منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-341-1
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٥٦

العينيّ خاصّة.

وأمّا إذا أخذت تلك الماهيّة الحاصلة في العقل بشرط لا شيء ، أي بشرط عدم أخذ الوجودات العينيّة وتوابعها معها ، سواء كانت تلك الوجودات خارجيّة أم كانت باعتبار الوجود في العقل ، ومع ذلك أخذت مقيسة إلى أفرادها التي تفرض لها ومشتركة بينها.

وبعبارة أخرى إذا أخذت بشرط العموم وبشرط عدم الخصوص ، من غير أن تكون أيضا لا بشرط العموم أو الخصوص ، فتلك الماهيّة الحاصلة في العقل من هذه الحيثيّة موجودة بالوجود الذّهنيّ الذي لا يترتّب عليه شيء من الآثار والأحكام العينيّة والأفاعيل الخارجيّة المطلوبة من تلك الماهيّة بحسب وجودها العينيّ.

وكذلك هي من هذه الحيثيّة لا تتّصف بالجوهريّة ولا بالعرضيّة أصلا ، إذ ليس لها وجود عينيّ يترتّب عليه الآثار من هذه الجهة أصلا ، حتّى تتّصف بالجوهريّة أو العرضيّة.

وكذلك هي من هذه الجهة كلّيّة لا جزئيّة ، ومن هذه الحيثيّة تكون جنسا أو نوعا وأمثال ذلك من الأمور الّتي هي معقولات ثانية ، وتفرض هي لها بحسب وجودها الذهنيّ ، إلّا أنّها من تلك الحيثيّة معلومة أيضا لا علم.

فتلخّص ممّا ذكرنا ، أنّ اختلاف تلك الماهيّة المعقولة بالكلّيّة والجزئيّة وبالعلم والمعلوميّة وبالجوهريّة والعرضيّة وأمثال ذلك ، إنّما هو بالاعتبار لا بالذات ، ولا حجر في ذلك ، إذ كما أنّ الشيء الواحد يمكن أن يكون باعتبارات مختلفة جنسا ونوعا ومادّة كما علمت فيما سلف ، يمكن أن يكون باعتبارات مختلفة متّصفا بالأوصاف المختلفة المتغايرة المذكورة ، يدلّ على ما ذكرنا ما حقّقه الشيخ في غير موضع من «الشفاء» ، مثل ما ذكره في فصل كون الكلّيّة للطبائع الكلّيّة وغيره ، فليطالع ثمّة. وإنّما لم ننقله بعبارته ، لكون ذلك موجبا للإطناب ، والله أعلم بالصواب.

في الإشارة إلى دفع إشكال آخر هنا

ثمّ إنّك حيث تحقّقت ما حقّقناه وتبيّنت ما حرّرناه في بيان كلام الشيخ هنا في مقام

٢٠١

دفع الإشكال المورد في الذّاتيّات ولوازم الوجود الخارجيّ من حيث الوجود الذّهنيّ.

فاعلم أنّ في هذا المقام إشكالا آخر ربّما يورد في لوازم الماهيّات ينبغي التعرّض لدفعه.

بيان الإشكال : أنّه لا يخفى أنّ لوازم الماهيّات كالزّوجيّة للأربعة ، والفرديّة للثّلاثة ، سواء قيل بأنّها لوازم الماهيّة من حيث هي ، أو بأنّها لوازم الماهيّة بكلا وجوديها ، أي الخارجيّ والذهنيّ ، أنّما هي تلزم الماهيّة من حيث وجودها الذّهنيّ أيضا ، كما تلزمها من حيث وجودها العينيّ. فالأربعة ـ مثلا ـ كما أنّها إذا وجدت في الخارج تلزمها الزّوجيّة وينتزعها العقل منها ، كذلك هي إذا وجدت في الذّهن أيضا تلزمها الزّوجيّة ، وينتزعها العقل منها ، لكون الماهيّة في كلا الوجودين واحدة ، واللازم لازما لها فيهما. وكما أنّ محلّ الأربعة بحسب وجودها العينيّ يجب أن يكون متّصفا بها وكذا بالزوجيّة ، وكذا محلّ الزّوجيّة بحسب وجودها العينيّ يجب أن يكون موصوفا بها ، كذلك محلّهما بحسب وجودهما الذّهنيّ وهو النّفس ، يجب أن يكون متّصفا بهما إذا حصلتا فيها ، فيلزم أن تكون النفس أربعة وزوجا. وكذا يلزم أن تكون النّفس ثلاثة وفردا إذا حصلت الثّلاثة فيها ، فيلزم أن تكون زوجا وفردا معا ، وكلّ ذلك باطل بالضّرورة.

ولا يمكن الجواب عن هذا الإشكال بأنّ الأربعة مثلا ماهيّة إذا وجدت في الخارج كانت زوجا ، كما ذكر في الجواب عن الإشكال في الجوهر والعرض ولوازم الوجود الخارجيّ ، بل في الذّاتيّات أيضا ، لأنّ الأربعة بحسب وجودها الذّهنيّ أيضا تلزمها الزّوجيّة ، مع أنّه قد ظهر ممّا تقرّر سابقا من أنّ وجودها في الذّهن من حيث حصولها في نفس جزئيّة نوع وجود عينيّ لها. بل نقول على تقدير القول بوجود ماهيّات الأشياء في الذّهن ، تكون ماهيّة الممتنع أيضا موجودة فيه إذا حصلت في العقل ، فإنّه ـ كما قرّرت سابقا ـ وإن لم يكن للممتنع حقيقة موجودة في الخارج ، إلّا أنّ له ماهيّة موجودة في الذّهن ، وإذا حصلت في الذّهن وكانت حالّة فيه ، يلزم أن يكون محلّها ـ وهو النّفس ـ موصوفا بالامتناع ، وذلك باطل بالضّرورة.

٢٠٢

وبيان الجواب : أنّ الأربعة ـ مثلا ـ وإن كانت إذا حصلت في الذّهن أيضا تلزمها الزّوجيّة ، إلّا أنّ اتّصاف محلّها بالأربعيّة أو بالزّوجيّة من جملة آثارها المترتّبة على وجودها العينيّ ، فإنّ اتّصاف كلّ محلّ بما حلّ فيه من آثار وجوده العينيّ ، وقيام ذلك الحالّ بذلك المحلّ قياما خارجيّا ، يترتّب عليه جميع الآثار المطلوبة ، وليس للأربعة ولا للزّوجيّة ، بل ولا للثّلاثة ولا للفرديّة ولا للامتناع بحسب وجوداتها في العقل ، وجود عينيّ كذلك ، ولا قيام خارجيّ ، ولذلك لا يتّصف النّفس التي هي محلّ لها بحسب وجودها الذّهنيّ بها أصلا. نعم إنّ لها بحسب حصولها في نفس جزئيّة من حيث حصولها فيها وكونها صورا علميّة ، نحوا من الوجود العينيّ الضعيف الذي أثره إنّما هو اتّصاف محلّها بالعلم بها ، وهو هنا حاصل بالضّرورة. وأمّا سائر آثار الوجود العينيّ التي من جملتها اتّصاف المحلّ بالحالّ ، فلا يترتّب على وجودها في العقل مطلقا.

وبذلك يظهر الجواب عن الإشكال في كلّ لوازم الماهيّات ، وكذا في الممتنع ، فتدبّر.

وهذا الجواب الذي ذكرنا هو التحقيق في دفع الإشكال ، وعليه مدار ما ذكره جمع من الأفاضل : كالسّيّد الشّريف والمحقّق الدّواني والمحشّي الشّيرازيّ من الأجوبة ، وإن كانت عبارة بعضهم في ذلك لا تخلو عن خفاء كما يظهر على من راجع كلماتهم.

وأمّا الجواب الذي ذكره الشارح القوشجيّ بالفرق بين الحصول في الذّهن والقيام به ، فهو شيء قد تفرّد به ، ولا معنى محصّلا له ، لأنّ القيام بالذّهن لا معنى له إلّا الحصول فيه ، وكذا الحصول فيه لا معنى له إلّا القيام به ، فالفرق تحكّم. وتفصيل الإيراد عليه لا يسعه المقام.

وهذا الذي ذكرناه كلّه ، إنّما هو بيان الجواب عن الإشكال بالوجوه المفصّلة المذكورة ، على تقدير القول بحصول الأشياء بأعيانها في الذّهن ، كما هو المذهب الحقّ.

وأمّا الجواب عنه على تقدير القول بوجود الأشياء بأشباحها فيه ، فهو وإن كان ظاهرا أيضا ، لأنّ الموجود في الذهن على هذا القول ليس ماهيّة تلك الأشياء ، بل أشباحها والصّور المخالفة لها في كثير من اللوازم ، فلا بعد في أن لا يترتّب عليها ما يترتّب على

٢٠٣

حقائقها الموجودة في الخارج ، وعلى وجوداتها العينيّة. إلّا أنّ هذا المذهب لمّا كان مبنيّا على أصل غير أصيل ، كما أشرنا إليه فيما سبق ، لم نفصّل الجواب على تقديره.

وظنيّ أنّ القائلين بهذا المذهب كأنّه دعاهم إليه الفرار عن الإشكال بالوجوه المذكورة ، وكأنّهم حسبوا أنّها إنّما ترد على تقدير القول بوجود الأشياء بأعيانها في الذهن ، دون القول بوجودها بأشباحها فيه ، فلذلك ذهبوا إلى ما ذهبوا ، والله أعلم بالصّواب.

وحيث انتهى الكلام إلى هذا المقام ، فلنرجع إلى شرح كلام الشيخ الذي كنّا بصدد شرحه وتحريره ، فنقول : قوله (١) : «والحركة كذلك ماهيّتها (٢) أنّها كمال ما بالقوّة ، وليست في العقل حركة بهذه الصّفة» ـ إلى آخر ما ذكره ـ بيان نظير لمدّعاه ، وايراد شاهد على أنّ معنى الجوهريّة للجواهر ـ أي الوجود ـ لا في موضوع ، سواء كان ذاتيّا لها أو عرضيّا لازما لها ، لا يبطل بكون وجودها في موضوع في العقل ، بل معنى الجوهر وحدّه أنّه سواء كان في العقل أو لم يكن ، فإنّ وجوده في الأعيان ليس في موضوع.

وبيان الشهادة أنّه لا سترة في أنّ الحركة ماهيّتها وما هو المأخوذ في حدّها ، أنّها كمال ما بالقوّة ، ومعناه أنّها إذا وجدت في الأعيان تكون كمالا لما بالقوّة ، لا أنّها إذا وجدت في العقل أيضا ، تكون من حيث وجودها فيه بهذه الصّفة ؛ إذ ليست في العقل حركة بهذه الصّفة ، حتّى يكون في العقل كمال ما بالقوّة من جهة كذا ـ مثلا ـ حتّى يصير ماهيّتها محرّكة للعقل ، فإنّه لو كان في العقل حركة بهذه الصّفة ، لكانت صفة لمحلّها وهو العقل. فيلزم أن تكون هي محرّكة لمحلّها ، وأن يكون محلّها موصوفا بها حقيقة ، كما في محالّها التي هي محالّها بحسب الوجود العينيّ ، وهي حالّة فيها قائمة بها حلولا عينيّا وقياما خارجيّا. فيلزم أن يكون العقل متحرّكا وموصوفا بالحركة في كلّ مقولة ، حتّى في الأين مثلا ، وهذا باطل. بل إنّ معنى كون ماهيّة الحركة بهذه الصفة ، هو أنّها ماهيّة تكون

__________________

(١) الشفاء ـ الإلهيّات / ١٤٠ و١٤١.

(٢) في المصدر : ماهيّتها.

٢٠٤

في الأعيان ، وبحسب وجودها العينيّ كمالا لما بالقوّة ، وإذا حصلت ماهيّتها في العقل ، تكون أيضا بهذه الصّفة ، بمعنى أنّها في العقل ماهيّة تكون في الأعيان كمالا لما بالقوّة ، فليس يختلف كونها في الأعيان وكونها في العقل ، فإنّها في كليهما على حكم واحد ، حيث إنّها في كليهما ماهيّة توجد في الأعيان كمالا لما بالقوّة. فلو كنّا قلنا : إنّ الحركة ماهيّة تكون كمالا بالقوة في الأين ـ مثلا ـ لكلّ شيء يوجد فيه ، ثمّ وجدت في النّفس لا كذلك ، لم يلزم منه أن تكون حقيقتها مختلفة ، بل إنّ حقيقتها كما ذكر متّحدة. وهي أنّها بحسب وجودها العينيّ كمال لما بالقوّة ، سواء عقلت أم لم تعقل.

وحيث لا امتناع في ذلك ولا استبعاد فيه في الحركة ، كذلك ينبغي أن يكون لا امتناع ولا استبعاد في ذلك في الجوهر.

وقوله (١) : «وهذا كقول القائل إنّ حجر المغناطيس حقيقته أنّه حجر يجذب الحديد» ـ إلى آخر ما ذكره ـ إيراد نظير آخر وشاهد آخر. مفاده أنّه كما أنّ حقيقة الشيء لا تختلف بحسب اختلاف أحكامه بحسب الوجود العينيّ والوجود الذهنيّ ، إذا كان حكمه يترتّب عليه بحسب وجوده العينيّ ، وكان ذلك الحكم لا يختلف بحسب ذلك الوجود كما في الجوهر والحركة ، فكذلك لا يختلف حقيقة الشيء بحسب اختلاف أحكامه في وجوده العينيّ أيضا ، إذا كان حكمه الّذي يترتّب عليه بحسب وجوده العينيّ ممّا يكون مشروطا بأمر ومختصّا بحالة مخصوصة. كأن يكون لازما لوجوده الخارجيّ ، ويكون ترتّب ذلك الحكم عليه بالفعل مشروطا بشرط ، وإن كان من شأنه أن يكون له ذلك الحكم مطلقا ، وكان لا يختلف أصلا.

وبيان الشّهادة أنّ قول القائل : إنّ حجر المغناطيس حقيقته أنّه يجذب الحديد ، معناه : أنّه إذا وجد مقارنا لحديد جذبه ، فإذا وجد مقارنا لجسميّة كفّ الإنسان ولم يجذبه ، ووجد مقارنا لجسميّة حديد فجذبه ، فلم يجب أن يقال : إنّه مختلف بالحقيقة في الكفّ وفي الحديد ؛ بل هو في كلّ واحد منهما بصفة واحدة ، وهو أنّه حجر من شأنه أن

__________________

(١) الشفاء ـ الإلهيّات / ١٤١.

٢٠٥

يجذب الحديد ، فإنّه إذا كان في الكفّ أيضا ، كان بهذه الصّفة ، كما أنّه إذا كان عند الحديد أيضا ، كان بهذه الصفة.

وحيث لا امتناع ولا استبعاد في ذلك بحسب وجود واحد ، أعني الوجود الخارجيّ ، وكان لا يختلف بذلك حقيقة ذلك الشيء الواحد ، كذلك لا امتناع ولا استبعاد في ذلك بحسب الوجودين ، أعني الخارجيّ والذهنيّ ، ولا اختلاف حقيقة لذلك الشيء.

وحيث عرفت ذلك ، عرفت أنّ حال ماهيّات الأشياء في العقل أيضا بهذه الصّفة ، وليس إذا كانت في العقل في موضوع ، فقد بطل أن يكون في العقل ماهيّة ما في الأعيان ليست في موضوع.

وقوله (١) : «فإن قيل : قد قلتم إنّ الجوهر هو (٣) ماهيّة لا تكون في موضوع أصلا ، وقد صيّرتم (٤) ماهيّة المعلومات في موضوع. فنقول : قد قلنا : إنّه لا يكون في موضوع (٥) أصلا» إيراد وجواب عنه.

وتوجيه الإيراد : إنّكم قلتم : إنّ الجوهر هو ماهيّة لا تكون في موضوع أصلا ، وقد صيّرتم ماهيّة المعلومات من حيث كونها معلومة موجودة في الذّهن في موضوع ، فكيف هذا؟

وتوجيه الجواب أنّا حيث قلنا : إنّ الجوهر ما لا يكون بحسب وجوده العينيّ الذي يترتّب عليه جميع الآثار المطلوبة منه في موضوع والحال أنّ ماهيّة المعلومات الحاصلة في العقل من الجواهر ، ليست بحسب ذلك الوجود العينيّ في موضوع ، فقد قلنا : إنّ الجوهر ما لا يكون في موضوع أصلا بحسب وجوده العينيّ القويّ المعتبر في جوهريّته ، وعرضيّة تلك الماهيّات بحسب وجودها الذهنيّ لا ضير فيها ، كما بيّنّا وجهه.

وقوله (٢) : «فإن قيل : فقد (٦) جعلتم ماهيّة الجوهر أنّها تارة تكون عرضا وتارة جوهرا ،

__________________

(١) الشفاء ـ الإلهيّات / ١٤٢.

(٣) في المصدر : الجوهر هو ماهيّة ...

(٤) ماهيّة ...

(٥) موضوع في الأعيان ...

(٦) قد جعلتم ماهيّة.

(٢) الشفاء ـ الإلهيّات / ١٤٢.

٢٠٦

وقد منعتم هذا. فنقول : إنّا منعنا أيضا أن يكون (٢) ماهيّة شيء توجد في الأعيان مرّة عرضا ومرّة جوهرا ، حتّى تكون في الأعيان تحتاج إلى موضوع ما ، وفيها لا تحتاج إلى موضوع البتّة ، ولم نمنع أن (٣) تكون معقولة تلك الماهيّة عرضا ، أي أن تكون موجودة في النّفس لا كجزء».

إيراد آخر وجواب عنه أيضا

توجيه الإيراد : إنّكم حيث جعلتم ماهيّة الجوهر بحسب وجوده العينيّ لا في موضوع ، وبحسب وجوده العقليّ الذي هو نوع من الوجود العينيّ في موضوع ، فقد جعلتم ماهيّة الجوهر تارة جوهرا وتارة عرضا ، فكيف هذا وقد منعتم ذلك؟

وبيان الجواب : إنّا قد منعنا أن يكون ماهيّة الجوهر تارة جوهرا وتارة عرضا بحسب وجود واحد عينيّ قويّ هو المعتبر في جوهريّته ، وهو الوجود العينيّ الخارجيّ الذي يترتّب عليه جميع أحكامه وآثاره ، مع قطع النّظر عن الوجود العقليّ ، وإن كان هو باعتبار ما وجودا عينيّا ضعيفا لا يترتّب عليه جميع آثاره ، بل بعضها كما ذكرنا فيما مضى ، ولم نمنع أن يكون ماهيّة الجوهر بحسب الوجود العينيّ القويّ الخارجيّ جوهرا ، وبحسب الوجود العقليّ ـ وإن كان هو نوعا من الوجود العينيّ الضعيف ـ عرضا ، أي موجودة في النّفس لا كجزء.

وقوله (١) : «ولقائل أن يقول : فماهيّة (٤) العقل الفعّال والجواهر المفارقة أيضا كذا يكون حالها ، حتّى يكون المعقول منها عرضا» ـ إلى آخر ما ذكره ـ إيراد آخر على ما ذكره.

بيانه : أنّ ما ذكرت من أنّه يمكن أن يكون ماهيّة شيء موجود في الأعيان جوهرا لا يحتاج إلى موضوع ، وإن كانت معقولة تلك الماهيّة تصير عرضا ، أي أن تكون في النّفس لا كجزء ، على تقدير تسليمه ، إنّما يسلّم فيما إذا كانت الصّورة العقليّة منها مخالفة ،

__________________

(١) الشفاء ـ الإلهيّات / ١٤٢.

(٢) في المصدر : تكون ماهيّة ...

(٣) أن يكون معقول تلك الماهيّات يصير عرضا ، أي تكون ...

(٤) فماهيّة.

٢٠٧

ـ ولو بوجه ـ للحقيقة الخارجيّة الموجودة في العين ؛ كأن تكون الصورة العقليّة والماهيّة المجرّدة ماهيّة منتزعة من أمر أو أمور حاصلة في الأعيان ، ينتزعها العقل منها بعد تجريدها عن العوارض المكتنفة تجريدا يتولّاه العقل ، كما في المعنى الكلّيّ من الجوهر المنتزع من الجواهر الشّخصيّة العينيّة بعد تجريدها عن العوارض والمشخّصات.

وأمّا فيما لا تكون هناك مخالفة بين الصّورة المعقولة والحقيقة العينيّة ، فلا نسلّم ذلك. وهذا كما في الصورة العقليّة من العقل الفعّال والجواهر المفارقة ، حيث إنّ المعقول منها لا يخالفها ، إذ المعقولة منها لذاتها معقولة من غير احتياج إلى تجريد عن العوارض المشخّصة ، لأنّها لذاتها مجرّدة عن المادّة وعلائقها وعوارضها ، لا بتجريد يحتاج أن يتولّاه العقل.

ومحصّل الجواب عن هذا الإيراد : أنّ الصّورة العقليّة من العقل الفعّال والجواهر المجرّدة أيضا مخالفة لحقائقها الخارجيّة ، لأنّ الصورة العقليّة منها أيضا عبارة عن ماهيّاتها المجرّدة عن وجوداتها العينيّة ، وعن العوارض المكتنفة ، كما في الصّورة العقليّة الكلّيّة المنتزعة من الجزئيات المادّيّة ، حيث إنّ الشيء بوجوده العينيّ الذي يترتّب عليه آثاره ، لا يحصل في الذهن ، وإلّا لكان الذهن خارجا ، ولم يحصل فرق بين الموجود العينيّ والموجود الذهنيّ.

وحينئذ ففي كلتا الصّورتين يجب أن يكون تجريد عن الوجود الخارجيّ وعن تلك العوارض ، إلّا أنّ التجريد عن الوجود الخارجيّ في كلتا الصورتين ، إنّما هو بعمل يتولّاه العقل. وأمّا التجريد عن العوارض ، فهو في الصّورة الكلّيّة المنتزعة انّما بتعمّل العقل ، وفي تلك المجرّدات ليس بتعمّله ، إذ هي في حدّ ذاتها مجرّدة عنها ، بل إنّما هي تحصل في العقل مجرّدة عنها كما هي عليه في الواقع ، فيكون قد كفي المئونة في تجريدها.

فعلى هذا ، فأصل التجريد مشترك بينهما وهو في تلك الصّور الكلّيّة بالقياس إلى الوجود الخارجيّ وتلك العوارض جميعا بعمل العقل ، وفي المعقول من تلك الجواهر المجرّدة المفارقة بالنسبة إلى الوجود الخارجيّ بعمل العقل أيضا ، وبالنسبة إلى تلك

٢٠٨

العوارض لا بعمله. وهذا كما أنّ المعقول من الممتنعات والمعدومات في الخارج ليس إلّا ماهيّاتها المجرّدة عن الوجود الخارجيّ وعن توابعه ، ومع ذلك فليس يحتاج العقل إلى عمل في تجريدها عنها ، إذ ليس لها وجود عينيّ أصلا حتّى يجرّدها العقل عنه ، بل هي إنّما تحصل في العقل مجرّدة عنها على ما هي عليه في الواقع.

فظهر أنّ المعقول من تلك الجواهر المفارقة أيضا يخالف حقيقتها بوجه ، كما في تلك الصّور الكلّيّة ، فجاز أن تكون حقائقها جواهرا ، والمعقول منها عرضا ، وحينئذ فلا نقض بالجواهر المجرّدة التي وجودها زائد على ذواتها ، ويمكن تجريدها عنه.

نعم لو كان شيء من الأشياء ممّا لا يمكن تجريده عن الوجود الخارجيّ ، لأجل كون وجوده عين ذاته ، وكون تجريد الشيء عن نفسه ممتنعا ، كما فى ذات الواجب تعالى ، فليس هناك حقيقة وماهيّة متغايرتان ، بل أنّ ماهيّته عين حقيقته ، وهما عين وجوده بالحقيقة ، ولا يمكن هناك حصول ماهيّته مجرّدة عن الوجود الخارجيّ في العقل ، حتّى يمكن له أن يدركه. ولذلك قالوا : إنّه لا يمكن للعقل إدراك كنه ذاته تعالى ، ومعناه : أنّه ليس له كنه ، حتّى يمكن أن يعقل ، إذ الكنه عبارة عن الماهيّة المجرّدة عن الوجود الخارجيّ ، وهي منفيّة في شأنه تعالى وتقدّس. لا أنّ له كنها ولا يمكن إدراكه ؛ فتبصّر. وهذا الذي ذكرنا هو تلخيص السّؤال والجواب مع بعض زوائد.

وأمّا تحرير كلام الشيخ فيهما ، فهو أنّه لقائل أن يقول : فماهيّة العقل الفعّال والجواهر المجرّدة المفارقة أيضا يلزم أن يكون حالها ـ كما ذكرت في الجواهر ـ غيرها ، من كون حقائقها جواهر والمعقول منها عرضا ، إلّا أنّ ذلك لا يصحّ فيها ، لأنّ المعقول منها لا يخالفها ، لأنّها لذاتها معقولة من غير احتياج إلى تجريد في تعقّلها. وحيث لم يكن هناك اختلاف في الذّات ، باعتبار الوجود العينيّ والذّهنيّ ، فمن أين يحصل الاختلاف بالجوهريّة والعرضيّة؟

فنقول في جواب هذا القائل : إنّه ليس الأمر كما ذكرت : من أنّ المعقول منها لا يخالفها ؛ فإنّ معنى قولنا : «إنّها لذاتها معقولة» هو تعقّل ذاتها بذاتها ، وإن لم يعقلها غيرها ،

٢٠٩

وأيضا أنّها مجرّدة عن المادّة وعلائقها لذاتها لا بتجريد يحتاج أن يتولّاه العقل.

وأمّا إن قلنا : إنّ هذا المعقول منها يكون من كلّ وجه هي أو مثلها ، أو قلنا : إنّه ليس يحتاج إلى وجود المعقول منها ، إلّا أن يوجد ذاتها بهويّتها العينيّة الخارجيّة في النّفس ، وتكون تلك الهويّة الخارجيّة هي بعينها صورة علميّة حاصلة للنّفس ، فقد أحلنا ، أي قلنا قولا محالا ، فإنّ ذاتها بوجودها العينيّ مفارقة عن المادّة وعن علائقها ، حتّى عن الحصول في شيء ولشيء ، ولا يصير نفس ذاتها بوجودها العينيّ صورة لنفس إنسان ، وصورة علميّة لها ، ولو صارت ذاتها بوجودها العينيّ صورة لنفس ، لكانت تلك النّفس قد حصل فيها صورة كلّ شيء ، وعلمت كلّ شيء بالفعل ، إذ ذات العقل الفعّال مثلا بوجوده العينيّ ذات حصل فيها صورة كلّ شيء وعالمة بكلّ شيء.

فإذا حصلت هي بوجودها العينيّ الذي يتبع حصولها حصول ما فيها بأجمعها في نفس ، يلزم أن يكون النّفس الحاصلة هي فيها عالمة بكلّ شيء بالفعل والوجدان يشهد بكذبه.

وأيضا لو كانت كذلك ، لكانت تصير ذات العقل الفعّال والجواهر المجرّدة صورة لنفس واحدة ، وتبقى النّفوس الاخرى ليس لها الشيء الذي تعقله ، حيث إنّ المفروض أنّه قد استبدّ بها نفس واحدة ، وانفردت بحلولها فيها وحصولها لها وبكونها صورة لها ، فلم يمكن أن تكون هي صورة لنفوس اخرى ، ولا أن تعقلها نفس اخرى غير النّفس العاقلة لها أوّلا. إذ لو أمكن ذلك لأمكن كون شيء واحد بالعدد موجود بوجود عينيّ أصيل منفرد بذاته صورة لموادّ كثيرة كنفوس متعدّدة ، لا بأن يؤثّر فيها ، بل بأن يكون هو بعينه بوجوده العينيّ الشخصيّ منطبعا في تلك المادة وفي أخرى وفى أخرى ، وهذا محال بأدنى تأمّل ، قد أشرنا إلى امتناعه في الكلام في النّفس وفي مواضع أخرى.

نعم لو كان شيء واحد بالعدد صورة لموادّ كثيرة ونفوس متعدّدة ، بأن يؤثّر فيها ، كان يحصل في كلّ مادة منها وفي كلّ نفس من تلك النفوس صورة منتزعة منه ، أي ماهيّته المجرّدة عن الوجود العينيّ وعن العلائق المادّية ، وتتأثّر تلك المادّة وتلك النّفس عنها

٢١٠

وتقبلها.

وبعبارة أخرى أن تنتزع كلّ نفس من تلك النّفوس صورة من ذلك الشيء الواحد بالعدد ، وماهيّة مجرّدة منه ، وتحصّلها وتجعلها حاصلة في ذاتها فتقبلها ، لكان لا مانع من ذلك ولا استحالة فيه.

وحيث عرفت أنّ ذوات تلك الأشياء ـ أي العقل الفعّال والجواهر المجرّدة ـ لا توجد بوجوداتها العينيّة في النّفس إذا عقلتها ، عرفت أنّها عند كونها معقولة إنّما تحصل في النّفس ماهيّاتها المجرّدة عن الوجود العينيّ وعن لواحقه ، كما في غيرها من المعقولات ، فثبت عندك إذن أنّ تلك الأشياء إنّما تحصل في القوى البشريّة معاني ماهيّاتها المجرّدة ، لا ذواتها بوجوداتها الشخصيّة العينيّة ، ويكون حكمها كحكم سائر المعقولات من الجواهر التي هي ماهيّات كلّيّة مجرّدة عن الوجود الخارجيّ وعن المادّة وعلائقها إلّا في شيء واحد ، وهو أنّ تلك الجواهر المادّيّة تحتاج إلى تقشيرات وتجريدات عن الوجود العينيّ وعن المادّة وعن علائقها حتّى يتجرّد منها تعقّل ، وهذه الأشياء والذوات العقليّة لا تحتاج إلى شيء غير أن يوجد المعنى كما هو فينطبع بها النّفس ، أي لا تحتاج إلى تقشير وتجريد عن المادّة وعلائقها ، لكونها في حدّ ذاتها مجرّدة عنها ، وقد كفت النّفس المئونة في تجريده عنها ، فتنطبع هي كما هي عليه فيها ، وإن كانت تحتاج إلى تجريد عن الوجود العينيّ ، كما فى غيرها من المعقولات.

وحيث تحقّقت ما حقّقناه ، تبيّنت أنّ هذا الذي قلناه إنّما هو نقض حجّة المحتجّ ، أي القائل المذكور الذي ادّعى أنّ المعقول من العقل الفعّال والجواهر المفارقة لا يخالفها ، فلا يجوز أن يكون عرضا ، وليس فيه إثبات ما يذهب إليه.

ثمّ إنّ قول الشيخ (١) : «فنقول : إنّ هذه المعقولات سنبيّن من أمرها بعد ، أنّ ما كان من الصّور الطبيعيّة والتعليميّات ، فليس يجوز أن يقوم مفارقا بذاته». ـ إلى آخر ما ذكره في الفصل ـ إعادة بيان لما ذكره قبل ، مع زوائد ومزايا ، وفيه إشارة إلى أمور.

__________________

(١) الشفاء ـ الإلهيّات / ١٤٣.

٢١١

منها : أنّ المعقول من الجواهر المفارقة إنّما يكون ماهيّاتها المجرّدة عن الوجود العينيّ وعن المادّة وعلائقها.

ومنها : أنّ المعقول من الأشياء المادّية التي قيامها بالمادّة بحسب الوجود العينيّ كذلك أيضا ، سواء كانت تلك الأشياء بحسب الحدّ أيضا متعلّقة بالمادّة ، كالصّور الطبيعيّة ، أو لم تكن بحسب الحدود متعلّقة بها ، كالتّعليميّات ، مثل التقعير والتربيع والتثليث وأمثالها ممّا هو بحسب الحدّ يمكن أن يتصوّر مجرّدا عن المادّة ، لكنّه بحسب الوجود الخارجيّ متعلّق بها. وأنّ القول بأنّ الصّور الطبيعيّة والتعليميّات يجوز أن تقوم مفارقة بذاتها ، وأنّ العقل ينالها مجرّدة من غير أن يتعرّض لمادّة تقارنها ، حيث إنّ العقل لا ينال إلّا المفارقات عن المادّة ـ وهي بهذا الاعتبار معلومة ـ باطل ، وهذا القول هو ما حكاه في «الشفاء» عن أقوام من الأوائل ؛ قال (١) : «وظنّ (٢) قوم أنّ القسمة توجب وجود شيء في كلّ شيء ، كإنسانين في معنى الإنسانيّة ، إنسان فاسد محسوس ، وإنسان معقول مفارق أبديّ لا يتغيّر ، وجعلوا لكلّ واحد منهما وجودا ، فسمّوا الموجود المفارق موجودا (٣) مثاليّا ، وجعلوا لكلّ واحد من الأمور الطبيعيّة صورة مفارقة هي المعقولة ، وإيّاها يتلقّى العقل ، إذ كان المعقول أمرا لا يفسد ، وكلّ محسوس من هذه فهو فاسد.

وجعلوا العلوم والبراهين تنحو نحو هذه وإيّاها تتناول. وكان المعروف بأفلاطون ومعلّمه سقراط يفرطان في هذا الرأي ، ويقولون (٤) : إنّ للإنسانيّة معنى واحدا موجودا تشترك (٥) فيه الأشخاص وتبقى (٦) مع بطلانها ، وليس هو المعنى المحسوس المتكثّر الفاسد ، فهو إذن المعنى المعقول المفارق.

وقوم آخرون لم يروا لهذه الصّورة مفارقة بل لمباديها ، وجعلوا الأمور التعليميّة التي تفارق بالحدود مستحقّة للمفارقة بالوجود ، وجعلوا ما لا يفارق بالحدّ من الصّور الطبيعيّة لا يفارق بالذّات ، وجعلوا الصّور الطبيعيّة إنّما تتولّد بمقارنة تلك الصّور التعليميّة للمادة ،

__________________

(١) الشفاء ـ الإلهيّات / ٣١٠ و٣١١.

(٢) في المصدر : فظنّ ...

(٣) وجودا مثاليّا ...

(٤) ويقولان ...

(٥) يشترك ...

(٦) ويبقى.

٢١٢

كالتقعير فإنّه معنى تعليميّ ، إذا (١) قارن المادة صارت فطوسة ، وصار معنى طبيعيّا ، وكان للتقعير من حيث هو تعليميّ أن يفارق (٢) ، ولم يكن له من حيث هو طبيعيّ أن يفارق.

وأمّا أفلاطون فأكثر ميله إلى أنّ الصّور هي المفارقة ، وأمّا التعليميّات فإنّها عنده معان بين الصّور (٣) وبين المادّيّات ، فإنّها ، وإن فارقت في الحدّ ، فليس يجوز عنده أن يكون بعد قائم لا في مادّة. ـ إلى آخر ما ذكره في ذلك الفصل ـ.

وذكر مذاهب أخرى في ذلك وأبطلها وناقضها.

وبالجملة ، ففيما ذكره هنا إشارة إلى إبطال ما حكاه ثمّة وأبطله ، أي إلى أنّ القول بالمثل التي قال بها أفلاطون وغيره ، وقالوا أنّها قائمة بالذات مجرّدة عن الموادّ ، وهي بهذا الاعتبار معقولة من الأشياء المادّيّة ، سواء صورا طبيعيّة أو تعليميّات ، باطل كما أبطلناه في موضع آخر ، وعلى تقدير تسليم جواز كونها مفارقة الذّات ، فهي أيضا لا يمكن أن تكون بوجودها العينيّ علما ولا معلوما لنا ، بل المعقول منها أيضا إنّما هو ماهيّاتها المجرّدة ، كما في الذوات المفارقة.

ومنها أنّ الصّورة العلميّة الحاصلة من كلّ شيء ، مجرّد أو مادّيّ ، جوهر أو عرض ، فهي عرض في النّفس ، كما مرّ. وهذا الذي ذكرنا إنّما هو بيان مقاصده في هذا المقام.

وأمّا تحرير كلامه ، فهو أنّ هذه المعقولات مطلقا سنبيّن من أمرها بعد في موضع نبطل فيه المثل الأفلاطونيّة ونحوها ، أنّ ما كان من الصّور الطبيعيّة والتعليميّات ، فليس يجوز أن يقوم مفارقا بذاته ، بل يجب أن يكون هو في وجوده العقليّ وبحسب كونه معلوما في عقل أو في نفس ، وما كان من أشياء مفارقة عن المادّة بحسب وجوده العينيّ كالذوات المجرّدة ، فنفس وجود تلك المفارقات مباينة لنا ، ليس هو علمنا بها ، أي ليس وجودها العقليّ ووجودها من حيث كونها معلومة لنا حاصلة في عقولنا نفس وجودها لنا بوجودها العينيّ ، الذي هي بذلك الوجه مباينة لنا ، ولا يمكن أن تصير صورة لنفس إنسان كما مرّ ، بل يجب أن نتأثّر عنها ، أي أن تحصل ماهيّاتها لنا ، بحيث يمكن أن تصير صورة

__________________

(١) في المصدر : فإذا قارن ...

(٢) وإن لم يكن ...

(٣) الصّور والمادّيّات.

٢١٣

لنفوسنا ، وتقبلها وتتأثّر عنها ، فيكون ما نتأثّر عنها ، أي تأثرنا عنها وانفعال نفوسنا عنها ، أو الشّيء الذي به نتأثّر عنها ، أي الصورة العلميّة والكيفيّة الحاصلة في نفوسنا هو علمنا بها ، أي منشأ لحصول العلم بها وانكشافها علينا ، وتكون تلك الماهيّة الحاصلة معلومة لنا كالأمر الخارجيّ. وكذلك لو كانت صور مفارقة وتعليميّات مفارقة وجوّزناها ، فإنّما يكون علمنا بها هو ما يحصل لنا منها من التأثّر ، أو الكيفيّة الحاصلة ، ولم تكن أنفسها بحسب وجوداتها العينيّة المفارقة المباينة لنا ، توجد لنا منتقلة إلينا ، لأنّا قد بيّنا بطلان هذا في مواضع ، وقد بيّنا فيما سلف أيضا أنّ الموجود العينيّ بوجوده العينيّ لا يمكن أن يحصل في نفس ، ولا أن يصير صورة لنفس ، بل الموجود لنا من تلك الصورة المفارقة أيضا ـ كما في غيرها من الذوات المجرّدة ـ هي الآثار الحاصلة منها الحاكية لا محالة ، وهي ماهيّاتها المجرّدة.

وبالجملة ، فتلك الآثار الحاكية لها هي علمنا بها باعتبار ، ومعلومة لنا باعتبار آخر.

وذلك إمّا أن يحصل لنا في أبداننا وأجسامنا أو في نفوسنا.

والأوّل باطل ، إذ قد بيّنا في موضعه استحالة حصول ذلك في أبداننا ، حيث إنّ الوجود في المادّيّ ـ من حيث هو موجود في المادّيّ ـ لا يكون إلّا مادّيّا ، وهذا باطل ، إذ قد بيّنا في مواضع ـ وسنبيّن أيضا ـ أنّ تلك المعقولات من حيث كونها معقولات مجرّدة عن المادّة ، فبقي أنّها تحصل في نفوسنا.

ثمّ نقول : إنّ تلك المعقولات الحاصلة في النّفس ، لأنّها في الحقيقة آثار في النّفس لا ذوات تلك الأشياء المعقولة ، حيث إنّ ذواتها بوجوداتها لا تحصل للنّفس ، ولا أشياء أخرى هي أمثال لتلك الأشياء ، قائمة تلك الأمثال بذواتها لا في موادّ بدنيّة أو نفسانيّة. حيث إنّها لو كانت كذلك ، يلزم أن يكون ما لا موضوع له يتكثّر نوعه بلا سبب يتعلّق به بوجه ، لأنّ الصّورة العلميّة من حيث كونها صورة علميّة ، وإن كانت حاصلة من ذات واحدة ، فهي باعتبار تعدّد النّفوس التي هي حاصلة فيها متعدّدة متكثّرة ، وإذا كانت قائمة بذاتها لا في موادّ بدنيّة أو نفسانيّة ، أي كانت بحيث لا موضوع لها بوجه ، يلزم أن يتكثّر

٢١٤

نوعها بلا سبب يتعلّق به بوجه ، وهو محال كما تبيّن في موضعه.

وحيث كان كذلك ، فهي قائمة إمّا في موادّ بدنيّة أو نفسانيّة.

والأوّل باطل ، فبقي أن تكون هي قائمة في موادّ نفسانيّة ، أي قائمة في النفس ، بحيث كانت النّفس موضوعة لها ، فثبت أنّها أعراض في النّفس ، وهذا هو المطلوب. وقد تمّ بذلك تحرير كلام الشيخ واتّضح بيان بعض ما كنّا بصدده ، من بيان معنى الإدراك وكيفيّته ، وبيان أصناف الإدراكات التي للإنسان وكيفيّة إدراك المعاني الكلّيّة وتعقّل المعقولات.

ومنه اتّضح بيان كون المعاني الكلّيّة والمعقولات الحاصلة في النّفس بذاتها مجرّدة عن المادّة وعلائقها ، وهذا أيضا أحد المقاصد في هذا الباب.

والحاصل أنّه اتّضح أيضا بما ذكرنا ، أنّ ما يحصل في العقل من الأشياء المعقولة إنّما هو ماهيّاتها مجرّدة عن المادّة وعن علائقها ، سواء كان ذلك لا بتجريد يتولّاه العقل ، بل بوجود المعنى كما هو عليه فيه ، كما في المعقول من الذوات المفارقة عن المادّة ، وبتجريد يتولّاه العقل ، كما في غيرها من المادّيّات. فلا يقتضي ذلك المعقول مطلقا ـ من حيث هو معقول ـ ما يقتضيه المادّيّ من حيث هو مادّيّ ، من حدّ من الكمّ والكيف والوضع والأين ونظائرها ممّا هو تابع للمادّة. بل الماهيّة المعقولة من حيث هي معقولة مجرّدة عن المادّة وعن تلك اللواحق أجمع ، وإن كانت بحسب وجودها العينيّ ممّا يعرضها تلك اللواحق التابعة للمادّة. فالذوات المجرّدة المفارقة إن كان لها وجود في الخارج ، فهي كما أنّها في الوجود العينيّ مجرّدة عن المادّة وتوابعها ، كذلك هي في وجودها العقليّ مجرّدة عنها. إذ المفروض أنّها كما هي عليه منطبعة في النّفس. وكذلك الإنسان مثلا ، وإن كان بحسب وجوده العينيّ شخصا جزئيّا محفوفا بالمادّة وعوارضها ، لكنّه بحسب وجوده العقليّ ليس كذلك ، بل هو أمر كلّيّ مجرّد عنها. لأنّه لو كان في وجوده العقليّ مادّيّا محفوفا بتلك العوارض ، أي محفوفا بمقدار معيّن وأين معيّن وكيف معيّن ووضع معيّن وغير ذلك ، لم يكن ملائما لما ليس له ذلك ، فلا يكون كلّيّا مشتركا بين كثيرين ، هذا خلف.

وحيث تحقّقت ما تلوناه عليك ، وتبيّنت أنّ الصّورة العقليّة مطلقا يجب أن تكون

٢١٥

من حيث وجودها العقليّ مجرّدة عن المادّة وعلائقها ، تبيّنت أنّ النّفس الناطقة الإنسانيّة التي هي مدركة بذاتها للصّور العقليّة المجرّدة ، وهي حاصلة فيها بذاتها ، يجب أن تكون هي أيضا مجرّدة عنها مثلها. إذ لو لم تكن هي مجرّدة مثلها ، بل كانت مادّيّة محفوفة بعوارض مادّيّة ، ولا أقلّ بوضع معيّن ، للزم أن تكون الصّورة العقليّة الحالّة فيها بذاتها العارضة لها غير مجرّدة أيضا ، لأنّ اختصاص المحلّ بالمقدار المعيّن والأين المعيّن والكمّ المعيّن والكيف المعيّن والوضع المعيّن يوجب اختصاص الحالّ فيه بذلك ، ولا أقلّ باختصاصه بالوضع المعيّن. هذا خلف

وبعبارة أخرى : الصّورة العقليّة ليست بذات وضع ، وكلّ حالّ في مادّيّ ، جسم أو جسمانيّ ، فهو ذو وضع ، فليس محلّها ـ أي النّفس ـ مادّية ، بل مجرّدة عنها مثلها.

وبما ذكرنا تمّ بيان أنّ النّفس الإنسانيّة الناطقة ـ من حيث هي ـ مدركة للمعاني العقليّة ، مجرّدة عن المادّة وعن توابعها ، مثل تلك الصّورة العقليّة ، إلّا أنّ تلك الصّور مجرّدة قائمة بغيرها هو النّفس ، والنّفس مجرّدة قائمة بذاتها. واتّضح البرهان على ذلك ، وهو أيضا من مقاصد الباب ، بل ما ينتهي إليه المقاصد الأخر.

ولا يخفى عليك أنّ هذا البرهان ـ على التّقرير الذي قرّرناه ـ برهان واضح تامّ لا يرد عليه شيء من الاعتراضات التى أوردوها عليه أو يمكن أن تورد.

في الاشارة إلى دفع شكوك وأوهام ربّما يمكن أن

تورد على دليل تجرّد النّفس الإنسانيّة الناطقة

مثل ما قيل : إنّ هذا البرهان مبنيّ على أنّ العلم والإدراك إنّما هو بار تسام صورة المعلوم والمدرك في ذات العالم والمدرك ، وهذا غير مسلّم ، لجواز أن يكون بانكشاف الأشياء على النّفس من دون ارتسام صورة فيها ، بل في مجرّد آخر ، فيلاحظها النّفس من هناك ، كما تدرك ما انتقش من الجزئيّات في آلاتها. بل يجوز أن يكون العلم مجرّد انكشاف ، من غير أن يرتسم صورة شيء في شيء أصلا.

٢١٦

فإنّ هذا الاعتراض مندفع عنه ، لأنّا قد بيّنّا فيما سبق أنّ العلم بالمعنى المصدريّ وإن كان عبارة عن انكشاف شيء على شيء ، لكنّه بمعنى ما يحصل به الانكشاف إنّما هو صورة حاصلة من شيء في شيء. وبيّنّا أيضا هنالك أنّه ما لم يحصل تلك الصّورة الحاصلة ، لا يحصل العلم ولا الإدراك مطلقا. إلّا أنّ الصّورة الحاصلة من الشيء الجزئيّ المادّيّ ، إنّما تحصل في آلات النّفس وبتوسّط حصولها فيها وإدراك قواها لها ، تكون هي مدركة للنّفس بالإدراك الحصوليّ ، إذا أخذ كونها صورة للمعلوم ومعلومه ، أو بالإدراك الحضوري إذا أخذ كونها علما وحاضرة بذاتها عند النّفس. والصّورة الحاصلة من المفارق الجزئيّ ، وكذا الصّورة العقليّة الكلّيّة ، إنّما تحصل في النّفس بذاتها ، فما لم تحصل تلك الصّورة الحاصلة المدركة في ذات المدرك ، لم يحصل الإدراك. فتلك الصّورة هي الأصل في كونها منشأ للإدراك والعلم ، وإن كان يحصل هناك انفعال خاصّ وإضافة خاصّة أو فعل خاصّ أيضا ، ولا نناقش في إطلاق اسم العلم أو الإدراك عليها.

فما ذكره هذا القائل ، من أنّ العلم يجوز أن يكون بمجرّد انكشاف الأشياء على النّفس من دون ارتسام صورها فيها ، بل في مجرّد آخر ، أو من دون ارتسام صورة شيء في شيء أصلا ، باطل.

وأيضا إنّا لا ننفي أن يكون صور الأشياء مرتسمة في مجرّد آخر كالعقل الفعّال مثلا ، فيلاحظها النّفس من هناك ، كما في حالة ذهولها عنها واتّصالها بالعقل الفعّال فيلاحظها فيه ، إلّا أنّا ندّعي أنّها عند ملاحظتها تلك الصورة فيه ، تحصل تلك الصّورة كما هي عليه في النّفس باتّصالها به ، وهذا معنى ملاحظتها إيّاها من هناك ، فتبصّر.

ومثل ما قيل : سلّمنا أنّ العلم بارتسام الصّورة ، لكن جاز أن لا تكون تلك الصّورة مساوية للمعلوم في تمام الماهيّة ، بل يكون كنقش الفرس على الجدار ، وحينئذ لا يكون هذه الصّورة مجرّدة ، بل المجرّد ما له هذه الصّورة. وليس يلزم من اتّصاف هذه الصّورة بالعوارض المادّيّة ، أن لا يكون ذو الصّورة مجرّدا عنها ، فإنّه أيضا مندفع عنه ، حيث إنّ ما ذكره مبنيّ على أنّ تلك الصّورة عبارة عن أشباح الأشياء ، كما هو عند القائلين بحصول

٢١٧

الأشياء بأشباحها في الذهن. وقد بيّنا بطلان هذا المذهب ، وبيّنا أنّ تلك الصورة عبارة عن ماهيّات الأشياء بأعيانها في الذهن مجرّدة عن المادة وعن علائقها ، فتذكّر.

ومثل ما قيل : سلّمنا كون تلك الصورة مساوية للمعلوم في تمام الماهيّة ، لكن لا نسلّم أنّ اتّصاف النّفس الناطقة بهذه العوارض يقتضي اتّصاف ما يحلّ فيها بها ، فإنّ اتّصاف المحلّ بصفة ، لا يوجب اتّصاف ما حلّ فيه بها. ألا يرى أنّ الجسم يتّصف بالبياض ، مع أنّ الحركة الحالّة فيه لا تتّصف به؟ سلّمناه ، لكنّ اتّصاف الصورة الحالّة في النفس بهذه العوارض من قبل محلّها ، لا ينافي تجرّدها عنها بحسب ذاتها. وبعبارة أخرى ، يمكن أن تكون تلك الصورة بالذّات مجرّدة ، وبتوسّط محلّها مادّيّة. أي أن يكون كونها مادّيّة بالعرض ، كما في الطبيعة من حيث هي ، فإنّ طبيعة الإنسان مثلا من حيث هي هي مجرّدة ، وهي من حيث وجودها في ضمن الأشخاص الخارجيّة مادّيّة.

ويؤيّد ذلك أنّه إذا جاز أن يكون الشيء بحسب وجوده العينيّ جوهرا ، وبحسب وجوده الذّهنيّ عرضا كما ذكرت ، فلم لا يجوز أن يكون الشيء بحسب ذاته من حيث هي ، أو بحسب ذاته من حيث الوجود العينيّ مجرّدا عن المادّة وتوابعها ، وبحسب وجوده الذّهنيّ مادّيّا محفوفا بها.

فإنّ هذا الاعتراض أيضا مندفع.

أمّا ما ذكره أوّلا ، فلأنّ اتّصاف الحالّ بصفة المحلّ إذا كان من شأن ذلك الحالّ أن يتّصف بتلك الصّفة أو بخلافها بالذات أو بالعرض ممّا لا يمكن إنكاره. وأمّا عدم اتّصاف الحركة بالبياض الذي موضعه الجسم الذي هو محلّها ، فإنّما هو لأجل أن ليس من شأن الحركة الاتّصاف بالبياض ولا بخلافه ، لا بالذّات ولا بالعرض.

وأمّا ما ذكره أخيرا ، فلأنّا قد بيّنّا فيما سبق ، أنّ تجرّد الصّورة العقليّة من غير الذّوات المفارقة إنّما هو في العقل ، باعتبار تجريد العقل تلك الماهيّة عن المادّة وعن عوارضها ، وأنّها بحسب الوجود الخارجيّ مادّيّة ومحفوفة بالعوارض المادّيّة ، فهي بحسب وجودها الذّهنيّ ، وكذا من حيث ذاتها من حيث هي التي هي بهذا الاعتبار حاصلة في العقل ،

٢١٨

مجرّدة ، وبحسب وجودها العينيّ مادّيّة. فكيف يمكن أن يكون الأمر بالعكس؟ أي أن يكون تلك الصّورة في العقل مادّيّة ، وبحسب وجودها العينيّ مجرّدة ، مع أنّ كلّ ذلك خلاف الفرض ، بل فيه التناقض.

وبيّنّا أيضا أنّ الصّورة العقليّة من الذّوات المجرّدة ، وإن كانت في الوجود العينيّ مجرّدة عن المادّة ، إلّا أنّها في الوجود العقليّ أيضا منطبعة ، كما هي عليه في النّفس من غير عروض شائبة مادّية عليها ، فكيف يمكن فيها أيضا أن تكون تلك الصّورة بحسب وجودها العقليّ ، أي من قبل محلّها مادّيّة؟ فإنّ ذلك أيضا خلاف المفروض ومناقض لما تبيّن.

وممّا ذكرنا يتلخّص برهان آخر على المطلوب. وقد ذكره الشيخ أيضا في «الشفاء» ، وهو أنّه : «لا يخفى أنّ النّفس تجرّد المعقولات الحاصلة من المادّيّات عن المادّة وعن علائقها من الكمّ المحدود والأين والكيف والوضع وسائر عوارض المادّة» ، فيجب أن ننظر في ذات هذه الصّورة المجرّدة عن الوضع ، كيف هي مجرّدة عنه ، إمّا بالقياس إلى الشيء المأخوذ منه ، أو بالقياس إلى الشيء الآخذ ، أعني أنّ وجود هذه الماهيّة المعقولة المتجرّدة عن الوضع ، هل هو في الوجود الخارجيّ أو في الوجود المتصوّر في الجوهر العاقل؟ ومحال أن تقول : إنّها كذلك في الوجود الخارجيّ ، لأنّها في الوجود الخارجيّ محفوفة بالعوارض الخارجيّة البتّة ، فبقي أن نقول : إنّما هي مفارقة للوضع والأين وسائر العوارض المادّيّة عند وجودها في العقل ، فإذا وجدت في العقل ، لم تكن مادّيّة ، وبالجملة ذات وضع وبحيث يقع إليها إشارة حسّيّة. فلا يمكن أن تكون حاصلة في شيء مادّيّ من جسم أو مقدار فيه أو نحو ذلك ، لأنّ الحاصل في المادّيّ لا يكون إلّا ذا وضع ، هذا خلف.

فثبت أنّ محلّ تلك المعقولات ـ وهي النّفس الناطقة الإنسانيّة ـ مجرّدة عن المادّة مثلها ، وهو المطلوب.

وبعبارة أخرى أنّ النّفس الناطقة الإنسانيّة تجرّد المعقولات عن المادّة وعوارضها ،

٢١٩

فتجرّدها إمّا لذاتها من حيث هي ذاتها ، أو لما أخذت هي منه ، أو من جهة الآخذ.

والأوّل يوجب أن لا يعتريها شيء من تلك العوارض بحسب وجودها العينيّ أيضا ، لأنّ ما بالذّات لا يتخلّف.

والثاني يستلزم التناقض.

وفي الأخير ثبوت المطلوب ، وهو وجود المعقولات في شيء غير جسم وجسمانيّ ، أي أنّ الجوهر العاقل الذي هو محلّ المعقولات ليس بجسم ولا هو قائم في جسم على أنّه قوّة فيه أو صورة له بوجه.

وهاهنا برهان آخر أيضا على هذا المطلوب ، وهو إن كان محلّ المعقولات جسما أو مقدارا من المقادير ، فإمّا أن يكون تلك الصّورة المعقولة تحلّ منه شيئا وحدانيّا غير منقسم بوجه ، أو تكون إنّما تحلّ منه شيئا منقسما.

والأوّل باطل ، لأنّ الشيء الذي لا ينقسم من الجسم بوجه إنّما هو النقطة ، والنقطة لا يمكن أن يكون محلّا للصّورة المعقولة ، لا لأجل أنّ النقطة عرض ، والعرض لا يكون محلّا لشيء ، حتّى يرد النّقض بأنّ الخطّ مع كونه عرضا محلّ النقطة ، وكذا السطح مع كونه عرضا محلّ للخط ، وكذا الجسم التعليميّ مع كونه عرضا محلّ للسّطح ، وكذا الحركة مع كونها عرضا هي محلّ للسّرعة والبطء. بل لأجل أنّ الحالّ الذي له وجود منفرد متميّز بالذّات ، كالصّورة العلميّة ، يجب أن يكون لمحلّه أيضا وجود منفرد متميّز بالذّات. والنقطة ليس لها (١) وجود منفرد كذلك ، لأنّه لو كان لها وجود كذلك ، لكانت جوهرا فردا ، وقد ثبت بطلانه.

وكذلك الثاني باطل ، لأنّه إذا كان محلّ الصّورة المعقولة من الجسم شيئا منقسما ، يجب أن تكون هي أيضا منقسمة بانقسامه.

وبيان ذلك يقتضي تمهيد مقدّمة مبيّنة في موضعها ، وهي أنّ المحلّ قد يكون بحيث لا يقتضي انقسامه انقسام الحالّ ، وقد يكون بحيث يقتضي.

__________________

(١) في الأصل «له» ، والظاهر ما أثبتناه.

٢٢٠