منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-341-1
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٥٦

١
٢

٣
٤

الباب الأوّل

في إثبات النفس وإنّيّتها وتحديدها من حيث هي نفس

٥
٦

الباب الأوّل : في إثبات النفس وإنّيّتها ، وتحديدها من حيث هي نفس ، وأنّها ليست بجسم ولا عرض ، وأنّها غير البدن وأجزائه وأعضائه وآلاته وقواه وأعراضه ، وغير جسميّته ومزاجه.

قد أشرنا لك في مقدّمة الرسالة إشارة إلى إثباتها ، بل إلى أنّها جليّة الإنّيّة ، وإن كانت خفيّة الماهيّة والحقيقة ؛ والآن نزيدك بيانا. فنقول : إنّك قد عملت ممّا بيّنوه في إثبات الصّورة النّوعيّة ، أنّهم لمّا رأوا أنواع الأجسام ـ مع اشتراكها في أصل الجسميّة ـ مختلفة في أشياء كثيرة ، كالأمكنة والأحياز والأوضاع والطّبائع والآثار وخواصّ الأفعال وسائر الأحوال والصّفات ، ويختصّ كلّ نوع منها في ذاته بجملة منها ، بحيث لو فرض مخلّى بذاته ، كان عليها ؛ ولو فرض هناك قسر وأخرجه القاسر منها ، ثمّ خلّي وطبعه ، عاد إليها. فالبرودة والتحتيّة للماء ، والحرارة والفوقيّة للنار ، حكموا بأنّ منشأ ذلك الاختلاف ليس هو الجسميّة المشتركة فيها ، وإلّا لاشتركت كلّ تلك الأنواع في ذلك ، بل هو أمر آخر مبدأ لذلك ، داخل في حقيقة كلّ نوع من تلك الأنواع ؛ فحكموا بأنّ لكلّ نوع من أنواع الأجسام من حيث هو ذلك النوع جزءا آخر مختصّا به ، هو مبدأ عوارضه ولوازمه وصفاته وأحواله ، وبه قوام نوعيّته ، يسمّى ذلك الجزء بالصّورة النوعيّة ، وبذلك أثبتوا الصّورة النوعيّة لأنواع الأجسام كلّها : بسائطها ، كالعناصر والأفلاك ومركّباتها ، ناقصة كانت ، أي التي لا يكون من شأنها حفظ تراكيبها مدّة معتدّا بها ، كالبخار والسّحاب والريح

٧

والمطر والثلج وما أشبهها ، أم تامّة ، أي الّتي يكون من شأنها ذلك ، كالجمادات والمعدنيّات الأحجار والذائبات والكباريت والأملاح وما شابهها ؛ سواء كانت المركّبات التامّة مركّبة من بسائط العناصر ، ككثير منها ؛ أو مركّبة من المركّبات الناقصة كالمعدنيّات ، وسواء كان التركيب من بسائط العناصر تركيبا أوّليّا ، كما في الحبوب والبذور والفواكه ، أو ثانويّا كما في الدم المتكوّن من استحالة الغذاء ، أو فيما بعد ذلك كاللحم والعظم والشحم وما شابهها.

ثمّ إنّك حيث علمت ما ذكرنا ، ظهر لك أنّهم أثبتوا ذلك المبدأ الذي سمّوه بالصورة النوعيّة لكلّ نوع من أنواع الأجسام المشتركة في أصل الجسميّة من أجل اختلافها فيما ذكرناه من وجوه الاختلاف ، فظهر لك أنّه بذلك الطريق يحكم العقل بثبوت مبدأ في النبات والحيوان والإنسان أيضا ؛ حيث إنّ النبات مع اشتراكه مع غيره من الأجسام في الجسميّة ، مخالف لها في أمور أخر ، كالتغذية والتنمية والتوليد ، وكذلك الحيوان مع اشتراكه مع غير النبات في الجسميّة ، ومع النبات فيما يختصّ به ، مخالف لها في الاختصاص بالحسّ والحركة الإراديّة ؛ وكذلك الإنسان مع اشتراكه مع غير النبات والحيوان في الجسميّة ، ومع النبات ومعهما فيما يختصّ بهما ، مخالف للجميع فى الاختصاص بالإدراكات الكلّيّة ، والأعمال الفكريّة والأفعال الحاصلة بالرويّة ونحو ذلك ممّا يختصّ به ، فلذلك أثبتوا ذلك المبدأ لهذه الأنواع أيضا ، إلّا أنّهم سمّوه فيها نفسا لا صورة نوعيّة. فحريّ بنا أن ننظر في أنّ تسميته بالنفس على أيّ وجه؟ وأنّ تحديده ما ذا؟ وفي أنّه هل يصحّ تسميته بالصورة أيضا فيها؟ وأنّه هل يصحّ تسميته باسم آخر كالقوّة والكمال أو نحو ذلك؟ وحيث كان تحقيق ذلك مذكورا في كلام الشيخ في الشفاء ، فلنذكر ما أفاده فيه ، ثمّ نتبعه بتوضيحه حتّى يتلخّص لك ما رمنا بيانه.

نقل كلام وتحقيق مرام

فنقول : قال الشيخ في طبيعيّات الشفاء ، في فصل «في إثبات النفس وتحديدها من

٨

حيث هي نفس» (١) بهذه العبارة :

إنّ أوّل ما يجب أن نتكلّم فيه : إثبات وجود الشيء الّذي يسمّى نفسا ، ثمّ نتكلّم فيما يتبع ذلك ، فنقول : إنّا قد شاهدنا (٢) أجساما تحسّ ونتحرّك بالإرادة ، بل نشاهد أجساما تغتذي وتنمو وتولّد المثل ، وليس ذلك لجسميّتها (٣) ، فبقي أن تكون بذواتها مباد (٤) لذلك غير جسميّتها والشيء الذي يصدر عنه هذه الأفعال (٥).

وبالجملة ، كلّ ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة ، فإنّا نسمّيه نفسا. وهذه اللفظة اسم لهذا الشيء ، لا من حيث جوهره. ولكن من جهة إضافة ما له ، أي من جهة ما هو مبدأ لهذه الأفاعيل ، ونحن نطلب جوهره والمقولة التي يقع فيها من بعد. ولكنّا الآن إنّما أثبتنا وجود شيء هو مبدأ لما ذكرنا ، وأثبتنا وجود شيء (٦) ما جهة ماله عرض ما ، ونحتاج أن نتوصّل (٧) من هذا العارض الذي له إلى أن تحقّق ذاته لتعرف ماهيّته (٨) ، كأنّا قد عرفنا أنّ لشيء يتحرّك محرّكا ما ، ولسنا نعلم من ذلك أنّ ذات هذا المحرّك ما هو؟ فنقول : إذا كانت الأشياء التي نرى أنّ النفس موجودة لها ، أجساما ، وإنّما يتمّ وجودها من حيث هي نبات وحيوان لوجود (٩) هذا الشيء لها ، فهذا الشيء جزء من قوامها. وأجزاء القوام ـ كما عملت في مواضع ـ هي قسمان : جزء يكون به الشيء هو ما هو بالفعل ، وجزء يكون به الشيء هو ما هو بالقوّة ، إذ هو بمنزلة الموضوع. فإن كانت النفس من القسم الثاني ـ ولا شكّ أنّ البدن من ذلك القسم ـ فالحيوان والنبات لا يتمّ حيوانا ولا نباتا بالبدن ، ولا بالنفس ؛ فيحتاج إلى كمال آخر هو المبدأ بالفعل لما قلنا ، وذلك (١٠) هو النفس ، وهو الذي كلامنا فيه. بل ينبغي أن تكون النفس هو ما به يكون الحيوان والنبات بالفعل نباتا وحيوانا ؛ فإن كان جسما أيضا ، فالجسم صورته ما قلنا ؛ وإن كان جسما بصورة ما ، فلا يكون هو من حيث هو جسم ذلك المبدأ ، بل يكون كونه مبدأ من

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٥ ـ ١٣ ، المقالة الاولى من الفنّ السادس ، تحقيق الدكتور محمود قاسم ، أوفست مكتبة المرعشي ـ قم عن طبعة مصر.

(٢) في المصدر : إنّا قد نشاهد ...

(٣) وليس ذلك لها لجسميّتها ...

(٤) أن تكون في ذواتها مبادي ...

(٥) تصدر عنه هذه الأفعال ...

(٦) وجود شيء من جهة ...

(٧) ويحتاج أن يتوصّل ...

(٨) لتعرف ماهيّته ...

(٩) وحيوان بوجود هذا الشيء ...

(١٠) فذلك هو النفس.

٩

جهة تلك الصورة ؛ ويكون صدور الأحوال عن تلك الصورة بذاتها. وإن كان بتوسّط هذا الجسم ، فيكون المبدأ الأوّل تلك الصورة ، ويكون أوّل فعله بوساطة هذا الجسم ، ويكون هذا الجسم جزءا من جسم الحيوان (١) مثلا لكنّه أوّل جزء يتعلّق به المبدأ ، وليس هو بما هو جسم إلّا من جهة جملة (٢) الموضوع ، فتبيّن (٣) أنّ ذات النفس ليس بجسم ، بل هو (٤) جزء للحيوان والنبات ، هو صورة (٥) أو كالصورة أو كالكمال.

فنقول الآن : إنّ النفس يصحّ أن يقال لها بالقياس إلى ما يصدر عنها من الأفعال : قوّة ، وكذلك يجوز أن يقال لها بالقياس إلى ما يقبلها من الصورة (٦) المحسوسة والمعقولة على معنى آخر : قوّة (٧) ، ويصحّ أن يقال أيضا (٨) بالقياس إلى استكمال الجنس بها نوعا محصّلا في الأنواع العالية أو السافلة : كمال ، لأنّ طبيعة الحسّ تكون ناقصة غير محدودة ما لم يحصّلها (٩) طبيعة الفصل البسيط وغير البسيط منضافا إليها ، فاذا انضاف كمل النوع. فالفصل كمال النوع بما هو نوع ، ليس (١٠) لكلّ نوع فصل بسيط ، قد علمت هذا : بل إنّما هو للأنواع المركّبة (١١) من مادّة وصورة ، والصورة فيها (١٢) هو الفصل البسيط لما هو كمال له ، ثمّ كلّ صورة كمال ، وليس كلّ كمال صورة ؛ فإنّ الملك كمال المدينة ، والربّان كمال السفينة ، وليسا بصورتين للمدينة والسفينة ، فما كان من الكمال مفارق الذات ، لم يكن بالحقيقة صورة للمادّة وفي المادّة ؛ فإنّ الصورة التي هي في المادّة ، هي الصورة المنطبعة فيها القائمة بها. اللهمّ إلّا أن يصطلح فيقال : كمال (١٣) النوع صورة النوع. وبالحقيقة فإنّه قد استقرّ الاصطلاح على أن يكون الشيء بالقياس إلى المادّة صورة ، وبالقياس إلى الجملة غاية وكمالا ، وبالقياس إلى التحريك مبدأ فاعليّا وقوّة محرّكة. وإذا كان الأمر كذلك ، فالصّورة تقتضي نسبة إلى شيء بعيد من ذات الجوهر الحاصل منها ، وإلى شيء يكون (١٤) الجوهر الحاصل هو ما هو بالقوة ، وإلى شيء لا ينسب (١٥) الأفاعيل إليه ، وذلك الشيء هو المادة ،

__________________

(١) في المصدر : من جسم الحيوان ، لكنه ...

(٢) إلّا من جملة الموضوع ...

(٣) فبيّن ...

(٤) بل هي جزء ...

(٥) والنبات هي صورة ...

(٦) الى ما تقبله من الصور المحسوسة ...

(٧) قوّة ، ويصح أن يقال لها أيضا بالقياس الى المادّة التي تحلّها ، فيجتمع منهما جوهر نباتيّ أو حيواني : صورة ،

(٨) ويصحّ ... لها أيضا بالقياس ...

(٩) ما لم تحصّلها طبيعة ...

(١٠) وليس لكلّ نوع فصل ...

(١١) للأنواع المركّبة الذوات ...

(١٢) والصورة فيها هو ...

(١٣) فيقال لكمال النوع ...

(١٤) شيء يكون به الجوهر ...

(١٥) لا تنسب الأفاعيل.

١٠

لأنّها صورة باعتبار وجودها للمادّة ، والكمال يقتضي نسبة إلى الشيء التامّ الذي عنه يصدر (١) الأفاعيل ، لأنّه كمال بحسب اعتباره للنّوع.

فتبيّن (٢) من هذا أنّا إذا قلنا في تعريف النّفس : إنّه (٣) كمال ، كان أدلّ على معناها ، وكان أيضا يتضمّن جميع أنواع النفس من جميع وجوهها ، ولا تشذّ النّفس المفارقة للمادّة عنه.

وأيضا إذا قلنا : إنّ النفس كمال ، فهو أولى من أن نقول : قوّة ، وذلك لأنّ الامور الصّادرة عن النّفس منها من (٤) باب الحركة ، ومنها من (٥) باب الاحساس والادراك ، بالحريّ (٦) أن يكون لها لا بما لها قوّة هي مبدأ فعل ، بل مبدأ قبول (٧) ، بل مبدأ فعل ، وليس أن ينسب إليها أحد الأمرين بأنّها قوة (٨) أولى من الآخر.

فإن قيل لها : قوّة وعني به الأمران جميعا ، كان ذلك باشتراك الاسم. وإن قيل : قوّة ، واقتصر على أحد الوجهين ، عرض من ذلك ما قلنا. وشيء آخر ، وهو أنّه لا يتضمّن الدّلالة على ذات النفس من حيث هي نفس مطلقا ، بل من جهة دون جهة. وقد بيّنّا فى الكتب المنطقيّة أنّ ذلك غير جيّد ولا صواب.

ثمّ إذا قلنا : كمال ، اشتمل على معنيين (٩) ، فإنّ النفس من جهة القوّة التي يستكمل بها إدراك الحيوان كمال ، ومن جهة القوة التي تصدر عنها أفاعيل الحيوان أيضا كمال ، والنفس المفارقة كمال ، والنفس التي لا تفارق كمال ، لكنّا إذا قلنا : كمال ، لم يعلم من ذلك بعد أنّها جوهر أو ليست بجوهر ، فإنّ معنى الكمال هو الشيء الّذي بوجوده يصير الحيوان بالفعل حيوانا ، والنبات بالفعل نباتا ، وهذا لا يفهم عنه بعد أنّ ذلك (١٠) جوهر أو ليس بجوهر.

لكنّا (١١) نقول : إنّه لا شكّ لنا في أنّ هذا الشيء ليس بجوهر (١٢) بالمعنى الذي يكون به الموضوع جوهرا ولا أيضا بالمعنى الذي يكون به المركّب جوهرا. فأمّا جوهر بمعنى الصورة فلننظر فيه. فإن قال قائل : إنّي أقول للنفس : جوهر (١٣) وأعني به الصورة ، ولست

__________________

(١) في المصدر : تصدر الأفاعيل ...

(٢) فبيّن من هذا ...

(٣) إنّها كمال ...

(٤) منها ما هي من ...

(٥) ومنها ما هي من ...

(٦) والتحريك بالحرّي أن ...

(٧) بل هي مبدأ قبول ...

(٨) بأنّها قوّة عليه أولى ...

(٩) على المعنيين ...

(١٠) بعد أنّه جوهر ...

(١١) ولكنّا نقول ...

(١٢) ليس جوهرا ...

(١٣) للنفس : جوهرا.

١١

أعنى به معنى أعمّ من الصورة ، بل معنى أنّه جوهر معنى أنّه صورة ، وهذا ممّا قاله خلف (١) منهم ، فلا يكون معه موضع بحث واختلاف البتّة ، فيكون معنى قوله : «إنّ النفس جوهر» : أنّها صورة ؛ بل يكون قوله : «الصورة جوهر» كقوله «الصورة صورة أو هيئة ، والإنسان إنسان أو بشر» ، ويكون هذيانا من الكلام.

فإن عنى بالصّورة ما ليس في موضوع البتّة ، أي لا يوجد بوجه من الوجوه قائما في الشيء الذي سمّينا لك موضوعا البتّة ، فلا يكون كلّ كمال جوهرا ، فإنّ كثيرا من الكمالات هي في موضوع لا محالة ، وإن كان ذلك الكثير بالقياس إلى المركّب ومن حيث كونه فيه ليس في موضوع ، فإنّ كونه جزءا منه لا يمنعه أن يكون في موضوع ، وكونه فيه لا كالشيء في الموضوع لا يجعله جوهرا ، كما ظنّ بعضهم. لأنّه لم يكن الجوهر ما لا يكون بالقياس إلى شيء على أنّه في موضوع ، حتّى يكون الشيء من جهة ما ليس في هذا الشيء على أنّه في موضوع جوهرا ، بل إنّما يكون جوهرا إذا لم يكن ولا في شيء من الأشياء على أنّه في موضوع ، وهذا المعنى لا يدفع كونه في شيء ما موجودا لا في موضوع ، فإنّ ذلك ليس له بالقياس إلى شيء (٢) حتّى إذا قيس إلى شيء يكون فيه لا كما يوجد الشيء في موضوع صار جوهرا ، وإن كان بالقياس إلى شيء آخر ، بحيث يكون عرضا ، بل هو اعتبار له في ذاته فإنّ الشيء إذا تأمّلت ذاته ونظرت إليها فلم يوجد لها موضوع البتّة ، كانت في نفسها جوهرا ، وإن وجدت في ألف شيء لا في موضوع بعد أن يوجد في شيء واحد على نحو وجود الشيء في موضوع (٣) ، فهي في نفسها عرض ، وليس إذا لم يكن عرضا في شيء فهي جوهر فيه ، فيجوز أن يكون الشيء لا عرضا في شيء ولا جوهرا في الشيء ، كما أنّ الشيء يجوز أن لا يكون واحدا في الشيء (٤) ولا كثيرا ، ولكنّه (٥) في نفسه واحد أو كثير ، وليس الجوهريّ والجوهر واحدا ، ولا العرض بمعنى العرض (٦)

__________________

(١) في المصدر : قاله خلق منهم ...

(٢) بالقياس الى كلّ شيء ...

(٣) في الموضوع ...

(٤) واحدا في شيء ...

(٥) كثيرا ، لكنّه في نفسه ...

(٦) بمعنى العرضيّ.

١٢

الذي في إيساغوجي (١) هو العرض الذي في قاطيفورياس (٣) ، وقد بيّنّا هذه الأشياء لك في صناعة المنطق.

فبيّن أنّ النفس لا يزيل عرضيّتها كونها فى المركّب كجزء ، بل يجب أن تكون في نفسها لا في موضوع (٤) وقد علمت ما الموضوع. فإنّ كل (٢) نفس موجودة لا في موضوع ، فكلّ نفس جوهر ، وإن كانت نفس ما قائمة بذاتها ، والبوقي كلّ واحد منها في هيولى وليست في موضوع ، فكلّ نفس جوهر. فإن (٥) كانت نفس ما قائمة في موضوع وهي مع ذلك جزء من المركّب ، فهي عرض ، وجميع هذا كمال ، فلم يتبيّن لنا بعد أنّ النفس جوهر أو ليس بجوهر من وصفنا أنّها كمال. وغلط من ظنّ أنّ هذا يكفيه في أن تجعل (٦) جوهرا كالصورة.

فنقول : إنّا إذا عرفنا أنّ النفس كمال بأيّ بيان وتفصيل فصّلنا الكمال ، لم نكن (٧) بعد عرفنا النفس وماهيّتها (٨) ، بل عرفناها من حيث هي نفس ، واسم النفس ليس يقع عليها من حيث جوهرها ، بل من حيث هي مدبّرة للأبدان ومقيسة إليها ؛ فلذلك يؤخذ البدن في حدّها كما يؤخذ مثلا البناء في حدّ الباني ، وإن كان لا يؤخذ في حدّه من حيث هو إنسان ، ولذلك صار النظر في النّفس من العلم الطبيعيّ ، لأنّ النّظر في النفس من حيث هي نفس ، نظر فيها من حيث لها علاقة بالمادة والحركة ؛ بل يجب أن يفرد لتعرّضنا ذات النفس (٩) بحث آخر ، ولو كنّا عرفنا بهذا ذات النفس ، لما أشكل علينا وقوعها في أيّ مقولة تقع فيه (١٠) ، فإنّ من عرف وفهم ذات الشيء فعرض على نفسه طبيعة أمر ذاتيّ له ، لم يشكل عليه وجوده له ، كما أوضحناه في المنطق.

لكنّ الكمال على وجهين : كمال أوّل ، وكمال ثان ، فالكمال الأوّل هو الذي يصير به النوع نوعا بالفعل ، كالشكل للسيف. والكمال الثاني هو أمر من الامور التي تتبع نوع

__________________

(١) إيساغي خ ل.

(٣) في المصدر : في قاطيغوزياس ...

(٤) لا في موضوع البتّة ...

(٥) وإن كانت نفس ...

(٦) أن يجعلها جوهرا ...

(٧) لم يكن بعد ...

(٨) وماهيّتها ...

(٩) أن نفرد لتعرّفنا ذات النفس بحثا آخر ...

(١٠) مقولة تقع فيها.

(٢) فإن كان خ ل.

١٣

وجود الشيء (٣) من أفعاله وانفعالاته ، كالقطع للسّيف وكالتمييز والرويّة والإحساس والحركة للانسان ، فإنّ هذه كمالات لا محالة للنوع ، لكن ليست أوّليّة (٤) فانّه ليس يحتاج النوع في أن يصير هو ما هو بالفعل إلى حصول هذه الأشياء له بالفعل ، بل إذا حصل له مبدأ هذه الأشياء بالفعل ، حتّى صار له هذه الأشياء بعد ما لم تكن بالقوّة الّا بقوّة بعيدة يحتاج (٥) إلى أن يحصل قبلها (١) شيء ، حتّى يصير بالحقيقة بالقوّة ؛ صار حينئذ الحيوان حيوانا بالفعل. فالنفس كمال أوّل ، ولأنّ الكمال كمال للشيء ، فالنفس كمال الشيء ، وهذا الشيء هو الجسم ، ويجب أن يؤخذ الجسم بالمعنى الجنسيّ لا بالمعنى المادّيّ ، كما علمت في صناعة البرهان ، وليس هذا الجسم الذي النّفس كماله كلّ جسم ، فإنّها ليست كمال الجسم الصناعيّ كالسرير والكرسيّ وغيرهما ، بل كمال الجسم الطبيعيّ ، ولا كلّ جسم طبيعيّ ، فليس النفس كمال نار ولا أرض ولا هواء ، بل هي في عالمنا كمال جسم طبيعيّ يصدر (٦) عنه كمالاته الثانية بآلات يستعين بها في أفعال الحياة ، التي أوّلها التغذّي والنموّ. فالنفس التي نحدّها كمال (٧) أوّل لجسم طبيعيّ آليّ له أن يفعل أفعال الحياة ؛ لكنّه قد يتشكّك في هذا الموضوع بأشياء : من ذلك أنّ لقائل أن يقول : هذا (٨) الحدّ لا يتناول النفس الفلكية ، لأنّها (٢) تفعل بلا آلات ، وإن تركتم ذكر الآلات واقتصرتم على ذكر الحياة لم يغنكم ذلك شيئا ، فإنّ الحياة التي لها ليس هو التغذّي والنموّ ، ولا أيضا الحسّ ؛ وأنتم تعنون بالحياة التي في الحدّ هذا.

وإن عنيتم بالحياة ما للنفس الفلكيّة من الإدراك مثلا والتصوّر العقليّ والتحريك لغاية إراديّة ، أخرجتم النبات من جملة ما يكون نفس. وأيضا إن كان التغذّي حياة ، فلم لا تسمّون النبات حيوانا؟

وأيضا لقائل أن يقول : ما الذي أحوجكم إلى أن تثبتوا نفسا؟ ولم لم يكفكم أن

__________________

(٣) في المصدر : وجود نوع الشيء ...

(٤) ليست أولى ...

(٥) تحتاج إلى ...

(٦) تصدر عنه ...

(٧) نحدّها هي كمال ...

(٨) يقول : إنّ هذا.

(١) فيها خ ل.

(٢) فإنّها خ ل.

١٤

تقولوا : إنّ الحياة نفسها هي هذا الكمال ، فيكون الحياة هي المعنى الذي يصدر عنه ما تنسبون صدوره إلى النفس من ذلك؟ (١)

فلنشرع في جواب واحد واحد من ذلك وحلّه.

فنقول : أمّا الأجسام السماويّة فإنّ فيها مذهبين :

مذهب من يرى أنّ كلّ كوكب يجتمع منه ومن عدّة كرات قد دبّرت بحركته جملة جسم كحيوان واحد ، فيكون حينئذ كلّ واحد من الكرات يتمّ فعله (٢) بعدّة أجزاء ذوات حركات ، فيكون هي كمالات (٣) ، وهذا القول لا يستمرّ في كلّ الكرات.

ومذهب من يرى أنّ كلّ كرة فلها في نفسها حياة مفردة ، وخصوصا ، ويرى جسما تاسعا ، ذلك الجسم واحد بالفعل لا كثرة فيه ، فهؤلاء يجب أن يروا أنّ اسم النفس إذا وقع على النفس الفلكيّة وعلى النفس النباتيّة ، فإنّها تقع (٤) بالاشتراك ، أنّ (٥) هذا الحدّ إنّما هو للنفس الموجودة للمركّبات ، وأنّه اذا احتيل حتى يشترك (٦) الحيوانات والفلك في معنى اسم النفس ، خرج معنى النباتات من تلك الجملة. على أنّ هذه الحيلة صعبة ، وذلك لأنّ الحيوانات والفلك لا تشترك في معنى اسم الحياة ، ولا في معنى اسم النطق أيضا ؛ لأنّ النطق الذي هاهنا يقع على وجود نفس لها العقلان الهيولانيّان ، وليس هذا ممّا يصحّ هناك على ما يرى. فإنّ العقل هناك عقل بالفعل ، والعقل بالفعل غير مقوّم للنفس الكائنة جزء حدّ للناطق ، وكذلك الحسّ فيها (٧) يقع على القوّة التي بها يدرك (٨) المحسوسات على سبيل قبول أمثلتها والانفعال منها ، وليس هذا أيضا ممّا يصحّ هناك على ما يرى.

ثمّ إن اجتهد فجعل النفس كمالا أوّلا لما هو متحرّك بالإرادة ومدرك من الأجسام ، حتّى تدخل فيه الحيوانات والنفس الفلكيّة ، خرج النبات من تلك الجملة ؛ وهذا هو القول المحصّل. وأمّا أمر الحياة والنفس فمثل (٩) الشك في ذلك على ما نقول : إنّه قد صحّ أنّ الأجسام يجب أن يكون فيها مبدأ الأحوال (١٠) المعلومة المنسوبة إلى الحياة بالفعل ، فإنّ من

__________________

(١) في المصدر : إلى النفس؟ فلنشرع ...

(٢) يتمّ فعلها ...

(٣) ذوات حركة ، فتكون هي كالآلات ، وهذا القول ...

(٤) النباتيّة ، فإنّما يقع ...

(٥) وأنّ هذا الحدّ ...

(٦) تشترك الحيوانات ...

(٧) الحسّ هاهنا ...

(٨) التي تدرك بها ...

(٩) فحلّ الشكّ ...

(١٠) مبدأ للأحوال.

١٥

سمّى هذا المبدأ حياة لم يكن معه مناقشة. وأمّا المفهوم عند الجمهور من لفظة الحياة المقولة على الحيوان فهو أمران:

أحدهما كون الشيء موجودا فيه مبدأ يصدر (١) تلك الأحوال عنه ، أو كون الجسم بحيث يصحّ صدور تلك الأفعال عنه ، فأمّا الأوّل فمعلوم أنّه ليس معنى النفس بوجه من الوجوه ، وأمّا الثاني فيدلّ على معنى أيضا غير معنى النفس ، وذلك لأنّ كون الشيء بحيث يصحّ أن يصدر عنه شيء أو يوصف بصفة ، يكون على وجهين :

أحدهما أن يكون في الوجود شيء (٢) غير ذلك الكون نفسه يصدر عنه ما يصدر ، مثل كون السفينة ، بحيث يصدر (٣) عنه منافع السفنيّة (٤) ، وذلك ممّا يحتاج إلى الربّان حتّى يكون هذا الكون ، والربّان وهذا الكون ليس شيئا واحدا بالموضوع.

والثاني أن لا يكون شيء غير هذا الكون في الموضوع ، مثل كون الجسم بحيث يصدر منه الإحراق عند من يجعل نفس هذا الكون الحرارة ، حتّى يكون وجود الحرارة في الجسم هو وجود هذا الكون ، وكذلك وجود النفس وجود هذا الكون على ظاهر الأمر ، الّا أنّ ذلك في النفس لا يستقيم. فليس المفهوم من هذا الكون ومن النفس شيئا واحدا. وكيف لا يكون كذلك والمفهوم من الكون الموصوف لا يمنع أن يسبقه بالذات كمال ومبدأ تمّ (٥) للجسم هذا الكون. والمفهوم من الكمال الأوّل الذي رسمناه يمنع أن يسبقه بالذات كمال آخر ، لأنّ الكمال الأوّل ليس له مبدأ وكمال أوّل ، فليس إذن المفهوم من الحياة والنفس واحدا إذ (٦) عنينا بالحياة ما يفهم الجمهور. وإن عنينا بالحياة أن تكون لفظة مرادفة للنفس في الدّلالة على الكمال الأوّل ، لم يناقش (٧) ؛ وتكون الحياة اسما لما كنّا وراء إثباته من هذا الكمال (٨) ، وقد فرغنا الآن عن معنى (٩) الاسم الذي يقع على الشيء الذي سمّي نفسا بالإضافة (١٠) له. فبالحريّ أن نشتغل بإدراك ماهيّة (١١) هذا الشيء الذي صار باعتبار (١٢) المقول نفسا ، ويجب أن نشير في هذا الموضع إلى إثبات وجود النفس التي لنا

__________________

(١) في المصدر : تصدر تلك ...

(٢) يكون الوجود شيئا غير ...

(٣) تصدر ...

(٤) المنافع السفينيّة ...

(٥) ثمّ للجسم ...

(٦) إذا عنينا ...

(٧) لم نناقش ...

(٨) هذا الكمال الأوّل ...

(٩) فقد عرفنا معنى ...

(١٠) بإضافة له ...

(١١) ماهيّة ...

(١٢) بالاعتبار.

١٦

إثباتا (على سبيل التنبيه والتذكير) إشارة شديدة الوقوع (٦) عند من له قوّة على ملاحظة الحقّ نفسه من غير احتياج إلى تثقيفه (١) وقرع عصاه وصرفه عن المغلّطات.

فنقول : «يجب أن يتوهّم الواحد منّا كأنّه خلق دفعة ، وخلق كاملا ، لكنّه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات ، وخلق يهوي في هواء وخلاء ، هويّا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدم ما (٢) (٧) يحوج إلى أن يحسّ ، وفرّقت (٨) بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماسّ ، ثمّ يتأمّل أنّه هل يثبت وجود ذاته فلا (٩) يشكّ في اثباته لذاته موجودا ، ولا يثبت مع ذلك طرفا من أعضائه. ولا باطنا من أحشائه ، ولا قلبا ولا دماغا ولا شيئا من الأشياء من خارج ؛ بل كان يثبت ذاته ولا يثبت لها طولا ولا عرضا ولا عمقا ، ولو أنّه أمكنه في تلك الحال أن يتخيّل هذا (١٠) أو عضوا آخر ، لم يتخيّله جزءا من ذاته ولا شرطا في ذاته. وأنت تعلم أنّ المثبت غير الّذي لم يثبت ، والمقرّ به غير الّذي لم يقرّ به ، فإذن للذّات التي أثبت وجودها خاصيّة لها على أنّها هو بعينه غير جسمه وأعضائه التي لم تثبت ، فإذن المثبتة (٣) (١١) له سبيل على تنبّهه (١٢) على وجود النفس شيئا غير الجسم ، وأنّه (٤) عارف به مستشعر له ، فإن (١٣) كان ذاهلا عنه ، يحتاج إلى أن يقرع عصاه» (٥) انتهى كلامه.

«في شرح كلام الشيخ»

وأقول وبالله التوفيق :

قوله : «في إثبات النفس وتحديدها من حيث هي نفس» ، أي من حيث إنّ لها إضافة

__________________

(٦) في المصدر : شديدة الموقع ...

(٧) صدما ما ...

(٨) وفرّق بين ...

(٩) ولا يشكّ ...

(١٠) يتخيّل يدا أو عضوا ...

(١١) المثبت ...

(١٢) سبيل إلى أن يتنبّه ...

(١٣) وإن كان ...

(١) تثقيف الرماح : تسويتها.

(٢) صدما ظ.

(٣) المتنبّه ظ.

(٤) فإنّه خ ل.

(٥) الشفاء ـ الطبيعيّات ؛ وقد مرّ.

١٧

ما إلى البدن ، لا من حيث حقيقتها وجوهرها ، كما سيظهر وجه ذلك.

وقوله : «إنّ أوّل ما يجب أن نتكلّم فيه إثبات وجود الشيء الّذي يسمّى نفسا ، ثمّ نتكلّم فيما يتبع ذلك» أي إثبات وجود الشيء الذي يسمّى نفسا من حيث إنّه يسمّى نفسا ، أي من حيث إنّه يطلق عليه هذه اللفظة ، ومن جهة أنّ له إضافة إلى البدن ومقيس إليه.

وقوله : «إنّا قد شاهدنا أجساما تحسّ وتتحرّك بالإرادة ، بل نشاهد أجساما تغتذي وتنمو وتولّد المثل ...» ـ الى آخره ـ

يريد إثبات النّفس الأرضيّة المتناولة للنباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة ، من حيث إنّها نفس ولها إضافة ما إلى الجسم الذي هي نفس له ، بأنّا نشاهد أجساما تحسّ وتتحرّك بالإرادة ، سواء كانت تحسّ وتتحرّك بالإرادة الجزئيّة فقط كما غير الإنسان من الحيوانات ؛ أو كانت تحسّ وتتحرك بالإرادة الجزئية والكلّيّة جميعا ، كما في الإنسان ، بل نشاهد أجساما تغتذي وتنمو وتولّد المثل ، كما في النبات ، وكما في الحيوان والإنسان أيضا.

وإنّما قدّم ذكر ما يختصّ بالحيوان والإنسان ، لكون الغرض الأصليّ منها إثبات النّفس الحيوانيّة ، بل الإنسانيّة ، وأنّ إثبات النّفس النباتيّة إنّما هو لأجل وجودها في الحيوان ، بل في الإنسان. فلذا ذكر ما يختصّ به النبات ثانيا وعلى سبيل الترقي من السابق.

ثمّ إنّا حيث شاهدنا ذلك ، علمنا أنّ لتلك الأحوال المشاهدة في تلك الأجسام مبدأ غير خارج عن ذوات تلك الأجسام ، أمّا بيان ثبوت المبدأ لها فظاهر ، وأمّا كونه غير خارج عنها ، فلأنّا حيث شاهدنا وجود تلك الأحوال في تلك الأجسام ، نحكم بأنّ مباديها يجب أن تكون موجودة فيها أو معها ولو بوجه ، وهذا أيضا ظاهر. وسيأتي زيادة بيان لذلك.

وعلمنا أيضا أن ليس ذلك المبدأ نفس جسميّتها المشتركة ، وإلّا لاشترك جميع الأجسام في تلك الأحوال ، وليس الأمر كذلك. فبقي أن يكون ذلك المبدأ غير جسميّتها

١٨

المشتركة ، وأن تكون لتلك الأجسام بذواتها مباد لتلك الأحوال ، وأن يكون فيها أو معها الشيء الّذي يصدر عنه هذه الأفاعيل.

وقوله : «فبالجملة كلّ ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة ، فإنّا نسمّيه نفسا».

هذا تفريع على ما تقدّم ، أي وبالجملة ، فكلّ ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل كذلك ، كما في النبات والحيوان حيث أشرنا إلى إثبات مبدأ لها فيهما ، فإنّا نسمّيه نفسا. ولا يخفى أنّ تلك الأفاعيل ـ حيث كانت ـ إشارة إلى الأحوال التي ذكرها في النبات والحيوان عامّة شاملة للحسّ والإدراك أيضا ، ويكونان هما أيضا فعلا بهذا المعنى ، وإن لم يكونا فعلا بالمعنى الآخر.

ثمّ لا يخفى أنّ قوله : «عادمة للارادة» صفة لقوله : «وتيرة واحدة» وأنّ النفي وارد على الموصوف المقيّد بهذا الوصف ، وأنّ تحقّق هذا النفي كما يكون بانتفاء الموصوف والوصف جميعا ، أعني أن يكون المتحقّق هنالك كون صدور تلك الأفاعيل على وتائر متعدّدة وأنهاج مختلفة ، ومع الإرادة ؛ كذلك قد يكون بانتفاء الموصوف وحده ، وإن لم ينتف الوصف ، أعني أن يكون ذلك الصدور على وتائر مختلفة عادمة للإرادة ، وقد يكون بانتفاء الوصف وحده ، وإن لم ينتف الموصوف ؛ أعني أن يكون على وتيرة واحدة ومع الإرادة. وحينئذ فيكون المعنى أنّ كلّ ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة ، كما في أفعال الطبائع ، حيث أنّها تكون على وتيرة واحدة عادمة للإرادة ، ويسمّى مبدأ صدورها طبيعة ، فإنّا نسمّيه نفسا ، سواء كان مبدأ لصدور أفاعيل على أنهاج مختلفة عادمة للإرادة ، كالنّفس النّباتيّة ، أو مبدأ لصدور أفاعيل على أنهاج مختلفة لكن مع الإرادة ، كالنفس الحيوانيّة ، وكالنفس الإنسانيّة أيضا إذا استعملت القوى الحيوانيّة وفعلت بتوسّطها ، أو مبدأ لصدور فعل على وتيرة واحدة مع الإرادة ، كالنفس الإنسانيّة في فعلها الخاصّ بها من الإدراك الكلّيّ ونحوه ، إذا قلنا بكونه على نهج واحد.

١٩

لا يقال قوله : «مبدأ لصدور أفاعيل» بصيغة الجمع يأبى عن حمل العبارة على معنى يشمل القسم الثالث ، بل إنّه يشعر بالحمل على معنى يشمل القسمين الأوّلين فقط.

لأنّا نقول : ما فهمته مبنيّ على أنّ إيراد صيغة الجمع إنّما هو بالقياس إلى نفس واحدة ، وليس كذلك ؛ بل الظاهر أنّه بالقياس إلى نفوس متعدّدة. فحيث اعتبر بالقياس إلى كلّ نفس من النفوس الأرضيّة فعلا خاصّا ، اعتبر تعدّد الأفاعيل ؛ وهذا كما يقال : أفاعيل الطبائع ، والحال أنّ فعل الطبيعة إنّما هو على وتيرة واحدة. وكيف يمكن اعتبار التعدّد والجمعيّة بالقياس إلى نفس واحدة ، والحال أنّه على هذا يلزم أن يكون قوله : «ليست على وتيرة واحدة» مستدركا لكون قوله : «أفاعيل» الدالّ بصيغة الجمع على التعدّد مغنيا عنه ، ولكان حقّ العبارة أن يقول : إنّ كلّ ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ، فإنّا نسمّيه نفسا ؛ سواء كان عادما للإرادة أو واجدا لها.

وأيضا على ما ذكرته يلزم خروج النفس الإنسانيّة من حيث فعلها الخاصّ بها ، إذا قلنا بوحدته وكونه على وتيرة واحدة ، والحال أنّ المقصود تعميم العبارة بحيث تشملها أيضا مطلقا. فتدبّر.

ثمّ إنّه ربما يظنّ أن ما عبّر به عن النفس الأرضيّة وهو قوله : «ما يكون مبدأ لصدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة» كما أنّه متناول للنفس الأرضيّة بأفرادها وأقسامها ، كذلك هو متناول للنفس الفلكيّة أيضا ، إذ هي عندهم على القول بتعلّق النفس بكلّ كرة من الكرات وبكلّ كوكب من الكواكب ، تكون مبدأ لصدور فعل واحد على وتيرة واحدة مع الإرادة. وعلى القول بتعلّقها بالفلك الكلّيّ وكون الكرات الجزئيّة والكواكب المختلفة في الأفاعيل كالآلات ، تكون مبدأ لصدور الأفاعيل على وتائر مختلفة ومع الإرادة. وعلى التقديرين ، فتندرج النفس الفلكيّة أيضا في معنى هذه العبارة ، ويكون هذا التعريف شاملا للنفس الأرضيّة والفلكيّة جميعا.

فعلى هذا فيرد على الشيخ أنّه لا يخفى أنّه في هذا الفصل بصدد إثبات النفس الأرضيّة وتحديدها ، دون الفلكيّة ، فما باله قد عبّر عنها في هذا التعبير بما يتناول الفلكيّة

٢٠