منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-341-1
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٥٦

«الشفاء» أيضا ، يشبه أن يكون كلّ إدراك إنّما هو أخذ صورة المدرك بنحو من الأنحاء ، وكذا بعض كلمات اخر منه ممّا نقلناه عنه أم لم ننقل ، فلعلّه نظر إلى الرابع ، وإلّا فلا فعل آخر للنّفس في إدراكها لشيء غير أخذ الصورة والتجريد من الوجود والمادّة وتوابعها ، كما هو معلوم بالضرورة الوجدانيّة. اللهمّ إلّا على مذهب من يقول : إنّ الله سبحانه خلق النّفس الإنسانيّة متوسّطة بين العالمين ، فجعل لها اقتدارا على إيجاد صور الأشياء وماهيّاتها في عالمها المتوسّط ، وأنّ لتلك الصورة حصولا تعلّقيّا بالنفس التي هي فاعلة لها موجدة إيّاها ، بل أنّ حصولها في أنفسها هو بعينه حصولها لفاعلها المفيض لوجودها ، وأنّ هذا هو معنى الإدراك ، والقائل به أعلم.

وبالجملة ، فهذه الاحتمالات الأربعة وإن كان يمكن الذّهاب إليها في بادئ النّظر على ما ذكرنا وجهها ، إلّا أنّ الحقّ هو الأوّل ، وهو أنّ الإدراك بمعنى ما يحصل به الإدراك الانتزاعيّ من مقولة الكيف ، لأنّ الإدراك قد يوصف بالمطابقة للخارج ويسمّى علما ، وقد يوصف بعدم المطابقة له ويسمّى جهلا ، وهذا لا يتصوّر في شأن الانفعال والفعل والإضافة ، بل إنّما يتصوّر في شأن الصورة الذهنيّة فقط ، مع أنّ الظاهر ـ كما أشرنا إليه ـ أنّ الأصل فى حصول الإدراك هو تلك الصورة ، وأنّ ما سواها ليس كذلك.

ثمّ إنّك بعد ما تبيّنت ما فصّلناه ، وتحقّقت ما حقّقناه ، اتّضح لك شرح ما نقلنا عن الشيخ في الكتابين من معنى الإدراك الحصوليّ وبيان كيفيّته ، إلّا أنّه بقي بعد شرح بعض كلماته فيها ، فحريّ بنا أن نشرحها :

فنقول : قوله فى «الشفاء» فى آخر كلامه في بيان معنى الإدراك (١) : «فنقول إنّ الحاسّ في قوّته أن يصير مثل المحسوس بالفعل ، إذ كان الإحساس هو قبول صورة الشيء مجرّدة عن مادّته فيتصوّر بها الحاسّ» ـ إلى آخر ما ذكره. كان معناه كما يدلّ عليه بعض كلماته الاخر أيضا ، وخصوصا كلامه في آخر الفصل الذي نقلنا في معنى الإدراك.

أنّ الإحساس لمّا كان هو قبول صورة الشيء مجرّدة عن مادّة ، أي قبول ماهيّة

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٥٣ ، الفصل الثاني من المقالة الثانية في الفنّ السادس.

١٨١

المحسوس التي هي منتزعة منه ، وهي كيفيّة حاصلة في الحاسّ كما ذكر ، سواء اطلق عليها اسم الصورة ، أو اسم الماهيّة ، أو اسم الحقيقة. أو اسم المعنى ، أو اسم مثال الحقيقة ، أو أمثال ذلك من الأسامي ؛ وكان الحاسّ بسبب قبوله لتلك الصورة الحاصلة فيه المنطبعة في ذاته يتصوّر بتلك الصورة ، ويتكيّف بتلك الكيفيّة ، ويتمثّل بذلك المثال ، ويتّحد مع تلك الماهيّة نوعا من الاتّحاد ، ويستكمل بها نحوا من الاستكمال بعد أن كان بالقوّة ، ويصير بها نوعا آخر بالفعل ، مثل اتّحاد الجسم بصورته النوعيّة ، واستكماله بها وصيرورته نوعا بالفعل بها بعد أن كان بالقوّة ؛ فيصير بذلك مثل المحسوس ، ومشاكلا له مجانسا إيّاه ، كان في قوّة الحاسّ أن يصير مثل المحسوس بالفعل.

وعلى هذا ، فالمبصر مثل البصر بالقوّة ، وكذلك الملموس والمطعوم وغير ذلك ، ففي كلّ ذلك يكون الحاسّ قبل حصول الإحساس ، مثل المحسوس بالقوّة ، وبعد حصوله مثله بالفعل. بل المحسوس أيضا يكون مثل الحاسّ ، فهما متّحدان نوعا من الاتّحاد ومتماثلان نوعا من التّماثل ، ولذلك يكون المحسوس الأوّل بالحقيقة هو الذي ارتسم في آلة الحسّ وإيّاه يدرك ، أي الصورة المتمثّلة في آلة الحسّ التي بتوسّطها يكون الشيء الخارجيّ محسوسا ، وهو يكون محسوسا ثانيا وبالعرض. ويشبه أن يكون إذا قيل : أحسست الشيء الخارجيّ ، كان معناه غير معنى أحسست في النّفس ، فإنّ معنى قوله : أحسست الشيء الخارجيّ ، أنّ صورته تمثّلت في حسّي ، وأنّه بحصول تلك الصورة وتمثّلها في آلة الحسّ حصل الإحساس بذلك الشيء الخارجيّ ، فكان إحساسه وإدراكه حصوليّا متعلّقا بما كان خارجا عن ذات المدرك. ومعنى أحسست في النّفس ، أنّ الصّورة نفسها ـ من حيث إنّها حاصلة في النّفس ـ تمثّلت في نفسي ، فكان إدراكها لها حضوريّا متعلّقا بما كان داخلا في ذات المدرك غير خارج عنها ، فلذا يصحّ في هذا الإدراك أن يقال : إنّ المدرك أدرك ذاته من وجه.

وإنّما قال : ومعنى أحسست في النّفس ، مع أنّ المناسب أن يقول : أحسست في الحاسّة ، حيث إنّ الكلام في ادراك الحواسّ ، إشارة إلى أنّ المدرك للمحسوسات وإن كان

١٨٢

هو الحاسّة أوّلا ، إلّا أنّ المدرك لها بالحقيقة هو النّفس أيضا وإن كان بواسطة الحاسّة ، كما في إدراك المعقولات ، إلّا أنّ المعقولات يرتسم صورها في النّفس بلا واسطة ارتسامها في شيء آخر ، بخلاف المحسوسات ، فإنّها ترتسم صورها في الحواسّ وفي آلاتها.

ثمّ إنّه حيث كان المحسوس الأوّل بالحقيقة هو الذي ارتسم في آلة الحسّ من الصّورة دون ذي الصورة الذي هو الشيء الخارجيّ ، وكانت الكيفيّات المحسوسة في الأجسام ، إن كان لها وجود في الأجسام موجودة فيها ، دون تلك الصورة التي هي المحسوسة بالحقيقة. فلذلك يصعب إثبات وجود تلك الكيفيّات في الأجسام ، حيث إنّ الأجسام التي هي موجودة فيها ، غير مدركة بالحقيقة ، وما هو مدرك بالحقيقة ليست تلك الكيفيّات موجودة فيه. إلّا أنّ هذه الصعوبة تزول بأنّا نعلم علما يقينيّا ـ وإن كان ذلك العلم اليقينيّ حاصلا من جهة إدراك صور الأجسام وماهيّاتها ـ أنّ في الوجود والطبيعة أجساما ذوات كيفيّات خارجيّة حاصلة فيها قائمة بها في الواقع. فإنّا نعلم قطعا أنّ الأجسام منها ما يتأثّر عنه الحسّ ، ومنها ما لا يتأثّر عنه الحسّ ؛ وذلك لا يكون إلّا بأن يكون بعض الأجسام مختصّا في ذاته بكيفيّة هي مبدأ حالة الحس دون الآخر ، وهذا الذي ذكرنا إنّما هو شرح كلام الشيخ ، وكأنّ فيه تلويحا وإشارة إلى أنّ التعقّل أيضا مثل الإحساس فيما ذكره ، حيث إنّ كلّا منهما نوع من الإدراك. وما ذكره في الإحساس إنّما هو لأجل كون الإدراك كذلك ، فيكون فيه إشارة إلى أنّ العاقل أيضا في قوّته أن يصير مثل المعقول بالفعل ، إذ كان التعقّل هو قبول صورة الشيء مجرّدة عن مادّته ، فيتصوّر بها العاقل ؛ فالمعقول مثل العاقل وكذا العكس ، وانّ المعقول بالحقيقة هو الذي ارتسم في القوّة العاقلة وإيّاه تدرك. ومعنى عقلت الشيء الخارجيّ ، أنّ صورته تمثّلت في العقل ، أي في النّفس العاقلة. ومعنى عقلت في النّفس ، أنّ الصورة نفسها تمثّلت في نفسي ، فيكون إشارة إلى أنّ مذهب الشيخ هو أنّ المعلوم بالذّات هو الصورة الحاصلة من الأمر الخارجيّ ، أي الصورة التي هي ماهيّة الأمر الخارجيّ من حيث إنّها ماهيّة حاصلة في الذّهن. ومن حيث إنّها معلومة لا من حيث إنّها صورة خاصّة قائمة بالنّفس الجزئيّة ، فإنّها

١٨٣

من هذه الحيثيّة علم لا معلوم ، وإلى أنّ الأمر الخارجيّ معلوم بالعرض وبتوسّط العلم بصورته ، وهذا موافق لمذهب الفارابي أيضا كما هو المنقول عنه ، وهذا هو الحقّ كما ينبّه الشيخ في الإحساس ، وأنّ القول بكون المعلوم بالذّات هو الأمر الخارجيّ ليس له وجه ، إلّا أن يكون مراد القائل به أنّ المقصود الأصليّ من العلم هو العلم بالشيء الخارجيّ ، وإن كان بتوسّط العلم بالشيء الذهنيّ ، فتدبّر.

في الإشارة إلى توجيه القول باتّحاد العاقل مع المعقول

وحيث عرفت ما ذكرنا في بيان معنى كلام الشيخ هنا ، عرفت أنّ القول باتّحاد العاقل مع المعقول كما هو رأي فورفوريوس من الأقدمين ، وتبعه جمع ، ربّما يمكن أن يؤوّل بالاتّحاد الذي يظهر من كلام الشيخ هنا ، وفصّلنا بيانه في الإحساس. وعلى هذا ، فذلك المذهب ليس بذلك البطلان الذي زعمه الشيخ ، وبذل جهده في إبطاله في كتاب «الإشارات» بما لا مزيد عليه. فإنّ ذلك الإبطال إنّما هو مبنيّ على إرادة الاتّحاد بين العاقل والمعقول الخارجيّ الذي هو معلوم بالعرض ، مع كونهما ذاتين متباينتين أو متغايرتين في الخارج ، حيث إنّ صيرورة شيء موجود بوجود منفرد مختصّ به شيئا آخر موجودا بوجود آخر مستحيل عند العقل ، وأمّا لو اريد به الاتّحاد بين العاقل والمعقول بالذّات الذي هو تلك الصّورة العقلية نوعا من الاتحاد كما بيّناه ، فله وجه ، وكأنّه هو مراد القائلين بذلك المذهب ، لكنّ الشيخ أعلم.

وهذا الذي ذكرنا من الفرق بين المدرك بالذّات والمدرك بالعرض ، إنّما هو في الإدراك الحصوليّ ؛ وأمّا في الإدراك الحضوريّ ، فليس هناك صورة علميّة وماهيّة مجرّدة عن الوجود الخارجيّ ، ولا إدراك بالعرض ؛ بل الإدراك هناك يتعلّق أوّلا وبالذّات بذلك الأمر الحاضر عند النّفس وهو مدرك بالذّات.

وبالجملة ، أنّه في الإدراك الحصوليّ يكون هناك ماهيّة مجرّدة عن الوجود العينيّ هي تكون مدركة بالذّات ، ويكون بتوسّطها الأمر الخارجيّ مدركا بالعرض ، ويكون تلك

١٨٤

الماهيّة تارة جزئيّة ، إن كان إدراك النّفس لها بتوسّط الحواسّ ؛ وتارة كلّية ، إن كان إدراكها لها بذاتها ؛ ويكون المدرك بالعرض ـ أي الأمر الخارجيّ ـ جزئيّا البتّة.

وأمّا في الإدراك الحضوريّ ، فليس الحال كذلك ؛ إذ ليست هناك ماهيّة مجرّدة ، بل المدرك بالإدراك الحضوريّ هو ذات ذلك الحاضر بوجوده العينيّ ، وهو لا يكون إلّا جزئيّا ؛ كما في علم النّفس بذاتها وبالصورة العلميّة الحاصلة فيها ؛ فإنّ لتلك الصورة أيضا في العقل نحوا من الوجود العينيّ وهي جزئيّة ، وسيأتي زيادة توضيح لذلك. فانتظر.

وإذا عرفت شرح قوله في «الشفاء» ، فاعلم أنّ ما ذكره في «الإشارات» من «أنّ إدراك الشيء هو أن يكون حقيقته متمثّلة عند المدرك يشاهدها ما به يدرك» ، كأنّه أراد بالحقيقة المتمثّلة تلك الماهيّة المجرّدة التي ذكرنا سابقا حالها.

وقوله : متمثّلة عند المدرك ، بإيراد كلمة «عند» دون كلمة «في» ، كأنّ فيه إشارة إلى أنّ المدرك بالحقيقة في كلّ إدراك هو النّفس ، والحقيقة المتمثّلة في الإدراك الحصوليّ ينبغي أن تكون متمثّلة عندها ، سواء كانت متمثّلة فيها نفسها ، كما في إدراك الكلّيّات والجزئيّات المفارقة ، أو في آلاتها وحواسّها ، كما في إدراك الجزئيّات المادّيّة ، فإنّه على التقديرين يكون ذلك التمثّل عندها ، أمّا على التقدير الأوّل فظاهر ، لأنّه إذا كان فيها يكون عندها أيضا ، وأمّا على التقدير الثاني فإنّ ذلك التمثّل ، وإن لم يكن في النّفس نفسها بل في آلتها ، إلّا أنّ التمثّل في الآلة تمثّل عند ذي الآلة أيضا ، لكون الآلة وما يتمثّل فيها حاضرة عنده غير غائبة عنه.

وقوله : «يشاهدها ما به يدرك» أي يشاهد تلك الحقيقة المتمثّلة ما به يدرك المدرك إيّاها ، إن قرأ «يدرك» بصيغة المضارع الغائب المذكّر المعلوم ، وما به تدرك تلك الحقيقة ، إن قرأ بصيغة المضارع الغائب المؤنّث المجهول. وعلى التقديرين فيكون «ما به يدرك» عبارة عمّا به يقع إدراك النّفس لتلك الحقيقة ، وهو ذات النّفس نفسها في إدراكها للكلّيّات ، وحواسّها وآلاتها في إدراكها للجزئيّات. فيكون إشارة إلى أنّ الإدراك ينقسم إلى إدراك بآلة ، وإلى ادراك بغير آلة بل بذات المدرك. وحينئذ ، ففيه مع ملاحظة قوله :

١٨٥

«متمثّلة عند المدرك» تنبيه على أنّه في القسم الأوّل ليس الإدراك هو كون الشيء حاضرا عند الحسّ فقط ، بل كونه حاضرا عند المدرك أي النّفس ، لحضوره عند الحسّ لا بأن يكون حاضرا مرّتين ، بل بذلك الحضور عند الحسّ الذي هو آلة النّفس ، حيث إنّ المدرك هو النّفس ولكن بواسطة الحسّ ، فتدبّر.

وقوله : «فأمّا أن تكون تلك الحقيقة نفس حقيقة الشيء الخارج عن المدرك إذا أدرك ـ إلى آخر ما ذكره ـ». كأنّ فيه إشارة إلى أنّ تلك الحقيقة المتمثّلة إن لم تكن خارجة عن ذات المدرك ، كملكات النّفس وصفاتها ، وكالصّورة العلميّة ، أي الماهيّة الحاصلة المتمثّلة المنتزعة من الشيء الخارجيّ من حيث إنّها علم لا من حيث إنّها معلومة ، كما سيجيء الفرق بينهما.

وبالجملة ، الحقائق التي وجوداتها العينيّة هي بعينها وجوداتها في الذهن من حيث إنّها قائمة به حاصلة فيه ، فالحقيقة المتمثّلة عند المدرك من جملة تلك الحقائق هي نفس حقيقتها من غير تجريد لها عن وجودها الخارجيّ ، بل هي حاصلة عند المدرك مع وجودها الخارجيّ العينيّ ، وليس الحاصل عنده صورها ولا أمثلتها.

وإن كانت خارجة عن المدرك ، فهي على قسمين كما أشرنا إليه سابقا :

قسم لا يكون له وجود بالفعل في الأعيان الخارجة ، كالممتنعات والممكنات بالذّات المعدومة في الخارج ، مثل كثير من الأشكال الهندسيّة ، بل كثير من المفروضات التي لا تمكن إذا فرضت في الهندسة ممّا لا يتحقّق أصلا. ففي هذا القسم تكون تلك الحقيقة المتمثّلة عند المدرك إذا أدركها هي نفس حقيقة الشيء الخارج عن المدرك ، أي نفس ماهيّاتها المجرّدة عن الوجود الخارجي لا تجريدا يفعله العقل ، بل إنّها ـ في حدّ ذاتها ـ مجرّدة عن الوجود الخارجيّ ، إذ ليس لها وجود خارجيّ فتتمثّل هي على ما هي عليه عند المدرك مجرّدة. وقد عرفت فيما تلونا عليك أنّ الممتنعات والمعدومات الممكنة وإن لم يكن لها حقيقة ، أي ماهيّة مأخوذة مع الوجود الخارجيّ ، لكنّها ممّا لها ماهيّة غير مأخوذ معها الوجود الخارجيّ ، وأنّ حقيقتها هي نفس تلك الماهيّة المجرّدة في حدّ

١٨٦

ذاتها عن الوجود العينيّ ولوازمه ، وهذا هو القسم الأوّل.

وقسم له وجود بالفعل في الأعيان ، ككثير من الأشياء الموجودة في الخارج ، وفي هذا القسم يكون تلك الحقيقة المتمثّلة عند المدرك مثالا من ذلك الشيء الخارجيّ مثالا غير مباين لذلك الشيء ، بل مناسبا له حاكيا آثاره ، بل عينه باعتبار الذّات أو مثالا غير مباين للمدرك ، أي غير حاصل عند المدرك من جهة وجوده العينيّ الذي هو بهذه الجهة مباين للمدرك ، ولا يمكن حصوله عنده ، بل حاصلا من جهة وجوده الذهنيّ الذي هو بهذه الجهة غير مباين له ويمكن حصوله عنده.

وبالجملة ماهيّته التي هي عينه من حيث الذّات ، لكنّها مجرّدة عن الوجود الخارجيّ وعن لوازمه وتوابعه تجريدا يفعله العقل ، فيرتسم ذلك المثال في ذات المدرك ، فيدركه أوّلا وبالذّات ، ويدرك الشيء الخارجيّ بواسطته ، وهذا هو القسم الثانيّ.

وهذا الذي ذكرنا إنّما هو شرح كلامه على ما يستفاد منه ظاهرا ، إلّا أنّ المحقّق الطوسيّ (ره) في شرحه للإشارات حمله على محمل آخر. قال في شرح هذا الكلام (١) :

«والأشياء المدركة تنقسم إلى ما لا يكون خارجا عن ذات (٢) ، وإلى ما يكون.

أمّا في الأوّل ، فالحقيقة المتمثّلة عند المدرك هي نفس حقيقتها.

وأمّا في الثّاني ، فهي تكون غير الحقيقة الموجودة في الخارج ؛ بل هي إمّا (٣) صور منتزعة من الخارج إن كان الإدراك مستفادا من خارج ، أو صورة حصلت عند المدرك ابتداء ، سواء كانت الخارجيّة مستفادة منها أو لم تكن. وعلى التقديرين ، فإدراك الحقيقة الخارجيّة هو حصول تلك الصورة الذهنيّة عند المدرك. واستدلّ على ذلك بقوله : فإمّا أن تكون تلك الحقيقة ـ أي المتمثّلة ـ نفس حقيقة الشيء الخارج من المدرك إذا أدرك ، أو يكون (٤) مثال حقيقته مرتسما في ذات المدرك غير مباين له. وقدّم إبطال (٥) القسم الأوّل على ذكر القسم الثاني ، فقال بعد ذكر القسم الأوّل : فتكون حقيقة ما لا وجود له بالفعل في

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ / ٣١٢ و٣١٣.

(٢) في المصدر : ذات المدرك ...

(٣) صورة ...

(٤) أو تكون ...

(٥) وقدّم إبطال القسم الثاني فقال.

١٨٧

الأعيان الخارجيّة مثل كثير من الأشكال الهندسيّة ، مثلا كالكرة المحيطة باثنتى (١) عشرة قاعدة مخمّسات ، بل كثير من المفروضات التي لا تمكن إذا فرضت في الهندسة ، كما يفرض مثلا من الممتنعات ليتبيّن (٢) به الخلف ، فيكون (٣) تلك الحقيقة ممّا لا تتحقّق أصلا ، إذ لا حقيقة لها في الخارج.

ولمّا كانت ممّا (٤) يدرك ، فعلم أنّها موجودة لا في الخارج بل عند المدرك وفيما لا يباينه. فبإبطال القسم الاوّل تحقّق (٥) الثاني. وأشار إلى ذلك بقوله «وهو (٦) الثاني» ، والمثال في قوله «أو يكون مثال حقيقته» هو الصّورة المنتزعة ، أو الصّورة التي لا تحتاج إلى الانتزاع من الشيء الذي لو كان في الخارج لكان هو فهذا بيان ما قاله الشيخ» ـ انتهى كلامه (ره) ـ.

كلام مع المحقّق الطوسيّ

وأقول : إنّ ما ذكره (ره) لا غبار عليه ، إلّا أنّ حمل هذا الكلام على الاستدلال المذكور بإبطال القسم الأوّل كأنّه لا يلائمه سياق ظاهر كلام الشيخ ، بل إنّ ظاهر سياقه يدلّ على أنّ الأشياء الخارجة عن ذات المدرك تكون على قسمين ، وأنّ حقيقتها المتمثّلة عند المدرك تكون على نوعين كما حملنا عليه كلامه. وعلى تقدير حمله على ما حمله (ره) أيضا ، فكأنّه لا يتمّ البيان الذي ادّعاه ، إذ هذا البيان إنّما يتمّ في الأشياء التي لا وجود لها في الخارج ، ولم يتبيّن منه أنّ الأشياء التي لها وجود خارجيّ وحقيقة خارجيّة لا يمكن أن تتمثّل حقائقها عند المدرك.

اللهمّ إلّا أن يقول هو (ره) : إنّ الشيخ أحال ذلك على الظّهور ، حيث إنّه كما لا تتمثّل الحقيقة الخارجيّة من الشيء الذي لا يكون له وجود في الخارج عند المدرك ، إذ لا وجود له ولا حقيقة. كذلك من الظاهر أنّه لا تتمثّل عنده الحقيقة الخارجيّة من الشيء الذي له وجود في الخارج ، إذ لو كان كذلك ، لكان تترتّب على تلك الحقيقة المتمثّلة الآثار

__________________

(١) في المصدر : باثنى عشر ...

(٢) ليبيّن ...

(٣) فتكون ...

(٤) ممّا تدرك ، علم ...

(٥) يتحقّق ...

(٦) وهو الباقي.

١٨٨

الخارجيّة المطلوبة ، ولكان لا فرق بين الوجود العينيّ والوجود الذهنيّ ، وهذا باطل بالضّرورة. إلّا أنّ الظاهر منه أنّه أرجع الضمير المجرور في قول الشيخ : «غير مباين له» إلى المدرك ، وقد عرفت أنّه يمكن إرجاعه إلى الشيء أيضا.

وأمّا قوله (ره) أخيرا : «والمثال» في قوله : «أو يكون مثال حقيقته هو الصورة المنتزعة ، أو الصورة التي لا تحتاج إلى الانتزاع من الشيء الذي لو كان في الخارج لكان هو» فكأنّه إشارة إلى تعميم المثال بحيث يشمل الصورة المنتزعة من الخارج إن كان الإدراك مستفادا من خارج ، والصورة الحاصلة عند المدرك ابتداءً ، سواء كانت الخارجيّة مستفادة منها أو لم تكن ، كما ذكره في السابق ؛ وإن كان يمكن حمله أيضا على تعميم المثال بحيث يشمل الصورة المنتزعة من الأشياء الخارجيّة ، وماهيّات الأشياء التي ليس لها وجود في الخارج كما ذكرنا ، وهو (ره) أعلم.

وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أيضا أنّ ما ذكره الشيخ في «الإشارات» من تنويع الإدراك إلى الأنواع الثلاثة ، أعني الحسّ والتخيّل والتعقّل ، ربما يتراءى كونه مخالفا لما ذكره في «الشفاء» ، حيث نوّعه إلى الأنواع الأربعة ، أعني : الحسّ والتخيّل والتوهّم والتعقّل» (١). وكأنّ وجه ما ذكره في «الشفاء» أنّ ذلك بيان للواقع. وأمّا وجه ما فعله في (الإشارات) فلعلّه هو ما اعتذر عنه المحقّق الطوسيّ (ره) في شرحه ، قال : «إنّ (٣) الإدراكات إذا قيست إلى مدرك واحد ، سقط الوهم عن الاعتبار ، لأنّه لا يدرك ما يدركه الحسّ والخيال بانفراده ، بل يدرك (٢) ما يدرك (٤) بمشاركة الخيال ، وبذلك يتخصّص مدركه ويصير جزئيّا ، ولذلك لم يعتبره الشيخ في هذا الكتاب واعتبره في سائر كتبه» ـ انتهى ـ.

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ / ٣٢٣.

(٣) في المصدر : إلّا أنّها (أي الإدراكات) إذا قيست ...

(٤) ما يدركه.

(٢) شرح الإشارات ٢ / ٣٢٤.

١٨٩

في تحرير ما ذكره في الشفاء في العلم

وحيث انتهى الكلام إلى هذا المقام ، فلنتكلّم في تحرير ما نقلناه عن الشيخ في «الشفاء» في بيان العلم وأنّه عرض ، وما أورد عليه من الشبهة وأجاب عنها.

فنقول : إنّ ما ذكره من الشبهة مبناها على أنّ الحاصل في الذهن من الشيء الخارجيّ ـ بل مطلقا ـ هو ماهيّته المجرّدة عن الوجود الخارجيّ وعن توابعه ، وكذا مبناها على أنّ العلم عرض من مقولة الكيف. فيكون ذلك من إحدى القرائن على أنّ مذهب الشيخ ـ بل المعروف من مذهب الحكماء ـ هو القول بوجود الأشياء بماهيّاتها في الذهن دون القول بالأشباح ، وأنّ العلم من مقولة الكيف دون الفعل والانفعال أو الاضافة.

وبيان الشبهة هو أنّه لا يخفى أنّ العلم هو الصورة الحاصلة من الشيء أي المكتسب من صور الموجودات مجرّدة عن موادّها ، وهي صور جواهر وأعراض ؛ حيث إنّ المعلوم لا يخلو عنهما ، أي الماهيّات التي تكون للجواهر والأعراض مجرّدة عن وجوداتها العينيّة وعن موادّها ، ولا يخفى أيضا أنّ تلك الصورة الحاصلة عرض لصدق حدّه ، و «هو الموجود في الموضوع» عليها ، لكونها أيضا موجودة في موضوع هو النّفس. وكذا هي من مقولة الكيف لصدق حدّه أيضا ، و «هو أنّه عرض لا يقتضي قسمة ولا نسبة» عليها ، لكونها أيضا كذلك.

وبالجملة ، لا يخفى أنّ تلك الصورة الحاصلة في النّفس عرض ، وإن لم نقل بكونها من مقولة الكيف ؛ وحينئذ نقول : إن كانت صور الأعراض وماهيّاتها الحاصلة في النّفس أعراضا ، فصور الجواهر وماهيّاتها الحاصلة فيها كيف تكون أعراضا ، والحال أنّ الجوهر ما يكون لذاته جوهرا ، فماهيّته لا تكون في موضوع البتّة ، ويجب أن يكون ماهيّته محفوظة في كلّ الأحوال ، سواء نسبت إلى إدراك العقل لها أو نسبت إلى الوجود الخارجيّ.

والحاصل أنّ تلك الصّورة الحاصلة والماهيّة المتمثّلة في النّفس من الجواهر ، لا سترة في أنّها عرض ؛ فإمّا أن يكون معنى الجوهر ذاتيّا لما تحته من الجواهر جنسا لها ، كما هو رأي بعض ، أو عرضيّا كما هو رأي آخرين.

١٩٠

وعلى الأوّل ، فكيف يكون ذاتي الشيء مختلفا؟ وكيف يمكن أن يكون مقتضي الذات لا يترتّب عليها؟ وكيف يمكن أن ينقلب الذّات مع أنّ كلّ ذلك محال بالضّرورة؟

وعلى الثّاني ، فلا سترة في أنّ ذلك معنى عرضيّ لازم لها ؛ فكيف يمكن أن يترتّب عليها ذلك العرضيّ تارة وأن لا يترتّب اخرى؟ وكيف يمكن أن ينقلب العرضيّ اللازم إلى العرضيّ المفارق؟ وهذا بيان الشبهة.

وأمّا بيان الجواب عنها : فهو أنّ ماهيّة الجوهر ـ على ما يقتضيه حدّه ـ بمعنى أنّه الموجود في الأعيان لا فى موضوع ، وهذه الصّفة موجودة لماهيّة الجواهر المعقولة الحاصلة في النّفس أيضا ، فإنّها ماهيّة شأنها أن تكون ـ إذا وجدت في الأعيان ـ وجدت لا في موضوع ، أي أنّ هذه الماهيّة هي معقولة من أمر ، شأن ذلك الأمر أن يكون وجوده في الأعيان لا في موضوع ، وأمّا وجوده في العقل بهذه الصّفة ، أي أن لا يكون في موضوع ، فليس ذلك مأخوذا في حدّه من حيث هو جوهر ، أي ليس حدّ الجوهر أنّه إذا كان في العقل كان لا في موضوع ؛ بل حدّه أنّه سواء كان في العقل أو لم يكن ، فإنّ وجوده في الأعيان ليس في موضوع.

والحاصل ، أنّه على تقدير كون معنى الجوهر عرضيّا لما تحته لازما لها ، نقول : إنّه عرضيّ لازم لوجوداتها العينيّة الخارجيّة ، كسائر لوازم الوجود الخارجيّ ؛ ولا سترة في أنّ هذا المعنى ، أي كونه موجودا لا في موضوع ، لا يتخلّف عن تلك الجواهر من حيث وجوداتها الخارجيّة ، وأمّا تخلّفه منها بحسب وجوداتها العقليّة ، فليس ذلك منافيا لما يقتضيه حدّ الجوهر ، وعلى تقدير كون معنى الجوهر ذاتيّا لما تحته ، نقول : إنّه حيث أخذ في حدّه الوجود ، أي أن يكون موجودا لا في موضوع ، فذلك الوجود معناه الوجود الخارجيّ لا الذّهنيّ ولا الأعمّ منهما. ولا سترة في أنّ هذا المعنى يصدق على الجواهر التي هي أفراده بحسب وجوداتها الخارجيّة ولا يتخلّف عنها ، ولا ضير في أن يتخلّف عنها بحسب وجوداتها العقليّة وحصولاتها الذهنيّة. وممّا ذكر يعلم أنّ المعتبر في معنى العرض والمأخوذ في حدّه أيضا ، أن يكون وجوده العينيّ في موضوع. وأمّا كون وجوده

١٩١

الذهنيّ في موضوع ، فليس بمأخوذ في حدّه. فعلى هذا فكون ماهيّات الأعراض الحاصلة في الذّهن من حيث وجودها الذّهنيّ أعراضا موجودة في موضوع هو النّفس ، ليس ممّا يحقّق عرضيّتها ، كما أنّ كون ماهيّات الجواهر الحاصلة في الذّهن من حيث كونها كذلك أعراضا موجودة في موضوع ، لا ينافي جوهريّتها.

فإن قلت : من البيّن أنّ المعتبر في تلك الماهيّة الحاصلة في الذهن كونها مجرّدة عن الوجود الخارجيّ مطلقا ، ولازم هذا أن لا يكون يتحقّق لتلك الماهيّة الحاصلة فيه شيء ممّا المدخل فيه للوجود الخارجيّ ، ومن جملته معنى الجوهر والعرض. حيث إنّ المدخل فيه إنّما هو للوجود الخارجيّ خاصّة ، كما ذكرت من أنّ الجوهر ما لا يكون بحسب وجوده الخارجيّ في موضوع ، وأنّ العرض ما يكون بحسب وجوده الخارجيّ في موضوع. فيلزم من ذلك أن لا تدخل تلك الماهيّة بحسب وجودها الذهنيّ تحت مقولة من المقولات ، وأن لا يصدق عليها معنى الجوهر ولا معنى العرض ، فكيف يصدق عليها معنى العرض كما ذكرت؟

قلت : الحال كذلك ، إلّا أنّ لتلك الماهيّة الحاصلة من حيث حصولها في الذهن وقيامها بنفس جزئيّة نحوا من الوجود العينيّ أيضا ، كما سيأتي بيانه. فهي بذلك الاعتبار تكون عرضا ومن مقولة الكيف ، سواء كانت هي ماهيّة الجوهر أو ماهيّة العرض.

ثمّ إنّه بما ذكره الشيخ في جواب الشبهة الموردة في الجواهر والأعراض كما حرّرنا بيانه ، كما يندفع الشبهة عن ذلك ، كذلك تندفع الشبهة إذا أوردت في مطلق الذّاتيّات ومطلق العرضيّات اللازمة للوجود الخارجيّ.

مثلا إذا قال قائل : لا يخفى أنّ الصورة الحاصلة من الإنسان هي ماهيّة الإنسان مجرّدة عن الوجود الخارجيّ ، ومن المعلوم أنّ الماهيّة الإنسانيّة ماهيّة نوعيّة معناها الحيوان الناطق ، أي التي من شأنها أن يصدر عنها الحسّ والحركة الإراديّة وإدراك الجزئيّات والكلّيّات ؛ ولا سترة في أنّ تلك الماهيّة من حيث إنّها موجودة في الذهن لا يصدر عنها تلك الامور بالفعل ، ولا هي ممّا من شأنه أن يصدر عنه تلك الأمور ، فكيف يتخلّف عنها

١٩٢

ذاتيّاتها وما هو من مقتضى ذاتها؟

قلنا في جوابه : إنّا سلّمنا أنّ تلك الماهيّة هي الماهيّة الإنسانيّة التي هي الحيوان الناطق. لكن نقول : إنّ معنى الماهيّة الإنسانيّة أنّها من شأنها أن تصدر عنها تلك الأمور إذا وجدت تلك الماهيّة في الأعيان ، لا أنّها من شأنها أن تكون يصدر عنها تلك إذا وجدت في الذّهن أيضا. فهي ـ سواء وجدت في العين أو في الذّهن ـ من شأنها أنّها في وجودها العينيّ يمكن أن يصدر عنها تلك الأمور. فعلى هذا ، فصدور تلك الأمور التي هي من مقتضى ذات الإنسان ، أو إمكان صدورها عنها ممّا للوجود الخارجيّ مدخل فيه ، وان كان ذاتيّا له ، ولا ضير في أنّه إذا جرّدت تلك الماهيّة عن الوجود الخارجيّ وحصلت في الذّهن ، لم تكن صفتها كذلك من حيث إنّها موجودة فيه.

نعم ، ربّما يتحقّق لها من حيث وجودها في الذّهن أمور أخر ، كالكلّيّة والجنسيّة والفصليّة وأمثال ذلك ممّا لا مدخل للوجود الخارجيّ فيه ، بل إنّما المدخل فيه للوجود الذهنيّ خاصّة. وعلى هذا فقس الحال في ماهيّات أخر وذاتيّاتها.

وكذلك لو قال قائل : إنّه لا يخفى أنّه عند ادراكنا أو تعقّلنا مثلا للحارّ والبارد ، أو للحرارة والبرودة ، أو المستقيم والمعوّج ، أو الاستقامة والاعوجاج ، يحصل في الذّهن ماهيّات تلك الامور كما ذكرت ؛ فيلزم أن يكون الذهن حارّا باردا معوّجا مستقيما ، إذ لا معنى لهذه إلّا ما يحصل فيه ماهيّة الحرارة والبرودة والاستقامة والاعوجاج. وأيضا يلزم أن تجتمع فيه الأمور المتضادّة من جهة واحدة ويتّصف بها ، فيكون هو متضادا كالأمور الحاصلة فيه ، وكلّ ذلك باطل بالضّرورة.

قلنا في جوابه : إنّا سلّمنا أنّ الحاصل في الذهن هو ماهيّات تلك الأمور ، لكنّا نقول : إنّ تلك الآثار والأحكام مترتّبة على وجود تلك الماهيّات في الأعيان فقط ، فتلك الماهيّات سواء وجدت في الأعيان أو في الأذهان ، فمن شأنها أنّها في وجوداتها العينيّة يمكن أن يصدر عنها تلك الآثار والأحكام ، ولا محذور في أن لا يترتّب تلك الآثار والأحكام عليها من حيث تجرّدها عن الوجود الخارجيّ ، أي من حيث وجوداتها الذهنيّة ، لكونها

١٩٣

غير لازمة لوجودها الذهنيّ. مع أنّ اتّصاف محالّ هذه الامور لصفاتها ممّا يتوقّف على أن يكون تلك المحالّ ممّا من شأنها أن تنفعل عنها وتتّصف بها. ولا نسلّم أنّ الذهن كذلك ؛ ولذلك لا يلزم عند تصوّرنا وإدراكنا الأرض أو السّماء مع كون المتصوّر منهما ماهيّتهما ، أن يكون الذهن عظيما مثلهما. فتبصّر.

ثمّ إنّ قول الشيخ : (١) «فإن قيل : فالعقل أيضا من الأعيان. قيل : يراد بالعين التي إذا حصل فيها الجوهر صدرت عنه أفاعيله وأحكامه». إيراد على الجواب الذي ذكره عن تلك الشبهة وجواب عن الإيراد.

بيان الإيراد : أنّه حيث ذكر في الجواب أوّلا أنّ معنى الجوهر وماهيّته أنّه الموجود في الأعيان لا في موضوع ، فلا ينافي أن يكون بحسب وجوده الذّهنيّ في موضوع ، أورد عليه ثانيا أنّ ماهيّة الجوهر بحسب وجودها في الأذهان أيضا لها وجود في الأعيان ، حيث إنّها ـ بحسب هذا الوجود ـ موجودة في العقل ، أي النّفس. ولا سترة في أنّ العقل من الموجودات العينيّة ؛ فالموجود فيه أيضا موجود بوجود عينيّ. والحال أنّ الجوهر بحسب هذا الوجود العينيّ موجود في موضوع ، فكيف يمكن أن يكون بحسب هذا الوجود العينيّ موجودا في موضوع؟ وكيف يمكن أن يكون ماهيّة الجوهر بأحد الوجودين العينيّين جوهرا وبالوجود الاخر العينيّ عرضا؟

وبيان الجواب : أنّ معنى الموجود في العين ليس أنّه الموجود في عين آخر غير نفس ذلك الموجود ، بل المراد بالعين هو عين ذلك الموجود ، ومعنى الموجود في العين أنّه الموجود في نفسه وفي حدّ ذاته ، مع قطع النظر عن فرض فارض إيّاه وعن كلّ ما سواه ، وهذا المعنى هو المراد من سائر العبارات التي يعبّر بها عنه ، كالموجود في نفس الأمر ، فإنّ المراد بالأمر هو ذلك الموجود ، وبالنّفس ذاته ، وبالموجود في نفس الأمر الموجود في نفسه وفي حدّ ذاته ، مع قطع النّظر عمّا ذكر. وهذا المعنى أيضا يراد بقولهم : الموجود في الخارج ، أي أنّه الموجود في نفسه وفي خارج الذّهن ، ومع قطع النّظر عن فرض الذهن.

__________________

(١) الشفاء ـ الإلهيّات / ١٤٠.

١٩٤

وبالجملة ، فالمراد من هذه العبارات وأمثالها ، كالموجود العينيّ والموجود الخارجيّ ، أنّه الموجود في حدّ ذاته بوجود أصيل ، سواء كان وجوده في موضوع كالعرض ، أم لا كالجوهر ، وجودا يترتّب عليه آثاره المطلوبة منه وأحكامه وأفاعيله الخارجيّة. وعلى هذا ، فيكون معنى قولهم : الموجود في الذهن والموجود في العقل والموجود في النّفس وأمثال ذلك من العبارات ، أنّه الموجود بوجود ظلّيّ غير أصيل ، وجودا لا يترتّب عليه آثاره وأحكامه وأفاعيله ، وإن كان موجودا في النّفس التي هي عين من الأعيان الخارجيّة. نعم لو كان يترتّب على وجوده في العقل آثاره المطلوبة ، لكان ذلك وجودا له عينيّا أيضا ، لكن باعتبار آخر.

فيلزم ممّا ذكرنا ، أنّ كلّ ما هو موجود عينيّ من حيث هو موجود عينيّ يترتّب عليه أحكامه لا يكون موجودا ذهنيّا من حيث هو موجود ذهنيّ لا يترتّب عليه أحكامه المطلوبة منه ، وكذا بالعكس ، وأنّه لو كان موجود ذهنيّ يترتّب عليه آثاره وأحكامه ، كان هو من هذه الحيثيّة موجودا عينيّا لا ذهنيّا.

وكذلك يلزم ممّا ذكر هنا وما ذكر سابقا من أنّ الجوهريّة والعرضيّة إنّما هما باعتبار الوجود العينيّ من حيث هو وجود عينيّ ، أنّ الموجود في الذهن من حيث هو موجود ذهنيّ لا يكون جوهرا ولا عرضا ، وإن كان صدق عليه أنّه بحيث لو وجد في الخارج والعين ، لكان إمّا جوهرا أو عرضا. وأنّ الموجود في الذهن لو كان بحيث يترتّب عليه آثاره المطلوبة منه ، وكان ذلك وجودا عينيّا له باعتبار ، لكان يصدق عليه أنّه جوهر أو عرض ، إلّا أنّه لا يكون إلّا عرضا ، لكونه من هذه الحيثيّة موجودا في موضوع هو النّفس.

وإذا تمهّد ذلك ، فنقول : من المعلوم بالضّرورة أنّ الصورة العقليّة والماهيّة الحاصلة في العقل من الجوهر مجرّدة ومادّيّة وبسيطة ومركّبة ، وأيّ قسم منه لا يترتّب عليها من حيث كونها موجودة ذهنيّة تلك الآثار والأحكام والأفاعيل التي تترتّب على حقيقته الموجودة في الخارج ، فليس وجودها في العقل من حيث هو وجودها فيه ، وإن كان

١٩٥

العقل عينا من الأعيان الخارجيّة ، وجودا عينيّا خارجيّا له. وحيث لا يصدق عليها بحسب هذا الوجود أنّها جوهر ، وكذلك لا يصدق على هذا الوجود أنّه وجود عينيّ ، فلا يلزم أن يكون ماهيّة الجوهر بحسب وجوده العينيّ موجودا فى موضوع ، ولا أن تكون بحسب أحد الوجودين العينيّين جوهرا وبالوجود الآخر العينيّ عرضا. وكذلك من المعلوم بالضّرورة أن الماهيّة الحاصلة من العرض ، أيّ أنواع منه كانت ، فهي من حيث كونها موجودة ذهنيّة ، ممّا يترتّب عليها آثارها وأحكامها المترتّبة على حقيقته الموجودة في الأعيان ، فليس وجودها في الذّهن من حيث لا يترتّب عليها آثاره ، وجودا عينيّا لها ، وكذا عرضيّتها بهذا الاعتبار ، بل باعتبار وجودها في الأعيان وجودا به يترتّب عليها تلك الآثار.

نعم ، إنّ الماهيّة الحاصلة في العقل من الشيء مطلقا ، جوهرا كان أم عرضا ، ربّما يترتّب عليها من حيث كونها صورة خاصّة قائمة بنفس جزئيّة ، ومن حيث كونها صورة علميّة ، بعض الآثار التي هي من الآثار العينيّة ، وهي كونها سببا لانكشاف الأشياء التي هي ذوات الصورة على النّفس ، وواسطة لأن تدرك بها النّفس المعلوم الخارجيّ ، وتنال بها مدركاتها العينيّة ؛ فلذلك يكون قيامها بالنّفس منشأ لاتّصاف محلّها ـ أي النّفس ـ بالعلم ، وبكونها عالمة بمعلومها بسببها ، كما يكون الجسم باعتبار حصول السّواد فيه ـ مثلا ـ متّصفا بكونه أسود. والذي يوضح ذلك ، أنّ العلم من جملة ملكات النّفس ، وقيام ملكاتها بها مطلقا ، سواء كانت فضائل أم رذائل ، قيام ووجود عينيّ لها ، وبسببه يكون منشأ لترتّب آثارها عليها ولاتّصاف محلّها ، أي النّفس ، بها.

ثمّ إنّه حيث كانت الصورة العلميّة بهذا الاعتبار موجودة في الأعيان ، وكانت موجودة في موضوع ، لا استبعاد في كون ماهيّات الأشياء الحاصلة في العقل ـ من حيث كونها صورا خاصّة قائمة بالنّفس ـ موجودة فيها وجودا يترتّب عليه الآثار. سواء كانت هي ماهيّة الجوهر أو العرض ، أعراضا موجودة في موضوع. ولا ينافي ذلك أن تكون تلك الماهيّات ـ بحسب حقائقها ووجوداتها العينيّة في الخارج ـ غير هذا الوجود العينيّ له في

١٩٦

العقل ، بعضها جواهرا وبعضها أعراضا ، ولذا لا ينافي أن تكون تلك الماهيّات بحسب وجودها الذهنيّ ، أي من حيث وجودها في ضمن الصّورة العلميّة ، موجودات ذهنيّة غير مترتّبة عليها الآثار المطلوبة ، ولا تكون هي جواهرا ولا أعراضا.

في الفرق بين اعتبارات الماهيّة

وإن اشتهيت زيادة إيضاح المقام ، فاعلم أنّه كما أنّ الموجود في الخارج من ماهيّات الأشياء وحقائقها جواهرها وأعراضا لا يكون إلّا جزئيّا حقيقيّا وشخصا مشخّصا ، حيث إنّ الكلّيّ ـ بما هو كلّيّ ـ ليس له وجود منفرد بنفسه ، وإنّما الموجود في العين هو الشخص المعيّن ، كما هو المحقّق في محلّه. وأنّ الشّخص الموجود في الخارج على رأي القائلين بوجود الكلّيّ الطبيعيّ والطّبيعة من حيث هي في ضمن وجود الأشخاص ـ كما هو رأي الشيخ وغيره من المحقّقين ـ عبارة عن تلك الماهيّة المأخوذة مع الوجود العينيّ الشخصيّ ، والملحوظ معها التّشخّص الخارجيّ ، أي الماهيّة بشرط شيء ، أي بشرط ذلك الوجود والتّشخّص. وبعبارة أخرى مجموع المشروط والشرط ، أو مجموع العارض والمعروض ، وهو موجود في الحقيقة في الأعيان وجودا يترتّب عليه جميع الآثار المطلوبة منه ؛ وكذا هو موصوف بالجوهريّة أو العرضيّة بالذّات ، ومدرك أوّلا بالحواسّ ، وبواسطتها تدركه النّفس إن كان هو شخصا مادّيّا. وامّا إن كان شخصا مجرّدا عن المادّة ، فيدركه العقل أوّلا وبالذّات لا بتوسّط الحواسّ ، وأنّ تلك الماهيّة الملحوظة في ضمن الشّخص ، التي هي عبارة عن الطّبيعة من حيث هي التي هي من حيث ذاتها ليست إلّا هي ، وليست في حدّ ذاتها لا عامّة ولا خاصّة ولا كلّيّة ولا جزئيّة ولا مأخوذا معها شرط من الشروط ولا قيد من القيود إلّا نفسها.

وبالجملة ، فهي لا بشرط شيء من كلّ وجه ، إلّا أنّها تصلح لأن يقارنها شرط ، ويعتبر معها وجود ، فتصير هي بذلك أيضا موجودة وجودا عينيّا يترتّب عليه الآثار في ضمن وجود الشّخص. إلّا أنّ وجودها وجود ضعيف بالقياس إلى وجود الشّخص ، ووجود

١٩٧

بالعرض وبتوسّط وجود الشّخص. ولذلك يتّصف أيضا بالجوهريّة أو العرضيّة بالعرض. إلّا أنّ مدركها هو العقل والنّفس بذاتها ، وليس وجودها في العقل من هذه الجهة وجودا ذهنيّا لها ، بل وجودا عينيّا كما ذكر. كذلك الموجود في النّفس والعقل من ماهيّات الأشياء جواهرها وأعراضها مجرّدها ومادّيّتها ، سواء كانت تلك الماهيّة ممّا يمكن أن يكون لها أفراد متعدّدة في الخارج ، أو لم يمكن. بل كان نوعها منحصرا في فرد ، كالمفارقات ، أو لم يمكن أن يكون لها فرد في الخارج أصلا ، كماهيّات الممتنعات. وسواء كان ما يمكن أن يكون لها أفراد متعدّدة ، بحيث يكون تلك الأفراد المتعدّدة موجودة في الأعيان ، أو يكون كلّها معدومة في الأعيان ، أو يكون الموجود منها بعضا منها واحدا كان أم أكثر مع إمكان الباقي ، إنّما يكون ماهيّات تلك الأشياء مجرّدة عن تلك الوجودات التي لو كانت هي لتلك الماهيّات ، لكانت منشأ للآثار المطلوبة منها في الخارج ، ومعرّاة عن العوارض الخارجيّة واللواحق التابعة لتلك الوجودات العينيّة وتلك التّشخّصات الخارجيّة ، سواء كانت تلك الماهيّات منتزعة عن أشياء خارجيّة أم لا ، إلّا أنّ تلك الماهيّات وإن أخذت في الذهن على أنّها معرّاة عن الوجود العينيّ ومجرّدة عن توابعها ، لكنّها ـ من حيث حصولها في العقل وقيامها بنفس جزئيّة ـ يكون لها نحو من الوجود العينيّ أيضا غير ما هي جرّدت عنه ، وهذا الوجود العينيّ وجود عينيّ ضعيف ، له باعتبار ترتّب بعض الآثار عليه نسبة إلى الوجود العينيّ ، وباعتبار عدم ترتّب جميع الآثار المطلوبة من الوجود العينيّ عليه نسبة إلى الوجود الذهنيّ ، فكأنّه برزخ متوسّط بين الوجود العينيّ والذهنيّ. فلذلك تكون هي منشأ لحصول العلم بالمعلوم ، ومنشأ لبعض الآثار دون كلّها ، أي تكون منشأ لما يترتّب عليها من حيث كونها صورة علميّة ، أي منشأ لاتّصاف محلّها ـ أي النّفس ـ بالعلم ، وبكونها عالمة بمعلومها. وتكون أيضا ، باعتبار اقتران هذا النحو من الوجود معها ، جزئيّة وشخصا خاصّا ، حيث إنّها بهذا الاعتبار لا تصدق على كثيرين ، فإنّ الصورة الحاصلة في ذهن زيد من الإنسان مثلا ، حيث إنّها حاصلة في ذهنه ، لا تصدق على الصّورة الحاصلة في ذهن عمرو منه مثلا ، من حيث هي حاصلة فيه وإحداهما غير الاخرى ، وإن كانت

١٩٨

أصل الماهيّة المنتزعة من الإنسان الحاصلة في كلّ من الذهنين واحدة بحسب الذات والحقيقة ، مع قطع النظر عن الخصوصيات الذهنيّة. وكذلك تكون هي بهذا الاعتبار عرضا ، حيث إنّها قائمة بموضوع وموجودة في موضوع هو تلك النّفس التي هي حاصلة فيها قائمة بها ، سواء كانت هي صورة منتزعة من جوهر أو من عرض. وهذه الصّورة بهذا الاعتبار وإن كانت جزئيّة ، إلّا أنّ مدركها هو النّفس بذاتها ، لكونها حاضرة عندها. كما أنّ مدركها بالاعتبارين الأخيرين الآتيين أيضا هو النّفس بذاتها. وما اشتهر عندهم من أنّ النّفس لا تدرك بذاتها الجزئيّ من حيث هو جزئيّ ، فإنّما هو في الجزئيّات المادّية المحفوفة بالعوارض المادّيّة ، وأمّا الجزئيّات المجرّدة عنها ، فهي تدركها بذاتها.

ثمّ إنّه حيث قلنا بوجود الطبيعة من حيث هي في ضمن وجود الشخص ، فتكون هي أيضا في ضمن وجود هذه الصّورة الخاصّة التي ذكرنا حالها ، وبتوسّطها موجودة نحو وجودها العينيّ أضعف منه ، يترتّب عليها ما يترتّب على وجود تلك الصورة من آثارها المذكورة ، حيث إنّ مقتضى القول بوجود الطبيعة من حيث هي في ضمن الفرد ، أنّ ما يترتّب على ذلك الفرد من الآثار ، يترتّب عليها أيضا بأيّ وجود كان لذلك الفرد ، ولذلك تكون تلك الطبيعة في ضمن تلك الصّورة الخاصّة جزئيّة ، وإن كانت هي في حدّ ذاتها ومن حيث هي لا جزئيّة ولا كلّيّة ، وكذا تكون عرضا مثلها وإن كانت هي ماهيّة جوهرا ، لأنّ ثبوت هذه الصّفات للطّبيعة من حيث هي في ضمن تلك الصّورة ، إنّما هو بالعرض لا بالذّات ، فإنّها من حيث ذاتها ليست إلّا هي ، من غير اعتبار أمر آخر معها ، كما ذكرنا حالها سابقا.

ثمّ إنّ تلك الماهيّة الحاصلة في العقل إذا أخذت على أنّها مجرّدة عن هذا الوجود العقليّ أيضا كما أنّها مجرّدة عن سائر الوجودات العينيّة الخارجيّة وعن توابعها. وبالجملة ، إذا أخذت بشرط لا شيء بالنّسبة إلى كلّ وجود عينيّ وتوابعه ، ومع هذا أخذت مقيسة إلى الأشخاص التي تكون لها ـ إن كان يفرض لها أشخاص ـ ومقولة عليها ، محمولة عليها ، مشتركة بين كثيرين ، كان لتلك الماهيّة في العقل وجود ذهنيّ ، أي وجود

١٩٩

أضعف من المراتب السّابقة كلّها ، لا يترتّب عليه أثر ما من الآثار المطلوبة منها في الأعيان ، وهي بذلك الاعتبار لا تكون إلّا كلّيّة ، وحيث لا يترتّب عليها أثر من الآثار العينيّة فهي لا تكون جوهرا ولا عرضا.

وهذا معنى قول بعضهم : «إنّ الطّبائع الكلّيّة من حيث كلّيّتها ووجودها الذّهنيّ لا تدخل تحت مقولة من المقولات ، ومن حيث وجودها في النّفس تدخل تحت مقولة الكيف».

والمحصّل أنّ تلك الماهيّة الحاصلة في العقل إن أخذت بشرط وجودها العقليّ الذي هو نحو من الوجود العينيّ وإن كان ضعيفا ، وبشرط تشخّصها الذهنيّ وبشرط قيامها بنفس جزئيّة ، فهي من هذه الحيثيّة صورة جزئيّة لا كلّيّة ، وعلم لا معلوم. وكذا هو عرض موجود في الموضوع مطلقا ، سواء كانت صورة الجوهر أو صورة العرض. كما أنّ تلك الماهيّة أيضا بشرط وجودها في الخارج وجودا عينيّا من غير جهة وجودها العينيّ في العقل ، أي من جهة ما يترتّب عليها جميع الآثار المطلوبة عنها شخص جزئيّ موجود في الخارج ، ومعلوم لا علم ، وهي بحسب ذلك الوجود قد يكون جوهرا وقد يكون عرضا.

وإن أخذت تلك الماهيّة الحاصلة في العقل لا بشرط وجودها العقليّ وتشخّصها الذهنيّ ، فهي من هذه الحيثيّة ، الماهيّة من حيث هي التي هي في حدّ ذاتها ليست إلّا هي ، إلّا أنّها تتّصف بالعرض في ضمن تلك الماهيّة الموجودة بالوجود الذّهنيّ بأوصافها وأحوالها ، كالوجود العينيّ ، والجزئيّة والعرضيّة سوى وصف كونها علما ، فإنّها معلومة لا علم.

كما أنّ تلك الماهيّة المأخوذة في حدّ ذاتها لا بشرط شيء ، تتّصف بالعرض في ضمن حقائقها ، والماهيّات الموجودة في الأعيان بحسب الوجود العينيّ الذي يترتّب عليه جميع الآثار المطلوبة منه ، غير الوجود العينيّ في العقل ، بأوصاف تلك الحقائق كالوجود العينيّ ، والجزئيّة والجوهريّة أو العرضيّة والمعلوميّة ، حيث إنّ اتّصاف الماهيّة من حيث هي بالعرض ، بأوصاف الماهيّة الموجودة بالوجود العينيّ ، إنّما هو بحسب ذلك الوجود

٢٠٠