منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-341-1
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٥٦

والأوّل هو المحلّ المنقسم إلى أجزاء غير متباينة في الوضع ، كالجسم المنقسم إلى جنسه وفصله ، وإلى مادّته وصورته. والمحلّ الذي ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع ، ولكن لا يحلّ فيه الحالّ من حيث هو ذلك المحلّ ، بل من حيث لحوق طبيعة أخرى به ؛ كالخطّ ، فإنّ النقطة لا ينقسم بانقسامه لأنّها لا تحلّه من حيث هو خطّ ، بل من حيث هو متناه ؛ وكالسّطح ، فإنّ الشكل لا يحلّه من حيث هو سطح ، بل من حيث هو ذو نهاية واحدة أو أكثر ؛ وكالجسم ، فإنّ المحاذاة التي هي إضافة ما مثلا ، لا تحلّه من حيث هو جسم ، بل من حيث وجود جسم آخر على وضع ما منه ؛ وكالأجزاء فإنّ الوحدة لا تحلّها من حيث هي أجزاء بل من حيث هي مجموع.

والثّاني هو المحلّ الذي يحلّ فيه شيء من حيث هو ذلك الشيء القابل للقسمة ، كالجسم الذي يحلّ فيه السّواد أو الحركة أو المقدار.

وكذلك الحالّ قد يكون بحيث لا يقتضي انقسامه انقسام المحلّ ، وقد يكون بحيث يقتضي.

والأوّل هو الحالّ الذي لا ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع ، كالسّواد المنقسم إلى جنسه وفصله ، وكأشياء كثيرة تحلّ محلّا واحدا معا ، كالسّواد والحركة مثلا ، فإنّهما لا يقتضيان بانقسامهما إلى هذين النّوعين انقسام المحلّ إلى جزء أسود غير متحرّك ، وإلى جزء متحرّك غير أسود.

والثّاني هو الحالّ الذي ينقسم إلى أجزاء متباينة في الوضع ، كالبلقة ، فإنّها تنقسم إلى عرضين متباينين في المحلّ والوضع.

وبعد تمهيد هذه المقدّمة ، نقول : لا يخفى أنّ الصّورة العقليّة التي ذكرنا أنّها كيفيّة حاصلة في العقل ، إذا كانت حالّة في شيء منقسم من الجسم ، يكون حلولها فيه من حيث هو منقسم ، أي إلى أجزاء متباينة في الوضع ، أي من حيث أنّ المحلّ هو المحلّ الذي يحلّ فيه شيء من حيث هو ذلك الشيء القابل للقسمة ، كالجسم الذي يحلّ فيه السّواد مثلا ، لا من حيث لحوق طبيعة أخرى به. وحينئذ يكون انقسام المحلّ إلى أجزاء متباينة في

٢٢١

الوضع مستلزما لانقسام الصورة العقليّة إليها. أعني أنّا إذا فرضنا في ذلك المحلّ المنقسم أقساما ، عرض للصّورة أن تنقسم أيضا إلى أقسام هي أجزاء لتلك الصّورة. وحينئذ نقول : لا يخلو إمّا أن تكون الأجزاء أجزاء عينيّة لها ، أو أجزاء عقليّة لها.

والأوّل باطل ، إذ الأجزاء العينيّة كيف يجتمع منها موجود عقلي ذهنيّ هو تلك الصورة؟ بل يجب أن يكون المجتمع منها موجودا عينيّا مثلها ، وهذا ظاهرة. وأيضا لو كانت تلك الأجزاء أجزاء عينيّة ، لكانت أجزاء مقداريّة متباينة في الوضع كأجزاء محلّها ، فكيف يجتمع منها ما هو شيء مجرّد عن المادّة وعن المقدار والوضع ، كما هو شأن الصّورة العقليّة؟

والثاني أيضا باطل ، إذ الأجزاء العقليّة حينئذ إمّا متشابهة أو غير متشابهة.

والأوّل باطل ، لأنّ الأجزاء المتشابهة ما تكون متّفقة الحقيقة ، أعني أن يكون حقيقة كلّ جزء موافقة مع حقيقة الجزء الآخر ، وكذا مع حقيقة الكلّ ؛ فيكون أحد الجزءين حافظا لنوع الصّورة العقليّة ، وفيه كفاية للمعقوليّة من غير احتياج إلى الجزء الآخر في ذلك ، هذا خلف.

وأيضا لا يكون الجزءان المتشابهان بحيث يحصل منهما مجموع إلّا بحيث يحصل هناك انضياف وزيادة أحدهما على الآخر ، إذ الكلّ من حيث هو كلّ ليس هو الجزء ، إلّا أن يكون ذلك الكلّ شيئا يحصل منهما من جهة الزيادة في المقدار ، أو الزيادة في العدد ، لا من جهة الصّورة. فحينئذ يكون الصّورة المعقولة معروضة للزيادة والنقصان والجمع والتفريق وأمثالها ، ممّا هو مخصوص بالشيء المادّيّ ، وقد فرضناها مجرّدة عن المادّة وعوارضها.

وأيضا لا تكون حينئذ الصّورة المعقولة صورة معقولة ، بل خياليّة مثلا ، والحال أنّ الصّورة العقليّة بخلاف الصّورة الحسّيّة والخياليّة والوهميّة ، حيث إنّ النفس في ملاحظة أجزاء لها ، تفتقر إلى ملاحظة أمور جزئية متباينة الوضع ، مقارنة لهيئات غريبة مادّيّة ، حتّى تكون رسمها ورشمها في ذي وضع وقبول انقسام ، لأنّا إذا أحسسنا أو تخيّلنا وجه

٢٢٢

إنسان مثلا ، فلا بدّ من أن يلاحظ النّفس أجزاء له متباينة الوضع ، مقارنة لهيئات غريبة مادّيّة ، كالعين والأنف والفم ، فإنّ صورة العين اليمنى تدرك في مادّة أو في جهة لم تحلّ اليسرى فيها ، وكذلك اليسرى ، فهما متباينتان بالوضع. وأيضا كونهما على بعد مخصوص بينهما ، وكون إحداهما في جهة من الأخرى غير جهة الأنف هيئات غريبة مادّيّة تقارنها ، وتلك الملاحظة تفتقر إلى أن يكون رسمها الحسيّ ورشمها الخياليّ في ذي وضع وذي قبول انقسام ، أي في شيء مادّيّ ، وهذا ظاهر.

وكذا الاحتمال الثّاني ، أعني أن يكون أجزاء الصّورة العقليّة أجزاء غير متشابهة ، باطل أيضا ، لأنّ تلك الأجزاء لا تكون إلّا أجناسا وفصولا ذاتيّة ، كما هو المحقّق في محلّه ، ومحال أن تنقسم الصّورة العقليّة إلى الأجناس والفصول بحسب انقسام محلّها ، أي الجسم المنقسم إلى الأجزاء المقداريّة ، لأنّ كلّ جسم ، بل كلّ جزء من جسم يقبل القسمة في القوّة قبولا غير متناه كما حقّق في محلّه ، فيجب أن يكون تلك الأجناس والفصول أيضا في القوّة غير متناهية ، وهذا محال. إذ يستلزم امتناع تعقّل كنه الأنواع ، لأنّ تعقّله على هذا يتوقّف على تعقّل الامور الغير المتناهية.

وأيضا لو كانت القسمة في الجسم إلى أجزاء مقداريّة متباينة في الوضع تفرز أقساما في الصّورة العقليّة ، أي أجناسا وفصولا ، لكانت تلك الأجناس والفصول أيضا متمايزة في الوضع ، وهذا باطل ، لأنّ الأجناس والفصول غير متمايزة في الوضع.

وأيضا لو كانت تلك القسمة ممّا تفرز أجناسا وفصولا ، فلتكن القسمة ممّا قد وقعت من جهة ، فأفرزت من جانب جنسا ومن جانب فصلا. فلو غيّرنا القسمة وأوقعناها من جانب آخر ، يلزم أن يقع بحسب القسمة الأخيرة في جانب نصف جنس ونصف فصل ، وهكذا في الجانب الآخر ، أو انتقال الجنس والفصل إلى القسمين الأخيرين بعد كونهما في القسمين الأوّلين ، أعني أن يميل كلّ من الجنس والفصل إلى القسمين الأخيرين ، ويكون فرضنا الوهميّ أو القسمة الفرضيّة يدور بمكان الجنس والفصل ، وكان يجرّ كلّ واحد منهما إلى جهة ما بحسب إرادة مريد من خارج ، وكلّ ذلك ممّا لا معنى له.

٢٢٣

وحيث عرفت ما ذكرنا ، وعرفت بطلان جميع تلك الاحتمالات فيما إذا كان محلّ الصّورة العقليّة جسما أو جسمانيّا ، عرفت أنّه يجب أن يكون محلّها جوهرا غير جسم ولا جسمانيّ ، بل مجرّدا عن المادّة وعلائقها مطلقا وهو المطلوب.

وعرفت أيضا أنّ الصّورة العقليّة ممّا لا يمكن أن ينقسم إلى أقسام عينيّة مطلقا ، ولا إلى أقسام عقليّة متشابهة مطلقا ، ولا إلى أقسام عقليّة غير متشابهة بحسب انقسام محلّها ؛ بل إنّ انقسامها إلى الأقسام العقليّة غير المتشابهة ، أي إلى الجنس والفصل ، إنّما هو فيما إذا كانت منتزعة من مركّب خارجيّ من مادّة وصورة بحسب انقسام ذلك المنتزع منه إلى المادّة والصّورة ، وفيما إذا كانت منتزعة من غير مركّب ، بل من أمر بسيط بحسب تعمّل العقل ، لو قلنا بكون الجنس والفصل له ، كما مرّت الإشارة فيما سبق إلى ذلك.

وعرفت أيضا أنّ كلّ معقول من حيث هو معقول ، يجب أن يكون مجرّدا عن المادّة وعلائقها ، وكذا كلّ عاقل من حيث هو عاقل يجب أن يكون مجرّدا عنها ، إلّا أنّ المعقول بالتعقّل الحصوليّ قائم بالغير ، والعاقل قائم بالذّات ، وإن لم يثبت بذلك أنّ كلّ مجرّد يجب أن يكون عاقلا أو معقولا ، لكنّه أيضا ممّا برهن عليه في موضعه.

ثمّ إنّك حيث عرفت أنّ هذه البراهين التي ذكرناها على تجرّد النّفس النّاطقة الإنسانيّة ـ كما قرّرناها ـ مبنيّة على إدراك النفس للمعقولات المجرّدة ، وعلى تجرّد تلك المعقولات ، وبيّنّا فيما سبق أنّ ذلك الإدراك مخصوص بالنّفس النّاطقة الإنسانيّة دون نفوس سائر الحيوانات ، عرفت أنّ هذه البراهين مع دلالتها على تجرّد النفس الإنسانيّة تدلّ على عدم مشاركة نفوس الحيوانات معها في ذلك.

إلّا أنّه بقي هنا سؤال ينبغي التعرّض للجواب عنه حتّى يتمّ المطلوب.

سؤال وجواب

بيان السؤال : أنّه لقائل أن يقول : إنّ ما ذكرت من الدلائل على تجرّد النّفس التي تبتني على ادراك المعقولات ، إنّما تنهض فيما إذا كان هناك إدراك بالفعل للمعقولات لا

٢٢٤

مطلقا ، وحينئذ فتدلّ الدّلائل المذكورة على تجرّد النّفس الإنسانيّة التي هي في مرتبة العقل بالفعل أو المستفاد ، لا فيها في المرتبتين الأخيرتين المتقدّمتين. ولو سلّم أنّ النّفس في مرتبة العقل بالملكة أيضا لا تخلو عن إدراك بالفعل للمعقولات ، وإن كانت من البديهيّات الأوّليّات كقولنا : الكلّ أعظم من الجزء ، والواحد نصف الاثنين مثلا ، فلا سترة في أنّها في مرتبة العقل الهيولانيّ تخلو عن ذلك أيضا ، فالدّلائل المذكورة لا تدلّ على تجرّدها إذا كانت في مرتبة العقل الهيولانيّ ، والحال أنّ المقصود تجرّد النّفس الإنسانيّة مطلقا سواء كانت في المرتبة الهيولانيّة أو فيما بعدها من المراتب ، كما عقدتم عنوان الباب به. وهذا لا يتمّ بهذه الدلائل. ولذلك كان الحكماء القائلون بتجرّد النّفس الإنسانيّة الذين بنوا على تجرّدها بقاءها بعد خراب البدن ، متّفقين على بقاء النّفوس التي صارت عقولها الهيولانيّة عقلا بالفعل بعد خراب البدن ، ومختلفين في بقاء النّفوس التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل.

فذهب بعضهم كالإسكندر الافريدوسي (١) إلى أنّها تهلك بهلاك البدن ، لأنّ دلائل تجرّد النّفس وخصوصا التي تبتني على تصوّر المعقولات ، إنّما تنهض في المعقولات بالفعل والمجرّدات بالفعل ، لا التي من شأنها التّجريد ، وليس لكلّ أحد أن يدرك معقولا من جهة عقليّة من غير أن يشوب بالحسّ أو الخيال.

وقد نقل صدر الأفاضل عن الشيخ أنّه خالف رأي الإسكندر في أكثر تصانيفه ، محتجّا بأنّ الإنسان لا يخلو عن إدراك بعض الأوّليّات ، كالواحد نصف الاثنين ، والكلّ أعظم من الجزء ، ووافق رأيه في بعض تصانيفه.

وهذا الذي ذكرنا إنّما هو بيان السؤال.

وأمّا بيان الجواب عنه ، فهو أنّ مبنى تماميّة الدّليل على تجرّد النّفوس الإنسانيّة ، حتّى النّفوس التي في مرتبة العقل الهيولانيّ ، على أنّ النّفس الإنسانيّة التي لكلّ إنسان

__________________

(١) الملل والنحل ٢ / ٤٣٣ ، طبع القاهرة ، ١٣٦٧ ه‍. قال : وأومأ (أي الاسكندر الافريدوسي) إلى أنّه لا يبقى للنفس بعد مفارقتها (للبدن) قوّة أصلا ، حتّى القوّة العقليّة.

٢٢٥

إنّما هي ذات واحدة بالشّخص ، ويختلف حالاتها وكمالاتها بحسب مراتبها الأربع : الهيولانيّة ، وبالملكة ، وبالمستفاد ، وبالفعل. وهذا الاختلاف لا دخل له في اختلاف ذاتها بذاتها ، كما سيجيء بيانه. وكذلك مبنيّ على أنّ النّفوس متّحدة بالنّوع وبالحقيقة ، مختلفة بالعوارض المشخّصة ، كما هو المقرّر عندهم ، وسيأتي بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وحينئذ نقول : إذا ثبت بالدّلائل المذكورة تجرّد النّفس الإنسانيّة التي في مرتبة العقل بالفعل أو بالمستفاد ، يجب أن يثبت ذلك فيها في المرتبتين المتقدّمتين ، وكذا في كلّ النّفوس الإنسانيّة ، إذ لو كانت النّفس الواحدة التي في المرتبتين المتقدّمتين أو في الهيولانيّة منطبعة في المادّة وفيما بعد ذلك من المراتب مجرّدة عنها ، لكانت ذاتا واحدة بالعدد بحسب وجود واحد ـ أعني الوجود الخارجيّ ـ متحصّلة القوام بالمادّة تارة ، ومستغنية عنها في قوامها وتحصّلها أخرى ، وهذا محال بالضرورة.

وكذلك لو كانت نفوس المستكملين مجرّدة عن المادّة في قوامها ونفوس غيرهم كالأطفال والبله والمجانين منطبعة فيها ، لم تكن النفوس الإنسانيّة متّحدة في النّوع والحقيقة ، بل مختلفة فيهما ، إذ ليس الاختلاف بالتجرّد عن المادّة في القوام والتحصّل والانطباع فيها ، فيهما اختلافا بحسب العوارض حتّى لا ينافي الاتّحاد في الحقيقة ، بل إنّ ذلك اختلاف بحسب الحقيقة ، أي بحسب الحقيقة التي هي لذلك الشيء بحسب وجوده الخارجيّ ، وهذا أيضا خلاف الفرض.

فظهر أنّه كما أنّ الإدراك بالفعل للمعقولات دليل على تجرّد المدرك لها ، كذلك كون النّفس بحيث يكون من شأنها إدراك المعقولات ، لو لم يكن هناك مانع عنه ، كاف في ذلك ، كما في نفوس غير المستكملين. وسيظهر لك أنّ كلام الشيخ في «الشّفاء» أيضا يدلّ على ما ذكرنا.

فإن قلت : إنّ ما ذكرته وارد عليك في النّفوس الإنسانيّة الجامعة لمراتب النّفس النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة الناطقة ، حيث ذكرت فيما سبق أنّ النّفس واحدة بالذات وبالعدد ، مختلفة بحسب الكمالات والحالات ، فتصدر عنها باعتبار قوّة أفعال النباتيّة ،

٢٢٦

وباعتبار قوّة أخرى أفعال الحيوانيّة ، وباعتبار قوّة أخرى أفعال الحيوانيّة ، وباعتبار قوّة أخرى أفعال الإنسانيّة ، مع أنّه عندك أنّ النّفس الإنسانيّة مجرّدة عن المادّة ، وأنّ النباتيّة والحيوانيّة منطبعتان فيها ، فيلزم أن يكون ذات واحدة بالعدد بحسب وجود واحد مجرّدة عن المادّة تارة ، ومستغنية عنها أخرى ، وهذا هو ما ذكرت من المحال.

قلت : إنّا وإن ادّعينا أنّ النّفس الإنسانيّة الجامعة لتلك المراتب واحدة بالذات وبالعدد ، إلّا أنّا لا ندّعي أنّها بحسب الأفعال الإنسانيّة مجرّدة ، وبحسب الأفعال النباتيّة والحيوانيّة منطبعة في المادّة ، بل ندّعي أنّ هناك ذاتا واحدة مجرّدة عن المادّة في ذاتها في جميع مراتبها وأحوالها وصفاتها وأفعالها ، إلّا أنّ أفعالها على قسمين :

قسم يصدر عنها بقوّة عقليّة ، أي بنفسها منفردة عن غيرها مطلقا ، وهو إدراك المعقولات ، وهو دليل على تجرّدها.

وقسم يصدر عنها بتوسّط الآلات والقوى المادّية ، وهو الأفعال النّباتيّة والحيوانيّة ، وليس يلزم من كون فعلها تارة بتوسّط الآلة والمادّة أن تكون هي منطبعة في المادّة في ذاتها ، بل هي في هذه الأفعال أيضا مجرّدة عن المادّة في ذاتها ، وإن كان فعلها بتوسّط الآلة المادّية. كما أنّه لا يلزم من تقدّم أفعالها المادّية على أفعالها الذاتيّة أن تكون هي أوّلا منطبعة في المادّة ، ثمّ تصير مجرّدة عنها ، لأنّها خلقت بحيث يكون من شأنها أن تدبّر البدن وتتصرّف فيه وتستعمل الآلات فتفعل الأفعال الآليّة أوّلا حتّى تصير بذلك مستكملة ، بحيث يمكن لها أن تفعل بعد ذلك الأفعال الذاتيّة التي هي دلائل على تجرّدها ، فالاشتغال بالأفعال الآليّة كأنّه مانع عن الاشتغال بالأفعال الذاتيّة باعتبار ، وإن كان للأوّل إعانة في الثاني ، كما سيأتي تحقيقه ، وبذلك تكون أفعالها الآليّة متقدّمة على أفعالها الذّاتيّة.

وهذا بخلاف نفس النّباتات ونفوس الحيوانات الأخر غير الإنسان ، فإنّا لمّا لم نجد لنفوس الحيوانات الأخر مثلا فعلا صادرا عنها بنفسها دليلا على تجرّدها ، بل وجدنا أنّ كلّ ما يصدر عنها إنّما يصدر بتوسّط الآلة الماديّة ، حكمنا بأنّها منطبعة في المادّة ، ولو كنّا

٢٢٧

وجدنا لها فعلا خاصّا صادرا عنها بذاتها دليلا على تجرّدها ، لربما حكمنا بتجرّدها أيضا في ذاتها ، وأنّ أفعالها الجزئيّة المادّية إنّما هو بتوسّط الآلة كما في النّفس الإنسانيّة ، وإذ ليس فليس ، فاحفظ هذا التحقيق فإنّه به حقيق. والله تعالى أعلم بالصّواب ، وإليه المرجع والمآب.

في الإشارة إلى براهين اخر على هذا المطلوب قد ذكرها القوم

ثمّ إنّك إذا تبيّنت ما بيّنّاه ، فاعلم أنّ للقوم على هذا المطلب ، أي تجرّد النّفس الإنسانيّة ، براهين وحججا كثيرة ، غير ما ذكرناها ونقلناها أيضا.

فمنها ما هو مبنيّ أيضا على إدراك النّفس للمعقولات ، إلّا أنّا تركنا نقله مخافة للإطناب ، ولأنّ فيما نقلناه غنية لاولي الألباب ، وكفاية للمسترشدين الطّالبين للصّواب.

ومنها ما هو مبنيّ في الظّاهر على أمور أخر غير ما ذكر ، إلّا أنّ مبنى بعضها عند التّحقيق يرجع إلى ما ذكرنا أيضا. وهذا مثل ما قالوه من أنّ النّفس تقوى على إدراك أمور غير متناهيّة ، وأنّ الجسم أو الجسمانيّ ليس يقوى على ذلك. فإنّ هذا البرهان ينبغي أن يؤول بما يستفاد من كلام الحكيم ابن رشد المغربي في جامع الفلسفة من أنّ النّفس تقوى على إدراك الكلّيّ وإدراك أفراده الغير المتناهية والحكم عليها ، وإن كان الحكم عليها على سبيل الكلّيّة والإجمال دون التفصيل : بخلاف الجسم أو الجسمانيّ ، فإنّه لا يقدر على ذلك ، فإنّه لو لم ينزّل هذا البرهان على ما ذكر ، بل حمل على ظاهره ، لكان توجيهه مشكلا كما لا يخفى على المتأمّل.

وإلّا أنّ بعضا من تلك البراهين والحجج ، بل كثير منها إقناعيّات تفيد الطمأنينة بأنّ النّفس الإنسانيّة من عالم آخر غير ما شاهدناه وعلمنا حاله من عالم الأجسام والجسمانيّات ، وإن كان نبذ منها ـ مع ذلك الإقناع ـ يفيد القطع بالمطلب أيضا لدى التأمّل الصادق ، ولا بأس بنقل جملة منها عسى أن يكون موجبا لزيادة الاطمئنان.

٢٢٨

فيما ذكره بعض مفسّري كلام أرسطو (هو أبو عليّ أحمد بن محمّد مسكويه)

فنقول : ذكر بعض مفسّري كلام أرسطو في مقام إثبات أنّ النّفس الإنسانيّة ليست بجسم ولا عرض ولا مزاج ، بل هي جوهر قائم بذاته غير قابل للموت :

أنّ من الأشياء البيّنة الواضحة ، أنّ الجسم إذا قبل صورة ، لم يمكنه أن يقبل صورة غير ما هي من جنسها إلّا بعد أن يخلع الصّورة الاولى ويفارقها على التمام. ومثال ذلك أنّ الفضّة إذا قبلت صورة الخاتم ، لم يمكنها أن تقبل صورة الكوز ـ مثلا ـ إلّا بعد أن تزول عنها صورة الخاتم وتخلعها خلعا تامّا. وكذلك الشّمع إذا قبل صورة نقش ما لم يمكنه أن يقبل صورة نقش آخر ، إلّا بعد أن يمحو عنه صورة النّقش الأوّل ، ويفارقه مفارقة تامّة. وعلى هذا حال جميع الأجسام.

وهذه قضيّة صادقة مشهورة لا يحتاج فيها إلى دليل ، فإن نحن وجدنا شيئا حاله بالضّدّ من حال الأجسام في المعنى الذي ذكرناه ، أعني أنّه يقبل صورا كثيرة من غير أن يبطل شيئا منها ، تبيّن لنا أنّه ليس بجسم. فإن بان لنا ـ مع ذلك ـ أنّه كلّما كثرت هذه الصّور فيها ، ازدادت على قبول غيرها ، ثمّ جرى ذلك على هذا النّظام إلى غير نهاية ، ازددنا بصيرة ويقينا أنّه ليس بجسم. والنّفس العاقلة هذه صورتها ، وتلك أنّها إذا قبلت صورة معقول ما ، وثبتت تلك الصّورة فيها ، ازدادت بها قوّة على تصوّر معقول آخر إليها من غير أن تفسد الصّورة الأولى. ثمّ كلّما كثرت صور المعقولات فيها ، اقتدرت بها على قبول غيرها ، وقويت في هذا القبول قوّة متزايدة بحسب تزايد المعقولات.

ثمّ إنّ من الأمور المسلّمة أنّ الإنسان إنّما يتميّز عن البهائم وغيرها بهذا المعنى الموجود له ، لا بتخاطيطه ولا ببدنه ولا بشيء من أشكاله البدنيّة. ومن الدليل على أنّ ذلك كذلك ، أنّ هذا المعنى هو الذي يقال به : فلان أكثر إنسانيّة من فلان ، إذا كان فيه أبين وأظهر. ولو كانت إنسانيّته بالتخاطيط وغيرها من جملة البدن ، لكانت إذا تزايدت في إنسان قيل بها : فلان أكثر انسانيّة من فلان ، ولسنا نجد الأمر كذلك.

وهذا المعنى الذي ذكرناه يسمّى مرّة نفسا ناطقة ، ومرّة قوّة عاقلة ، ومرّة قوّة مميّزة ،

٢٢٩

ولسنا نشّاح في الأسماء ، فليسمّ بأيّ اسم كان.

وممّا يدلّ أيضا على أنّ هذا المعنى ليس بجسم ، أنّ جميع أعضاء الحيوان من الإنسان وغيره ، صغر فيه أم كبر ، ظهر منه أم بطن ، إنّما هو آلة مستعملة لغرض لم يكن استمرّ إلّا به ، إذ كان البدن كلّه آلات ، ولكلّ آلة منها فعل خاصّ ، لا يتمّ إلّا إذا اقتضى مستعملا ، كما نجد آلات الصّانع والنّجار وغيرهما.

وليس يجوز أن يقال : إنّ بعض البدن يستعمل بعضه هذا الاستعمال ، لأنّ ذلك البعض الذي يشار إليه ويظنّ أنّه يستعمل الآلات الباقية ، هو أيضا آلة أو جزءا من آلة ، وجميعها مستعملة ، فمستعملها غيرها. واذا كان مستعملها غيرها ولم يكن جزءا منها ، وجب أن يكون غير جسم ، ليستمرّ له أن لا يشغل مكان الجسم ، ولا يزال آلات الجسميّة موضعها ، لأنّه لا يحتاج إلى مكان ، ويستعملها كلّها على اختلاف الاغراض المستعملة فيها في حالة واحدة من غير غلط ولا عجز ، ليتمّ من الجميع أمر واحد ، فإنّ هذه الأحوال ليست أحوال الأجسام ، ولا موضوعة في أحكامها. وسنبيّن أنّ هذا المعنى ليس بعرض ولا مزاج إذا ذكرنا الفرق بين العقل والحسّ فيما يأتي من بعد.

على أنّا نقول هاهنا : إنّ المزاج ، وبالجملة الأعراض التي توجد في الجسم ، كلّها تابعة للجسم ، والتّابع للشّيء هو أخسّ منه وأقلّ حظّا من الوجود ، لأنّه لا يوجد إلّا بوجوده. فإن كان أخسّ منه ، فكيف يستخدمه ويستعمله ، كما يستعمل الصانح آلته ويصير رئيسا عليه ، ومتحكّما فيه ، وهذا تقبيح شنيع». ـ انتهى كلامه ـ

وقد ذكر بعض أهل التحقيق : أنّ كلّ صورة أو صفة حصلت في الجسم بسبب ، فإذا زالت عنه وبقي فارقا عنها ، يحتاج في استحصالها إلى استئناف سبب أو سببيّة من غير أن يكون مكفيّا بذاته ، إذ ليس هذا من شأن الجسم. ومن شأن النّفس في الصّور العقليّة أن قد تصير بعد استحصالها من معلّم أو فكر ، مكفيّة بذاتها في استرجاعها ، فالنّفس تعالت عن أن تكون جرميّة ، فهي روحانيّة.

وأيضا أنّ كلّ جوهر مادّي لا يمكن أن تتراكم عليها صور كثيرة فوق واحدة ،

٢٣٠

والعلوم كلّها لا تجتمع في دفتر واحد.

وأمّا النّفس فهي لوح يجتمع فيه علوم شتّى وصنائع تترى ، وأخلاق مختلفة وأعراض متفاوتة ، فليذعن أنّها دفتر روحانيّ ولوح ملكوتيّ لا تتراكم فيه الصّور كما تتراكم في الهيولى الجسمانيّة ، وربّما تزول عنها هذه الأسباب المؤدّية إلى كمالها ، لإقبالها إلى شيء من الأمور العاجليّة عند مرض أو شغل قلب أو همّ أو غمّ يعرض لها ، إلّا أنّه لا يزول عنها بهذه الأمور صورها الكماليّة المستحفظة في ذاتها على الإطلاق أو في خزانتها ، لأنّها روحانيّة الشّبح ، متعلّقة الوجود بجوهر قدسيّ تختزن فيه صورها الكماليّة بنوع قوّة قريبة من الفعل ، والعائق لها عن مشاهدة كمالاتها بعد خروجها عقلا بالفعل ليس أمرا داخليّا ، كما في الجواهر والمعاني التي لم تخرج من القوّة إلى الفعل ، بل عائقها عن الوصول إلى حاقّ ما لها من السّعادة حجاب خارجيّ احتجبت به ذاتها عن ذاتها ، وهو اشتغالها بهذا البدن ، وعادتها في الانجذاب إليه بحسب فطرتها الاولى دون الثانية ، فإذا ارتفع غبار البدن من بصرها العقليّ ووقع نظرها على ذاتها وجدتها مستكملة بالمعقولات ، مشاهدة إيّاها ، مستعملة بها.

وبالجملة إذا زال عنها العائق ، عادت إلى كمالها بنوع فعل ، لا بنوع انفعال ، ولهذا يقال لها العقل بالفعل ، وإن كان بعد في هذا العالم.

وأمّا الجسم وقواه فلا يمكن له مثل ذلك. ألا ترى أنّ الحواسّ لا يمكن أن يستحفظ في ذاتها صورة وتقبل أخرى ، والمعاودة إليها بعد الغيبة بنوع فعل استكفته بذاتها وبمقوّم ذاتها ، بل بمثل ما ينشأ منها ابتداء. ـ انتهى كلامه ـ

وقد ذكر الشيخ في الإشارات في مقام أنّ النّفس النّاطقة تعقل بذاتها من غير آلة كلاما هذه عبارته (١) : «تبصرة : اذا كانت (٢) قد استفادت ملكة الاتّصال بالعقل الفعّال ، لم يضرّها فقدان الآلات ، لأنّها تعقل بذاتها ـ كما علمت ـ لا بآلتها ، ولو عقلت بآلتها ، لكان لا

__________________

(١) الإشارات ٣ / ٢٦٦ ـ ٢٧٥.

(٢) في المصدر : اذا كانت النفس الناطقة قد استفادت.

٢٣١

يعرض للآلة كلال البتّة ، إلّا ويعرض للقوّة (٢) كلال كما يعرض لا محالة لقوى الحسّ والحركة. ولكن ليس يعرض هذا الكلال ، بل كثيرا ما يكون (٣) القوى الحسّيّة والحركتيّة في طريق الانحلال ، والقوّة العقلية إمّا ثابتة ، وإمّا في طريق النموّ والازدياد. وليس إذا كان يعرض لها مع كلال الآلة كلال ، يجب أن لا يكون لها فعل بنفسها ، وذلك لأنّك علمت أنّ استثناء عين التالي لا ينتج.

وأزيدك بيانا ، فأقول : إنّ الشيء (٤) إذا عرض له من غيره ما يشغله عن فعل نفسه فليس ذلك دليلا على أن لا فعل له بنفسه (٥) ، وأمّا إذا وجد قد (٦) لا يشغله غيره ولا (٧) يحتاج إليه ، دلّ على أنّ له فعلا بنفسه».

«زيادة تبصرة : تأمّل أيضا أنّ القوى القائمة بالأبدان بكلّها تكرّر الأفاعيل ، لا سيّما القويّة ، وخصوصا إذا اتبع (٨) فعل فعلا على الفور ، فكان الضعيف في مثل تلك الحال غير مشعور به ، كالرائحة الضعيفة إثر القويّة ، وأفعال القوّة العاقلة قد تكون كثيرا بخلاف ما وصف».

زيادة تبصرة : «ما كان فعله بالآلة ، ولم يكن له فعل خاصّ ، لم يكن له فعل في الآلة ، ولهذا فإنّ القوى الحسّاسة لا تدرك آلاتها بوجه ، ولا تدرك إدراكاتها بوجه ، فإنّها (٩) لا آلات لها إلى آلاتها وإدراكاتها ، ولا فعل لها إلّا بآلاتها. وليست القوي العقليّة كذلك ، فإنّها تعقل كلّ شيء». ـ انتهى ـ.

وقد ذكر في «الشّفاء» في مقام أنّ النّفس الإنسانيّة غير مادّيّة (١) ، هذه الوجوه مع وجوه اخر أيضا يوجب نقلها الإطناب في الباب. وكذا ذكر الحكيم ابن رشد المغربي في كتابه الموسوم : به «جامع الفلسفة» في مقام أنّ النّفس الإنسانيّة غير هيولانيّة جملة من تلك الوجوه التي ذكرها الشيخ.

__________________

(٢) في المصدر : للقوّة العاقلة ...

(٣) ما تكون ...

(٤) الشيء قد يعرض له ...

(٥) في نفسه ...

(٦) وقد لا يشغله ...

(٧) فلا يحتاج فدلّ ...

(٨) اذا اتّبعت فعلا فعلا على الفور ، وكان ...

(٩) لأنّها.

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ١٨٧ فما بعد ، الفصل الثاني من المقالة الخامسة من الفنّ السادس.

٢٣٢

شواهد سمعيّة على هذا المطلب

وحيث عرفت ما نقلنا عنهم من الإقناعيّات التي تفيد الطمأنينة في تجرّد النّفس الإنسانيّة ، ومع ذلك يفيد بعضها قطعا بالمطلب أيضا ، كما يعلم بالتأمّل الصّادق فيما نقلنا.

فاعلم أنّ هاهنا شواهد سمعية أيضا تفيد نوع طمأنينة في هذا المطلب ، حيث إنّها تؤذن بشرف النّفس ، وكونها من عالم آخر غير عالم الجسم والجسمانيّات.

أمّا من الكتاب الكريم ، فلقوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١).

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (٢) (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٣).

وأمّا من الأخبار فكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«من عرف نفسه فقد عرف ربّه» (٤)

«أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه» (٥)

فيما استدلّ به بعض العلماء على نفي تجرّد

النّفس الإنسانيّة مع جواب ذلك الاستدلال

ثمّ إنّك حيث عرفت ذلك ، فاعلم أنّ من السّمعيّات ما استدلّ به بعض المتأخرين من العلماء على أنّ النّفس الإنسانيّة غير مجرّدة ، وأن لا مجرّد سوى الله تعالى ، فلا بأس بنقله وكيفيّة الاستدلال به ، ثمّ الجواب عنه.

وهو ما رواه الشيخ الكلينيّ (ره) في كتاب التوحيد من «الكافي» عن محمّد بن

__________________

(١) المؤمنون / ١٤.

(٢) يس / ٣٦.

(٣) التين / ٤.

(٤) بحار الأنوار ٢ / ٣٢ ؛ ٦١ / ٩٩ ؛ ٦٩ / ٢٩٣.

(٥) روضة الواعظين للفتّال النيسابوريّ ٢٠.

٢٣٣

عبد الله الخراسانيّ خادم الرضا عليه‌السلام ، قال (١) : «دخل رجل من الزنادقة على أبي الحسن عليه‌السلام ، وكان من سؤاله ، أنّه قال : رحمك الله أوجدني ، كيف هو وأين هو؟ فقال : ويلك ، إنّ الّذي ذهبت إليه غلط ، هو أيّن (٣) الأين وكيّف الكيف بلا كيف ، فلا يعرف بالكيفوفيّة ولا بأينونيّة ، ولا يدرك بحاسّة ولا يقاس بشيء ، فقال الرجل : فإذا إنّه لا شيء إذا لم يدرك بحاسّة من الحواسّ ، فقال أبو الحسن عليه‌السلام : ويلك ، لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته ، ونحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه ، أيقنّا أنّه ربّنا ، بخلاف شيء من الأشياء ـ الحديث ـ.

وقد رواه الشيخ الطبرسيّ (ره) أيضا في كتاب «الاحتجاج» (٢) بهذا السند هكذا : قال الزنديق : رحمك الله ، فأوجدني (٤) كيف هو وأين هو؟ قال : ويلك ، إنّ الّذي ذهبت إليه غلط ، هو (٥) أيّن الأين ، وكان ولا أين ، وهو كيّف الكيف ، وكان ولا كيف ، ولا يعرف بكيفوفيّة ولا بأينونيّة ، ولا يدرك بحاسّة (٦) من الحواسّ ، ولا يقاس بشيء ، وقال الرّجل : فإذا إنّه لا شيء إذ لم يدرك بحاسّة من الحواسّ ، فقال أبو الحسن عليه‌السلام : ويلك! لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته ، ونحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه ، أيقنّا أنّه ربّنا ، وأنّه شيء بخلاف الأشياء».

ثمّ ذكره (ره) بعد ذكر سؤال آخر والجواب عنه : إنّه «قال الرّجل : فلم لا تدركه حاسّة البصر؟ قال : للفرق بينه وبين خلقه الذين (٧) تدركهم حاسّة الأبصار منهم ومن غيرهم ، ثمّ هو أجلّ من أن يدركه بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل. قال : فحدّه لي. قال : لا حدّ له. قال : ولم؟ قال : لأنّ كلّ محدود متناه ، وإذا احتمل التّحديد احتمل الزّيادة (٨) واحتمل النّقصان ، فهو غير محدود ، ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزّ (٩) ولا متوهّم». ـ الحديث ـ.

__________________

(١) أصول الكافي ١ / ٦١ ، ب ٥٧ ، ح ٣.

(٣) في المصدر : هو أيّن الأين بلا أين ...

(٤) فأجدني ...

(٥) وهو أيّن ...

(٦) بحاسّة ولا يقاس بشيء ، قال الرجل ...

(٧) الذي تدركه ...

(٨) الزيادة ، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان ...

(٩) متجزّي.

(٢) الاحتجاج / ٣٩٦ ، مؤسسة الأعلميّ ـ بيروت ، ١٤٠٣ ه‍.

٢٣٤

وقال الفاضل الجليل مولانا الخليل القزوينيّ (ره) في شرحه على الكافي (١) في [شرح] عبارة الحديث الشريف : «فقال أبو الحسن عليه‌السلام : ويلك ، لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه ، أنكرت ربوبيّته ، ونحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه ، أيقنّا أنّه ربّنا» بهذه العبارة : حاصله منع أنّه إذا لم يدرك بحاسّة كان لا شيء البتّة ، أو منع دلالة عدم الإدراك بحاسّة على كونه لا شيئا ، مستندا بأنّ لازم أحد النقيضين أو شرطه يستحيل أن يكون ملزوما أو دليلا على الآخر ، وعدم الإدراك بحاسّة لازم للربوبيّة ، وشرط لليقين بالربوبيّة. وليس مقصوده عليه‌السلام أنّ عدم الإدراك بالحواسّ دليل على الصّانعيّة. ولا يخفى أنّ هذا صريح في أنّه لا مجرّد سوى الله تعالى ، فيبطل قول الزنادقة بتجرّد العقول العشرة والنّفوس النّاطقة.

وفي [شرح] قوله عليه‌السلام : «بخلاف شيء من الأشياء بهذه» العبارة : خبر آخر ، لأنّ ، «أو» ، استئناف بيانيّ ، فهو خبر مبتدأ محذوف ، أي هو بخلاف. ولمّا كان في الخلاف معنى النفي كان «شيء» نكرة في سياق النفي ، أي ليس بينه وبين شيء مشترك ذاتيّ ، فلا يمكن أن تدركه الحواسّ كما سيجيء بيانه. ـ انتهى كلامه ره ـ.

وقال السّيد الفاضل الرفيع ميرزا رفيع النائينيّ (ره) في حاشيته على الكافي (٢) في هذا الحديث بهذه العبارة : قال الرّجل «فإذا إنّه لا شيء» يعني أردت بيان شأن ربّك ، فإذا الذي ذكرته يوجب نفيه ، لأنّ ما لا يمكن إحساسه لا يكون موجودا. أو المراد أنّه فإذا هو ضعيف الوجود ضعفا يستحقّ أن يقال له : لا شيء ؛ وقوله عليه‌السلام «لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه» ـ إلى آخره ـ أي جعلت تعاليه عن أن يدرك بالحواسّ ، وعجزها عن إدراكه دليلا على عدمه أو ضعف (٣) وجوده ، فأنكرت ربوبيّته ، ونحن إذا عرفناه بتعاليه عن أن يدرك بالحواسّ ، أيقنّا أنّه ربّنا ، بخلاف شيء من الأشياء. أي ليس شيء من الأشياء

__________________

(١) راجع شرحه الفارسي على الكافي ، المسمّى به الصافي ١ / ١٩ ـ ٢١ ، طبع الهند ، كتاب التوحيد ؛ وشرحه العربيّ (مخطوط) واسمه الشافي.

(٢) الحاشية على الكافي للنائينيّ ، مخطوط.

(٣) في المصدر : وضعف وجوده.

٢٣٥

المحسوسة ربّنا ، لأنّ كلّ محسوس ذو وضع ، وكلّ ذي وضع بالذّات منقسم بالقوّة إلى أجزاء مقداريّة لا إلى نهاية ، لاستحالة الجوهر الفرد ، وكلّ منقسم إلى أجزاء مقداريّة يكون له أجزاء متشاركة في الماهيّة ومشاركة للكلّ فيها. وكلّ ما يكون كذلك يكون ذا ماهيّة ووجود يصحّ عليها الخلوّ عنه ، وكلّ ما يكون كذلك يكون محتاجا إلى مبدأ مغاير له ، فلا يكون مبدأ أوّل ، بل يكون مخلوقا ذا مبدأ ، فما هو مبدأ أوّل لا يصحّ عليه الإحساس. فالتعالي عن الإحساس الذي جعلته مانعا للربوبيّة وباعثا على انكسارك ، مصحّح للربوبيّة ، ودالّ على اختصاصه بصحّة الربوبيّة بالنّسبة إلى الأشياء التي يصحّ عليها أن تحسّ». ـ انتهى كلامه (ره) ـ.

وأقول : ما نقلنا عن الشّارح الجليل (ره) في شرح الحديث الشريف هو بيان الاستدلال به على عدم مجرّد سوى الله تعالى. وما نقلنا عن المحشّي النائيني (ره) قد فهم بعض الفضلاء من تلامذته أنّ فيه دلالة على الجواب عن ذلك الاستدلال ، حيث ذكر في قول المحشّي المذكور (ره) (١) : «ونحن إذا عرفناه بتعاليه عن أن يدرك بالحواسّ» ـ إلى آخره ـ كلاما بهذه العبارة : استدلّ بعض فضلاء الزمان بهذا الحديث الشريف على انحصار التجرّد في الله تبارك وتعالى ، وأنّ القول بتجرّد النّفس والعقل قول بتعدّد الواجب تعالى عن ذلك ، وإذا حمل على ما حمله المحشّي من أنّ المعنى : إنّ ربّنا بخلاف شيء من الأشياء المحسوسة ، بجعل الضّمير في «أنّه» للشأن ، أو جعله اسم «انّ» وجعل «ربّنا» بدلا أو بيانا منه ، لا يبقى للاستدلال وجه. فإنّ مفاد الحديث الشريف : أنّ الله تعالى وتقدّس مخالف للمحسوسات وذوات الأوضاع ، ولا يلزم منه أنّ كلّ ما هو كذلك ، فهو الربّ تدبّر». ـ انتهى كلامه ـ.

وأقول : لا يخفى عليك أنّ توجيه قوله عليه‌السلام «أيقنّا أنّه ربّنا بخلاف شيء من الأشياء» كما فهمه ذلك البعض ، وهو ظاهر عبارة المحشيّ ، لا يخلو عن شيء. أمّا أوّلا ، فلأنّه مناف لما تضمّنته عبارة الحديث على رواية الشيخ الطبرسيّ (ره) ، حيث رواه هكذا :

__________________

(١) الحاشية على الكافي للنائينيّ ، مخطوط.

٢٣٦

أيقنّا أنّه ربّنا وأنّه شيء بخلاف الأشياء ؛ فإنّه صريح فيما حمل الشّارح الجليل العبارة عليه.

وأمّا ثانيا ، فلأنّه على تقديره ، يكون الحكم المذكور في الشرطيّة المذكورة ، أي قوله عليه‌السلام : ونحن إذا عجزت حواسّنا ـ إلى آخره ـ من قبيل إفادة الأمر البديهيّ ، إذ يكون مفاده حينئذ : ونحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّ ربّنا بخلاف الأشياء المحسوسة ، أي إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه ، أيقنّا أنّه تعجز حواسّنا عن إدراكه وأنّه ليس بمحسوس وأنّه بخلاف المحسوسات. وهذا مع كونه إفادة بديهيّة لا تليق بمنصب الإمام عليه‌السلام ، لا يكون فيه دلالة على وجه ظاهر في ردّ إنكار السّائل كما لا يخفى.

فبقي أن يكون توجيه العبارة على ما فهمه الشارح الجليل ، وعلى تقديره يلزم ما ادّعاه ، من نفي مجرّد سوى الله تعالى ، حيث يلزم منه ، إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ـ أي أنّ ذلك الشيء الذي عجزت حواسّنا عن إدراكه ـ هو ربّنا ، وأنّه بخلاف شيء من الأشياء. إذ لو كان هناك مجرّد غيره تعالى ـ والحال أنّ المجرّد ، هو ما يعجز الحواسّ عن إدراكه ـ لكان هو أيضا مشاركا مع الله تعالى في هذا الحكم ، أي في أنّه ربّنا ، وأنّه بخلاف شيء من الأشياء. وخصوصا أنّ كلمة «إذا» في اللغة وفي عرف المنطقيّين وإن كانت سورا للجزئية ، لكنّها تطلق في العرف العامّ إطلاقا شائعا سورا للكلّيّة ، فيلزم تعدّد الواجب تعالى ، وهو باطل قطعا.

وحيث عرفت ذلك ، فاعلم أنّ جواب ذلك الاستدلال إنّما يظهر بعد شرح الحديث الشريف وتحقيق مفاده ، وهو أن يقال : لا يخفى أنّ مفاد عبارة الحديث الشريف أنّ ذلك الزنديق لمّا قال : أوجدني ـ أي أفدني ـ كيف هو وأين هو؟ أجاب عنه عليه‌السلام : بأنّ ذلك غلط ، لأنّ الله تعالى موجد الكيف بلا كيف ، وموجد الأين بلا أين ؛ فكيف يتّصف الخالق الموجد لهما بهما ، مع كونه خاليا عنهما في مرتبة ذاته ، وكذا في مرتبة إيجاده لهما ، فإنّ ذلك الاتّصاف لا سترة في أنّه لم يكن قبل إيجاده لهما ، وكذا لا يمكن أن يحصل بعد ذلك ؛ لأنّه إن كان بعد ذلك متّصفا بهما ، فإمّا أن يكون لا لحاجة له إليه ، فيكون

٢٣٧

عبثا ، وهو محال على الله تعالى. وإمّا أن يكون لحاجة له إليه ، فيلزم أن يكون هو تعالى في مرتبة إيجاده لهما ناقصا ، ويصير بعد اتّصافه بهما تامّا ، وهذا أيضا محال. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فبيّن عليه‌السلام أنّه تعالى لا يعرف بكيفوفيّة ولا بأينونيّة ، وزاد عليه بأنّه لا يدرك بحاسّة ، أي بحاسّة من الحواسّ الخمس الظّاهرة ، وكذا بحاسّة من الحواسّ الباطنة ، نظرا إلى ظاهر إطلاق العبارة ، أو لا يدرك بحاسة البصر ، أي لا يدرك ببصر من الأبصار ، نظرا إلى ما فهمه السّائل منه فيما رواه الشيخ الطبرسيّ ، حيث روى بعد ذلك : «قال الرّجل : فلم لا تدركه حاسّة البصر؟» وقد ذكر المحشّي النائينيّ (ره) (١) : «أنّ الإحساس في اللغة : الإبصار ، وقد نقله عن صاحب الغريبين قال : قال في الغريبين في قوله تعالى (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) (٢) ، أي علمه ، وهو في اللغة أبصره ، ثمّ وضع موضع العلم والوجود ، ومنه قوله تعالى (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) (٣) أي هل ترى ، يقال : هل أحسست فلانا؟ أي هل رأيته؟» ـ انتهى ـ.

ومنه يعلم أنّه يمكن حمل قوله عليه‌السلام «ولا يدرك بالحواسّ» على أنّه لا يدرك بالقوى الدّرّاكة مطلقا ، لا بالحواسّ الظاهرة ولا بالحواسّ الباطنة ولا بالقوّة العقليّة. وبالجملة ، فهذا القول منه عليه‌السلام ، سواء حمل على الأوّل بناء على ظاهر العبارة ، أو على الثاني بناء على أنّ المراد بنفي الإدراك بالبصر نفي إدراكه بغيره من الحواسّ أيضا ، وإنّما ذكره بخصوصه ، لأنّه أظهرها وألطفها ، أو على الثالث بناء على تعميم الإحساس والحواسّ ، كما يستفاد من كلام صاحب الغريبين. إمّا بيان حكم آخر برأسه ، غير عدم المعرفة بالكيفوفيّة والأينونية ، أو حكم متفرّع على السّابق ، لأنّ كلّ مدرك بالحواسّ لا يخلو عن كيفوفيّة وأينونيّة ولو بوجه ، فما كان قد عرى عن ذلك من كلّ وجه ، فهو لا

__________________

(١) الحاشية على الكافي للنائيني ، مخطوط.

(٢) آل عمران / ٥٢.

(٣) مريم / ٩٨.

٢٣٨

يمكن أن يدرك بها. وكذلك كلّ مدرك بالقوّة العاقلة لا يخلو عن كيفوفيّة ما ، وإن كان يخلو عن أينونيّة ما ، على ما بيّنا فيما سبق حال إدراك القوّة العاقلة لمدركاتها ، والحال أنّ ذاته تعالى منزه عن كيفوفيّة ما مطلقا.

والحاصل أنّ وجوده تعالى عين ذاته المقدّسة ، ولا يمكن للعقل تعرية ذاته عن ذاته حتّى يدركه.

ثمّ زاد عليه‌السلام على ذلك قوله «ولا يقاس بشيء» أي لا يعرف قدره بمقياس ، إذ لا أين له ولا مقدار له حتّى يعرف بمقياس ، أو لا يقاس على شيء بمقياس عقليّ أو وهميّ أو حسّيّ ، إذ لا نظير له ولا شبيه حتّى يقاس هو عليه بمقياس.

ثمّ إنّ ذلك السّائل لمّا سمع منه عليه‌السلام ذلك الكلام المتضمّن لأنّه تعالى لا يدرك بالحواسّ وقد حمله على أحد الوجهين الأوّلين ، وكان من مذهبه أنّ كلّ موجود يجب أن يكون محسوسا بالحواسّ ، وأنّ ما لا يدرك بالحواسّ لا وجود له أصلا ، فضلا عن أن يكون ربّا وصانعا ، كما نقله ابن سينا في أوّل إلهيّات الإشارات عن قوم من الأوائل وأبطله ؛ قال (١) : قد يغلب على أوهام النّاس أنّ الموجود هو المحسوس ، وأنّ ما لا يناله الحسّ بجوهره ، ففرض وجوده محال ، وأنّ ما لا يتخصّص بوضع (٢) أو مكان بذاته كالجسم ، أو بسبب ما هو فيه كأحوال الجسم ، فلا حظّ له من الوجود ـ إلى آخر ما ذكره هنالك ـ.

أو كان من مذهبه أنّ ما لا يدرك بالحواسّ ، يكون ضعيف الوجود جدّا يستحقّ أن يقال له : إنّه لا شيء ، فكيف يمكن أن يكون صانعا للعالم؟ قال : إذا أنّه لا شيء ، أي لا يكون موجودا ، أو يكون ضعيف الوجود جدّا كاللاشيء ، وعلى التقديرين ، فلا يصحّ أن يكون ربّا خالقا للعالم ، فنفى عنه الوجود مطلقا حتّى يلزم عنه نفي الربوبيّة ، حيث إنّ نفي الأعمّ يستلزم نفي الأخصّ. فيكون معنى قوله : «إذا أنّه لا شيء» ، كما قرّر الإمام عليه

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ / ٢ و٣.

(٢) في المصدر : بمكان أو وضع بذاته.

٢٣٩

السلام سؤاله ، أنّه إذا عجزت الحواسّ عن إدراكه انتفى ربوبيّته ، وكانت ربوبيّته منكرة.

وحينئذ فقوله عليه‌السلام «ويلك لمّا عجزت حواسّك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته» بيان لوهمه ومنشأ إنكاره ، وأنّ مبناه على قضيّة شرطيّة متّصلة لزوميّة ، مقدّمها أعني عجز الحواسّ عن إدراكه ، مستلزم في وهمه لتاليها ، أعني نفي الربوبيّة وإنكارها ، حيث إنّه في وهمه مستلزم لنفي الوجود ، المستلزم لنفي الربوبيّة. ويكون قوله عليه‌السلام : ونحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا ، بخلاف شيء من الأشياء ـ على نسخة الكافي ـ أو أيقنّا أنّه ربّنا وأنّه شيء بخلاف الأشياء ـ على نسخة الاحتجاج ـ إبطالا لذلك الوهم ، وردّا لذلك الإنكار ، وبيانا لأنّ عجز الحواسّ عن الإدراك لا ينافي الوجود والربوبيّة ، بل يصحّحهما ويقوّيهما.

فلننظر في كيفيّة دلالة هذا القول من الإمام عليه‌السلام على ذلك ، فنقول : إنّ قوله عليه‌السلام : ونحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا ـ إلى آخره ـ لا يخفى أنّه قضيّة شرطيّة متّصلة أيضا ، وليست قضيّة اتّفاقية ، لا علاقة بين مقدّمها وتاليها ، إذ الاتّفاقية هنا لا تؤثّر في إفادة المطلوب شيئا ، بل هي قضيّة متّصلة لعلاقة بينهما ، وما تلك العلاقة إلّا اللزوم بينهما. وحيث كانت لزوميّة ، وجب أن يحكم فيها باللزوم بين مقدّمها وتاليها ، ومقدّمها وإن كان هو عجز الحواسّ عن إدراكه ، لكنّه في الحقيقة هو العلم بعجز الحواسّ عن إدراكه والإيقان به ، كما أنّ تاليها هو الإيقان بأنّه ربّنا وأنّه بخلاف شيء من الأشياء. فكما أنّ اللزوم يجب أنّ يتحقّق بين ذينك العلمين والإيقانين ، كذلك يجب أن يتحقّق أيضا بين المعلومين والمتيقّنين ، أي عجز الحواسّ عن إدراكه ، وكونه ربّا وبخلاف شيء من الأشياء ، فإنّ حصول اللزوم بين العلمين ، لا يكون إلّا إذا حصل اللزوم بين معلوميهما أيضا قطعا ، فسواء اعتبر اللزوم بين العلمين ، أو بين المعلومين ، أو بين أحد المعلومين وبين العلم بمعلوم آخر ، كما في ظاهر الحديث الشريف ، وجب أن لا يختلف الحال. فلننظر في ذلك حتّى يتّضح المقصود.

فنقول : إذا حكمنا باللزوم بين عجز الحواسّ عن إدراكه وبين كونه ربّنا بخلاف شيء

٢٤٠