منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-341-1
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٥٦

ومنهم (١) من منع أن يكون النفس جسما ، فجعله (٢) جوهرا غير جسم محرّكا (٣) لذاته.

ومنهم من جعلها جسما وطلب الجسم المتحرّك لذاته (٤).

فمنهم من جعل ما كان من الأجرام التي لا تتجزّى كرويّا ليسهل دوام حركته ، وزعم أنّ الحيوان يستنشق ذلك بالتنفّس ، وأنّ التنفّس غذاء للنفس ، وأنّ النفس يستبقى (٥) به النفس بإدخال بدل ما يخرج من ذلك الجنس من الهباء التي هي الأجرام التي لا تتجزّى التي هي المبادي ، وأنّها متحرّكة لذاتها (٦) ، كما يرى من حركة الهباء دائما في الجوّ ، فلذلك صلحت لأن تحرّك غيرها.

ومنهم من قال : إنّها ليست هي النفس ، بل إنّ محرّكها هو النفس وهي فيها ، وتدخل البدن بدخولها.

ومنهم من جعل النفس نارا ، ورأى أنّ النار دائم (٧) الحركة.

وأمّا من سلك طريق الإدراك :

فمنهم من رأى أنّ الشيء إنّما يدرك ما سواه ، لأنّه متقدّم عليه ومبدأ له ، فوجب أن يكون (٨) النفس مبدأ ، فجعلها من الجنس الذي كان يراه إمّا نارا أو هواء أو أرضا أو ماء. ومال بعضهم إلى القول بالماء لشدّة رطوبة النطفة التي هي مبدأ التكوّن ، وبعضهم جعلها جسما بخاريّا ، إذ كان يرى أنّ البخار مبدأ الاشياء على حسب المذاهب التي عرفتها. وكلّ هؤلاء كان يقول إنّ النفس إنّما تعرف الأشياء كلّها ، لأنّها من جوهر المبدأ لجميعها ، وكذلك من يرى (٩) أنّ المبادي هي الأعداد ، فإنّه جعل النفس عددا.

ومنهم من رأى (١٠) أنّ الشيء إنّما يدرك ما هو شبيهه ، وأن المدرك بالفعل شبيه المدرك بالفعل ، فجعل النفس مركّبا من الأشياء التي يراها عناصر ، وهذا انباذقلس (١١) ، فإنّه قد جعل النفس مركّبة من العناصر الأربعة ومن المحبّة والغلبة ، وقال : إنّما يدرك (١٢) النفس كلّ شيء يشبهه (١٣) فيها.

__________________

(١) في المصدر : فمنهم ...

(٢) فجعلها ...

(٣) متحرّكا ...

(٤) بذاته ...

(٥) تستبقي ...

(٦) بذاتها ...

(٧) دائمة ...

(٨) تكون ...

(٩) يراه المبدأ ، إمّا ...

(١٠) رأى ...

(١١) انبادقليس ...

(١٢) تدرك ...

(١٣) بشبيهه.

١٢١

وأمّا الذين جمعوا الأمرين ، فكالذين قالوا : إنّ النفس عدد متحرّك (١) لذاته ، فهى عدد ، لأنّها مدركة ؛ وهي محرّكة لذاتها ، لأنّها محرّكة أوّليّة.

وأمّا الذين اعتبروا أمر الحياة غير ملخّص.

فمنهم من قال : إنّ النفس حرارة غريزيّة لأنّ الحياة بها.

ومنهم من قال : بل برودة ، وإنّ النّفس مشتقّ من النّفس ، والنّفس هو الشيء المبرّد ، ولهذا ما يتبرّد بالاستنشاق ليحفظ جوهر النفس.

ومنهم من قال : النّفس (٢) هو الدم ، لأنّه إذا سفح الدم بطلت الحياة.

ومنهم من قال : بل النفس مزاج ، لأنّ المزاج ما دام ثابتا لم يتغيّر (٣) صحّة الحياة.

ومنهم من قال : بل النفس تأليف ونسبة بين العناصر ، وذلك لأنّا نعلم أنّ تأليفا ما يحتاج إليه حتّى يكون من العناصر حيوان ، ولأنّ النفس تأليف ، فلذلك يميل (٤) إلى المؤلّفات من النغم والأراييح (٥) والطعوم وتلتذّ بها.

ومن الناس من ظنّ أنّ النفس هو الإله ـ تعالى عمّا يقول (٦) الملحدون ـ وأنّه يكون في كلّ شيء بحسبه ، فيكون في شيء طبعا ، وفي شيء نفسا ، وفي شيء عقلا ، سبحانه وتعالى عمّا يشركون. فهذه هى المذاهب المنسوبة إلى القدماء الأقدمين في أمر النّفس ، وكلّها باطل. انتهى كلامه.

ثمّ أبطل هذه المذاهب والوجوه المبنيّة هي عليها واحدا بعد واحد بوجوه مبسوطة مفصّلة ، نقلها يوجب الإطناب ، فلذا لم نتعرّض لنقلها وتحريرها ، مع ما نرومه في هذا الفصل من بيان كون النفس جوهرا مجرّدا عن المادّة في ذاته ، إذا ثبت بالبيان الذي سنذكره ، يبطل به تلك المذاهب ، وفيه كفاية في إبطالها عند اولي الألباب ، بل إنّ فيما أشار إليه الشيخ ـ على ما نقلناه سابقا وحرّرناه من إثبات إنّيّتها ـ عنية في ذلك للمسترشد الطالب للصواب.

وبالجملة ، فإبطالها لا يحتاج إلى تجشّم برهان آخر غير ما ذكر ، بل إنّ هذه المذاهب

__________________

(١) في المصدر : محرّك ...

(٢) بل النفس ...

(٣) تتغيّر ...

(٤) تميل ...

(٥) الأراييح ...

(٦) يقوله.

١٢٢

والأقوال لو حملت على ظواهرها وقيل بها في النفس الناطقة الإنسانية ، كانت هي في البطلان بمرتبة يستغرب من الحكماء الذين هم من أهل العقل ، وكذا من العلماء الذين هم من أهل العلم ، ذهابهم إليها والقول بها فيها.

في تأويل بعض تلك المذاهب المنقولة

نعم لو كان مبناها على الرمز ، كما كان يقع ذلك في كلام الأقدمين كثيرا ، لربّما أمكن تأويل بعضها ، مثل أنّ من جعل النفس جوهرا غير جسم محرّكا لذاته ، ومتحرّكا بذاته ، لو أراد بها كونها جوهرا مجرّدا عن المادّة في ذاته ، متحرّكا من ذاته حركة رويّة وجولان ، إمّا إلى المبادي العالية فيستكمل ويستفيد ويستنير ، وإمّا إلى البدن فيفيد ويكمل وينير ، وأنّ شأنه إمّا إفادة الكمال أو استفادته ـ كما نقلنا ذلك في مسألة بقاء النفس عن أفلاطون وشيعته ـ لربّما أمكن أن يكون ذلك وجه صحة ، ولم يبعد القول به في النفس الناطقة الإنسانيّة ، فإنّه لا مخالفة فيه لما ذهب إليه المحقّقون من الحكماء ، ولا لما اقتضاه الدليل.

وكذلك القول بأنّها نار أو هواء أو جسم بخاريّ أو حرارة غريزيّة أو برودة يستنشق بها أو دم ، كما ذهب إلى كلّ واحد منها فريق ، لو أريد به الروح الحيوانيّ الذي يقولون إنّه غير النفس الإنسانيّة وغير النفس الحيوانيّة والنباتيّة ، بل إنّه حامل القوى الحيوانيّة والمطيّة الأولى للقوى النفسانيّة البدنيّة ، وما به الارتباط بين النفس والبدن. ويقولون إنّه جس لطيف نافذ في المنافذ ، روحانيّ كالجرم السماويّ ، ونسبته إلى لطافة الأخلاط وبخاريّتها ، ولا سيّما إلى الدم ، نسبة الأعضاء إلى كثافة الأخلاط ، وأوّل معدن لتولّد هذا الرّوح ، وأوّل عضو يحسره ويمنعه عن التفرّق ، هو القلب. ثمّ ما بعده كالدماغ والكبد ؛ ولذلك كان أوّل تعلّق النفس بالقلب. ويقولون إنّه له نسبة إلى الهواء لرطوبته ولطافته ، ولسهولة حركته إلى المجاري والمنافذ لكونه حاملا للقوى ، والقوى لكونها من الأعراض لا يتصوّر تنقّلها من دون حامل لها ، ولأنّ الهواء المستنشق إذا اختلط بذلك الروح ، يصير عوض ما تحلّل منه. وكذا له نسبة إلى النار لصفائه وحرارته ، وإلى الحرارة لحرارته

١٢٣

الغريزية ، وكون بقاء الحياة بها. وإلى البرودة للتنفّس والاستنشاق بالمبرّد ليحفظ جوهر النفس.

وبالجملة ، لو اريد بذلك الروح الحيوانيّ الذي يقوله الأطبّاء والحكماء ـ كما تبيّنوا حقيقته في موضعه ، وسيأتي الكلام فيه فيما بعد في موضع يليق به إن شاء الله تعالى ـ لربّما أمكن أن يكون له وجه صحّة.

وقد تأوّل صدر الأفاضل هذه الأقاويل بوجه آخر هو أيضا مرموز.

قال (١) : «النفس من حيث نفسيّتها نار معنويّة من (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (٢). ولهذا خلقت من نفخة الصور ، فإذا نفخ فى الصور المستعدة للاشتعال النفسانيّ ، تعلّقت بها شعلة ملكوتيّة نفسانيّة ، والنفس لعدم (٤) استكمالها وترقّيها إلى مقام الروح ، يصير نارها نورا محضا لا ظلمة فيه ولا إحراق معه ، وعند تنزّلها إلى مقام الطبيعة يصير نورها نارا ، (مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) (٣).

ثمّ قال : النّفخة نفختان : نفخة تطفئ النار ، ونفخة اخرى تشعلها ، فوجود النفس وبقاؤها من النفس الرحمانيّ ، وهو انبساط الفيض عن مهبّ رياح الوجود ، وكذا زوالها وفناؤها ، وتحت هذا سرّ آخر. فعلم أنّ ما ورد في لسان بعض الأقدمين «أنّ النفس نار» أو «شرر» أو «هواء» ، لا يجب أن يحمل على التجوّز في اللفظ ، وكذا الحال فيما صدر عن صاحب شريعتنا عليه‌السلام». انتهى كلامه ، وهو (ره) أعلم بما قال.

تأويل بعض الاحاديث الواردة في الروح

ثمّ إنّه بما احتملناه في تأويل تلك الأقاويل أو نحوه ، ربّما أمكن تأويل ما ورد في أخبار الصادقين عليهم‌السلام في حال الروح ووصفه وبيان حقيقته.

__________________

(١) الشواهد الربوبيّة / ١٩٨.

(٢) الهمزة / ٦ و٧.

(٤) في المصدر : بعد استكمالها.

(٣) الهمزة / ٨ و٩.

١٢٤

مثل ما رواه الشيخ الطبرسيّ (ره) في كتاب «الاحتجاج» عن أبي جعفر محمّد بن علي الثاني عليه‌السلام ، قال (١) : أقبل امير المؤمنين عليه‌السلام ذات يوم معه (٢) الحسن بن علي عليه‌السلام وسلمان الفارسي وامير المؤمنين عليه‌السلام متّكئ على يد سلمان ، فدخل المسجد الحرام فجلس ، إذ أقبل (٣) رجل حسن الهيئة واللباس ، فسلّم (٤) على أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فردّ عليه‌السلام ، فجلس ثمّ قال : يا أمير المؤمنين أسألك عن ثلاث مسائل ، إن أخبرتني بهنّ ، علمت أنّ القوم ركبوا من أمرك ما أفضى إليهم أنّهم ليسوا بمأمونين في دنياهم ولا في آخرتهم ، وإن لم تخبرني ، علمت أنّك وأنّهم في شرع سواء ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : سلني عمّا بدا لك. فقال : أخبرني عن الرجل إذا نام ، أين يذهب روحه؟ وعن الرجل كيف يذكر وينسى؟ وعن الرجل كيف يشبه ولده الأعمام والأخوال؟

فالتفت أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى أبي محمّد الحسن بن علي عليه‌السلام ، فقال : يا با محمّد (٥) أجبه ، فقال عليه‌السلام : أمّا ما سألت عنه من أمر الإنسان إذا نام أين يذهب (٦) روحه ، فإنّ روحه متعلّقة بالريح ، والرّيح متعلّقة بالهواء (٧) ، فإذا نام صاحبها جذبت تلك الروح الرّيح ، وجذبت تلك الريح الهواء فرجعت وسكنت (٨) في بدن صاحبها. وإن لم بأذن الله عزوجل بردّ تلك الروح على صاحبها ، جذب (٩) الهواء الريح ، فجذبت الريح الروح ، فلم تردّ على صاحبها إلى وقت ما يبعث».

والحديث طويل نقلنا منه موضع الحاجة ، ويعلم من آخره أنّ ذلك السائل كان هو الخضر عليه‌السلام.

ومثل ما رواه الشيخ المذكور في ذلك الكتاب من حديث طويل ، روى فيه سؤال الزنديق الذي سأل أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما‌السلام عن مسائل كثيرة ،

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي ١ / ٢٦٦ ، طبع مؤسسة الأعلى ـ بيروت ، الطبعة الثانية ، ١٤٠٣ ه‍.

(٢) في المصدر : ومعه ...

(٣) فأقبل ...

(٤) فسلّم على ... وهم ...

(٥) أبا محمّد ...

(٦) تذهب ...

(٧) بالهواء الى وقت ما يتحرّك صاحبها لليقظة ، فإن أذن الله بردّ تلك الروح على صاحبها ، جذبت ...

(٨) فسكنت ...

(٩) جذبت الهواء.

١٢٥

وما أجابه عليه‌السلام عنه ، قال : قال (١) : أخبرني عن السراج إذا انطفئ أين يذهب نوره؟ قال : يذهب فلا يعود. قال : فما أنكرت أن يكون الإنسان مثل ذلك ، إذا مات وفارق الروح البدن لم يرجع إليه أبدا ، كما لا يرجع ضوء السراج إليه أبدا إذا انطفئ. قال : لم تصب القياس ، إنّ النار في الأجسام كامنة ، والأجسام قائمة بأعيانها ، كالحجر والحديد ، فإذا ضرب أحدهما بالآخر ، سطعت (٣) من بينهما نار يقتبس (٤) منه سراج له الضوء ، فالنار ثابتة في أجسامها ، والضوء ذاهب ، والروح : جسم رقيق قد ألبس قالبا كثيفا ، وليس بمنزلة السّراج الذي ذكرت. إنّ الذي خلق في الرحم جنينا من ماء صاف وركّب فيه ضروبا مختلفة : من عروق وعصب وأسنان وشعر وعظام وغير ذلك هو (٥) يحييه بعد موته ، ويعيده بعد فنائه. قال : فأين الروح؟ قال : في بطن الأرض ، حيث مصرع البدن إلى وقت البعث. قال : فمن صلب فأين روحه؟ قال : في كفّ الملك الّذي قبضها حتّى يودعها الأرض. قال : فأخبرني عن الروح أغير الدم؟ قال : نعم ، الروح على ما وصفت لك ، مادّتها من الدم ، ومن الدم رطوبة الجسم وصفاء اللون وحسن الصوت وكثرة الضحك. فإن اجمد (٦) الدم ، فارق الروح البدن. قال : فهل توصف (٧) بخفّة وثقل ووزن؟ قال : الروح بمنزلة الريح في الزقّ ، فإذا انفخت فيه امتلأ ، الزقّ منها ، فلا يزيد في وزن الزقّ ولوجها فيه ، ولا ينقصه (٨) خروجها منه ؛ كذلك الروح ليس لها ثقل ولا وزن. قال فأخبرني ما جوهر الريح؟ قال : الريح هواء إذا تحرّك يسمّى ريحا ، وإذا (٩) سكن يسمّى هواء ، وبه قوام الدنيا ، ولو كفّت الريح ثلاثة أيّام لفسد كلّ شيء على وجه الأرض ونتن ذلك ، (١٠) ، لأنّ الريح بمنزلة المروحة ، تذبّ وتدفع الفساد عن كلّ شيء وتطيّبه ، فهي بمنزلة الروح إذا خرج عن البدن وتغير (١١) ، و (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢).

قال : أفيتلاشى (١٢) الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟ قال : بل هو باق إلى وقت

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسيّ ٢ / ٣٤٩.

(٣) في المصدر : سقطت ...

(٤) تقتبس منها ...

(٥) وهو يحييه ...

(٦) فإذا جمد ...

(٧) يوصف ...

(٨) ولا ينقصها ...

(٩) فإذا ...

(١٠) وذلك ...

(١١) عن البدن ، نتن البدن وتغيّر ...

(١٢) أفتتلاشى.

(٢) المؤمنون / ١٤.

١٢٦

ينفخ في الصور ، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى ، فلا حسّ ولا محسوس ، ثمّ اعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها ، وذلك أربعمائة سنة يشيب (٤) فيها الخلق ، وذلك بين النفختين.

قال وأنّى له البعث ، والبدن قد بلي والأعضاء قد تفرّقت ، فعضو ببلدة يأكلها سباعها ، وعضو بأخرى تمزّقها (٥) هوامّها ، وعضو قد صار ترابا بني به من (٦) الطين حائط؟! قال : الذي (٧) أنشأه من غير شيء ، وصوّره على غير مثال كان سبق إليه ، قادر أن يعيده كما بدأه. قال : أوضح لي ذلك!

قال : إنّ الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء وفسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا (٨) منه خلق ، وما يقذف (٩) به السباع والهوامّ من أجوافها ممّا أكلته ومزّقته كلّ ذلك في التراب ، محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض ، ويعلم عدد الأشياء ووزنها ، وإنّ تراب الروحانيّين بمنزلة الذهب في التراب ، فإذا كان حين البعث ، مطرت الأرض مطر النشور ، فتربو الأرض ، ثمّ تمخض مخض السّقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء ، والزبد من اللبن إذا مخض ، فيجمع (١٠) تراب كلّ قالب (١١) فينقل بإذن الله تعالى القادر إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصوّر كهيئتها ، ويلج (١٢) الروح فيها ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا» والحديث طويل نقلنا منه موضع الحاجّة.

ومثل ما رواه الشيخ المذكور في ذلك الكتاب (١) عن حمران بن أعين قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل (وَرُوحٌ مِنْهُ) (٢) قال : هي مخلوقة خلقها الله بحكمته في آدم وعيسى (١٣) عليهما‌السلام.

ومثل ما رواه فيه (٣) عن محمّد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله

__________________

(٤) في المصدر : يسبت ...

(٥) تمزّقه ...

(٦) مع الطين ...

(٧) قال : إنّ الذي ...

(٨) ترابا كما منه ...

(٩) تقذف ...

(١٠) فيجتمع ...

(١١) قالب إلى قالبه ، فينتقل بإذن ...

(١٢) وتلج ...

(١٣) وفي عيسى.

(١) الاحتجاج ٢ / ٣٢٣.

(٢) النساء ٢ / ٣٢٣.

(٣) الاحتجاج ٢ / ٣٢٣.

١٢٧

عزوجل (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (١) ، كيف هذا النفخ؟ قال : إنّ الروح متحرّك كالريح ، وإنما (٣) سمّي روحا لأنّه اشتقّ اسمه من الريح. وإنّما أخرجه على (٤) لفظة الروح لأنّ الروح متجانس للرّيح ، وإنّما إضافة إلى نفسه لأنّه اصطفاه على سائر (٥) الأرواح ، كما اصطفى بيتا من البيوت ، فقال : و «بيتي (٦)» ، وقال لرسول من الرّسل : «خليلي» وأشباه ذلك (٧) ، وكلّ ذلك مخلوق مصنوع مربوب مدبّر.

وهاتان الروايتان الأخيرتان قد رواهما الشيخ الكليني (ره) أيضا في الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٢).

ومثل ما رواه الكليني (ره) فيه عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمّه ، لأنّ الله تعالى خلق المؤمنين من طينة الجنان ، وأجرى في صورهم من ريح الجنّة ، فلذلك هم إخوة لأب وأمّ. انتهى.

وبيان التأويل في هذه الاخبار ، ـ والله ورسوله وحججه أعلم ـ أمّا في الخبر الأوّل فيستدعي تمهيد مقدّمة ، وهي :

إنّه من المعلوم المقرّر لدى العقلاء ، المسلّم عند الأطباء ، أنّ من الأسباب الستّة الضروريّة ، الهواء المحيط بالأبدان ، ويضطرّ إليه الإنسان والحيوان لتعديل الروح الحيواني الذي أشرنا إلى بيان حقيقته ، وإلى أنّه هو المطيّة الأولى للقوى النفسانيّة ، وأوّل شيء من البدن يتعلّق به النفس الإنسانيّة ، وأنّ هذا التعديل يحصل ويتمّ بفعلين : أحدهما الترويح ، وهو يحصل بالاستنشاق ، بأن ينبسط القلب والحجاب والرية والشرائين كلّها ، فتمتلئ هواء باردا بالقياس إلى الروح القلبيّ المتسخّن بالاحتقان والحركة. والفعل الثاني إخراج فضلات هذا الروح ، وهي الأبخرة المحترقة بردّ النفس ، بأن ينقبض الحجاب والرية والشرائين ، فيندفع تلك الفضلات والأبخرة ، بمنزلة زقّ الحدّادين ، يمتلئ هواء

__________________

(١) ص / ٧٢.

(٣) في المصدر : إنّما ...

(٤) عن لفظة ...

(٥) ساير ...

(٦) فقال : «بيتي» ...

(٧) «خليلي» ، وأشباه ذلك مخلوق مصنوع.

(٢) أصول الكافي ١ / ١٠٣ ـ ١٠٤ ، طبع المكتبة الإسلاميّة ـ طهران ، ١٣٨٨ ه‍.

١٢٨

بالانبساط ، ويخلو بالانقباض. وأنّه لو لا هذان الفعلان لاحترق الروح القلبيّ ، واستحال إلى الناريّة ، كما أنّه لو كان أحدهما دون الآخر ، لربما أدّى إلى فساد ذلك الروح وفنائه ، فإنّه لو كان هناك استنشاق دون إخراج الفضلات ، لربّما أدّى إلى تبريد الروح القلبيّ تبريدا غير مناسب لمزاجه ، فيفسد. وكذا لو كان هناك إخراج الفضلات من دون استنشاق هواء أصلا ، لربّما أدّى إلى إخراج الروح بالكليّة ، أو إلى تسخينه تسخينا لا يناسب مزاجه ، فيفنى.

وبالجملة ، أنّ ذلك الهواء المستنشق ، مع أنّه مروّح للروح الحيوانيّ غذاء له ، إمّا بانفراده ـ كما هو عند قوم ـ وإمّا مع البخار اللطيف الحاصل من لطافة الأخلاط كما هو عند آخرين ، فيقوم بدل ما يتحلّل من الروح. وأنّه ما دام الهواء المستنشق معتدلا صافيا عن الشوائب والمكدّرات لا يخالط بخار آجام أو بطائح أو آسن الماء أو نتن الجيف أو أبخرة رديّة وأشجار خبيثة أو غبار مترادف أو دخان ، كان حافظا للصحة إن كانت حاصلة ، أو محدثا لها إن لم تكن حاصلة. وإن تغيّر بسبب هذه المغيّرات كلّها أو بعضها ، تغيّر حكمه ؛ سواء كانت تغيّراته طبيعيّة كالتغيرات الفصليّة ، أو غير طبيعيّة. إمّا مضادّة للطبيعة ، كالتغيّرات الوبائية ، أو غير مضادّة لها ، كالتغيّرات الحاصلة بسبب الجبال والبحار. ولذلك كان كلّ فصل يورث الأمراض المناسبة له ، ويزيل الأمراض المضادّة له ، كما فصّل ذلك فى الكتب الطبيّة.

وكذلك من المعلوم المقرّر عندهم ، أنّ النوم واليقظة اللّذين هما من الستّة الضروريّة ، وإن كان النوم أشبه بالسكون ، واليقظة أشبه بالحركة ، من حيث إنّ السكون يفعل أفعالا شبيهة بأفعال النوم ، مثل الراحة ونضج الغذاء ، وإنّ اليقظة يتبعها حركات الحواسّ ، ولأنّ النوم يرطّب البدن ، بمعنى أنّ البدن يغتذى فيه أكثر وأجود ، لقلّة التحلّل فيه. والسكون أيضا يرطّب البدن بهذا المعنى ؛ واليقظة تجفّف كالحركة للتحليل ؛ إلّا أنّه في كلّ من النوم واليقظة حركة للروح الحامل للقوى والحرارة الغريزيّة.

أمّا في اليقظة فإلى خارج ، فلذلك يتبعها حركة الحواسّ ، وأمّا في النوم ، فحيث كانت

١٢٩

فيه الحواسّ معطّلة ، وكان النوم عبارة عن رجوع الحرارة الغريزيّة إلى الباطن طلبا للإنضاج ، يغور الروح الحامل للقوى والحرارة الغريزيّة المنبثّ في الأعضاء إلى داخل ، فيبرّد الظاهر.

ولذلك يحوج النوم إلى دثار أكثر مما فى اليقظة ، حيث إنّه يلزم من توجّه الروح والدم والحرارة الغريزيّة ، إمّا إلى داخل وإمّا إلى خارج ، سخونة ما تحرّكت إليه ، وبرودة ما تحرّكت منه.

ولذلك أيضا إذا لم يكن خلاء في المعدة بل صادف النوم خلطا كثيرا مستعدّا لأن يصير دما جيّدا بالنضح ، كان إفراط النوم مرطّبا ومبرّدا. أمّا الترطيب ، فلما يلزم ذلك من كثرة الرطوبات بسبب قلّة تحلّل الفضلات ، التي من شأنها أن تتحلّل فى اليقظة ؛ ولذلك يحدث أيضا بلادة القوّة النفسانيّة. وأمّا التبريد ، لأنّ الأرطب ممّا ينبغي يجعل البدن أبرد ممّا ينبغي ، بسبب حقن الحرارة وحبسها. وإذا وجد النوم خلاء البدن ، كان مبرّدا ومجفّفا بانحلال الروح بسبب تحلّل الرطوبة الغريزيّة ، فيتبعه تحلّل الروح والحرارة الغريزيّة.

وإذا وجد غذاء مستعدّا للهضم ـ كالكيلوس مثلا ـ هضمه ، أو خلطا مستعدّا للنضج ـ كالبلغم الفجّ ـ نضّجه ، فيسخن لا محالة. وإن وجد خلطا أو غذاء عاصيا على الهضم والنضج ، كالبلغم الكثير الفجاجة ، الغير المستعدّ للاستحالة إلى الدمويّة ، وكالغذاء الردي الكيلوس والكيموس ، كالسمك الغليظ ، نشره ، أي نشر النوم ذلك بسبب تحريك الحرارة إيّاه ، فيبرّد البدن لا محالة.

كما أنّ السّهر المفرط يضعّف الدماغ ويفسد مزاجه إلى ضرب من اليبوسة ، وذلك لكثرة تحلّل الرطوبات بالحرارة التي تكون في الظاهر ، بسبب تحرّك الأرواح إلى جهته ، وبسبب حركة الحواسّ في إدراكها. وربّما يؤدّي إلى اختلاط العقل بسبب إفراط سوء المزاج ، لأنّ التصرّفات العقليّة تحتاج إلى ضرب من الاعتدال.

وكذلك السهر المفرط يسيء الهضم بتحليل القوّة لتحلّل الرطوبة الغريزيّة والحرارة. إلى غير ذلك من العلامات التي سببها حركة الروح ، إمّا إلى داخل ، كما فى النوم ، وإمّا الى

١٣٠

خارج ، كما في اليقظة.

وبعبارة أخرى أنّ اليقظة حالة تكون النفس فيها مستعملة للحواسّ والقوى المحرّكة من ظاهر ، فيكون النوم عدم هذه الحالة ، فتكون النفس فيه قد أعرضت عن الجهة الخارجة إلى الجهة الداخلة. وإعراضها لا يخلو من أحد وجوه : إمّا أن يكون الكلال عرض لها من هذه الجهة ، وإمّا أن يكون لمهمّ عرض لها في تلك ، وإما أن يكون لعصيان في تلك الآلات إيّاها.

والذي يكون من الكلال ، هو أن يكون الروح قد تحلّل وضعف فلا يقدر على الانبساط ، فيغور ويتبعها (١) القوى النفسانيّة. وهذا الكلال قد يعرض من الحركات البدنيّة ، وقد يعرض من الأفكار ، وقد يعرض من الخوف ؛ فإنّ الخوف قد يعرض منه النوم ، بل الموت. وربما كانت الأفكار تنوّم لا من هذه الجهة ، بل بأن تسخن الدماغ ، فينجذب الرطوبات إليه ، ويمتلئ الدماغ فيتنوّم بالترطيب.

والذي هو لمهمّ له في باطن ، هو أن يكون الغذاء والرطوبات قد اجتمعت من داخل ، فيحتاج إلى أن يفسدها الروح بجمع الحارّ الغريزيّ ، ليفي (٢) بهضمها التامّ ، فيعطّل الخارج.

والذي يكون من جهة الآلات ، فأن يكون الأعصاب قد امتلأت وانسدّت من أبخرة وأغذية تنفذ فيها إلى أن تنهضم ، إذ الروح ثقلت عن الحركة لشدّة الترطيب.

وعلى هذا فيكون اليقظة لأسباب مقابلة لهذه. من ذلك أسباب تجفّف ، مثل الحرارة واليبوسة ؛ ومن ذلك جمام وراحة حصلت ؛ ومن ذلك فراغ عن الهضم ، فيعود الروح منتشرا كثيرا ؛ ومن ذلك حالة رديّة تشغل عن الغور ، بل تستدعيه إلى خارج ، كغضب أو خوف لأمر قريب ، أو مقاساة لمادّة مؤلمة ، وغير ذلك من الأسباب ، والله تعالى أعلم بالصواب.

ثمّ إنّه حيث كانت في كلّ من النوم واليقظة حركة للأرواح ، إما إلى داخل ، وإمّا إلى

__________________

(١) ويتبعه خ ل.

(٢) ليفيء خ ل.

١٣١

خارج ؛ بل حركة للقوى النفسانيّة أيضا إلى جهة حركة الأرواح بتبعيّتها ، لكونها كصور الأرواح ، وكون الأرواح حاملة لها تتحرّك بحركتها ؛ وكانت الحركة موجبة لحصول سخونتها فى جهة حركتها ، وكانت سخونتها موجبة لتحلّلها ، لكونها أجساما لطيفة في الغاية حارّة سهلة التحلّل جدّا ، فلا تسمح النفس بتحريكها الى جهة ، إلّا إذا كان معها ما يمدّها ، ليتدارك ما تحلّل منها بالحركة والسخونة ؛ وذلك الممدّ هو الجسم الذي من شأنه أن يكون غذاء للأرواح ، وبدلا عمّا تحلّل منها ، كالدم الصافي الشبيه بجوهرها ، والهواء المستنشق ، كما ذكرنا.

وبالجملة ، فهذا الممدّ ممّا لا بدّ منه في بقاء تلك الأرواح وحفظ صحّتها ومزاجها الموافق لها ، ولكونها مطيّة للنفس ومتعلّقة لها ، بحسب تفاوت مراتب احتياج الأرواح إلى ذلك الممدّ ، لتفاوت مراتب تحلّلها ، كما في حالات النوم واليقظة ، وكما في النوم بالنسبة إلى اليقظة ؛ فإنّ ذلك التحلّل في النوم ربّما كان أكثر ، لكون السخونة التي هي موجبة للتحلّل فيه أكثر ، لحصولها بالحركة إلى الداخل. وكذا بسبب احتقان الروح واحتباسه في الداخل ، بخلاف اليقظة ؛ فإنّ السخونة في اليقظة ـ من حيث هي يقظة ـ إنّما هي بسبب الحركة خاصّة ؛ ولا احتباس هاهنا إلّا أن يكون بسبب من خارج ، كما في المخنوق.

والحاصل أنّ هذا الممدّ ممّا لا بدّ منه ، وأنّه لو كان حاصلا ، لأمكن بقاء الأرواح وبقاء الحياة ؛ ولو انتفى لربّما أدّى إلى زوال الأرواح ، أو إلى تغيّر مزاجها وانقطاع علاقة النفس عنها وعن البدن ، فيحصل الموت ؛ وكلّ ذلك بإذن الله تعالى.

واذا تمهّدت هذه المقدّمة ، اتّضح لك أنّه يمكن تأويل هذا الحديث الشريف بأحد وجهين : أحدهما أمّا ما سألت من أمر الإنسان إذا نام أين يذهب روحه؟ فإنّ روحه ، أي روحه الحيوانيّة التي هي المطيّة الأولى لروحه الإنسانيّة وما به التعلّق بين النفس الإنسانيّة الناطقة وبين البدن ، متعلّقة لتعديلها كما ذكر بالروح ، أي بالهواء المستنشق الذي هو في حركته الانبساطيّة والانقباضيّة كالريح ، بل هو الريح نفسها ؛ لأنّ الريح ليست

١٣٢

إلّا هواء متحرّكا ، والهواء المستنشق أيضا كذلك. وتلك الريح متعلّقة بالهواء ، أي بمطلق الهواء ، لكونها بعضا منه ومستمدّة منه. فإذا نام صاحبها وأذن الله تعالى في بقاء حياة صاحبها ، وفي ردّ تلك الروح إلى (١) بدنه ، وحصل لها مدد من داخل ـ كما ذكر ـ جذبت تلك الروح الريح ، أي الهواء المستنشق ، وجذبت تلك الريح الهواء ، أي قدرا منه يكون مددا لها ، وبه يقوى الاستنشاق ، فتقوى الروح. فرجعت بإذن الله تعالى بعد خروجها للاستنشاق إلى داخل ، فسكنت في بدن صاحبها ؛ وبقيت علاقة النفس الإنسانيّة بالبدن لبقاء ما به الارتباط بينها وبين البدن فيه. وإن لم يأذن الله عزوجل برّد تلك الروح إلى صاحبها ، ولم يكن لها مدد من داخل أو من خارج ، جذب الهواء تلك الريح جذب الكلّ للبعض ، فجذبت تلك الريح الروح ، لكونها متعلّقة بها مصاحبة معها محتاجة إليها ، فتوجّهت بكلّيّتها إلى خارج ، فلم تردّ على صاحبها إلى وقت ما يبعث ، ولم ترجع إلى بدنه ، وانقطعت أيضا علاقة النفس الإنسانيّة عن بدن صاحبها ، لزوال ما به الارتباط عنه ، إلى أن يأذن الله تعالى بالعود في يوم المعاد.

الوجه الثاني ، أنّ روحه ـ أي روحه الإنسانيّة ـ متعلّقة بالريح ، أي أنّها متعلّقة أوّل تعلّق بالروح الحيوانيّة التي هي جسم لطيف رقيق مجانس للريح في صفاتها وأحوالها ، وتلك الريح ـ أي الروح الحيوانيّة ـ متعلّقة لأجل تعديلها بالهواء لأجل الاستنشاق ، فإذا نام صاحبها وضعفت علاقتها عن البدن وعن تلك الروح الحيوانيّة التي هي مطيّتها الاولى ، وتوجّهت إلى خارج البدن ومالت إلى الارتباط بما يجانسها من موجودات العالم الأعلى ، وتوجّهت الروح الحيوانيّة أيضا إلى خارج بتبعيّتها ، أو لأجل تعديلها واستنشاقها للهواء. فحينئذ ، إن أذن الله تعالى في ردّها إلى بدن صاحبها وبقاء علاقتها بالبدن وبمطيّتها الاولى ، قويت علاقتها بالبدن ، ورجعت إليه ، وجذبت تلك الروح ـ أي الإنسانيّة ـ الريح ـ أي الحيوانيّة ـ جذب الراكب لمطيّتها ، وجذب المتبوع لتابعها ، والمدبّر لما يدبّره ؛ وجذبت تلك الريح الهواء لأجل تعديلها واستنشاقها جذب المجانس لما

__________________

(١) في خ ل.

١٣٣

يجانسه ، فرجعت الروح الإنسانيّة إلى البدن ، ورجعت الروح الحيوانيّة أيضا إليه بتبعيّتها ، فسكنت في بدن صاحبها ، وبقيت علاقتها بالبدن وبمطيّتها كما كانت أوّلا. وإن لم يأذن الله عزوجل بردّ تلك الروح على صاحبها ، جذب الهواء الريح ـ أي الروح الحيوانيّة ـ جذب المجانس لما يجانسه ، فجذبت الريح الروح جذب المطيّة لراكبها ، فلم تردّ على صاحبها إلى وقت ما يبعث. وهذا الذي ذكرنا هو ، ـ والله أعلم ـ وجه التأويل في هذا الحديث الشريف.

ومنه يعلم وجه التأويل في الحديث الثاني أيضا ، فإنّ قوله عليه‌السلام فيه : «والروح جسم رقيق قد ألبس قالبا كثيفا» لعلّه أراد به ، أنّ الروح ـ أي الروح الحيوانيّ ـ جسم لطيف كما وصفناه ، قد ألبس قالبا كثيفا ، وجعل ذلك القالب متعلّقا له نوع تعلّق. وأنّ ذلك القالب الكثيف هو البدن ، وهو ـ خصوصا أعضاؤه الرئيسة كالقلب والدماغ والكبد ـ معدن لتولّد ذلك الروح الحيوانيّ ، وأنّ تعلّق الروح الإنسانيّة التي هي جوهر مجرّد عن المادّة ، إنّما يكون أوّلا بذلك الجسم اللطيف ، وبتوسّطه بالبدن.

وبما ذكرنا يتّضح شرح باقي الحديث الشريف ، إلّا أنّه حيث كانت فيه إشارات إلى امور ، فلا بأس أن نبيّنها.

فنقول : إنّ قوله عليه‌السلام فى جواب سؤال السائل : «فأين الروح؟»

إشارة إلى أنّه إذا مات الإنسان وفني بتلاشي أعضائه وتفرّق أجزائه ، يبقى الروح ، أي ذلك الجسم اللطيف ، بمادّته بل بصورته أيضا ، في بطن الأرض ، أي في قبره ، وحيث مصرع بدنه ومسقط الأجزاء البدنيّة منه إلى وقت البعث. وأنّه لا امتناع في ذلك ، فإنّ ذلك الجسم اللطيف ليس عرضا قائما بموضوع ، أي البدن ، حتّى يكون فناء موضوعه وتلاشي أجزائه موجبا لانعدامه كما هو شأن العرض ، بل هو جوهر قائم بذاته ، وإن كان معدن تولّده أجزاء البدن كلّها أو بعضها. فإنّه ليس يلزم من انعدام معدن التولّد انعدام ما يتولّد منه الذي هو جوهر قائم بذاته ، بل يمكن أن يكون ما يتولّد منه باقيا ومتعلّقا نوع تعلّق بالمادّة البدنيّة ، كما دلّ عليه قوله عليه‌السلام في الحديث.

١٣٤

وهذا كما أنّ النفس الإنسانيّة المجرّدة ، التي هي متعلّقة بالبدن تعلّق تدبير وتصرّف ، حيث كانت جوهرا قائما بذاته ، لا يلزم من انعدام متعلّقها ـ أي البدن ـ انعدامها ؛ بل هي باقية بعد خرابه ، كما دلّت عليه الأدلّة والنصوص على ما أسلفنا بيانها. بل إنّه ربّما دلّ الدليل على بقاء تعلّقها أيضا ـ نوع تعلّق ـ بالبدن من حيث المادّة البدنيّة وأجزائه الأصلية الباقية التي تدلّ على بقائها النصوص الكثيرة ، على ما مضى بيانها. ويدلّ عليه آخر هذا الحديث أيضا ، وكذا من حيث بقاء هذا الجسم اللطيف الذي هو من البدن أيضا ، ويدلّ على بقائه هذا القول منه عليه‌السلام.

وبيان ذلك الدليل الدالّ على بقاء تعلّقها كذلك ، أنّ تعلّق النفس الإنسانيّة بالبدن لمّا كان من جهتين : من جهة الصورة البدنيّة ، ومن جهة مادّته. فحيث بطلت الصورة البدنيّة بخراب البدن ولم تبطل المادّة ، يلزم منه بقاء تعلّقها به من الجهة الثانية ، وإن كان بطل تعلّقها به من الجهة الاولى. وكذلك حيث كان تعلّقها أوّلا وبالذّات بذلك الجسم اللطيف الذي في البدن ، وثانيا وبالواسطة بالبدن كلّه ؛ وكان المفروض بقاء ذلك الجسم اللطيف ، يلزم منه بقاء تعلّقها به في الجملة ، وإن لم يكن هو في ضمن البدن بصورته.

وممّا ذكرنا يظهر سرّ ما ورد من زيارة القبور ومصارع الأبدان والدعاء فيها. فتبصّر.

وقول عليه‌السلام في جواب سؤال السائل : «فمن صلب فأين روحه؟».

إشارة إلى أنّ مقبوض الملك الذي هو قابض الأرواح ، إنّما هو ذلك الجسم اللطيف ، وينبغي أن يحمل على أنّه هو المقبوض أوّلا ، وأنّ النفس الإنسانيّة المجرّدة مقبوضة بتوسّطه ، حيث إنّها متعلّقة أوّلا وبالذات بذلك الجسم اللطيف ، وبتوسّطه بالبدن كلّه. فإذا قبض هو ، كانت هي مقبوضة أيضا ومنقطعة علاقتها عن البدن الذي كان هو معه أو فيه انقطاعا من حيث الصورة البدنيّة ، وإن كان تبقى علاقتها به من حيث المادّة والأجزاء الأصليّة الباقية ، ومن حيث ذلك الجسم اللطيف الباقي ، كما عرفت بيانه.

وكذلك في هذا القول منه عليه‌السلام إشارة إلى أنّ الإنسان ، سواء كان مصلوبا أم غيره وسواء كان مأكول السباع أم غيره ، وسواء كان مدفونا أم غيره ؛ فهذا الجسم اللطيف

١٣٥

منه مقبوض بيد الملك ، وباق في مصرع بدنه في بطن الأرض ، حيث كان مسقط أجزاء بدنه كلّها أو معظمها أو بعضها ، أو مسقط أجزائه الأصليّة ، أو مودع في الأرض حيث أذن الله تعالى في إيداعه ، وإن لم يكن مسقط بدنه ، وإن لم يكن باطن الأرض بل ظاهرها.

وقوله عليه‌السلام في جواب سؤاله : «فأخبرني عن الروح ، أغير الدم؟»

إشارة إلى أنّ ذلك الجسم اللطيف مادّته ومعدن تولّده الدم ، كما قاله الحكماء ، من أنّه جسم بخاريّ يتولّد من الدّم الذي في القلب وما يليه في ذلك.

وقوله عليه‌السلام في جواب سؤاله (١) «فهل توصف بخفّة أو وزن أو ثقل» إشارة إلى أنّه مع كونه متولّدا من الدم ، مجانس للريح في صفاته وأحواله وخواصّه كما بيّنه عليه‌السلام وسبقت الإشارة إليه.

وقوله عليه‌السلام في جواب سؤاله : «أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق؟» إشارة أيضا إلى بقائه بمادّته وصورته إلى يوم ينفخ في الصور ، وأنّ المتلاشي هو أجزاء البدن.

وقوله عليه‌السلام : «فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى» لعلّ المراد به ـ والله أعلم ـ بطلان الأشياء بصورها ، لا انعدامها بالمرّة ، كما حقّقنا القول فيه فيما سبق ، فتذكّر.

وقوله عليه‌السلام في جواب سؤاله : «وأنّى له البعث ، والبدن قد بلي والأعضاء قد تفرّقت ـ إلى آخره ـ» إشارة إجماليّة إلى ما يرتفع به استبعاد السائل للبعث وإلى كيفيّة العود والحشر وهي أنّ القادر الّذي أنشأ الإنسان من غير شيء ، وصوّره على غير مثال كان سبق إليه ، قادر أن يعيده كما بدأه ، أي أن يعيد الأمر الباقي منه ، ويجمع المتفرّقات منه ، فيصوّر مرّة اخرى كما بدأه من غير شيء ، وإن كان البدن قد بلي والأعضاء قد تفرّقت ، فعضو ببلدة يأكله سباعها ، وعضو بأخرى تمزّقه هوامّها ، وعضو قد صار ترابا بني به من الطين حائط ؛ بل إنّ إعادته على هذا الوجه أهون عليه من البدء ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

__________________

(١) في المتن «جوابه» ، والظاهر ما أثبتناه.

١٣٦

وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) ، أي أنّه أهون عليه في ظاهر الحال وبالنظر إلى ما يراه القادرون ـ غيره تعالى ـ بالنسبة إلى مقدوراتهم ، وإن كانت قدرته تعالى لا يختلف حالها في الواقع ، بالقياس إلى مقدوراته بالأهونيّة وغيرها.

ثمّ انّ ما ذكره عليه‌السلام في الإيضاح ، إشارة تفصيليّة ، فيها بيان الأمر الباقي من الإنسان ، من روحه وأجزاء بدنه بعد خراب بدنه ، وكذا بيان كيفيّة البعث.

وبيان الأوّل : أنّ الروح ، أي ذلك الجسم اللطيف ، باقية بعد خراب البدن ، مقيمة في مكانها الذي قدّره الله تعالى لها ، أي في مصرع بدنه ومسقط أجزائه ، أو فيما أودعه الملك بإذن الله تعالى ، روح المحسن في ضياء وفسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة. وينبغي أن يحمل على أنّ النفس الإنسانيّة المجرّدة أيضا باقية متعلّقة نوع تعلّق بذلك الجسم اللطيف ، مقيمة معه نوع إقامة في ذلك المكان ، إمّا في ضياء وفسحة كما في المحسن ، أو في ضيق وظلمة كما في المسيء ، ولعلّه عليه‌السلام لم يذكره ، لأنّه لم ير مصلحة في تحقيق حقيقة المجرّد وبيان أحواله وصفاته وخواصّه لذلك السائل ، حيث كان هو الزنديق الذي لم يكن من أهل العلم ، ولم يكن يتيسّر له فهم هذه المعاني. بل ربّما كان بيان ذلك له موجبا لزيادة غباوته وعناده وبعده عن الحقّ. وكأنّه لذلك قال تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٢) بناء على ما فسّره بعض المفسّرين. حيث إنّهم سألوه عن حقيقة الروح المجرّدة الإنسانيّة التي تدبّر بدن الإنسان وبها حياته ، وعن أحوالها وصفاتها ، فأجيبوا بأنّها أبدعت وأنشأت من أمر الله تعالى ، إشعارا بأنّهم ليسوا ممّن يتيسّر لهم علم ذلك ، كما قال تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٣) بل إنّما ينبغي لهم أن يعلموا أنّها من أمر الله تعالى ومن مبدعاته ، مع الإيذان بتجرّدها عن المادّة أيضا ، أي كونها من الإبداعيّات الكائنة من غير مادّة وتولّد من أصل ، كأعضاء جسد الإنسان.

__________________

(١) الروم / ٢٧.

(٢) الإسراء / ٨٥.

(٣) الإسراء / ٨٥.

١٣٧

لأنّ المادّيّ لا يوجد بمجرّد أمر الله تعالى ، كما هو ظاهر الآية ؛ بل إنّه وإن كان يوجد بأمر الله تعالى ، لكن لا به وحده ، بل بتوسّط المادّة أيضا ، وإن كانت المادّة أيضا موجودة بأمر الله تعالى. وكأنّه لذلك اصطلح الحكماء على أنّ المجرّدات من عالم الأمر ، وأنّ المادّيات من عالم الخلق. فافهم.

فإن قلت : ما ذكرت من أنّ الروح الإنسانيّة مقيمة مع الرّوح الحيوانيّة في مصرع بدن الإنسان ، أو في موضع من الأرض أودعت الروح الحيوانيّة فيه ، مخالف لما دلّت الأخبار الكثيرة عليه ، من أن الأرواح الإنسانيّة على صور أبدانهم فى قوالب مثاليّة ، وأن أرواح المؤمنين في ظهر الكوفة وفي شاطئ الفرات ، وأرواح الكفّار في وادي برهوت.

قلت : لا مخالفة في ذلك ولا منافاة ، فإنّ الروح الإنسانيّة حيث كانت مجرّدة عن المادّة ، والمجرّد ليس له في ذاته مكان خاصّ أو وضع خاصّ كما للمادّيّات ، فيمكن أن يكون لها تعلّقان : أحدهما بذلك القالب المثالي ، والآخر بمصرع بدنه ، وكانت هي في ضمن كلّ منهما ، إمّا في ضياء وفسحة كما في روح المحسن ، أو في ضيق وظلمة ، كما في روح المسيء ، وبذلك ينبغي أن يتأوّل ما ورد من أنّ ملك الموت يقبض في ساعة واحدة أرواح جمع كثير وجمّ غفير من الخلائق ، مع أنّ بعضهم في المشرق وبعضهم في المغرب. وما ورد من أنّه ما من أحد يحضره الموت ، إلّا مثّل له النبيّ والحجج صلوات الله عليهم حتّى يراهم ، فإن كان مؤمنا يراهم بحيث يحبّ ، وإن كان غير مؤمن يراهم بحيث يكره. فتبصّر.

وهذا بيان بقاء روح الإنسان بعد خراب جسده.

وأمّا بيان بقاء ما يبقى من بدنه وجسده بعد خرابه ، فهو أنّ البدن ، وإن كان يصير متلاشيا وترابا ، إلّا أنّه يصير ترابا هو مبدأ خلقه ونشوّه ، أي التراب الذي منه خلق أوّلا ، كما يدلّ عليه نصوص اخر أيضا واردة عنهم عليهم‌السلام في ذلك ، من أنّ الميّت يبلى جسده حتّى لا يبقى لحم ولا عظم إلّا طينته التي خلق منها ، فإنّها لا تبلى في القبر وتبقى

١٣٨

مستديرة حتّى يخلق منها كما خلق أوّل مرّة (١). وأنّ كلّ طينة خلق منه الإنسان يدفن فيها ، وأنّ النّطفة إذا استقرّت في الرّحم بعث الله تعالى ملكا يأخذ من تراب المكان الذي يدفن ذلك الإنسان فيه ، فيأخذه ويخلطه بتلك النطفة ، فيخلق الإنسان من تلك النطفة المخلوطة بذلك التراب. وإذا اقترب أجله يذهب إلى أن يجيء إلى ذلك المكان. فيموت ويدفن فيه (٢). وهذه النطفة مستديرة في القبر ، وتبقى إلى أن يخلق الإنسان منها مرّة اخرى ، ويشهد به قوله تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) (٣).

وبالجملة ، إذا صار جسد الإنسان ترابا ، يصير ترابا منه خلق أوّلا ، وإن بني به من الطين حائط ؛ وهو المراد ببقاء الأجزاء الأصليّة من بدنه ، وأنّ ما يقذف به السباع والهوامّ من أجوافها ممّا أكلته ومزّقته ، وكذلك ما احرق وصار رمادا مثلا ونحو ذلك ، فهو أيضا يصير ترابا كذلك. وكلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرّة في ظلمات الأرض ، ويعلم عدد الأشياء ووزنها ؛ وأنّ تراب الروحانيّين بمنزلة الذهب فى التراب ، على معنى أنّ ذلك التراب متميّز في الواقع في ضمن جملة التراب ، إلّا أن تراب الروحانيّين ـ أي الأبرار ـ من البشر ، بمنزلة الذهب في التراب ، وإن كان تراب غيرهم بمنزلة غير الذهب ، كالنحاس والصفر مثلا في التراب متميّزا أيضا ، أو أنّ تراب من هو ذو روح ، أي البشر مطلقا ، بمنزلة الذهب في التراب من جهة تميّزه في ضمن التراب في الواقع.

وأمّا بيان الثاني ، أي كيفيّة البعث ، فهو إنّه إذا كان حين البعث ، مطرت الأرض بإذن الله تعالى مطر النّشور ، فتربو الأرض ، ثمّ تمخض مخض السقاء ، فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء ، وكمصير الزبد من اللبن إذا مخض ، فيجمع تراب كلّ قالب ، فينتقل بإذن الله تعالى القادر إلى حيث الروح ، فتعود الصور بإذن المصوّر

__________________

(١) بحار الأنوار ٦٠ / ٣٥٨ عن الكافي.

(٢) تفسير الصافي ٣ / ٣١٠ ؛ بحار الأنوار ٦٠ / ٣٣٧ و٣٣٨ عن الكافي.

(٣) طه / ٥٥.

١٣٩

ـ تعالى شأنه ـ كهيئتها أوّلا. أي فتفاض على ذلك التراب الصور مرّة اخرى ، مشابهة للصور الاولى ومماثلة لها ، ويلج الروح فيها. أمّا الروح الحيوانيّة ، فبإدخالها فى ذلك الجسد ، وأمّا الرّوح الإنسانيّة ، فبإعادة تعلّقها به مرّة اخرى كما كان أوّلا ، فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا ، ويعلم أنّه حين البعث هو الذي كان قبل حين البدء ، من غير تغاير في ذاته ، لا في ترابه وأجزائه الأصليّة ، ولا في روحه الحيوانيّة ، ولا في روحه الإنسانيّة ؛ وإن كانت المغايرة في أجزائه الفضليّة الفرعيّة وفي صورته وهيئته حاصلة ، فإنّ هذه المغايرة لا دخل لها في اختلاف الذات ، مع اتّحاد ما هو الأصل في اتّحاد الذات ، وهو باق في الحالتين ، أي أجزائه الأصليّة البدنيّة وروحه الإنسانيّة والحيوانيّة ، وكذا مع مماثلة الهيئة والصورة الثانية للاولى.

وبذلك يتّضح كيفيّة البعث والحشر والنشر ، ويتّضح تفسير آيات واردة في ذلك.

كقوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (١)

وقوله تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) (٢)

وقوله تعالى : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣)

وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٤)

وقوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ

__________________

(١) الأعراف / ٥٧.

(٢) الأعراف / ٥٨.

(٣) الروم / ٥٠.

(٤) سبأ / ٣.

١٤٠