منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-341-1
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٥٦

الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) (١)

وقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (٢)

وقوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (٣)

وقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤)

وقوله تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) (٥)

وقوله تعالى : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (٦)

إلى غير ذلك من الآيات فتدبّر تعرف. والله الموفّق.

وهذا الذي ذكرنا هو الكلام في تأويل الخبر الثاني ، والله أعلم.

ومنه يعلم تأويل الأخبار الباقية ؛ فإنّ قوله عليه‌السلام فى الحديث الثالث (٧) في تفسير قوله تعالى (وَرُوحٌ مِنْهُ) (٨) : هي مخلوقة خلقها الله بحكمته في آدم وعيسى (٩) عليهما‌السلام ؛ قيل : الروح الحيوانية والإنسانيّة جميعا ؛ وكذا إسنادها إلى الله تعالى يحتمل التشريف وأنّها مخلوقة له تعالى.

__________________

(١) فاطر / ٩.

(٢) يس / ١٢.

(٣) يس / ٨١.

(٤) فصّلت / ٣٩.

(٥) نوح / ١٨.

(٦) الزخرف / ١١.

(٧) الاحتجاج ٢ / ٣٢٣.

(٨) النساء / ١٧١.

(٩) في المصدر : وفي عيسى.

١٤١

كما أنّ قوله عليه‌السلام فى الحديث الرابع ، (١) في تفسير قوله تعالى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (٢) محمول على أنّ المراد بالروح هو الروح الحيوانيّة التي هي مجانسة للريح ، وأنّ الإضافة للتشريف.

وكذلك قوله عليه‌السلام في الحديث الخامس «وأجرى في صورهم من ريح الجنّة» (٣) لعلّ المراد به الروح الحيوانيّة التي هي مجانسة للريح كما ذكر ، إلّا أنّها في المؤمن من ريح الجنة ، كما أنّ الظاهر أنّ المراد بطينة الجنان ذلك التراب الّذي ذكر أنّه مبدأ خلق الإنسان ، إلّا أنّه في المؤمنين من تراب الجنّة.

وحيث عرفت ما ذكرنا من الكلام الذي وقع في البين بالمناسبة والتقريب ، فلنرجع إلى ما كنّا بصدده في هذا الباب.

في بيان جوهريّة النفس

فنقول : أمّا بيان جوهريّة النفس ، فله طريقان : أحدهما خاصّ بالنفس الناطقة الإنسانيّة ، والآخر عامّ يعمّ النفس الأرضيّة بأنواعها ، أي النباتيّة والحيوانية والانسانيّة.

أمّا الطريق الخاصّ بالإنسانيّة ، فهو يتوقّف على إثبات تجرّدها ، لأنّه إذا ثبت أنّها ليست بجسم ، كما تقدّم ؛ وثبت مع ذلك أنّها مجرّدة عن المادّة قائمة بذاتها ؛ لم يقع شكّ في أنّها جوهر.

وأمّا الطريق العامّ ، فبأن يقال : لو كان وجود النفس الأرضيّة في الجسم كوجود العرض في الموضوع ، لكان حال تلك النفس ـ بالقياس إلى ذلك الجسم ـ كحال الأعراض التي يتبع وجودها وجود الموضوع لها ، ولا تكون مقوّمة لموضوعها بالفعل ، كما هو شأن العرض الموجود في الموضوع. ولكان حال ذلك الجسم ـ بالقياس إلى النفس ـ كحال

__________________

(١) الاحتجاج ٢ / ٣٢٣.

(٢) ص / ٧٢.

(٣) أصول الكافي ٢ / ١٣٣.

١٤٢

الموضوع. أي مادّة محفوظة الذات باقية بعينها مع تبدّل الأعراض الواردة عليها ، أي أن يكون ذلك الجسم الذي فرض موضوعا للنفس باقيا بعينه بعد مفارقة تلك النفس عنه ، يكون هو موضوعا لغير تلك النفس من نفس أخرى ، أو شيء آخر غير النفس ، كما هو شأن موضوع العرض ، وهذا باطل قد ظهر بطلانه ممّا بيّناه سابقا في مسألة بقاء النفس.

أمّا الأوّل ، فلما عرفت هنا لك أنّ المادّة القريبة لوجود هذه الأنفس العنصريّة فيها ، إنّما هي ما هي بمزاج خاصّ وهيئة خاصّة وتركيب مخصوص ، هي بذلك تستعدّ لفيضان نفس عليها حافظة لمزاجها ، جامعة لأجزائها. وأنّه إنّما تبقى تلك المادّة بذلك المزاج والتركيب وتلك الهيئة بالفعل ما دام فيها أو معها النفس ، والنفس هي التي تجعلها بذلك المزاج الموافق ، وهي علّة لتكوّن النبات والحيوان على المزاج الذي لهما. وأنّ الموضوع القريب للنفس يستحيل أن يكون هو ما هو بالفعل إلّا بالنفس ، فإنّ النفس علّة لكونه كذلك ، وأنّه لا يجوز أن يقال : إنّ الموضوع القريب لها حصل على طباعه موجودا بسبب غير النفس ، ثمّ لحقته النفس لحوقا لا قسط لها بعد ذلك في حفظة وتقويمه وتربيته ، كالحال في أعراض يتبع وجودها وجود الموضوع ، ولا تكون مقدّمة لموضوعها بالفعل. بل إنّ النفس مقوّمة لموضوعها القريب ، فحينئذ فهي ليست بعرض.

ومنه يظهر أيضا أنّ النّفس مغايرة لمزاج بدنها ولجسميّته.

وأمّا الثاني ، فلما عرفت أيضا ثمّة أنّه إذا فارقت النفس عن موضوعها ، وجب ضرورة أن يكون فراقها يحدث لغالب صيّر الموضوع بحالة اخرى وأحدث فيه صورة جماديّة ، كالمقابلة للصورة المزاجيّة الموافقة لتلك النفس ولتلك الصورة. وأنّ المادّة التي للنفس لا تبقى بعد النفس على نوعها البتّة ، بل إما أن يبطل نوعها وجوهرها الذي به كان موضوعا للنفس ، أو يخلف النفس عنها صورة أخرى تستبقي المادّة بالفعل على طبيعتها ؛ فلا يكون ذلك الجسم الطبيعيّ كما كان أوّلا ، بل يكون هناك صورة وأعراض اخرى ، ويكون قد تبدّل أيضا بعض أجزائه وفارق عنه ، مع تغيّر الكلّ فى الجوهر.

ومما يوضّح ما ذكرنا أنّه من المعلوم المشاهد أنّ النفس الإنسانيّة إذا فارقت بدن

١٤٣

الإنسان ، وكذا النفس الحيوانيّة إذا فارقت بدن الحيوان ، لا يبقى البدن الإنسانيّ والبدن الحيوانيّ على طبيعته الأوّليّة التي كان هو بها موضوعا للنفسين ، وعلى مزاجه وتركيبه الأوّلين ؛ بل يفسد ويتغيّر ويتلاشى أعضاؤه ويتفرّق أجزاءه ويبطل نوعه. وكذلك النفس النباتيّة إذا فارقت جسم النبات ، لا يبقى ذلك الجسم على طبيعته الأوّليّة ونوعه السابق الذي به كان موضوعا للنفس النباتيّة ، فإنّ الشّجر المقطوع ـ مثلا ـ وإن بقي بصورته وهيئته وتركيبه في الظاهر ، إلّا أنّه في الحقيقة ليس بشجر ، بل هو خشب حدثت فيه صورة جماديّة ، ولذلك ليس من شأنه أن تفاض عليه نفس تارة أخرى.

وبالجملة ، فالنامي من حيث أخذه نفسا وفصلا لذلك الجسم من حيث أخذه جنسا ، يلزم من زواله وانعدامه انعدام تلك الحصّة الجنسيّة التي تقوّمها وتحصّلها به. وكذلك من حيث أخذه صورة للجسم من حيث أخذه مادّة ، يلزم من انعدامه انعدام تلك المادّة المتقوّمة بتلك الصورة ، وعدم بقائها على الطبيعة السابقة. وعلى التقديرين ، فيلزم من مفارقة النفس النباتيّة عن جسم النبات بطلان نوعه. وكذلك من المعلوم المبيّن أنّه عند فيضان النفس النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة وتواردها على المادّة المنويّة البدنيّة الإنسانيّة في الرحم ، سواء قلنا : بأنّها نفوس متعدّدة كما قد يظنّ ، أو بأنّها ذات واحدة تتزايد كمالاتها كما هو الحقّ ، وسيأتي تحقيقه بتوارد الصور المضغيّة والعقليّة والعظميّة واللحميّة على تلك المادة ؛ فلا تبقى تلك المادّة على طبيعتها ، بل تخلف كلّ نفس من تلك النفوس أو كلّ مرتبة من تلك المراتب نفس أخرى أو مرتبة أخرى تكون تلك المادّة معها على صورة أخرى وطبيعة اخرى غير الأولى ، فلا يكون ذلك الجسم الطبيعيّ الذي يفرض موضوعا أو مادّة للنفس الاولى أو للمرتبة الاولى كما كان أوّلا ، بل يكون هناك أعراض أخرى وتغيّرت تلك المادّة في الجوهر.

وحيث عرفت ذلك ، وعرفت أنّه بعد مفارقة النفس لا تبقى المادّة التي فرض كونها مادّة للنفس على نوعها ، عرفت أنّه حينئذ لا يكون هناك مادّة محفوظة الذات بعد مفارقة النفس هي كانت موضوعة للنفس ، والآن موضوعة لغير النفس ، فإذن ليس وجود النفس

١٤٤

في الجسم كوجود العرض في الموضوع ، فثبت مما ذكرنا أنّ النفس ليست بعرض ، وأنّ مادّتها ليست بموضوع لها ، فثبت أنّ النفس جوهر ، لأنّها صورة في موضوع ، وهذا هو المطلوب.

فإن قلت : إنّ ما ذكرته من بيان حال المادّة البدنيّة فى الرحم ، وإن كان ظاهرا على تقدير القول بأنّ الفائض هناك على المادّة البدنيّة نفوس متعدّدة متغايرة ، إلّا أنّه على تقدير القول بأنّ الفائض هناك نفس واحدة بالذات ، يتزايد كمالاتها ، ففيه إشكال. لأنّه إن كانت تلك المراتب المتزايدة من قبيل الأعراض ، والحال أنّ موضوعها يتغيّر بتغيّرها كما هو المفروض ، فيلزم أن يكون بتغيّر العرض يتغيّر الموضوع ، وهذا خلاف ما هو المقرّر عندهم. وإن كانت من قبيل الجواهر ، فتكون هي صورا ، فتكون نفوسا متعدّدة لا نفسا واحدة وذاتا واحدة ، وهذا خلاف المفروض.

قلت : لا إشكال في ذلك ، لأنّها نختار أنّها جواهر وصور مقوّمة لموادّها ، فلذا يلزم من تغيّرها تغيّر موادّها. لكن لا يلزم من كونها صورا كونها نفوسا متعدّدة ، بل أنّها قوى متعدّدة لذات واحدة ونفس واحدة ، أي قوى تنبعث عن النفس الواحدة في الأعضاء ، يتأخّر فعل بعضها ويتقدّم فعل بعض آخر منها بحسب استعداد الآلة ، ولا يلزم من اختلاف قوى متعدّدة لشيء واحد ، اختلاف في ذات ذلك الشيء بحسب جوهره وسنخه ، وهذا كما أنّ من البيّن أنّ لكلّ نفس من النفوس النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة التي هي بانفرادها ذات واحدة قوى متعدّدة ، ولا يلزم من تعدّد قواها تعدّد ذات تلك النفس الواحدة ، ولم يقل به أيضا أحد.

ثمّ إنّ في هذا المقام إشكالا آخر ذكره الشيخ في الشفاء مع جوابه ، وبيان الإشكال وتحريره : (١) أنّ ما ذكر من أنّ النفس علّة قريبة لقوام مادّتها القريبة ، فهي ليست بعرض ، وأنّ مادّتها ليست بموضوع ، لو كان مسلّما ، فانّما يسلّم في النفس النباتيّة. وأمّا النفس الحيوانيّة ، فيشبه أن تكون النفس النباتيّة تقوم مادّتها ، ثمّ يلزمها اتّباع هذه النفس

__________________

(١) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ٢٤ ـ ٢٦ ، الفصل الثالث من المقالة الاولى من الفنّ السادس.

١٤٥

الحيوانيّة إيّاها اتّباع وجود العرض لوجود الموضوع ؛ فيكون الحيوانيّة متحصّلة في مادّة تقوّمت بذاتها ، أي من غير أن تكون الحيوانيّة مقوّمة لتلك المادّة. بل إنّ تلك المادّة علّة لقوام الحيوانيّة التى حلّتها ، فلا تكون الحيوانيّة إلّا قائمة في موضوع.

وبيان الجواب وتحريره ، أنّ النفس النباتيّة ـ بما هي نفس نباتيّة ـ لا يجب عنها إلّا جسم متغذّ مطلقا ، وأنّ النفس النباتيّة مطلقة ليس لها وجود إلّا وجود معنى جنسيّ ، وذلك في الوهم ، أي في الذهن فقط. وأمّا الموجود في الأعيان ، فهو أنواعها. فحينئذ نقول : إنّ النفس النباتيّة ـ بما هي نفس نباتيّة مطلقة ـ سبب واحد عامّ يجب عنه شيء عامّ أيضا ، أي كلّي غير محصّل ، وهو الجسم المتغذي النامي المطلق الجنسي الغير المنوّع. وأمّا الجسم ذو آلات الحسّ والتميّز والحركة الإراديّة ، فليس مصدره عن النفس النباتيّة بما هي نفس نباتيّة ، بل بما ينضمّ إليها من فصل آخر يصير به طبيعة اخرى ، ولا يكون ذلك إلّا أن يصير نفسا حيوانية. فظهر من ذلك أنّ المادة القريبة للنفس النباتيّة ـ بما هي نباتيّة ـ لا تكون بعينها مادّة قريبة للنفس الحيوانيّة بما هي حيوانيّة ، بل المادّتان متغايرتان كالنفسين. وأنّه لا يمكن أن تبقى مادّة النباتيّة بعينها مادّة للحيوانيّة ، متقوّمة بالنباتيّة فقط ، حتّى يمكن فرض النفس الحيوانيّة عرضا قائما في موضوع هو مادّة النباتيّة ، بل إنّ تقوّم المادّة الحيوانيّة بالنفس الحيوانيّة ؛ فهي أيضا ليست بعرض كالنفس النباتيّة التي فرض تقوّم مادّتها بها.

ثمّ إنّه بيّن الجواب عن هذا الإشكال بوجه آخر أبسط وأوضح ، وتحريره : أنّ النفس النباتيّة إمّا أن يعنى بها النفس النوعيّة التى تخصّ النبات دون الحيوان ، أو يعنى بها المعنى العامّ الذي يعمّ النفس النباتيّة والحيوانيّة من جهة ما يغتذي ويولّد وينمو ، فإنّ هذا قد يسمّى نفسا نباتيّة ، وهذا مجاز من القول ، فإنّ النفس النباتيّة لا تكون إلّا في النبات ، ولكن المعنى العامّ الذي يعمّ نفس النبات والحيوان يكون في الحيوانات ، كما يكون في النبات ، ووجوده كما يوجد المعنى العامّ في الأشياء. وإمّا أن يعنى بها القوّة من قوى النفس الحيوانيّة التي يصدر عنها أفعال التغذية والتربية والتوليد ، كما هو مقتضى القول

١٤٦

بأنّ النفس واحدة ولها قوى متعددة ، كما هو المذهب الحقّ ، وسيأتي تحقيقه. فإن عنى بها النفس النباتيّة التي هي بالقياس إلى النفس الفاعلة للغذاء نوعيّة ، أي النفس النوعيّة التي تخصّ النبات ، فذلك يكون في النبات لا غير ، وليس في الحيوان ؛ فلا يمكن أن يقال إنّ النفس النباتيّة قوّمت مادّتها ، وصارت تلك المادّة بعينها موضوعا للنّفس الحيوانيّة وهي عرض فيها. وإن عنى به المعنى العامّ ، فيجب أن ينسب إليه معنى عامّ لا خاصّ ، فإنّ الصانع العامّ هو الذي ينسب إليه المصنوع العامّ ، والصانع النوعي كالنجّار هو الذي ينسب إليه المصنوع النوعيّ ، والصانع المعيّن هو الذي ينسب إليه المصنوع المعيّن ، وهذا شيء قد مرّ لك تحقيقه. فالذي ينسب إلى النفس النباتيّة العامّة من أمر الجسم أنّه تامّ عامّ ، وأمّا أنّه تامّ بحيث أنّه يصلح لقبول الحسّ أولا يصلح ، فليس ينسب إلى النفس النباتيّة من حيث هي عامّة ، ولا هذا المعنى يتبعه.

فعلى هذا أيضا ، لا يمكن أن يقال : إنّ النفس النباتيّة قوّمت مادّتها ، ثمّ صارت تلك المادّة موضوعا للنفس الحيوانيّة.

وأمّا القسم الثالث ، وهو أن يعني بها القوّة من قوى النفس الحيوانيّة التي يصدر عنها أفعال التغذية والتربية والتوليد ، وهو مقتضى القول بوحدة النفس وتعدّد قواها ، فظاهر أنّه على تقديره يستحيل أن يقال : إنّ القوّة النباتية وحدها تفعل بدنا حيوانيّا ، إذ ليست هي منفردة بالتدبير ، إذ لو كانت منفردة بالتدبير ، لكانت تتمّم جسما نباتيّا ، وليس الأمر كذلك ، بل المنفردة بالتدبير هناك نفس واحدة تتمّم جسما حيوانيّا بآلات الحسّ والحركة في الحيوان ، وجسما إنسانيّا في الإنسان ، لتلك النفس قوى متعدّدة ، أمّا قوّتان نباتيّة وحيوانيّة ، كما في الحيوان غير الإنسان ؛ أو ثلاث قوى نباتيّة وحيوانيّة وانسانيّة ، كما في الإنسان. وتلك القوى تنبعث عن تلك النفس الواحدة في الأعضاء ، ويتأخّر فعل بعضها ويتقدّم بحسب استعداد الآلة. وسيتّضح من بعد أنّ النفس واحدة لها قوى كذلك.

ومنه يظهر أن لا سبيل لإيراد نظير هذا الإشكال في المادّة الحيوانيّة ، بالنسبة إلى النفس الإنسانيّة ، لجريان نظير هذا الجواب بعينه فيه.

١٤٧

وكذلك يظهر منه أنّ النفس التي لكلّ حيوان أو إنسان هي جامعة لاسطقسّات بدنه ، ومؤلّفها ومركّبها على نحو يصلح معه أن يكون بدنا لها ، وهي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي ، فلا يستولي عليه المغيّرات ما دامت النفس موجودة فيه أو معه ، ولو لا ذلك لما بقي على صحّته.

وممّا ينبّه على ما ذكرنا ، ملاحظة ما يلاحظ من قوّة القوة النامية مثلا وضعفها عند استشعار النفس الناطقة قضايا تحبّها أو تكرهها محبّة وكراهة ليست ببدنيّته البتّة ، وذلك عند ما يكون الوارد على النفس تصديقا ما. وليس ذلك مما يؤثّر في البدن بما هو اعتقاد ، بل يتبع ذلك الاعتقاد انفعال من غمّ أو سرور. وذلك أيضا من المدركات النفسانيّة ، وليس ممّا يعرض للبدن بما هو بدن ، إلّا أنّه يؤثّر في القوّة النامية الغاذية ، حتّى يحدث فيها من العارض الذي يعرض النفس أوّلا ـ كالفرح النطقيّ ـ شدّة ونفاذ في فعلها ، ومن العارض المضادّ لذلك ـ كالغمّ النطقيّ الذي لا ألم بدنيّ فيه ـ ضعف وعجز حتّى يفسد فعلها. وربما انتقص المزاج به انتقاصا. بل ربّما كان الوارد على النفس الناطقة موجبا لتأثّر القوّة الحيوانيّة وقوّتها وضعفها. وكذلك ربّما يكون الواردات على كلّ من النّباتيّة والحيوانيّة موجبة لضعف الاخرى وقوّتها. وكذلك ربّما يكون الواردات عليهما موجبة لتأثّر القوّة الناطقة وقوّتها وضعفها ، وكلّ ذلك ممّا يجده الإنسان من ذاته في الأحوال الواردة عليه ، ودليل على ما ذكرنا من وحدة النفس وتعدّد قواها. فإنّها لو كانت متعدّدة كما قد يظنّ ، لما كان لضعف حال إحداها أو قوّتها مدخل في ضعف حال الاخرى أو قوّتها ، وكذلك هو دليل على أنّ تلك النفس جامعة لقوى الإدراك واستعمال الغذاء ، وهي واحدة ليست لها هذه منفردة عن تلك.

وإذا عرفت ما ذكر ، تبيّن لك أنّ النفس مكمّلة للبدن الذي هي فيه أو معه ، وحافظة على نظامه الأولى به أن يتفرّق ويتميّز ، إذ كلّ جزء من أجزاء البدن يستحقّ مكانا آخر ، ويستوجب مفارقة لقرينه ، وإنّما يحفظه على ما هو عليه شيء خارج عن طبيعته ، وذلك الشيء هو النفس في الحيوان والإنسان. فالنفس إذن كمال ، موضوع ذلك الموضوع يتقوّم

١٤٨

بها ، لا بالعكس ، وهي أيضا مكمّل النوع وصانعه ، فإنّ الأشياء المختلفة الأنفس ، تصير بها مختلفة الأنواع ، ويكون تغايرها بالنوع لا بالشخص. فالنّفس إذن ليست من الأعراض التي لا يختلف بها ، ولا يكون لها مدخل في تقويم الموضوع. فالنّفس اذن كمال كالجوهر لا كالعرض ، إلّا أنّه ليس يلزم من هذا أن يكون مفارقا أو غير مفارق ، فإنّه ليس كلّ جوهر بمفارق ، فلا الهيولى بمفارقة ولا الصورة. وقد علمت أنّ الأمر كذلك. انتهى ما ذكره الشيخ في هذا المقام بتحريره ، وبذلك تمّت الدلالة على جوهريّة النفس الأرضيّة بأنواعها ، إلّا أنّه لمّا لم يستلزم الدلالة على تجرّد ما هو مجرّد عن المادّة من تلك الأنواع ، أعني النفس الناطقة الإنسانيّة كما ذكره الشيخ ، وكان ذلك أيضا هو المقصود هنا ، بل المقصد الأسنى والمطلوب الأقصى الذي هو مختلف فيه بين المتكلّمين والحكماء ، ويتفرّع عليه أحكام اخرى ومقاصد لا تحصى ، كما لا يخفى على اولى النّهى ؛ فحريّ بنا أن نتكلّم فيه تكلّما وافيا شافيا ، عسى أن يرتفع به حجاب الإبهام عن وجه المدّعى ، ويتّضح منهج الرشاد وطريق الهدى.

فنقول ، وبالله التوفيق : إنّ الذين قالوا بتجرّد النفس الناطقة الإنسانيّة ومفارقتها عن المادّة ، وإن اقاموا عليه أدلّة كثيرة وحججا عديدة تترى من وجوه متكثّرة وطرق شتّى ، إلّا أنّا نذكر من تلك الأدلّة ما هو واضح السبيل ، يكفي لدى المنصف المسترشد المستبصر لشفاء العليل ، ولرواء الغليل. ولنقدّم قبل الخوض في المقصود ذكر نبذ من خواصّ الأفعال والانفعالات التي للإنسان ، وبيان قوى النظر والعمل التي للنفس الإنسانيّة على سبيل الإجمال ، مقدّمة للدليل على ما هو المقصود ، موافقا ل «الشفاء» وغيره من كتب العلماء ؛ فنقول : لا يخفى عليك أنّ للإنسان خواصّ أفعال تصدر عن نفسه ليست هي موجودة لسائر الحيوانات.

منها ، أنّه لمّا كان الإنسان في وجوده المقصود منه ، يجب أن يكون غير مستغن في بقائه عن المشاركة ، ولم يكن كسائر الحيوان الذي يقتصر كلّ واحد منها في نظام معيشته على نفسه وعلى الموجودات في الطبيعة له. وأمّا الإنسان الواحد ، فلو لم يكن في الوجود

١٤٩

إلّا هو وحده ، وإلّا الأمور الموجودة في الطبيعة له لهلك أو لساءت معيشة أشدّ سوء ، وتفصيل ذلك لا يناسب المقام. بل الإنسان محتاج إلى أمور أزيد ممّا في الطبيعة ، مثل الغذاء المعمول واللباس المعمول والموجود في الطبيعة من الأغذية ما لم يدبّر بالصناعات ، فإنّها لا تلائمه بل يخسر (١) معها معيشته ، وكذا الموجود في الطبيعة من الأشياء التي يمكن أن تلبس أيضا ، فقد يحتاج إلى أن تجعل بهيئة وصفة حتّى يمكنه أن يلبسها.

وأمّا الحيوانات الاخرى ، فإنّ لباس كلّ واحد معه في الطباع ، فلذلك يحتاج الإنسان أوّل شيء الى الفلاحة ، وكذلك إلى صناعات أخرى لا يمكن للانسان الواحد تحصيل كلّ ما يحتاج إليه من ذلك بنفسه ، بل بمشاركة مع غيره ، أي أن يكون مكفيّا بآخر من نوعه ، يكون ذلك الآخر أيضا مكفيّا به بنظيره ، حتّى يكون هذا يخبز لهذا ، وذلك ينسج لذلك ، وهذا ينقل شيئا من بلاد غريبة إلى ذلك ، وهذا يعطيه بإزاء ذلك شيئا من قريب ، وهذا يخيط لهذا ، وهو ينجر له ، وأمثال ذلك من المعونات التي لا تتناهى.

وبالجملة ، فهو يحتاج في ضرورات المعاش من المسكن والمطعم والملبس ، ودفع الأعداء والتحرّس من طوارق البلاء ، إلى أشياء كثيرة من الزرع والغرس والحصاد والطحن والطبخ والغزل والنسج والحياكة والخياطة وأدوات ذلك كلّه ، وكذا إلى البناء ومحاويجه وأسباب البناء وأسلحة الحروب وغير ذلك مما لا يحصيها غير علّام الغيوب ، وهي أشياء لا يستطيع لها ولا يقوى عليها إنسان واحد ، ولا مائة ولا ألف ؛ بل يحتاج إلى جماعة كثيرة يجتمعون في مكان واحد ومساكن متقاربة ، يعمل كلّ فرقة منهم عملا ، فيتعاونون ويتعاضدون ، ويتعاوضون أعمالهم ، ويتبادلون صنائعهم ، فيقع بينهم المعاملات في حقوقهم ومساعيهم. فلهذه الأسباب وأسباب اخرى أخفى وآكد من هذه يحتاج الإنسان إلى أن يكون له في طبعه قدرة على أن يعلم الآخر الذي هو شريكه بعلامة وضعيّة ، وكان أخلق ما يصلح لذلك هو الصّوت ، لأنّه ينبعث إلى حروف يتركّب منها تراكيب كثيرة من غير مئونة تلحق البدن في ذلك ، ويكون سيّالا لا يثبت ، فيأمن من وقوف

__________________

(١) لا يحسن خ ل.

١٥٠

من لا يحتاج إلى شعوره عليه. وبعد الصوت الإشارة ، إلّا أنّها لا تفي بالمعدومات والمعقولات الصرفة والمدركات الباطنيّة ، بل تختصّ بالمدركات بالحواسّ الظاهرة ، ومع ذلك ، فهي إنّما تهدي من حيث يقع البصر ، وأن تكون من جهة مخصوصة ، وأن تحرّك الحدقة إلى جهة مخصوصة حركات كثيرة يراعى بها الإشارة.

وأمّا الصوت فقد يغني الاستعانة به من أن يكون من جهة مخصوصة ، وعن أن يراعى تحريكات ، فجعلت الطبيعة للنفس أن تؤلّف من الأصوات ما يتوصّل به إلى إعلام الغير. وأمّا الحيوانات الأخرى ، وإن كان فيها أيضا أصوات يقف بها غيرها على حال نفسه ، إلّا أنّ تلك الأصوات إنّما تدلّ بالطبع على جملة من الموافقة والمنافرة غير محصّلة ولا مفصّلة ، والذي للإنسان فهو بخلاف ذلك ، لأنّه بالوضع ، وعلى أغراض لا تتناهى ، ومقاصد لا تحصى.

فاختصّ الإنسان بهذه الخاصيّة للضرورة الداعية إلى الإعلام والاستعلام ، لضرورة داعية إلى الأخذ والإعطاء ، ولضرورات اخرى. ثمّ باتّخاذ المجامع واستنباط الصنائع التي هي عن استنباط وقياس ، بعضها للضرورة النوعيّة ، وبعضها للضرورة الشخصيّة ولصلاح حال الشخص.

وأمّا الحيوانات الاخرى وخصوصا للطير (١) وإن كانت لها صناعات ـ ولا سيّما النحل ، فإنّ لها بيوتا ومساكن وتسديسا فيها ، وكذلك العنكبوت فإنّ لها نسجا وحياكة ـ إلّا أنّ تلك الصناعات ليست ممّا يصدر عن قياس واستنباط ورأي كلّي ، بل عن نوع إلهام وتسخير ورأي جزئيّ منبعث عن طبع وقوّة متخيّلة ، ولذلك ليست تلك الصناعات ممّا يختلف ويتنوّع ، ولا توجد متصرّفا فيها ولو تصرّفا ما كصناعات الإنسان ، وكذلك ليست تلك الحيوانات ممّا يصدر عنها غير تلك الصناعات الخاصّة ، أي أن تكون صناعاتها غير مخصوصة بوجه دون وجه كما في الإنسان أيضا ؛ بل إنّ صناعاتها خاصّة بتلك التي شوهد صدورها عنها ، ومع ذلك فليست صناعاتها للضرورة

__________________

(١) الطير خ ل.

١٥١

الشخصيّة ولصلاح حال الشخص ، بل للضرورة النوعيّة فقط ، بدليل أنّها لو كانت لصلاح حال الشخص ، لكانت ممّا تختلف ولو اختلافا ما ، مع أنّ أحوال الأشخاص من حيث هي أشخاص مختلفة جدّا.

ثمّ إنّه حيث كان حال الإنسان ما ذكر ، وكان يحتاج في ضرورات معاشه وبقاء نوعه وصلاح حال شخصه إلى بني نوعه الذين يجتمعون في مكان واحد ومساكن متقاربة ، يعمل كلّ فرقة منهم عملا ، فيتعاونون ويتعاضدون ويتعاوضون أعمالهم ويتبادلون صنائعهم ، فيقع بينهم المعاملات في مساعيهم ، وكان هذا الاجتماع إنّما ينتظم إذا كان بينهم عدل في المعاملات يتّفق الجميع عليه ، لأنّ كلّ واحد يشتهي ما يحتاج إليه ، ويغضب على ما يزاحمه ، وأكثر الناس لا يكتفي بحقّه ، ولا يجتزي بحظّه ، بل كلّ إنسان يطمع في نصيب غيره ، ولا ينصف من نفسه ، ويرى ما له عدلا وما عليه ظلما ، فيؤدّي ذلك بينهم إلى التباغض والتحاسد والتنازع والتعاند ، فيقع الجور ويختلّ أمر الاجتماع. وكان العدل لا يتناول الجزئيّات الغير المحصورة ، بل لا بدّ له من قوانين كلّية مصونة عن الخطاء ، يقرّرها مقنّن وسانّ معدّل عدل حكيم ، احتاج الإنسان لبقاء نوعه وضرورة معاشه وصلاح حاله ـ أشدّ احتياج ـ إلى واضع لتلك القوانين شارع لها مبعوث من الله تعالى ، يكون هو من نوع الإنسان بحيث يخاطب الإنسان ، ويلزمهم التكاليف ، ويسنّ للناس في امورهم سننا بإذن الله تعالى ووحيه ، يرجعون هم إليها وإليه في معاملاتهم ، وإلى رئيس لهم يعلم حقائق أعمالهم ودقائق أفعالهم ومقادير أجورهم وموازي صنائعهم ، ويقدر على إحقاق حقوقهم وإيصال حظوظهم ، وعلى تأديبهم وسياستهم ؛ ويكون إنسانا عظيم المنزلة جليل الرتبة ينبغي له هذه المرتبة على الإطلاق وتليق به بالاستحقاق ، لئلّا يسع أحدا مخالفته ويلزم مطاوعته ، وهو النبيّ عليه‌السلام ، وهذا أحد أسباب الاحتياج إليه عليه الصلاة والسلام في كلّ عصر وزمان ، وإن كانت أسباب الاحتياج إليه كثيرة يكاد يخفى على أذهاننا دركها ، وما بلغ إليه فهم المرءوسين من البشر هو أقلّ قليل منها.

١٥٢

ومنها أنّ بدن الإنسان ومزاجه مركّب من طبائع متضادّة وكيفيّات متعاندة ، وهو محتاج في معاشه وصلاح حاله إلى أغذية وأشربة مختلفة ، إن سالمت بعضا عاندت آخر ؛ وهو ـ مع تلك المعاندات ـ من داخل بدنه واقع في معرض الآفات ومورد البليّات من خارجه ، إن انتهز بعضها فرصة ، غلب صاحبه فأفسده وأدّى إلى هلاك بدنه وجسده من قريب ، بل ربما أدّى بتوسّطه إلى هلاك روحه ونفسه أيضا ، فيحتاج ضرورة إلى ضرب من التدبير في غذائه وشرابه وسائر وارداته ليسلم من الآفات ويبقى به مدّة يمكنه فيها الترقّي إلى الكمال المقدّر له. ومعلوم أنّ معرفة مضارّها ومنافعها ومسالمها ومنازعها لا يمكن بالتجربة ، فإنّ دواء واحدا أو غذاء وشرابا يختلف أثره في الأمزجة المختلفة والأمكنة المختلفة والأزمنة المختلفة ، بل في شخص واحد بحسب أحوال وأوقات مختلفة لا تكاد تنضبط برابط ، فضلا عن جميع الأغذية والأشربة والأدوية بكثرتها التي لا يحصيها ولا يجمعها الارتباط ؛ ولو كان الطريق إلى معرفتها هو التجربة ، لكان في مدّة تجربة شيء واحد هلاك المجرّبين من الناس كلّهم أو جلّهم. وعلى تقدير فرض حصول معرفتها بالتجربة ، لكان ذلك في أقلّ قليل منها ، لا في أكثرها ولا في كلّها. وعلى تقدير تسليم حصول ذلك بالنسبة إلى أكثرها أو كلّها ولو في أزمنة متطاولة وأعصار متمادية ، فلا يخفى أنّ التجربة إنّما تفيد معرفة طبائع الأشياء التي للتجربة دخل في معرفتها ، وللعقل سبيل إلى العلم بها. والحال أنّ في الوجود والطبيعة وفيما يحتاج إليه الإنسان في نظام معيشته وصلاح حاله وبقاء نوعه وشخصه أشياء مثل أغذية وأشربة ومساكن وملابس وأفعال ، لتلك الأشياء خواصّ وأحكام ، بعضها مقرّبة للإنسان إلى رحمة الله تعالى وإلى ساحة عزّه وكبريائه ، وبعضها مبعّدة عن ذلك ، وبعضها ممّا ينفع جسده أو روحه أو كليهما ، وبعضها يضرّه كذلك ؛ وأنّ تلك الخواصّ والأحكام ممّا ليس للتجربة إليها سبيل ، ولا من العقل عليها دليل ، بل لا يعلمها إلّا علّام الغيوب ، وإلّا من هو مبعوث من عنده تعالى. وحيث كان الأمر كذلك ، فاحتاج الإنسان في نظام معيشته وبقاء نوعه وشخصه وصلاح حال روحه وجسده ، إلى رئيس أديب يؤدّبهم ، ومعلّم يعلّمهم ، ومبيّن

١٥٣

يبيّن لهم منافع الأشياء ومضارّها وخواصّها وأحكامها ، وأنّ بعضها حلال ، وبعضها حرام ، وبعضها مباح ، وبعضها مندوب ، وبعضها مكروه. ومن تلك الأسباب ، أنّه من المعلوم أنّ الغاية التي خلق الإنسان ، الذي هو أشرف الكائنات وأفضل البريّات لأجلها ، وأفضل الأعمال التي هو يكتسبها : معرفة الله تعالى وصفات جماله وجلاله ، ومعرفة حقائق الأشياء التي هي صنعه وآلاؤه تعالى ، ثمّ امتثال طاعته واجتناب معصيته بالتخلّق بالأخلاق الزكيّة ، والاتّصاف بالأوصاف المرضيّة ، والتنزّه عن الصفات الدنيّة ، والتزيّن بالأفعال الجميلة ، والتورّع عن الأعمال الرذيلة. ومن المعلوم أيضا أنّ هذه المعرفة وهذا العلم وإن كان عقليّا صرفا ، بمعنى أنّ العقل السليم يمكنه أن يستقلّ في تحصيله ، إلّا أنّ التحصيل يتوقّف على التنبّه لذلك. وأكثر العقول لكونها منهمكة في الشهوات الحسّيّة ، منغمرة في اللذّات والشوائب الجسمانيّة ، قد توسّخ جواهر مراياها بأوساخ تلك العادات الخبيثة ، وران عليها ملكاتها الخسيسة ، فهي كأنّها قد رقدت في عادتها كأنّها سكارى ، وتوغّلت في حالتها كأنّها حيارى. والنائم وإن كان قد يتنبّه بنفسه ، لكنّ النيام الغرقى في غمرات المنام لو تركوا ومنامهم ، لاستمرّوا في سكوتهم يعمهون. والنوم الغرق لو لم يوقظ أهله لتمادوا في نومهم إلى يوم يبعثون ، فلو لم يكن رجل أيقظه الله تعالى بنوره ، يوقظهم من نوم غفلتهم ، وينهضهم من صرعة جهلهم ، لم يتيقّظوا ولم يخطر ببالهم أنّ لهم صانعا يجب عليهم أن يعرفوه ، ثمّ يسمعوا له ويطيعوه ؛ ولم يختلج في قلوبهم أنّ هاهنا فضيلة وكمالا غير ما هم به مولعون ، وهم فيه مستترون. فذهب أكثر الناس ضياعا ، ومضى عامّتهم همجا رعاعا. ثمّ إنّهم بعد ما اوقظوا أيضا أو تيقّظوا ، ليس أكثرهم من يبصر شيئا أو يهتدى سبيلا ، لما غشى بصائرهم من رمد الغفلة ، وأحاط بقلوبهم من رين هواجس العادة ، فلا يبصرون طريقا وسبيلا ولا يعقلون حجّة ودليلا ، بل لا غنى لهم عن معلّم بصير خبير يعلّمهم كمال التدبير ويهديهم إلى سواء السبيل ، عسى أن يكون فرقة منهم تهتدي إلى قليل أو كثير ، وهذا ـ أيضا ـ أحد أسباب احتياج الإنسان إلى النبيّ عليه‌السلام وإن كانت أسباب الاحتياج إليه عليه‌السلام لا تحصى ، وما تفطّن له العلماء من ذلك

١٥٤

هو أقلّ قليل منها.

وتلخّص لك مما ذكرنا ، أنّ مثل النبيّ عليه‌السلام بالنسبة إلى المكلّفين في التكاليف العقليّة ، أي الاصوليّة ، هو مثل أن يكون هناك طريق واضح رشد يفضي سالكه إن سلكه إلى المقصود الخير ، إلّا أنّ بعض سالكيه وإن كانوا صحيحي البصيرة والبصر ، لكنّهم نيام يحتاجون إلى موقظ يوقظهم ليتيقّظوا ويفتحوا أعينهم ويروا السبيل لكي يسلكوه. وبعضهم ، وإن كانوا متيقّظين ، لكنّهم رمد العين معيوبو البصر يحتاجون إلى معالج يعالج بصرهم ويزيل الغشاوة عن أعينهم حتّى يروا السبيل ويسلكوه ، وهذا الموقظ والمعالج هو النبيّ عليه‌السلام.

وأمّا مثله بالنسبة إليهم في التكاليف الشرعيّة الفرعيّة ، كمثل أن يكون هناك طريق رشد ، وسبيل واضح أيضا ، إلّا أنّ سالكيه كلّهم عمون يحتاجون إلى قائد يقودهم ، ودليل يدلّهم ، وآخذ يأخذ بأيديهم ويسلك بهم ذلك السبيل ، وهذا هو أيضا النبيّ عليه‌السلام (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (١)

في بيان اختصاص الإنسان بالقوّة العقليّة

وقد تلخّص لك أيضا من هذه الجملة أنّ الانسان ـ من بين أنواع الحيوان ـ مختصّ بخاصّيّة ، هي كونهم قابلين للتكاليف العقليّة والفرعيّة والخطابات الشرعيّة التي هي قوانين كلّيّة ، فيظهر منه أنّ الإنسان مختصّ بخاصّيّة هي إدراك المعاني الكلّية دون سائر أفراد الحيوان ، وأنّه بسبب حصول القوّة العقليّة فيه ، التي هي مدركة الكلّيات ، اختصّ بتلك التكاليف والخطابات.

خاصّيّة للإنسان

وحيث عرفت ما ذكرناه ، فاعلم أنّه من جملة خواصّ الإنسان أنّه يتبع إدراكاته

__________________

(١) العنكبوت / ٤٣.

١٥٥

للأشياء النادرة مطلقا انفعال يسمّى التعجّب ، ويتبعه الضحك ، ويتبع إدراكه للأشياء المؤذية مطلقا انفعال يسمّى الضجر ، ويتبعه البكاء ، ولا يكون ذلك للحيوانات الاخر.

خاصّيّة أخرى للإنسان

ومن جملة خواصّه ، أنّه حيث كان في الوجود أفعال ، من شأنها وحقّها أنّه لا ينبغي أن يفعلها الفاعل لها ، وكذا أفعال حقّها أن يفعلها الفاعل لها ، ويسمّى الأولى قبيحة والثانية جميلة ، فيعلمها الإنسان بل ينشأ عليها من صغره إلى كبره ، ويتعوّد عليها منذ صباه ، ويكون ذلك العلم منه عن اعتقاد ورأي كلّيّ يتبعه رأي جزئيّ ، حتّى كأنّه كالغريزيّ له ، وإن لم يعمل بعلمه في بعض الموادّ. بخلاف سائر الحيوانات ، فإنّها لو تركت أفعالا لها أن تفعلها ولا ينبغي لها أن تفعلها ، أو فعلت أفعالا لها أن تتركها ولا ينبغي لها تركها ، فليس سبب ذلك فيها اعتقاد ورأي كلّيّ نفسانيّ يتبعه رأي جزئيّ ، بل ربّما كان نوع إلهام وتسخير أو هيئة وعارض نفسانيّ متخيّل أو متوهّم. فإنّ الكلب المعلّم ـ مثلا ـ إذا لم يأكل صاحبه ولا ولده ولا صيده ، بل أمسكه على صاحبه ، بل حمله إليه مع جوعه وصبره عليه ، فليس ذلك منه عن رأي واعتقاد كلّيّ ، وإلّا لكان حاله بالنسبة إلى غير صاحبه وولده وصيده أيضا ممّا ينبغي له تركه كذلك ، والمعلوم خلافه. ولكان كلّ كلب مع مشاركته في النوع والطبيعة له كذلك ، وليس كذلك. بل ربّما كان سب ذلك عارضا نفسانيّا هو لذّة وهمّيّة ينالها ، من توقّع إكرام صاحبه إيّاه ، فإنّ كلّ حيوان يؤثر بالطبع وجود ما يلذّه وبقاءه وأنّ الشخص الذي يموّنه ويطعمه قد صار لذيذا له ، لأنّ كلّ نافع لذيذ بالطبع عند المنفوع. وكذلك المرضعة من الحيوانات إذا آثرت ولدها على نفسها ، وخاطرات محامية عليه أعظم من مخاطرتها في حمايتها لنفسها ، أو الحيوان إذا أحبّ ولده ، فليس سبب ذلك هنا اعتقاد ورأي ، وإلّا لكان حالها بالنسبة إلى غير ولدها ممّا ينبغي لها فعلها أيضا ، والمعلوم خلافه. بل ربّما كان سبب ذلك لذّة وهميّة تجدها من تصوّر سلامة ولدها ،

١٥٦

وربّما آثرتها على سلامة نفسها. وهذا كما أنّ بعض الإنسان قد يتخيّل لشيء نافع في الواقع ويتنفّر عنه إذا كان بصورة ما يتنفّر عنه ، او لشيء متنفّر عنه ويميل إليه إذا كان بصورة ما يميل إليه من غير اعتقاد في ذلك. وكذلك ما يشاهد من أنّ الذئب يحذره كلّ شاة وإن لم تره قطّ ولا أصابته منه نكبة وأذيّة ، ويحذر الأسد حيوانات كثيرة ، وجوارح الطير يحذرها سائر الطيور ، فليس ذلك عن اعتقاد ورأي ، وإلّا لوجب أن تحذر هذه الحاذرات ، كالشاة وكثير من الحيوانات والطيور غير الجوارح ، عن غير هذه المحذورات ، أي عن غير الذئب والأسد وجوارح الطير أيضا ممّا ينبغي لها الحذر عنها مثل حذرها عنها ، لكونها ممّا من شأنه إصابة الأذيّة إليها ، وليس كذلك ، بل كلّ ذلك عن إلهام وتسخير ، أو عن تخيّل خاصّ.

خاصّيّة ثالثة للإنسان

ومن جملة خواصّ الإنسان ، أنّه قد يتبع شعوره أنّه فعل شيئا من الأشياء التي لا ينبغي له أن يفعله انفعال نفسانيّ يسمّى الخجل ، بخلاف سائر الحيوان. وكذلك قد يعرض للإنسان انفعال نفسانيّ بسبب ظنّه أنّ أمرا في المستقبل يكون ممّا يضرّه ، وذلك ممّا يسمّى الخوف. والحيوانات الاخرى إنّما يكون لها ذلك بحسب الآن في غالب الأمر ، أو متّصلا بالآن ، بدليل أنّه يزول عنها ذلك الانفعال بعد ذلك الآن ، بخلاف الإنسان. وكذلك للانسان بإزاء الخوف انفعال يسمّى الرجاء ، ولا يكون ذلك أيضا للحيوانات الاخرى إلّا متّصلا بالآن ، لا فيما بعد ذلك من الزمان أيضا كما في الإنسان ، وما يفعله بعض الحيوانات من الاحتياط والاستظهار ، كما يفعله النمل في نقل البرّة بالسرعة إلى حجرتها إنذارا بمطر يكون هناك ، فليس ذلك لأنّها تشعر بالزمان وما يكون فيه ، بل ذلك أيضا بضرب من الإلهام والتسخير ، أو لأجل تخيّل أنّ ذلك هو ذا يكون فى هذا الوقت ، كما أنّ الحيوان يهرب عن الضدّ ، لأنّه يتخيّل أنّه هو ذا يضرّ به في الوقت.

وبالجملة ، فهذا الرجاء للحيوانات ليس كما للإنسان ، لأنّه إنّما يكون لبعض

١٥٧

الحيوانات دون جميعها ، ومع ذلك فهو يكون للحيوانات التي يكون ذلك لها بالنسبة إلى بعض الأمور دون آخر ، ومع ذلك لا يكون إلّا متّصلا بالآن ، فليس ذلك لها عن اعتقاد كما للإنسان.

ثمّ إنّه يتّصل بهذا الجنس من الخاصّيّة ما للإنسان أن يروّي فيه من الأمور المستقبلة أنّه هل ينبغي له أن يفعلها أو لا ينبغي؟ فيفعل ما يصحّ أن يوجب رويّته أن لا يفعله وقتا آخر أو في هذا الوقت بدل ما روّى فيه ، ولا يفعل ما يصحّ أن يوجب رويّته أن يفعله وقتا آخر أو في هذا الوقت بدل ما روّى. وسائر الحيوانات إنّما يكون لها من الإعداد للمستقبل ضرب واحد مطبوع فيه ، وافق عاقبتها أو لم يوافق.

وهذا الذي ذكرناه إنّما هو بيان جملة من الأفعال والانفعالات والأحوال ، وهي ممّا يوجد للإنسان ، وجلّها ، بل كلّها يختصّ به الإنسان. وبعضها وان كان بدنيّا ، لكنّه موجود لبدن الإنسان بسبب النفس للإنسان ، وليست لسائر الحيوان ، وعسى أن نذكر في طيّ الأبواب الآتية نبذا من الخواصّ أيضا.

وبالجملة ، فأكثر الخواصّ الإنسانيّة ، بل كلّها ممّا ذكرنا أو لم نذكرها ، تدلّ على أنّ للإنسان إدراكا للمعاني الكلّيّة ، وهو مختصّ به دون سائر أفراد الحيوان ، وبذلك ـ وكذا بما يشاهد من أحوال الإنسان في أموره وشئونه مع قطع النظر عن تلك الخواصّ أيضا ـ يعلم أنّ أخصّ الخواصّ بالإنسان ، الذي لا يشاركه فيه غيره من أفراد الحيوان ، تصوّر المعاني الكلّيّة العقليّة المجرّدة عن المادّة كلّ التجريد ، والتوصّل إلى معرفة المجهولات تصوّرا أو تصديقا من المعلومات الحقيقيّة.

فى بيان القوى النظريّة والعمليّة للنفس الإنسانيّة

وحيث عرفت ذلك ، فنقول في بيان قوى النظر والعمل التي للنفس الإنسانيّة : إنّه لا يخفى أنّ للإنسان تصرّفا في الأمور الكلّيّة وتصرّفا في الامور الجزئيّة ، وأنّ الامور الكلّيّة إنّما يكون فيها اعتقاد فقط ، ولو كان أيضا في عمل. فإنّ من اعتقد اعتقادا كلّيّا أنّ البيت

١٥٨

ـ مثلا ـ كيف ينبغي أن يبنى ، فإنّه لا يصدر عن هذا الاعتقاد وحده فعل بيت مخصوص صدورا أوّليّا ، فإنّ الأفعال تتناول أمورا جزئيّة ، وتصدر عن آراء جزئيّة ، وذلك لأنّ الكلّ ـ من حيث هو كلّيّ ـ ليس يختصّ بهذا دون ذلك ، فيكون للإنسان قوّة تختصّ بالآراء الكلّيّة ، وقوّة أخرى تختصّ بالرويّة في الامور الجزئيّة فيما ينبغي أن يفعل ويترك ، وينفع ويضرّ ، وفيما هو جميل وقبيح ، وخير وشر ، ويكون ذلك بضرب من القياس والتأمّل صحيح أو سقيم ، غايته أنّه يوقع رأيا في أمر جزئيّ مستقبل من الأمور الممكنة ، حيث إنّ الواجبات والممتنعات لا يروّي فيها لتوجد أو تعدم ، وما مضى أيضا لا يروّي في إيجاده على أنّه ماض.

ثمّ إنّه إذا حكمت هذه القوّة ، يتبع حكمها حركة القوّة الإجماعيّة إلى تحريك البدن ، كما كانت تتبع أحكام قوى أخرى في الحيوانات ، وتكون هذه القوّة مستمدّة من القوّة التي على الكلّيّات ، فمن هناك تأخذ المقدّمات الكبرى فيما تروّى وينتج في الجزئيّات.

فالقوّة الاولى للنفس الإنسانيّة التي تختصّ بالآراء الكلّيّة قوّة تنسب إلى النظر ، فيقال : عقل نظريّ. والقوّة الثانيّة التي لها ـ وتختصّ بالآراء الجزئيّة ـ قوّة تنسب إلى العمل ، فيقال : عقل عمليّ. وتلك للصدق والكذب ، وهذه للخير والشرّ ، وتلك للواجب والممكن والممتنع ، وهذه للقبيح والجميل والمباح. ومبادئ تلك من المقدّمات الأوّليّة ، ومبادئ هذه من المشهورات والمقبولات والمظنونات والتجربيّات الواهية التي تكون من المظنونات غير التجربيّات الوثيقة. ولكلّ واحدة من هاتين القوّتين رأي وظنّ ، والرأي هو الاعتقاد المجزوم به ، والظنّ هو الاعتقاد المميل إليه الراجح مع تجويز الطرف الآخر المرجوح. وليس من ظنّ فقد اعتقد ، كما ليس من أحسّ فقد عقل ، أو من تخيّل فقد ظنّ أو اعتقد أو رأى. فيكون في الإنسان حاكم حسّيّ ، وحاكم من باب التخيّل وهميّ ، وحاكم نظريّ ، وحاكم عمليّ ، ويكون المبادئ الباعثة لقوّته الإجماعيّة على تحريك الأعضاء وهميّة خياليّة ، وعقليّة عمليّة ، وشهوة وغضبا ، ويكون للحيوانات الأخرى بعض من هذه لا كلّها ، كما سيأتي بيانه.

١٥٩

ثمّ إنّ العقل العمليّ يحتاج في أفعاله كلّها إلى البدن وإلى القوى البدنيّة إلّا نادرا ، كإصابة العين من بعض النفوس الشّريرة ، والأفعال الخارقة للعادات من المتجرّدين الكاملين ، لو قلنا بأنّ هذين النوعين من الفعل يقعان من غير توسّط البدن.

وأمّا العقل النظريّ فإنّ له حاجة ما إلى البدن وإلى قواه ، لكن لا دائما ومن كلّ وجه ، بل قد يستغني بذاته.

ثمّ إنّه ليس شيء من هاتين القوّتين أو هذه القوى هو النفس الإنسانيّة بعينها ، بل النفس هو الشيء الّذي له هذه القوى ، وهو ـ كما أشرنا إليه وسنوضّحه ـ جوهر منفرد بذاته ، وله استعداد نحو أفعال بعضها لا يتمّ إلّا بآلات وبالإقبال عليها بالكلّيّة ، وبعضها يحتاج فيه إلى الآلات حاجة ما ، وبعضها لا يحتاج إليها البتّة ، كما سيأتي شرح ذلك كلّه إن شاء الله تعالى.

فجوهر النفس الإنسانيّة مستعدّ لأن يستكمل نوعا من الاستكمال بذاته ، وممّا هو فوقه لا يحتاج فيه إلى ما هو دونه ، وهذا الاستعداد له إنّما هو بالقوّة التي تسمّى العقل النظريّ ، وهو بها مستعدّ لأن يتحرّز عن آفات تعرض له من المشاركة ، كما سيأتي بيانه أيضا ، ولأن يتصرّف في المشاركة تصرّفا على الوجه الذي يليق به وينبغي له. وهذا الاستعداد له لقوة تسمّى العقل العمليّ ، وهي رئيسة القوى التي له إلى جهة البدن ، وأمّا ما دون ذلك ، فهي قوى تنبعث عنه لاستعداد البدن لقبولها ولمنفعته ، والأخلاق التي تكون للنفس إنّما هي من جهة هذه القوّة ، كما سيجيء بيانه أيضا.

ولكلّ واحدة من هاتين القوّتين استعداد كمال ، فالاستعداد الصرف من كلّ واحدة منهما أن تحصل لها المبادى التي بها تكمّل أفعالها. أمّا العقل النظريّ الهيولانيّ ، فالمقدّمات الأوّليّة وما يجري مجراها ، وأمّا العمليّ ، فالمقدّمات المشهورة وهيآت أخرى. فحينئذ يكون كلّ واحد منهما عقلا بالملكة ، ثمّ يحصل لكلّ واحد منهما الكمال المكتسب الميسّر له ، فيصير مراتبهما أربعا ، كما سيأتي بيانه أيضا.

١٦٠