها إلى ذاتها وإلى حال طبيعتها ، فصادفت (٦) نفسها عالمة بكلّ شيء.

وأمّا أصحاب الذكر (٧) ، فإنّهم احتجّوا وقالوا : إنّه لو لم تكن النّفس علمت وقتا ما تجهله الآن وتطلبه ، لكان (٨) إذا ظفرت به لم تعلم أنّه المطلوب ، كطالب العبد الآبق ، وقد فرغنا (٩) من ذكر هذا في موضع آخر وعن نقضه.

والذين كثّروا النّفس ، فقد احتجّوا وقالوا : كيف يمكننا أن نقول : إنّ الأنفس كلّها نفس واحدة ، ونحن نجد النبات ولها (١٠) النّفس الشهوانيّة ، أعني الّتي ذكرناها في هذا القبيل (١١) وليس لها الفصل المميّز ، فتكون لا محالة هذه النّفس شيئا منفردا بذاته ، دون تلك (١٢) النّفس الحسّاسة المذكورة ، ثمّ نجد الحيوان ، ولها (١٣) هذه النّفس الحسّاسة الغضبيّة ، ولا

__________________

(١) في المصدر : المذهب الآخر ...

(٢) استحال ...

(٣) تصير ...

(٤) لا حاجة لنا ...

(٥) عادمة للعلوم ...

(٦) فتصادف ...

(٧) أصحاب التذكّر ...

(٨) لكانت ...

(٩) فرغنا عن ...

(١٠) وله ...

(١١) في هذا الفصل وليس له النّفس المدركة الحاسّة ، فتكون لا محالة النّفس هذه شيئا ...

(١٢) دون تلك النفس ، ثمّ ...

(١٣) وله.

٢٤٧

يكون (١) هناك النّفس النطقيّة أصلا ، فتكون هذه الأنفس البهيميّة نفسا على حدة.

وإذا اجتمعت هذه الأمور في الإنسان ، علمنا أنّه قد اجتمع فيه أنفس متباينة (٢) الذوات ، قد يفارق بعضها بعضا ، فلذلك يختصّ (٣) كلّ واحدة منها بموضع ، فيكون للمميّزة الدّماغ ، ويكون للغضبيّة الحيوانيّة القلب ، ويكون للشهوانيّة الكبد.

فهذه هي المذاهب المشهورة في أمر النّفس ، وليس بصحيح (٤) منها إلّا المذهب الأخير ممّا عدّ أوّلا ، فلنبيّن صحّته ، ثمّ نقبل على حلّ الشبهة التي أوردوها».

ثمّ إنّه ساق الكلام في تصحيح ما رام تصحيحه ، وفي إبطال المذاهب الأخر ونقض احتجاجاتهم عليها بوجوه كثيرة ، سنذكر نحن فيما سيأتي حاصلها وبيانها مع زوائد وفوائد استفدناها من كلمات الحكماء وسنحت بالبال جملة منها ، فنقول :

إنّ القول بوحدة النّفس ، أي القول بكون المدبّر في البدن المتصرّف فيه وفي أجزائه ـ كما هو معنى النّفس عندهم ـ واحدا وحدة بالذات ، كأنّه بديهيّ لا يحتاج إلى دليل وبرهان ، فإنّ كلّ أحد إذا كان سليم الفطرة وراجع إلى وجدانه ، يجد من نفسه أنّ المدبّر في بدنه المتصرّف فيه ليس متكثّرا متعدّدا بالذات ، بل واحد بالعدد بالذّات ، وهو الذي يعبّر عنه بقولنا : أنا أو أنت. ولو جاز التشكّك في هذا لجاز التشكّك في أنّ الإنسان الواحد إنسان متعدّد. فعلى هذا ، فالذين تشكّكوا فيه وقالوا بتكثير النّفوس في الإنسان الواحد ، فتشكّكهم فيه كأنّه تشكّك في أمر بديهيّ ، وهو لا ينبغي أن يلتفت إليه. نعم ، لو أرادوا بذلك التكثّر تكثّر قوى نفس واحدة ، لكان لذلك وجه ، على ما سيأتي تحقيقه. ثمّ إنّه حيث كان هذا الحكم بديهيّا أو في حكمه ، فما ذكره القوم دليلا عليه كأنّه تنبيه عليه ، ونحن نذكر من ذلك وجهين يفيدان الاطمئنان ، وقد سبقت في الأبواب السابقة إشارة ما إليهما.

الوجه الأوّل

إنّه لا سترة في أنّه يصحّ لك أن تقول : أنا قعدت وأنا قمت وأنا جئت وأنا ذهبت وأنا

__________________

(١) في المصدر : ولا تكون ...

(٢) متباينة مختلفة الذوات ...

(٣) تختصّ ...

(٤) يصحّ.

٢٤٨

أكلت وأنا شربت وأنا دخلت وأنا خرجت ، إلى غير ذلك من الأفاعيل والحركات والسّكنات التي هي ـ لا محالة ـ خاصّة بالجسم ، مختصّة بالمادّة ، وأنت تنسبها إلى ذاتك وتدّعيها لنفسك. فهذه إمّا مجازات ـ كما يلوح من كلام بعضهم كصاحب المطارحات ـ بناء على أنّ هذه أفعال بدنيّة ، وأنت تنسبها إلى نفسك لعلاقة المصاحبة والمحبوبيّة ، مثلا كما أنّ زيدا مثلا قد ينسب فعل عمرو إذا أحبّه إلى نفسه ، فهذا باطل بالضّرورة ، لأنّا نعلم قطعا أنّ هذه الإسنادات ليست بمجازات ، بل حقائق ، فإنّها من قبيل إنّ الجسم إذا جاء ، جاء معه لونه المصاحب له حقيقة لكن بالعرض. ومنه يظهر وحدة النّفس ، حيث إنّ الفاعل في الكلّ واحد. بل يظهر أيضا كما ادّعاه بعضهم تجرّدها عن المادّة بالذات ، وكونها مع ذلك موسّخة بأوساخ المادّة ومتدرّنة بخبائث الطبيعة من العادات الدنيّة والملكات الخسيسة والصّفات الرذيلة ، فصارت من العالم الوسط الذي بين عالم المادّة وعالم المجرّدات المحضة ، حتّى تتطهّر ـ باتّباع الأحكام الدينيّة وسلوك الشرائع الإلهيّة وإطاعة أنبياء الله تعالى وخلفائه ـ عن هذه الأوساخ الخسيسة ، وتنفض عن ذيل قدسها هذه الآثار الطبيعية ، فتجرّد بالكلية عن هذا العالم الدنيويّ الخسيس ، وتتدرّج إلى العالم الأعلى الشريف ، فتنجو من هذا السّجن وتصير مجرّدة بالفعل. وفّقنا الله تعالى لهذا بمنّه وفضله بحقّ محمّد وآله الطّاهرين.

وكذلك لا سترة في أنّه يصحّ لك أن تقول : أنا اشتهيت وتغذّيت ـ ممّا هو من أفعال النّفس النباتيّة ـ وأنا أحسست وغضبت ـ ممّا هو من أفعال النّفس الحيوانيّة ـ وأنا أدركت وتعقّلت ـ ممّا هو من أفعال النّفس الإنسانيّة ـ فهذه أيضا إمّا مجازات لعلاقة المصاحبة مثلا ، فهو باطل كما مرّ ، فبقي أن تكون حقائق وفيه المطلوب. بل أن تقول : أنا اشتهيت فأحسست فتغذّيت ، وأنا أحسست فاشتهيت ، وأحسست فغضبت ، وأدركت فحرّكت ، إلى غير ذلك من العبارات التي تجعل فيها فعل بعض هذه النفوس الثلاثة سببا لفعل أخرى منها ، وتدّعي أنّ المبدأ للكلّ أنت نفسك وأنت شاعر به ، ولا يخفى أنّ فيه تنبيها واضحا على المطلوب عند ذي فطرة سليمة.

٢٤٩

الوجه الثّاني

إنّا نجد من أنفسنا أنّ أفعال النّفوس الثلاثة وقواها قد يضعف بعضها بعضا ، وقد يقوّي بعضها بعضا ، وقد يستعمل بعضها بعضا ، وقد يشتغل بعضها عن بعض ، وقد يحرّك بعضها إلى بعض ، وقد يمنع بعضها عن بعض ، وقد يردّ بعضها إلى بعض.

وذلك كما نجد من أنّ الفرح النطقي ـ الّذي هو من فعل النّفس الإنسانية ، وذلك عند استشعارها بقضايا تحبّها محبّة ليست ببدنيّة ـ يؤثّر في القوّة النّامية وفي فعل النّفس النباتيّة ، فيفيدها شدّة ونفاذا في فعلها ، وأنّ الألم النطقيّ ـ الذي هو من فعل النّفس الإنسانيّة أيضا ، وذلك عند استشعارها بقضايا تكرهها كراهة ليست ببدنيّة أيضا ـ يؤثّر في فعل النّفس النباتيّة وفي القوّة النّامية ، فيكون سببا لضعفها وعجزها حتّى يفسد فعلها ، وربّما انتقض المزاج به انتقاضا.

وكما نجد من أنّ الفرح الحسّيّ أو الألم الحسّيّ ـ اللذين هما من أفعال النّفس الحيوانيّة ، وذلك عند إدراكها للأشياء الملذّة أو المؤلمة ، مثل إبصارها للصّور الحسنة أو القبيحة أو استماعها للأصوات الموافقة أو المنافرة ـ يؤثّران في فعل النامية قوّة أو ضعفا. وكما نجد من أنّ قوّة القوّة النّامية أو ضعفها تؤثّران في فعل الحيوانيّة وقواها قوّة أو ضعفا ، بل في فعل الإنسانيّة أيضا. فإنّ من كان صحيح المزاج والبنية ، يكون فعل حواسّه وكذا فعل قوّته العاقلة أتمّ وأكمل ، وأنّ من كان عليل المزاج والبنية ، يكون بعكس ذلك.

وكما نجد من أنّ قوّة الأفعال الحيوانيّة أو ضعفها قد يؤثّران في قوّة النّفس الإنسانيّة أو ضعفها وإن لم يكن ذلك كلّيّا ولا أكثريّا.

وكما نجد من أنّ القوّة النباتيّة قد تستعمل القوّة الحيوانيّة أو الإنسانيّة ، وذلك كما يكون عند التغذّي مثلا ، فيلاحظ أوّلا بالقوّة الحيوانيّة أو الإنسانيّة كون ذلك الغذاء ملائما أو منافرا ، فتدرك ذلك إمّا بالحواس أو بالحكم العقليّ حتّى تتغذّى به أو تتركه.

وكما نجد من أنّ إدراك الأشياء الملائمة قد يثير الشهوة ، وأنّ إدراك الأشياء المنافرة

٢٥٠

يمنعها.

وكما نجد من أنّ القوى الحيوانيّة تعين النّفس الناطقة في أشياء : منها أن يورد الحسّ الجزئيّات فتحصل لها من الجزئيّات أمور أربعة :

أحدها انتزاع الذهن الكلّيّات المفردة عن الجزئيّات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادّة وعن علائقها ، ومراعاة المشترك فيه والمتباين به والذاتيّ والعرضيّ ، فتحدث للنّفس من ذلك مبادي التّصوّر ، وذلك بمعاونة استعمال الخيال والوهم.

والثاني بإيقاع مناسبات بين هذه الكلّيّات على سلب وإيجاب ، فما كان التّأليف منها بسلب أو إيجاب أوّليّا بيّنا بنفسه ، أخذه ، وما كان ليس كذلك يتركه إلى مصادفة الواسطة.

والثالث تحصيل المقدّمات التجربيّة ، وهو أن يجد محمولا لازم الحكم لموضوع ما ، كان حكمه إيجابا أو سلبا ، أو تاليا موجب الاتّصال أو مسلوبه ، أو موجب العناد أو مسلوبه.

والرابع الأخبار التي يقع فيها التصديق لشدّة التواتر ، فإنّ النّفس الإنسانيّة تستعين بالبدن وبالقوى الحيوانيّة البدنيّة ، لتحصيل هذه المبادي للتّصوّر والتّصديق. ثمّ إذا حصلتها رجعت إلى ذاتها ، فإن عرض لها شيء من القوى التي دونها شاغلة إيّاها بما يليها من الأحوال ، شغلتها عن فعلها أو أضرّت بفعلها ، وإن لم تشغلها فلا تحتاج إليها بعد ذلك في خاصّ أفعالها ، وإلّا في أمور تحتاج فيها خاصّة إلى أن تعاود القوى الخياليّة مرّة اخرى ، وذلك لاقتناص مبدأ غير الذي حصل. وهذا ممّا يقع في الابتداء ولا يقع بعده إلّا قليلا.

وأمّا إذا استكملت النّفس وقويت فإنّها تنفرد بأفاعيلها على الإطلاق ، وتكون القوى الحسّيّة والخياليّة وسائر القوى البدنيّة صارفة إيّاها عن فعلها ، مثل أنّ الإنسان قد يحتاج إلى دابّة وآلات ليتوصّل بها إلى مقصد ما ، فإذا وصل إليه ، ثمّ عرض من الأسباب ما يعوّقه عن مفارقتها ، صار السبب الموصل إليه بعينه عائقا.

٢٥١

وكما نجد من أنّ إدامة استعمال الحواسّ في المحسوسات بحيث لا يكون هناك تعطّل للحواسّ أصلا ، وكذا إدامة النّظر في المعقولات قد تشغل النّفس النباتيّة عن فعلها ، بل قد تكلّ وتضعف جدّا ، وكذلك إدامة استعمال الحواسّ قد تشغل القوّة العاقلة عن فعلها ، بل قد تمنعها عنه ، وكذا بالعكس ، وكل ذلك ظاهر على من راجع إلى وجدانه.

وكما نجد من أنّ حكم الحسّ إذا غلط فيه يردّ إلى حكم العقل ، وذلك مثل أنّ الحسّ الدائم الغلط في محسوسه ـ كالعين ـ إذا نظرت من بعيد إلى الشيء الكبير فتراه صغيرا ، حتّى ترى الشّمس مثلا وهي أضعاف مقدار الأرض ، مثل المرآة التي قطرها شبر ، ونظرت إلى الشيء في الماء فتراه كبيرا وهو صغير ، ومعوجّا وهو مستقيم ؛ وكالذّوق الصّفراويّ إذا أحسّ بالحلو مرّا ، تردّ هذه الأغلاط إلى النّفس وإلى القوّة العاقلة ، فتحكم بأنّ الحسّ قد غلط ، وأنّ الحقّ غير ما أحسّ ، فتردّ الجميع إلى حقائقها.

وحيث عرفت ذلك ، أي ارتباط هذه الأفعال المتخالفة بعضها ببعض كما بيّنّا ، اتّضح لك أنّ المدبّر للبدن والمتصرّف فيه ـ وهو المسمّى بالنّفس ـ شيء واحد.

إذ لو كان متعدّدا ، أي نفوسا ثلاثة لا ارتباط بينها من حيث الذّات ، لكونها متباينة الذوات كما هو رأي الخصم ، ولا بين أفعالها ، حيث إنّه من المقرّر عندهم أنّ كلّ نفس من حيث هي فإنّما هي كذلك من حيث يصدر عنها الفعل الخاصّ بها ، أي الفعل الأوّل الذي لها ، فلا النّفس الغضبيّة من حيث هي غضبيّة تنفعل من اللذّات ، ولا الشهوانيّة من حيث هي شهوانيّة تنفعل من المؤذيات ، ولا المدركة من حيث هي مدركة تتأثّر ممّا تتأثّر هاتان عنه ، كما أنّه لا شيء من هاتين قابلا للصّور المدركة التي تتأثّر عنها النّفس المدركة ، والقوّة المدركة ، لم يكن هذا الارتباط.

وحيث كان ذلك الارتباط الذي عرفته ، فهو إمّا مبنيّ على اشتراك تلك النّفوس المتعدّدة في الآلة أو في المحلّ ، وهذا منتف ، لأنّ المفروض أنّ بعض تلك النّفوس ـ وهي الإنسانيّة ـ ليست في محلّ ، ولا لها آلة في أفعالها الذّاتيّة ، لكون المفروض تجرّدها ، والنفسان الأخريان ، أي النباتيّة والحيوانيّة وإن كان لهما محلّ وآلة ، فليس ذلك مشتركا

٢٥٢

بينهما باعتقاد الخصم أيضا.

وإمّا مبنيّ على أن يكون هناك مدبّر أصل ، ويكون ما سواه كالفروع بل كالقوى له ، أي أن يكون لهذه النّفوس المتعدّدة رباط واحد يجمع كلّها ، أي ما به الارتباط الذي يجمع كلّ ذلك إليه ، ويكون نسبته إلى هذه نسبة الحسّ المشترك إلى الحواسّ التي هي الرواضع ، وفيه المطلوب.

وبعبارة أخرى إنّك قد عرفت أنّ هذه القوى والنّفوس تشغل بعضها بعضا ، ويستعمل بعضها بعضا مع أنّ المفروض أن ليس بينها ولا بين أفعالها ارتباط ، وليس هنا أيضا اشتراك في المحلّ أو الآلة. فلو لم يكن هنا رباط يستعمل هذه فيشغل بعضها عن بعض فلا يستعمل ذلك البعض ولا يدبّره ، لما كان بعضها يمنع بعضا عن فعله بوجه من الوجوه ، ولا ينصرف عنه ، لأنّ فعل قوّة من القوى أو نفس من النّفوس إذا لم يكن له اتّصال بقوّة أخرى أو نفس أخرى لا تمنع الأخرى عن فعلها إذا لم تكن الآلة مشتركة ولا المحلّ مشتركا ولا أمر يجمعها غير ذلك مشتركا. فبقي أن يكون ذلك الارتباط لأمر رابط غير الآلة والمحلّ.

وحينئذ فنقول : إنّ هذا الجامع الرابط لا يجوز أن يكون جسما.

أمّا أوّلا فلأنّ الجسم بما هو جسم ليس يلزمه أن يكون مجمع هذه القوى أو النّفوس ، وإلّا لكان كلّ جسم كذلك ، بل لأمر يصير به كذلك ، ويكون ذلك الأمر هو الجامع الأوّل ، وهو كمال الجسم من حيث هو مجمع وهو غير الجسم ، فيكون إذن المجمع هو شيئا غير الجسم ، وليس هو إلّا النّفس.

وأمّا ثانيا فلأنّه قد تبيّن ممّا سلف أنّ من هذه القوى أو النّفوس ما ليس يجوز أن يكون جسما أو جسمانيّا مستقرّا في جسم ، وهو القوّة العاقلة والنّفس الناطقة.

وأمّا ثالثا فلأنّ ذلك الجسم إمّا أن يكون جملة البدن ، فيلزم أن يكون إذا نقص منه شيء لا يكون ما نشعر به نحن «أنا» موجودا ، وليس كذلك لأنّي مثلا أكون أنا وإن لم أعرف أنّ لي يدا أو رجلا أو عضوا من هذه الأعضاء ، بل أظنّ أنّ هذه توابعي ، وأعتقد أنّها آلات لي أستعملها في حاجات ، لو لا تلك الحاجات لما احتيج إليها لي ، ويكون أنا أيضا

٢٥٣

أنا وليست هي ، وقد عرفت فيما سلف أنّا لو فرضنا أنّه لو خلق إنسان دفعة واحدة ، وخلق متباين الأطراف ولم يبصر أطرافه ، واتّفق أن لم يمسّها ولا تماسّت ولم يسمع صوتا جهل وجود جميع أعضائه ، وعلم وجود إنيّته شيئا واحدا مع جهل جميع ذلك ، وليس المجهول بعينه هو المعلوم.

وإن لم يكن ذلك الجسم جملة البدن ، بل كان عضوا مخصوصا ، كالقلب أو الدماغ أو عدّة أعضاء منه هويّتها أو هويّة مجموعها هو الشيء الذي أشعر به «أنا» ، أنّه «أنا» ، فيجب أن يكون شعوري ب «أنا» هو شعوري بذلك العضو أو بتلك الأعضاء ، لأنّ الشيء لا يجوز أن يكون من جهة واحدة مشعورا به غير مشعور به وليس كذلك ، فإنّي أعرف أنّ لي قلبا أو دماغا بالإحساس والسّماع والتجارب ، لا لأنّي أعرف أنّي أنا ، فيكون إذن ليس ذلك العضو لنفسه الشيء الذي أشعر به أنّه أنا بالذّات ، بل يكون بالعرض أنا ، ويكون المقصود بما أعرفه منّي أنّي أنا الذي اعيّنه في قولي : أنا أحسست وتعقّلت وفعلت وجمعت هذه الأوصاف شيئا آخر هو الذي أسمّيه أنا ، وكذلك أنّي أعرف أنّي أنا بالمعنى الذي أسمّيه النّفس ، أعني المدبّر للبدن والمتصرّف فيه ، مع أنّي لا أعرف القلب والدماغ ولا أفهم معناهما ، وحيث بطل كون ذلك الرابط الجامع جسما بطل كونه جسمانيّا أيضا ، وحيث بطل ذلك ، بطل كونه من جملة هذه النّفوس الثلاثة نفسا نباتيّة أو نفسا حيوانيّة ، لكون كلّ منهما جسمانيّة أيضا كما هو المقرّر عندهم ويعترف به الخصم أيضا. فبقي أن يكون ذلك الرابط الجامع الواحد نفسا انسانيّة ، وبطل أيضا بذلك كون المتصرّف في البدن نفوسا متعدّدة ، كما ادّعاه الخصم.

في إبطال ما تمسّكوا به في تعدّد النّفس في الإنسان

مع أن ما تمسّك هو به باطل بما أبطله الشيخ.

قال (١) : «وأمّا حجّة هؤلاء الذين يجزّءون النفس ، فقد أخذ فيها مقدّمات باطلة ، من

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٢٢٨ ـ ٢٣١ ، الفصل السابع في المقالة الخامسة من الفنّ السادس.

٢٥٤

ذلك قولهم : إنّه يوجد (١) للنفس النباتيّة مفارقة للحسّاسة ، فيجب أن يكون (٢) شيء آخر غيره.

فإنّ هذه المقدّمة سوفسطائية ، وذلك لأنّ المفارقة تتوهّم على وجوه ، والتي يحتاج إليها هنا (٣) وجهان : أحدهما أنّه قد يتوهّم (٤) لها مفارقة ، كما للّون عن البياض وللحيوان عن الإنسان ، إذ يوجد (٥) هذه الطبيعة في غير البياض وتلك في غير الإنسان ، بأن يقارن كلّ فصلا آخر. وقد يتوهّم (٦) مفارقة ، كما للحلاوة المقارنة للبياض في جسم ، فإنّها قد توجد مفارقة له ، فيكون (٧) الحلاوة والبياض قوّتين مختلفتين لا يجمعهما شيء وأليق المفارقات بالنّفس النباتيّة للنّفس الحسّاسة هو القسم الأوّل ؛ وذلك (٨) أنّ النّفس النباتيّة الموجودة في النخلة لا تشارك القوّة النامية الموجودة في الإنسان البتّة في النوع ، فإنّ تلك القوّة ليست بحيث تصلح لأن تقارن النّفس الحيوانية (٩) ، ولا القوّة النّامية التي في الحيوان تصلح لأن تقارن النّفس النخليّة ، ولكن يجمعهما معنى واحد ، وهو أنّ كلّ واحد (١٠) منهما يغذّي وينمي ويولّد ، وإن كان ينفصل (١١) عنه بعد ذلك بفصل مقوّم منوّع لا بعرض فقط. والمعنى الموجود فيهما جميعا هو جنس القوّة النباتيّة والتي للإنسان (١٢) يفارق على جهة ما يفارق المعنى الجنسيّ. ونحن لا نمنع أن يوجد جنس هذه القوى لأشياء اخر (١٣) ، وليس (١٤) ذلك أنّه يجب أن لا يجتمع (١٥) هذه القوى في الإنسان لنفس (١٦) واحدة ، بل ليس يجب من ذلك أن لا (١٧) يكون الطبيعة النّامية الموجودة في الحيوان مقولة على النّفس الحيوانيّة التي له ، حتّى يكون (١٧) نفسه الحيوانيّة هي تلك القوّة ، كما أنّ الإنسان ليس (١٩) شيئيا غير حصّة في جنس الحيوانيّة. وهذا شيء قد تحقّق لك في المنطق. فهذا ليس يوجب أن يكون (٢٠) النّفس النّامية التي في الإنسان غير النّفس الحيوانيّة ، فضلا عن أن تكون (٢١) قوى نفس واحدة ، فليس إذن النباتيّة التي في الإنسان توجد البتّة مفارقة بنوعها

__________________

(١) في المصدر : توجد النفس النباتيّة ...

(٢) يكون في الإنسان شيء ...

(٣) هاهنا ...

(٤) تتوهّم ...

(٥) توجد ...

(٦) وقد تتوهّم ...

(٧) فتكون ...

(٨) وذلك لأنّ ...

(٩) الحيوانيّة البتّة ...

(١٠) كلّ واحدة منهما تغذّي وتنمي وتولّد ،

(١١) وإن كانت بعد ذلك تنفصل بفصل مقوّم ...

(١٢) ويفارق ...

(١٣) لأشياء أخرى ...

(١٤) وليس في ذلك ...

(١٥) لا تجتمع ...

(١٦) نفس الحيوانيّة ...

(١٧) تكون ...

(١٩) ليس شيئا غير حصّته ...

(٢٠) تكون ...

(٢١) تكونا قوّتي نفس.

٢٥٥

للإنسان. واحتجاجهم غير منتفع به إذا كانت القوّة لا تفارق بنوعيّتها ، بل بجنسيّتها ، وهما مختلفان. ومع ذلك فلنضع القوّة النباتيّة في الحيوان مخالفة للقوّة الحيوانيّة فيه ، كأنّ كلّ واحد (٢) منهما نوع محصّل منفرد بنفسه ، وليس أحدهما الآخر ، ولا مقولا عليه ، فما في ذلك ممّا يمنع أن يكون (٣) القوّتان جميعا في الحيوان لنفس الحيوان ، كما أنّه ليس إذا وجدت الرطوبة في غير الهواء ، وليست مفارقة (٤) للحرارة ، يجب من ذلك أن لا يكون (٥) الرطوبة والحرارة في الهواء بصورة (٦) واحدة ولمادّة واحدة. وليس إذا كانت حرارة توجد غير صادرة عن الحركة ، بل عن حرارة أخرى يجب من ذلك أنّ الحرارة في موضع آخر ليست تابعة للحركة.

ونقول : ليس يمتنع أنّ (٧) هذه القوى متغايرة بالنوع أيضا ، وتنسب إلى ذات واحدة هي فيه (٨) ، فأمّا كيفيّة تصوّر هذا ، فهو أنّ الأجسام العنصريّة يمنعها (٩) صرفة التّضادّ عن قبول الحياة. فكلّما أمعنت في هدم طرف من التّضادّ وردّه إلى التّوسّط الذي لا ضدّ له ، جعلت تضرب إلى تشبّه (١٠) بالأجسام السّماويّة ، فتستحقّ بذلك قبول قوّة محبّة (١١) من الجوهر المفارق المدبّر ، ثمّ إذا ازدادت قربا من التّوسّط ، ازدادت قبول حياة ، حتّى تبلغ الغاية التي لا يمكن له أن يكون (١٢) أقرب منها إلى التّوسّط ، ولا أهدم منها للطرفين (١٣). فيقبل جوهرا مقارب الشّبه من وجه ما للجوهر المفارق كما للجواهر السّماويّة ، فيكون حينئذ ما كان يحدث في غيره من المفارق ، يحدث فيه من نفس هذا الجوهر المقبول المتّصل به الجوهر. ومثال هذا في الطّبيعيّات : لتوهّم مكان الجوهر المفارق نارا (١٤) وشمسا ، فكان (١٥) البدن جرما يتأثّر عن النّار ، وليكن كوّة (١٦) (١) ما ، وليكن مكان النّفس النباتيّة تسخينها إيّاها ، ومكان النّفس الحيوانيّة إنارتها فيها ، ومكان النّفس الإنسانيّة اشتعالها (١٧) فيها نارا.

فنقول : إنّ ذلك الجرم المتأثّر كالكوّة (١٨) إن كان ليس وضعه من ذلك المؤثّر فيه وضعا

__________________

(٢) في المصدر : واحدة ...

(٣) تكون ...

(٤) مقارنة للحرارة ...

(٥) لا تكون ...

(٦) لصورة واحدة أو لمادّة ...

(٧) أن تكون هذه ...

(٨) فيها ...

(٩) تمنعها صرفيّة ...

(١٠) شبه ...

(١١) محيية ...

(١٢) تكون ...

(١٣) للطرفين المتضادّين فتقبل ...

(١٤) أو شمسا ،

(١٥) ومكان ...

(١٦) كرة ما ...

(١٧) إشعالها ...

(١٨) كالكرة.

(١) كوّة : نافذة.

٢٥٦

يقبل الاشتعال منه نارا ولا إضاءته ولا (١) إنارته ، ولكن وضعا يقبل تسخينه لم يقبل غير (٢) فإن كان وضعه وضعا يقبل تسخينه ، ومع ذلك هو مكشوف له أو مستشف أو على نسبة إليه يستنير بها عنه استنارة قويّة ، فإنّه يسخن عنه ، ويستضيء معا ، ويكون الضّوء الواقع فيه منه هو مبدأ أيضا مع ذلك المفارق لتسخينه ، فإنّ الشّمس إنّما تسخّن بالشّعاع.

ثمّ إن كان الاستعداد أشدّ ، وكان (٣) هناك ما من شأنه أن (٤) تشتعل عن المؤثّر الذي من شأنه أن يحرق بقوّته أو شعاعه اشتعل ، فحدثت الشعلة جرما شبيها بالمفارق من وجه ، ويكون تلك الشعلة أيضا مع المفارق علّة للتنوير والتسخين معا ، حتّى لو بقيت وحدها لاستتمّ أمر التنوير والتسخين ، ومع هذا ، فقد كان يمكن أن يوجد التسخين وحده (٥) ، والتسخين والتنوير وحدهما ، ولم يكن المتأخّر منهما مبدأ يفيض عنه المتقدّم ، وكان إذا اجتمعت الجملة يصير حينئذ كلّ ما فرض متأخّرا ، مبدأ أيضا للمتقدّم وفائضا عنه المتقدّم ، وهكذا (٦) فليتصوّر الحال في القوى النّفسانيّة». ـ انتهى كلامه ـ.

أقول : وهذا الذي نقلنا منه لا يخفى أنّه واف بدفع احتجاج القائلين بتكثّر النّفس ، كاف في بيان كيفيّة إمكان أن يكون تلك النّفوس المتعدّدة التي هي قوى متغايرة منسوبة إلى ذات واحدة هي نفس الإنسانيّة ، وأن يكون تلك الذات مجمعا لتلك القوى والنّفوس ، وفي ذكر التمثيل اللائق بهذا المقام ، وقد عرفت أيضا ـ ممّا ذكرنا في الأبواب السّالفة ـ أنّ السمعيّات الظّاهرة في تعدّد النفوس يمكن أن تأوّل بالحمل على تعدّد قوى النّفس الإنسانيّة التي هي ذات واحدة على تكثّر مراتب كمالاتها ، فتذكّر.

شكّ مع حلّه

وقد بقي هنا شكّ ينبغي التّعرّض لرفعه ، وهو أنّه إذا كان المتصرّف في البدن المدبّر له ذاتا واحدة ، هي النّفس الإنسانيّة وهي مجمع القوى ، يجب أن يكون تلك الذات مبدأ لجميع تلك الأفعال المنسوبة إلى تلك القوى المتخالفة ، وإن كانت مبدئيّتها لبعضها

__________________

(١) في المصدر : وإنارته ...

(٢) غير ذلك ...

(٣) وهناك ...

(٤) أن تشتعل ...

(٥) أو التسخين ...

(٦) فهكذا.

٢٥٧

بالواسطة ، ولبعضها بدون الواسطة ، والحال أنّ تلك الذات إنّما يصدر عنها فعلها بالاختيار والإرادة ، وتلك الأفعال منها ما ليس مقارنا للاختيار والإرادة ، كالأفعال النباتيّة ، فكيف يصدر عن الفاعل بالإرادة فعل ليس بإرادة؟

والجواب عنه : أنّه لا حجر في ذلك ، فإنّ الذي يقتضيه الدليل أنّ الفاعل بالإرادة إنّما يكون فعله بالإرادة إذا كان يصدر عنه بلا واسطة ، أو بتوسّط قوّة تختصّ به نفسه ، كالأفعال الإنسانيّة. أمّا ما لا يكون كذلك ، بل يكون بتوسّط أمر آخر أو قوّة لا تختصّ به نفسه ، بل بآلته كالأفعال الحيوانيّة والنباتيّة ، فهو تابع في ذلك لما يلزم تلك الواسطة ، فتلك الواسطة إن كان فعلها بمقارنة الإرادة كالقوّة الحيوانيّة ، يكون فعل ذلك المبدأ البعيد أيضا بالإرادة ، لا لأجل أنّه مبدأ بعيد له ، بل لأجل أنّ فعل ذلك المتوسّط الذي هو قوّة له بالإرادة ، يعنى أنّه يكون بالإرادة لا بالذّات بل بالعرض ، وإن كان فعل تلك الواسطة لا بالإرادة كالأفعال النباتيّة. فلا ينافي كون ذلك الفعل مستندا إلى ذلك المبدأ البعيد الذي هو بالإرادة ، وكيف ذلك والحال أنّ الأفعال الطبيعية التي ليست مع الإرادة مستندة بالاخرة إلى المبدأ الفيّاض الذي فعله مقارن للإرادة البتّة.

وهذا كما أنّ فعل النّفس الإنسانيّة بالذّات يكون كلّيّا ، وما يصدر عنها بتوسّط القوّة الحيوانيّة يكون جزئيّا وإن كان مع الإرادة ، ولا حجر في ذلك أيضا. وحاصل المقام أنّ ما ينسب إلى النّفس النباتيّة في النبات من الأفعال الطبيعية التي ليست بالإرادة ، منسوبة في الإنسان إلى بعض قوى النّفس الإنسانيّة ، حيث إنّ المفروض أنّ النّفس النّباتيّة قوّة من قواها ، وقواها أيضا من قواها ، وكذلك ما ينسب إلى النّفس الحيوانيّة في الحيوان من الأفعال الجزئيّة المقارنة للإرادة ، فهى منسوبة في الإنسان إلى بعض من القوى الإنسانيّة ، حيث إنّ النّفس الحيوانيّة قوّة من قواها وكذلك قواها من قواها ، وما ينسب إلى النّفس الإنسانيّة ، فهي منسوبة إليها بالذّات.

٢٥٨

في كيفيّة صدور الأفعال المختلفة عن الإنسان

ثمّ إنّك حيث تحقّقت ما ذكر ، وعرفت أنّ المدبّر الأصل في البدن الإنسانيّ ذات واحدة هي النّفس الناطقة الإنسانيّة ، وأنّ تلك القوى والنّفوس قوى لها وفروع لها ، فنعود من رأس ونقول :

لا يخفى أنّ هاهنا أفعالا مختلفة نشاهد صدورها عن الإنسان ، حيث إنّ ما ينسب إلى كلّ نفس من تلك النّفوس من الأفعال مخالف لما ينسب إلى الأخرى من الأفعال ، ومع هذا فما ينسب إلى كلّ نفس بانفرادها هو أيضا أفعال مختلفة متخالفة.

فإمّا أن يقال بكون تلك الأفاعيل المختلفة مستندة إلى فواعل مختلفة ، بأن يكون كلّ فعل من تلك الأفعال مستندا إلى فاعل واحد منفرد ، ويكون مجموع تلك الأفاعيل المتعدّدة المتكثّرة مستندة إلى مجموع فواعل متعدّدة متكثّرة بعدد تلك الأفاعيل الجزئيّة أو كلّيّاتها ، فهذا باطل ، لأنّه بعينه هو القول بتكثّر النّفوس ، وقد عرفت بطلانه. مع أنّه يلزم أن يكون عدد تلك النّفوس التي هي فواعل ومدبّرات أزيد من ثلاثة بكثير ، حيث إنّ عدد تلك الأفاعيل جزئيّاتها بل كلّيّاتها أيضا أزيد من ثلاثة بكثير ، وهذا ممّا لم يقل به أحد من ذوي العقول السّليمة.

وإمّا أن يقال باستناد جميع تلك الأفاعيل المتعدّدة المتكثّرة إلى ذات المدبّر الواحد بذاته ـ أعني النّفس الناطقة ـ من غير أن يكون ذلك بتوسّط آلة أو توسّط قوّة أو نحو ذلك ، فهذا أيضا باطل ، لأنّه بناء على ما تقرّر عندهم من أنّ الواحد بالذّات لا يصدر عنه من جهة واحدة إلّا أمر واحد ، لا يصحّ هذا الفرض. إلّا أن يكون تكثّر وتجزّي في ذات ذلك الواحد ، بحيث يكون له أجزاء كثيرة يفعل كلّ فعل من تلك الأفعال باعتبار جزء منه مناسب لذلك الفعل ، وقد عرفت أنّ النّفس النّاطقة الإنسانيّة مجرّدة عن المادّة في ذاتها ، بسيطة لا تركيب فيها من الأجزاء لا بالفعل ولا بالقوّة. نعم لو كانت هي جسما ، لأمكن فرض ذلك فيها ، وإذ ليس فليس. وأيضا على هذا يلزم أن لا يكون للقوى والحواسّ حظّ في تلك الأفاعيل أصلا ، وهو خلاف ما نجده من أنفسنا ، كما سنبيّنه. وأيضا يلزم أن يكون

٢٥٩

فاعل الكلّيّ والجزئيّ واحدا ، وهو باطل كما سبقت الإشارة إليه ، وسيتّضح فيما بعد أيضا ان شاء الله تعالى.

وإمّا أن يقال باستناد جميع تلك الأفعال إلى ذات تلك النّفس الواحدة بنفسها من غير أن يكون تفعل ما تفعله من الأفعال بتوسّط القوى ، إلّا أنّ ما تفعله بنفسها من الأفاعيل المختلفة إنّما تفعله باختلاف الآلات ، كما نقله الشيخ من القول الأوّل في بيان نقل المذاهب ، حيث قال (١) : «فمنها قول من زعم أنّ النّفس ذات واحدة ، وإنّما (٢) تفعل جميع الأفعال بنفسها باختلاف الآلات». ثمّ نقل عن ذلك القائل احتجاجه عليه بما احتجّ به كما نقلنا سابقا. فهذا القول أيضا باطل.

أمّا أوّلا ، فلأنّه يلزم على هذا المذهب أن لا يكون للحواسّ والمشاعر حظّ في الإدراكات أصلا ، وأن لا يكون لها فعل قطعا ، وأن لا يكون لها مدخل في تلك الأفعال إلّا على سبيل الآليّة فقط ، حيث إنّ المفروض أن الفاعل بلا واسطة للكلّ هو النّفس خاصّة ، وهذا خلاف ما نجده من نفوسنا بالضّرورة.

وأمّا ثانيا ، فلأنّه لو صحّ ذلك لصحّ في بعض الأفعال ، أي فيما تحتاج فيه إلى الآلة من الأفعال كالأفعال المنسوبة إلى النّفس النّباتيّة والحيوانيّة ، لا في كلّ الأفعال حتّى فيما لا تحتاج فيه إلى الآلة ، كالأفعال المنسوبة إلى النّفس الإنسانيّة ، إذ ليست هي فيها محتاجة إلى الآلة ولا فيها اختلاف في الآلة حتّى يصحّ أن يقال : إنّها تفعلها بنفسها باختلاف الآلات. وكأنّ ما ذكره الشيخ من القولين الآخرين ، ـ حيث قال : «ومن هؤلاء من زعم أنّ النّفس عالمة بذاتها ، تعلم كلّ شيء ، وإنّما تستعمل الحواسّ والآلات المقرّبة للمدركات منه بسبب أن تتنبّه به لما في ذاتها ؛ ومنهم من قال : إنّ ذلك على سبيل التذكّر لها ، فكأنّها عرض لها عنده أن نسيت» ، ثمّ نقل احتجاج الفريقين على ما ذهبا إليه كما نقلنا عنه سابقا ـ مبنيّان على هذا المذهب أيضا ، أي على القول الأوّل ، لكن على نحو يحصل به التفصّي

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٢٢١ ، الفصل السابع من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.

(٢) في المصدر : وأنّها.

٢٦٠