منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ٢

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-341-1
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٥٦

قياس معقود للتنبيه عليها. كيف ولو كانت مقدّمة من المقدّمات بمجرّد إمكان عقد قياس للتنبيه عليها كسبيّة ، لزم أن لا يكون شيء من المقدّمات البديهيّة ، حتّى البديهيّات الأوّليّة بديهيّة ، بل كسبيّة ، فإنّه يمكن عقد قياس لكلّ ذلك. مثلا يمكن أن يقال : إن هذا كلّ لذاك ، وذاك جزء منه ، وكلّ ما كان كلّا فهو أعظم من جزئه ، فهذا أعظم من ذاك.

ومن تلك الأوهام ما نقله المحقّق الطوسيّ في شرح الإشارات عن الإمام الرازي ودفعه ، حيث قال. في مقام التنبيه على أغلاط الإمام ودفع اعتراضاته على الشيخ في هذا المقام (١) :

«ثمّ عارضه ـ أي الإمام الشيخ ـ بأنّ الإنسان يعلم ذاته المخصوصة ، ولا يخطر بباله تصوّر النفس التي يقولون بها ، فكلّ ما يجعلونه عذرا عن ذلك ، فهو عذر عن هذا الكلام.

وأقول : ليت شعري ما يريد بالنفس التي يقولون بها؟

إن أراد بها ذات الإنسان المدركة المحرّكة ، فلا مغايرة.

وإن أراد بها شيئا آخر ، فالشيخ لم يقل بها». انتهى.

وتقرير هذا الوهم : أنّ ما ادّعاه الشيخ من أنّ الإنسان عالم بثبوت ذاته في جميع الحالات ، وغافل أحيانا عن جميع أعضائه ، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، فذاته المعلومة التي ليست هي إلّا نفسه مغايرة لأعضائه ، معارض بمثله. وهو أنّ الإنسان يعلم ذاته المخصوصة في جميع الأحوال ، ولا يخطر بباله في بعض الأحوال تصوّر النفس التي يقولون بها ، وبأنّها عين ذاته. والحال أنّ المعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، فذاته مغايرة لنفسه ، مع أنّهم لا يقولون بالمغايرة ، بل يقولون بالعينيّة ، كما جزم به الشيخ ، فكلّ ما يجعلونه عذرا عن هذه المعارضة ، فهو عذر عمّا ذكره الشيخ في التنبيه.

وهذا إذا قرّر كلام الإمام على سبيل المعارضة ، كما فهمه المحقّق الطوسي (ره).

ويمكن تقريره أيضا على سبيل النقض الإجماليّ أو التفصيليّ.

امّا الأوّل فبأن يقال : لو كان ما ذكره الشيخ حقّا بجميع مقدّماته ، لزم أن يكون ذات

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ / ٢٩٨.

١٠١

الإنسان مغايرة لنفسه ، لجريان نظير هذا البيان فيه ، كما عرفت ؛ والحال أنّ ذات الإنسان عين نفسه عندهم.

وأمّا الثاني ـ وإن كان بعيدا عن كلام الإمام ـ فبأن يقال : إنّا سلّمنا أنّ الإنسان في الفرض المذكور لا يغفل عن ذاته ، ويغفل عن أعضائه ، وأنّ ذلك دليل على المغايرة ، أي مغايرة ذاته لأعضائه. لكون المعلوم مغايرا لما ليس بمعلوم ، إلّا أنّا لا نسلّم أنّ ذاته المعلومة عين نفسه ـ كما ادّعاه الشيخ وقالوا به ـ إذ لا دليل هنا على هذا الاتّحاد وهذه العينيّة ، بل الدليل قائم على خلافه ، وهو نظير الدليل على مغايرة ذاته لأعضائه ، إذ الإنسان لا يغفل عن ذاته في جميع الأحوال ، ومع ذلك قد لا يخطر بباله تصوّر النفس التي يقولون بها.

وأمّا تحرير الجواب عن هذا الوهم على جميع التقارير الثلاثة ، فواضح كما ذكره المحقّق الطوسيّ (ره) ، وبيانه : أن لا سترة في أنّ المراد بذات الإنسان ، ذاته المدركة المحرّكة المعلومة له في جميع الأحوال.

فالإمام إن أراد بالنفس التي يقولون بها هذا المعنى ، كما هو مرادهم بها ، فظاهر أنّ الإنسان كما لا يغفل عن ذاته في شيء من الأحوال ، لا يغفل عن نفسه بالمعنى المذكور الذي أراده القوم والشيخ ، لكونهما واحدة ، ولا مغايرة بينهما أصلا في المعنى.

وإن أراد بالنفس معنى آخر ادّعى هو الغفلة عنه ومغايرته للذات ، فهو شيء لم يقل به الشيخ ولا أحد من القوم ، كما يعلم من تتبّع كلامهم.

ومن تلك الأوهام ، ما ذكره الشارح القوشجيّ في «شرح التجريد» في هذا المقام ، وأورد عليه النظر ؛ قال (١) : وردّ ذلك بأنّ ذات الإنسان عندنا هي الأجزاء الأصليّة الجسمانيّة التي هي أجزاء (٢) لبدنه ، ولا نسلّم أنّه يغفل عنها ، بل إنّما يغفل عن الأجزاء الفضليّة ، وعن الأعراض والقوى الحالّة فيها.

__________________

(١) شرح التجريد ٢٢٢ ، للقوشجي.

(٢) في المصدر : هي جزء لبدنه.

١٠٢

أقول : فيه (١) نظر ، لأنّه لو كان لا يغفل عن الأجزاء الأصليّة (٢) ، لكان عالما بأنّها ما هي. لا نقول (٣) : يجب أن يعلمها بحقيقتها. بل بوجه يمتاز (٤) به عما عداها من سائر الأعضاء وغيرها ، وأكثر الناس لا يعلمونها كذلك ، مع أنّهم يعلمون أنفسهم بوجه تمتاز به عما عداها» انتهى.

وتقرير هذا الوهم : أنّ ذات الإنسان عندنا أي عند بعض المتكلّمين ـ هي الأجزاء الأصليّة الجسمانيّة التي هي أجزاء لبدنه ، ولا نسلّم أنّه في الفرض المذكور أو في شيء من الأحوال يغفل عنه ، فإنّه كما لا يغفل عن ذاته ، كذلك لا يغفل عن تلك الأجزاء ، لكونها عين ذاته. بل الغفلة إنّما تقع عمّا هو غير ذاته من الأجزاء الفضليّة لبدنه ، وعن الأعراض والقوى الحالّة فيها ، فحينئذ نقول : إنّ الشيخ وكذا من ادّعى مغايرة ذات الإنسان لبدنه وأعضائه ، بسبب أنّهم رأوا أنّ الإنسان لا يغفل عن ذاته ويغفل عن تلك الأشياء.

إن أرادوا به أنّ ذات الإنسان أمر آخر سوى الأجزاء الأصليّة أيضا ، وهو مغاير لبدنه وأعضائه الأصليّة والفرعيّة والأعراض الحالّة فيها جميعا ، كما هو مقصودهم ، فلا نسلّم ذلك ، إذ مبنى هذه المغايرة على وقوع الغفلة ، ولا نسلّم وقوع الغفلة عن الأجزاء الأصليّة.

وإن أرادوا به أنّ ذات الإنسان هي الأجزاء الأصليّة من بدنه ، وهي مغايرة للأجزاء الفرعيّة ولقواها وأعراضها ، فهذا مسلّم ، لكنّهم لم يقولوا بذلك.

ومع ذلك فهم إن أرادوا بالنفس التي يقولون بها ، تلك الأجزاء الأصليّة ـ كما هو أيضا عند بعض المتكلّمين ـ حتّى يكون ذات الإنسان ونفسه واحدة ، وعبارة عن تلك الأجزاء الأصليّة ، فهذا أيضا مسلّم ، إلّا أنّ الشيخ ونظراءه من الحكماء لم يقولوا بذلك. وإن أرادوا بالنفس أمرا آخر سوى تلك الأجزاء ، وأنّها مغايرة لتلك الأجزاء أيضا ، كما هو مقصودهم ؛ فلم يلزم ذلك من التنبيه المذكور كما عرفت. وهذا هو تقرير هذا الوهم.

وأمّا تقرير دفعه ، فبأن يقال : إنّ ما ادّعاه المتوهّم من أنّ الإنسان لا يغفل في شيء من الأحوال عن الأجزاء الأصليّة من بدنه كما لا يغفل عن ذاته ، باطل من وجوه :

أمّا أوّلا ، فلما ذكره الشارح القوشجي ، من أنّه لو كان كذلك لوجب أن يكون عالما

__________________

(١) في المصدر : وفيه نظر ...

(٢) عن أجزائه ...

(٣) لا تقول ...

(٤) يمتاز عمّا عداها.

١٠٣

بأنّها ما هي. لا نقول : يجب أن يعلمها بحقيقتها ، حتّى يرد أنّ ذلك غير لازم ، كما في العلم بالذات ، بل نقول: إنّه يجب أن يكون عالما بها بوجه تمتاز به عمّا عداها من الأجزاء الفرعيّة وغيرها ، كما أنّه يعلم ذاته بوجه تمتاز به عمّا عداها ، وظاهر أنّه ليس كذلك ، فإنّ أكثر الناس مع علمهم بذواتهم وأنفسهم بوجه تمتاز به عمّا سواها ، لا يعلمون الأجزاء الأصليّة لأبدانهم بوجه تمتاز به عمّا عداها.

فإن قلت : لعلّ هذه الغفلة لأجل أنّ هؤلاء لم يتصوّروا معنى الأجزاء الأصليّة ، ولم يدركوا أنّها عين ذات الإنسان ، فإنّهم لو تصوّروا ذلك وأدركوا هذا الحكم لما غفلوا عنه.

قلت : من المعلوم بالضرورة ، أنّ من تصوّر معنى الأجزاء الأصليّة أيضا ربّما يكون غافلا عن العلم بها مع العلم بذاته ، وأمّا من أدرك وحكم بأنّها عين ذاته ، فهو وإن كان عالما بها مع العلم بذاته ، إلّا لا يجدى نفعا ، لأنّ المطلوب عدم الغفلة عن تلك الأجزاء مع العلم بالذات على جميع التقادير الواقعيّة ، ولا نسلّم أنّ تقدير الحكم بأنّها عين ذات الإنسان تقدير واقعيّ ، بل هو بمجرّد الفرض. فإنّ هذا التقدير إنّما يكون واقعيّا إذا كان ذلك الحكم ثابتا في الواقع ، وليس كذلك ، لأنّه لم يثبت بعد ولم يدلّ عليه دليل ، بل الدليل على خلافه ، كما هو ظاهر على من تأمّل في التنبيه المذكور ، وفيما سيأتي من الوجوه على ما نحن بصدده.

وأمّا ثانيا ، فلأنّ الأجزاء الأصليّة لا تخلو من أن تكون متّصلة في الواقع بالأجزاء الفضليّة الفرعيّة ، أو تكون منفصلة عنها في الواقع ، وإن كان الانفصال غير محسوس.

وعلى الأوّل فواضح أنّه إذا فرضت الأعضاء متفرقة غير متماسّة متباينة الأطراف ، كما في الفرض المذكور ، كانت الأجزاء الأصليّة في ضمن فرض تفرق الأعضاء مفروضة التفرّق أيضا ، كالأعضاء والأجزاء الفضليّة.

وعلى الثاني ، فإن لم تكن تلك الأجزاء الأصليّة مفروضة التفرّق بتفرّق الأعضاء ، فلا خفاء في أنّه يمكن فرض تفرّقها أيضا كفرض تفرّق الأعضاء والأجزاء الفضليّة ، ولا خفاء أيضا في أنّ الإنسان حينئذ في الفرض المذكور لا يغفل عن ذاته مع أنّه يغفل عن

١٠٤

إدراك تلك الأجزاء الأصليّة المتفرّقة ، كالغفلة عن الأجزاء الفضليّة وعن الأعضاء ، فإنّ السبب الذي فرض كونه سبب الغفلة مشترك ، والفرق تحكّم.

وأمّا ثالثا ، فلأنّ تلك الأجزاء الأصلية لكونها مادّية وجسمانيّة ، من شأنها أن تدرك بالحواسّ ، ولا أقلّ من إدراكها بالحواسّ الباطنة كالتخيّل ، والحال أنّ المفروض في الفرض المذكور للتنبيه المسطور أن لا استعمال لحاسّة من الحواسّ أصلا في إدراك شيء من الأشياء مطلقا ، وأنّه مع ذلك لا يغفل الإنسان عن ذاته ، فكيف تكون الأجزاء مدركة أو عين ذاته مع ذلك الفرض؟ فتدبّر.

وممّا ذكرنا يظهر وجه اندفاع بعض أوهام أخر ربّما يتراءى ورودها على هذا المقام.

منها : أنّه يمكن أن يكون ذات الإنسان ونفسه التي لا يغفل عنها في شيء من الأحوال جسما داخلا في بدنه وفي خلل بدنه وفرجه ، أو خارجا عنه مجاورا له ، إمّا جسما بسيطا عنصريّا نارا أو هواء أو أرضا أو ماء ، وإمّا جسما بخاريّا ، وإمّا دما أو نحو ذلك ، كما ذهب إلى كلّ من ذلك طائفة من القدماء على ما سيجيء ذكره في ذكر عدّ المذاهب في النفس.

وبيان دفع هذا الوهم : أنّ تلك الأجسام أيضا في الفرض المذكور ، إمّا مفروضة التفرّق ، أو ما يمكن فرض تفرّقها. وأيضا هي ما من شأنها أن تكون مدركة بالحواسّ ، ولا أقلّ من إدراكها بالحواسّ والمشاعر الباطنة ، والمفروض وقوع الغفلة عن المتفرّقات وعدم استعمال الحواسّ. فتدبّر.

ومنه يظهر أنّه لا يمكن ذهاب الوهم إلى أنّ ذات الإنسان هو الهواء الطلق المفروض في الفرض المذكور ، لكون المفروض أنّه ظرف لوجود الإنسان المتوهّم المتأمّل المفروض ، ومحيط به ، وظرف وجود الشيء لا يكون عين ذاته ، مع أنّ ذلك الهواء الطلق أيضا هو مما يمكن فرض تفرّقه ، ومن شأنه أن يدرك بالحواسّ ، ولو بالحواسّ الباطنة ، ومع أنّه لم يذهب وهم أحد إلى كونه ذات الإنسان ونفسه.

١٠٥

ومنها أنّه يمكن أن يكون ذات الإنسان ونفسه جسما بسيطا لطيفا سماويّا داخلا في البدن ، أو مجاورا له ، [و] هو لكونه لطيفا لا يمكن أن يدرك بالحواسّ ، ولكونه سماويّا غير قابل للتفرّق ، لا يمكن فرض تفرّقه.

ووجه دفعه ، أنّه لا خفاء في أنّه لكونه جسما مادّيا يمكن إدراكه بالحواسّ الباطنة ، والمفروض عدم استعمالها ، فكيف يمكن أن يدرك في الفرض المذكور ، فيعلم منه أنّ ذات الإنسان المدركة البتّة في الفرض المذكور غير هذا الجرم السماويّ أيضا ، كما أنّها غير تلك الأشياء المذكورة ، فتبصّر.

فان قلت : فعلى ما قرّرت التنبيه المذكور الذي قرّره الشيخ لإثبات وجود النفس للإنسان وإثبات إنّيّتها ، يكون مفاده أنّ ذات الإنسان ـ أي نفسه ـ مدركة بذاتها له بذاته ثابتة له ، ومغايرة لبدنه ولجسده الذي هو الجسم ذو الأبعاد الثلاثة ، ولأعضائه الظاهرة والباطنة ، وكذا لقواه وحواسّه الظاهرة والباطنة ، وللأعراض الحالّة فيه ، كمزاجه وغيره ، ولما هو خارج عن ذلك أجمع.

وبالجملة أنّها موجودة بذاتها ، مغايرة لما هو مادّيّ أو مدرك بالحواسّ الظاهرة أو الباطنة. ففي هذا التنبيه على هذا التقرير إشارة إلى كون النفس الإنسانيّة جوهرا مجرّدا عن المادّة أيضا ، إذ الشيء الموجود القائم بذاته ، المغاير للجسم وأجزائه وأعراضه ولكلّ ما يمكن أن يدرك بالحواسّ ، لا يكون إلّا جوهرا قائما بذاته ، مجرّدا عن المادّة ، ولذلك جعل بعضهم عدم غفلة الإنسان عن إدراك ذاته لذاته ونفسه في جميع الأحوال ، وغفلته عن بدنه وأعضائه والأشياء الخارجة في بعض الأحوال ، دليلا على كون نفسه الناطقة جوهرا مجرّدا عن المادّة ، حتّى إنّ الفاضل الأحساويّ (١) ذكر من جملة أدلّة القائلين بتجرّد النفس الإنسانيّة الناطقة عليه ، هذا الدليل ، وخصّه بالذكر ، وعدّه أقوى دلائلهم على ذلك.

وحتّى أنّ صدر الأفاضل جعل ما في الإشارات حجّتين على ذلك ؛ إحداهما من

__________________

(١) راجع المجلي / ٤٩٣ ، للأحسائيّ ، الطبعة الحجريّة.

١٠٦

جهة مشاهدة حال النائم والسكران ، والاخرى من جهة مشاهدة حال الإنسان في الفرض المذكور للتنبيه المزبور.

وبالجملة ، ففيما ذكره الشيخ إشارة ـ مع إثبات وجود النفس الإنسانيّة وإنّيّتها ـ إلى تحقيق حقيقتها من حيث كونها جوهرا مجرّدا عن المادّة. فما باله في أن أقام الدليل فيما بعد في الفصول الآتية على جوهريّتها وتجرّدها ، ولم يذكر هنا ما يدلّ على أنّ في هذا التنبيه إشارة إلى ذلك ، كما ذكر أنّ فيه إشارة إلى إثبات إنّيّتها.

قلت : لعلّ وجه ما فعله ، أنّه على تقدير دلالة التنبيه المذكور على كونها جوهرا مجرّدا عن المادّة ، فلا يخفى أنّها دلالة إجماليّة ، وإشارة غير تفصيليّة على ذلك ، فلذلك لم يكتف بها ، وذكر الدليل عليه فيما بعد بوجوه تفصيليّة ، لأنّه أراد الدلالة التفصيليّة عليه.

على أنّه يمكن أن يكون نظره في ذلك إلى أنّ التنبيه المذكور ، وإن كان فيه إشارة إلى ذلك ، إلّا أنّه ليست هذه الإشارة إشارة مقصودة. فإنّ الغرض من جوهريّة النفس وتجرّدها ، جوهريّتها وتجرّدها على الوجه الذي به يكون مختصّا بالإنسان ، ولا يجري في غيره من أفراد الحيوان البتّة ، يدلّ على ذلك أنّهم قالوا :

إنّ النّفس الناطقة الإنسانيّة جوهر مجرّد عن المادّة ، وأنّ النّفس الحيوانيّة وكذا النباتيّة منطبعة في المادّة قائمة بها ، وهنا ليس الأمر كذلك ، فإنّ عدم الغفلة عن الذات والغفلة عمّا سواها الذي يمكن أن يكون ، دليل على الجوهريّة. والتجرّد لا يخفى أنّه كما أنّه ثابت في الإنسان لا سبيل إلى انكاره فيه ، كذلك لا دليل على نفيه في غيره من الحيوانات ، وإن لم يكن دليل على ثبوته بالفعل فيها ، وبالجملة لا دليل على ثبوت ذلك ولا على انتفائه في غير الإنسان من الحيوان ، بل هو في غيره بحسب الاحتمال العقليّ محتمل أن يكون وأن لا يكون.

ولا يخفى أيضا أنّ هذا المعنى ـ على هذا ـ لا يكون مختصّا جزما بالإنسان ، وإنّما يكون هذا الاختصاص جزما ، إذا ثبت بدليل أو وجه تنبيهيّ وجدانيّ أنّه لا يجري في

١٠٧

غيره ، والمقدّر عدمه. فلذلك ترى الشيخ في الكتابين ، ولا سيّما في «الشفاء» ، أنّه أثبت أوّلا إنّيّة النفس الناطقة ومغايرته للبدن وأعضائه وأجزائه ، ثمّ أثبت بعد ذلك كونها جوهرا مجرّدا عن المادّة ، على الوجه الذي يكون مختصّا بالإنسان ولا يجري في غيره البتّة ، لكونه هو المقصود. حيث أثبت خواصّ أفعال وأحوال للإنسان لا تجري تلك في غيره البتّة ، كالإدراكات الكليّة ونحوها. ثمّ استدلّ بها على تجرّدها ، كما سيجيء بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وقد تبعه المحقّق الطوسيّ (ره) في التّجريد.

ومن هنا يظهر أنّ ما فعله بعضهم ، حيث جعل التنبيه المذكور تنبيها ، بل دليلا على تجرّد النفس الإنسانيّة ، مبنيّ إمّا على أنّه لم يكن في نظره إثبات تجرّدها على وجه يكون مختصّا بالإنسان ، ولا يجري في غيره مع كونه مقصودا. وإمّا مبنيّ على أنّه كان في نظره ذلك ، إلّا أنّه اكتفى في الاختصاص المذكور العلم بحصوله في الإنسان وعدم العلم به في غيره ، أي كونه ظاهر الاختصاص بالإنسان. حيث إنّ إدراك الذات والغفلة عمّا سواها معلوم في الإنسان ، وغير معلوم في غيره ، وإن كان محتملا ، وفي الوجهين ما ترى.

ويظهر مما ذكرنا أنّ ما فعله بعضهم من جعله معنى لا خفاء في اشتراكه بين الإنسان وغيره من أفراد الحيوان ، بل النبات أيضا ، لكون ذاته باقية بعينها في جميع الأحوال ، أي أحوال وجوده ، مع كون بدنه وجسمه وأعضائه وأعراضه متبدّلة ، دليلا على تجرّد النفس الناطقة الإنسانيّة ، بعيد من الاستقامة جدّا. وإن اشتهيت الاطّلاع على تفصيل المقام ، فاستمع لما يتلى عليك من الكلام.

فنقول : إنّ صدر الأفاضل (١) في مقام إقامة الحجج على أنّ النفس الإنسانيّة جوهر قائم بذاته ـ بعد ما أقام الحجج عليه وذكر الحجّة عليه أوّلا هكذا : «إنّ إدراك الشيء لمّا كان عبارة عن حصول صورته للمدرك ، فكلّ من أدرك ذاته يجب أن يكون مفارقا عن المحلّ ، إذ لو كان في محلّ ، لكان صورة ذاته غير حاصلة لذاته بل لمحلّه ، لأنّ وجود الحالّ لا

__________________

(١) الشواهد الربوبيّة / ٢١١.

١٠٨

يكون إلّا للمحلّ. هذا خلف. ثمّ إنّا ندرك ذاتنا بذاتنا (٣) ، وأمّا شعورنا بشعور ذاتنا فقد وقد (٤) ، إذ ليس نفس وجودنا ، فهو كإدراكنا سائر الأشياء المدركة من خارج.» ثمّ أورد عليه شكّا وأجاب عنه ، ثمّ ذكر حجّة اخرى على ذلك مبنيّة على إدراك النفس للمعقولات ، ثمّ ذكر تينك الحجّتين اللتين استنبطهما من كلام الشيخ في «الإشارات» ، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم ـ قال (١) :

«حجّة اخرى : بدنك وأعضاؤك دائم الذوبان والسيلان ، لعكوف (٥) الحرارة الغريزيّة على التحليل والتنقيص ، وكذا غيرها من الأسباب ، كالأمراض الحادّة (٦) والمسهلات ، وذاتك (٧) أوّل الصّبا باقية ، فأنت أنت لا بدنك (٨)». ثمّ قال (١) : حكمة عرشيّة قالوا : هذا منقوض بسائر (٩) الحيوان ، فإنّ الفرس تحلّل أجزاء بدنه معلوم ، فلو كانت نفسه ـ كما قيل ـ منطبعة في جرم بخاريّ متحلّل دائما ، أو في عضو متغذّ متحلّل ، لكان كلّ عام بل كلّ اسبوع فرسا جديدا ، والحدس حاكم ببطلانه ، فللحيوان نفس كما لنا.

والشيخ وتلامذته وغيرهم من الحكماء تارة أنكروا بقاء الذات فيما سوى الإنسان ، وتارة أثبتوا للجميع نفسا علانية (١٠) ، وحكموا بصعوبة الفرق بين الإنسان وغيره في ذلك.

وأنت ـ بعد تذكّرك ما أسلفناه ـ ستذعن أنّ للحيوانات شركة في نفس متخيّلة مجرّدة عن (١١) عالم الحسّ ، لا عن عالم المثال ، على أنّ هذه البراهين تقتضي (١٢) تجرّد النفس عن البدن المحسوس وعوارضه فقط ، ولا تفيد (١٣) أزيد من هذا ، فهو ممّا يقع فيه الاشتراك لسائر (١٤) الحيوان ممّا له قوّة باطنيّة يشعر (١٥) بذاتها.

وبعضها مما يقتضي تجرّد النفس عن الكونين ، فهي مختصّة بالإنسان العارف ، وستعلم أنّ أصناف الناس ليسوا في درجة واحدة من المواطن». انتهى كلامه.

وأقول : لا يخفى عليك أنّ هذه الحجّة الأخيرة ، سواء اقيمت حجّة على تجرّد النفس

__________________

(٣) في المصدر : بذاتنا ، لأنّا لا نعزب عن ذاتنا ، وأمّا شعورنا ..

(٤) فقد فقد ...

(٥) بعكوف ...

(٦) الحارّة ...

(٧) وذاتك منذ أوّل ...

(٨) لا ببدنك ...

(٩) بسائر ... بسائر ...

(١٠) عقلانيّة ...

(١١) من ...

(١٢) يقتضي ...

(١٣) ولا يفيد ...

(١٤) لسائر ...

(١٥) تشعر.

(١) الشواهد الربوبيّة / ٢١٢ ـ ٢١٣.

١٠٩

الناطقة الإنسانيّة ـ كما فعله ـ أو على كونها مغايرة للبدن وأجزائه ومزاجه وقواه وأعراضه ـ كما فعله المحقّق الطوسي (ره) في التجريد ـ يردّ عليها أنّها منقوضة بسائر الحيوان ـ كما قالوا ـ بل بالنبات أيضا ، حيث إنّ جسمه وأجزاءه دائما في التبدّل والتغيّر بالاغتذاء والنشو والنماء ، مع أنّا نعلم بالضرورة أنّ ذاته باقية بعينها من أوّل زمان وجوده إلى منتهاه.

وما نقله عن الشيخ وتلامذته وغيرهم من الحكماء ، لو كانوا قالوا به ، فيردّ على إنكارهم تارة بقاء الذات فيما سوى الإنسان أنّه مكابرة ، حيث إنّه خلاف ما يحكم به العقل السليم والحدس المستقيم ، وعلى إثباتهم تارة للجميع ـ أي لجميع أفراد الحيوان من الإنسان وغيره ـ نفسا عقلانيّة ، أنّهم إن أرادوا بالنفس العقلانيّة ما هو مناط التكليف كما في الإنسان ، فذلك خلاف ما هو ضروري عند جميع العقلاء وفي جميع الملل والأديان ، وحينئذ فلا يصعب الفرق بين الإنسان وغيره في ذلك ، وإن أرادوا بها غير ما هو مناط التكليف ، أي نفسا مجرّدة عقلانيّة في الجملة ، هي أقلّ تعقّلا من النفس الإنسانيّة وأدون تجرّدا منها ، لم تبلغ مرتبة هي مناط التكليف ، بناء على ادّعاء أنّ النفس العقلانية المجرّدة يمكن أن يتفاوت مراتبها في التعقّل والتجرّد المستند إلى ذلك التعقّل ، كما يشاهد في الإنسان. حيث إنّ النفوس الإنسانيّة بعضها في مرتبة العقل الهيولانيّ ، وبعضها في مرتبة العقل بالملكة ، وبعضها في مرتبة العقل بالمستفاد ، وبعضها في مرتبة العقل بالفعل ؛ ومع ذلك فلبعضها تلك المرتبة بالنسبة إلى بعض المعقولات أقلّها أو أكثرها ، ولبعضها بالنسبة إلى كلّها أو جلّها. وبناء على ادّعاه أنّ أقلّ تلك المراتب من التعقّل وأدونها في التجرّد ـ كما في النّفوس الحيوانيّة ـ وإن كان يتحقّق فيه أصل التعقّل والتجرّد المترتّب عليه بعض أحكام التجرّد وخواصّه ، لكون تلك النفس يمكن أن تكون باقية بعد خراب بدنها ، لكونها مجرّدة بتلك المرتبة من التجرّد ، وحاصلا لها أصل التجرّد ، لكي يمكن تصحيح معاد الحيوانات أيضا لو قلنا به ، كما في الإنسان ، على ما سيجيء بيانه إن شاء الله تعالى ؛ إلّا انّ تلك المرتبة من التجرّد والتعقّل لا تكون مناط التكليف أصلا ، لا

١١٠

بالفعل ولا بالقوّة ؛ بل إنّما مناط التكليف هو ما بعد تلك المرتبة من المراتب الحاصلة في الإنسان ، التي يترتّب على جميعها ما يترتّب على أصل التجرّد ، ككونها باقية غير فانية ، حتّى يمكن تصحيح المعاد في الأطفال والبله والمجانين وأمثالهم أيضا ، مضافا إلى ذلك كونها مناط التكليف ، إلّا أنّ بعض تلك المراتب مناط التكليف بالقوّة البعيدة ، كما في مرتبة العقل الهيولانيّ وبعضها مناطه بالقوّة القريبة ، كما في مرتبة العقل بالملكة ، وبعضها مناطه بالفعل لو لم يكن مانع منه كما في المرتبتين الأخيرتين.

فحينئذ نقول : إنّ إثباتهم للحيوانات نفسا عقلانيّة بالمعنى الذي ذكروا ، إن أمكن تصحيحه على هذا الطريق ، من غير صعوبة أيضا في الفرق بين الإنسان وغيره في ذلك كما ادّعوه ، إلّا أنّه يردّ عليهم أنّه ما الداعي إلى هذا الإثبات وإلى هذا الالتزام ؛ وما الذي اضطرّهم إلى هذا القول ؛ فإن كان الداعي إلى ذلك قيام دليل على تجرّد النفس مشترك بين الإنسان وغيره من أفراد الحيوان ، فيرد عليه أنّه ليس هنا دليل كذلك ، فإنّ الحجّة الأخيرة المذكورة التي هي ـ مثلا ـ منشأ لتوهّمهم لذلك في زعمهم ، كما يدلّ عليه كلام صدر الأفاضل ، وإن كانت مشتركة بين الإنسان وغيره من أفراد الحيوان ، إلّا أنّ دلالتها عل تجرّد النفس غير مسلّمة ، لأنّه لا دلالة فيها أزيد من أنّ ذات الإنسان أو الحيوان بعينها باقية في جميع أزمنة وجودها ، وهي مغايرة لما يتبدّل منهما من البدن وأجزائه وأعضائه وأعراضه. وهذا لا يستلزم كون تلك الذات مجرّدة عن المادّة ، لاحتمال أن يكون جوهرا مادّيّا غير متبدّل ، باقيا بعينه في جميع الأحوال ، إمّا داخلا في البدن ، أو خارجا عنه مجاورا له ، مثل الأجزاء الأصليّة بعينها ، أو جسما بسيطا عنصريّا ، أو جرما لطيفا سماويّا باقيا بعينه. فمن أين يحكم العقل بتجرّدها واشتراك ذلك التجرّد بين الإنسان وغيره من الحيوان ، حتّى اضطرّهم إلى إنكار بقاء الذات فيما سوى الإنسان تارة ، وإلى إثبات النفس العقلانيّة للجميع أخرى.

وظاهر أيضا أنّ ما ذكره الشيخ في الكتابين إشارة إلى إثبات إنّيّة النفس الناطقة الإنسانيّة.

١١١

وجعله صدر الأفاضل حجّة اخرى ، بل حجّتين على تجرّدها لا يمكن أن يكون منشأ لذلك ، لأنّه وإن دلّ على تجرّدها باعتبار أنّه يدلّ على كونها ثابتة للإنسان بذاته ، مدركة له في جميع الأحوال ، مغايرة للبدن وجسميّته وأجزائه ومزاجه وأعراضه وأعضائه وقواه ، ولكلّ ما يمكن أن يدرك بأحد الحواسّ الظاهرة أو الباطنة ، وأنّ الذات الكذائيّة لا تكون إلّا مجرّدة عن المادّة كما بيّناه سابقا ؛ إلّا أنّ هذا ليس مشتركا بين الإنسان وغيره من الحيوان ، حيث إنّ ثبوت تلك الحالة ، أي إدراك الذات بالذات ، والغفلة عن كلّ ما سواها ، وإن كان معلوما في الإنسان ، لكنّه غير معلوم في غيره من أفراد الحيوان ، وإن لم يكن انتفاؤه أيضا فيه معلوما.

وظاهر أيضا أنّ البراهين التي أقاموها على تجرّد النفس الإنسانيّة من جهة الإدراكات الكليّة العقليّة ونحو ذلك من الوجوه التي هي مختصّة بالإنسان ـ كما ذكر صدر الأفاضل نبذا منها ـ وإن دلّت عل تجرّدها ، لكنّها ليست مشتركة بين الإنسان وغيره من الحيوان ، كما سيأتي بيانه فيما بعد في مقام إثبات تجرّد النفس الإنسانيّة. والحال أنّه ليس هنا دليل أو برهان غير ما ذكر يمكن أن يجعل دليلا على تجرّدها ، ومع ذلك يكون مشتركا بينهما كما يعلم من تصفّح أدلّتهم التي أقاموها على ذلك وبذلوا جهدهم فيها.

والحاصل أنّ ما يدلّ على التجرّد ، فهو ليس بمشترك بينهما ، وما هو مشترك فليس يدلّ على التجرّد ، فمن أين حصل لهم الظنّ المذكور؟ حتّى اضطرّوا إلى ما التزموه ، فتارة أنكروا بقاء الذات فيما سوى الإنسان ، وتارة أثبتوا لغيره أيضا نفسا عقلانيّا.

فإن قلت : إذا لم تكن النفس الحيوانيّة من حيث هي حيوانيّة مجرّدة أصلا ، فليس يمكن بقاؤها ، بل تكون فانية دائرة ، كالبدن وأجزائه ، حيث إنّ الادلّة التي تدلّ على بقاء النفس كلّها مبنيّة على تجرّدها ، كما عرفت بيانه فيما سلف من الأبواب. وعلى هنا ، فبأيّ طريق يمكن تصحيح المعاد في الحيوان وحشره ، كما نطق به الشرع الشريف ، والحال أنّ إعادة المعدوم ممتنعة؟

قلت : معاد الحيوان ليس ضروريا فى الدين كمعاد الإنسان ، حيث إنّ الآيات الواردة

١١٢

في حشر الحيوانات ، كقوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (١) ، وقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٢) وأمثال ذلك من الآيات والأخبار غير ناصّة في ذلك ، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

وعلى تقدير القول بحشرها أيضا ، فيمكن تصحيحه بوجه آخر ، من غير توقّف على وجود نفس مجرّدة عن المادّة لها ، تكون هي باقية بعد خراب أبدانها ، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى العزيز ، فانتظر.

ثمّ إنّ ما ذكره صدر الأفاضل في تحقيق المقام بقوله (٣) : وأنت بعد تذكّرك ما أسلفناه ـ الى آخره ـ مبنيّ أيضا على القول بتفاوت مراتب التجرّد ، وأنّ النفس الحيوانيّة أيضا أي نفسها المتخيّلة مجرّدة نوع تجرّد ، أي أنّها مجرّدة من عالم الحسّ فقط دون عالم المثال ، وأنّ النفس الإنسانيّة ـ لكونها عاقلة ـ مجرّدة عن العالمين جميعا.

وفيه أنّ هذا التجرّد ليس هو مقصود القوم ممّا أقاموا الدليل عليه ، بل إنّما مقصودهم منه التجرّد الذي حكموا به في النفس الإنسانيّة ، أي التجرّد عن العالمين ، وأين هذا من ذاك؟ نعم لا مشاحّة في الاصطلاح لو اصطلح أحد وسمّى النفس المتخيّلة الحيوانيّة مجرّدة بذلك المعنى.

وقوله (٣) «على أنّ هذه (٥) البراهين تقتضي (٦) تجرّد النفس عن البدن المحسوس وعوارضه فقط» ـ إلى آخره ـ.

فيه أنّه إن كان المشار إليه بكلمة الإشارة ، ما ذكره من الحجّة الأخيرة وما في معناها ، ممّا يدلّ على كون الذات والنفس مغايرة للبدن المحسوس وعوارضه فقط ، فقد عرفت أنّ مقتضاه ، وإن كان مشتركا بين الإنسان وغيره ، لكنّه لا يدلّ على التجرّد بالمعنى

__________________

(١) التكوير / ٥.

(٢) الأنعام / ٣٨.

(٣) الشواهد الربوبيّة / ٢١٣.

(٥) في المصدر : بعض هذه ...

(٦) يقتضي.

١١٣

المراد.

وإن كان المشار إليه هو ما ذكره من الحجّتين اللتين استنبطهما من كلام الشيخ في إنّيّة النفس ، كما يشعر به قوله : «مما له قوّة باطنة تشعر بذاتها» فقد عرفت أنّ تينك الحجّتين ـ على تقدير دلالتهما على تجرّد النفس ـ إنّما تدلّان عليه في الإنسان خاصّة دون غيره من سائر الحيوان ، لأنّ حصول تلك الحالة المفروضة في تينك الحجّتين غير معلوم في غير الإنسان ، فليس مقتضاهما ممّا يقع فيه الاشتراك لسائر الحيوان ممّا له قوّة باطنة يشعر بذاته ، وإن كان المشار إليه ما ذكره من الحجّة المبنيّة على إدراك النفس للمعقولات الكلّيّة ، فظاهر أنّها ، وإن كانت تدلّ على التجرّد بالمعنى المراد ، إلّا أنّ مقتضاها ليس بمشترك بين الإنسان وغيره أصلا ، إذ إدراك الكلّيّ إنّما هو مختصّ بالإنسان وحده.

وحينئذ فلم يبق من البراهين التي ذكرها إلا الحجّة الاولى التي ذكرها.

ولا يخفى على المتأمّل ، أنّها ـ كما قرّرها ـ لا دلالة فيها على شيء ، حتّى ننظر في أنّ مقتضاها هل هو مشترك بين الإنسان وغيره أم لا؟

وبيان ذلك أنّ قوله فيها : «إنّ إدراك الشيء لمّا كان عبارة عن حصول صورة للمدرك» مبنيّ على كون علم الإنسان بذاته علما حصوليّا أيضا ، وهو ممنوع ، بل لا معنى له ، لأنّ حصول صورة الشيء في الشيء نفسه ممّا لا وجه له ، سواء أريد بصورته شبحه ومثاله أو حقيقته ، على اختلاف المذهبين في ذلك. بل إنّ علم الشيء بذاته علم حضوريّ منشؤه كون المعلوم عين العالم بالذات ، كما هو المقرّر بينهم.

وعلى تقدير تسليم كونه حصوليّا ، فقوله : «فكلّ من أدرك ذاته يجب أن يكون مفارقا عن المحلّ ـ إلى آخره ـ ممنوع ، لجواز أن يكون مادّيا ، وأن يكون صورة ذاته حاصلة له أوّلا وبالذات ، ولمحلّه أيضا ثانيا وبالعرض ، فلم يلزم منه أن لا يكون تلك الصورة حاصلة إلّا لمحلّه ، حتّى يكون خلاف المفروض ،

وهذا ، كما أنّه على تقدير كون هذا العلم حضوريّا كما هو المقرّر بينهم ، وكون العالم

١١٤

مادّيا ، إنّما يلزم كون هذا العلم حاصلا لذات العالم نفسه ، لحصول منشأه له وهو الاتّحاد بينها ، دون محلّه أصلا لعدم الاتّحاد بينهما. فتبصّر.

وقوله : «وبعضها مما يقتضي تجرّد النفس عن الكونين» كأنّه أراد به البراهين التي مبناها على إدراك النفس للكلّيّات المجرّدة عن الموادّ مطلقا ، حيث إنّها تدلّ على تجرّدها عن الكونين ، أي عالم الحسّ والمثال جميعا. إلّا أنّ قوله : «فهي مختصّة بالإنسان العارف» يدلّ على أنّ هذه البراهين تدلّ على تجرّد النفس الإنسانيّة التي هي في مرتبة العقل بالفعل والعقل المستفاد خاصّة ، بالنسبة إلى كلّ المعقولات أو جلّها ، وأنت ستعرف فيما بعد بيان تلك البراهين على وجه به تدلّ على تجرّد النفس الإنسانيّة مطلقا ، سواء كانت للإنسان العارف أم لغيره. فانتظر.

وحيث انتهى الكلام إلى هذا المقام ، وخرجنا بالإطناب عن موضوع الباب ، فلنكتف بهذا القدر فى هذا المرام ، ولنعد إلى ما كنّا بصدده ، فنقول : إنّك بعد ما أحطت خبرا بتفاصيل ما نقلنا عن الشيخ في «الشفاء» في هذا الفصل ، وما ذكرناه في تحريره ، يظهر لك. إلى هنا ما عقدنا الباب لأجله ، وهو إثبات النفس وإنّيّتها وتحديدها من حيث هي نفس ، وأنّها ليست بجسم ولا مزاج ولا عرض ، وأنّها غير البدن وأعضائه وأجزائه وحواسّه وقواه وأعراضه ، فلنتكلّم في بعض مطالب اخرى ممّا نرومه هنا ، فنقول :

١١٥
١١٦

الباب الثاني

في بيان حقيقة النفس وماهيّتها

١١٧
١١٨

في بيان حقيقتها وماهيّتها من حيث إنّها جوهر مجرّد عن المادّة في ذاتها ، وفي أنّها واحدة بالذات المختلفة بالاعتبار ومن حيث الأفعال ، ولها قوى متعدّدة تختلف أفاعيلها لاختلاف قواها.

وقبل الخوض في المقصود ، حريّ بنا أن تقدّم ذكر المذاهب التي قيلت في النفس وجوهرها ونقضها ، لكي يحصل للمتبصّر زيادة في التبصرة.

فنقول : قال الشيخ الطبرسيّ (ره) في «مجمع البيان» (١) في تفسير قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٢) : «إنّه اختلف (٣) العلماء في ماهيّة الروح.

فقيل : إنّه جسم رقيق هوائيّ متردّد في مخارق الحيوان ، وهو مذهب أكثر المتكلّمين ، واختاره المرتضى قدّس الله روحه.

وقيل : هو جسم هوائيّ على بنية حيوانيّة ، فى كلّ جزء منه حياة ، عن عليّ بن عيسى : وكلّ (٤) حيوان روح وبدن ، إلّا أنّ فيهم (٥) من الأغلب عليهم (٦) الروح ، ومنهم من الأغلب عليهم (٧) البدن.

وقيل : إنّ الروح عرض ، ثمّ اختلف فيه ، فقيل : هو الحياة التي يتهيّأ به المحلّ لوجود

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٦ / ٦٧٥ ، أوفست طهران على طبعة دار المعرفة ـ بيروت.

(٢) الاسراء / ٨٥.

(٣) في المصدر : واختلف ...

(٤) عيسى قال : فلكلّ ...

(٥) أن منه ...

(٦) عليه الروح ...

(٧) عليه البدن.

١١٩

القدرة والعلم والاختيار ، وهو مذهب الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن نعمان (٣) والبلخي وجماعة من معتزلة (٤) البغداديّين.

وقيل : هو معنى في القلب ؛ عن الإسوادي (٥).

وقيل : إنّ الروح الإنسان ، وهي (٦) الحيّ المكلّف ؛ عن ابن الاخشيد والنظّام.

وقال بعض العلماء : إنّ الله تعالى خلق الروح من ستّة أشياء : من جوهر النّور ، والطيب ، والبقاء ، والحياة ، والعلم ، والعلوّ. ألا ترى أنّه ما دام في الجسد كان الجسد نورانيّا يبصر بالعينين ويسمع بالاذنين ويكون طيّبا ، واذا اخرج من الجسد نتن الجسد. ويكون باقيا فإذا فارقة الروح بلي وفني. ويكون حيّا وبخروجه يصير ميّتا. ويكون عالما فإذا (٧) خرج منه الروح لم يعلم شيئا. ويكون علويّا لطيفا توجد به الحياة ، بدلالة قوله تعالى في صفة الشهداء (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ) (١) وأجسامهم بليت (٨) في التراب». ـ انتهى كلامه (ره).

وقال الشيخ في «الشفاء» (٢) : اختلف (٩) الأوائل في ذلك ، لأنّهم اختلفوا في المسالك إليه ، فمنهم من سلك إلى علم النفس من جهة الحركة ، ومنهم من سلك إليه من جهة الإدراك ، ومنهم من جمع بين المسلكين ، ومنهم من سلك الحياة (١٠) غير مفصّلة.

ومن (١١) سلك منهم جهة الحركة ، فقد كان يخيّل (١٢) عنده أنّ التحريك لا يصدر إلّا عن متحرّك ، وأنّ المحرّك الأوّل يكون لا محالة متحرّكا بذاته ، وكانت النفس محرّكة أوّليّة إليه (١٣) يتراقى التّحريك من الأعضاء والعضل والأعصاب ، فجعل النفس متحرّكة لذاتها ، وجعلها لذلك جوهرا غير مائت ، معتقدا أنّ ما يتحرّك لذاته لا يجوز أن يموت. قال : ولذلك ما كانت الأجسام السماويّة ليست تفسد ، والسبب فيه دوام حركتها.

__________________

(٣) في المصدر : بن النعمان (ره) ...

(٤) المعتزلة ...

(٥) الأسواري ...

(٦) وهي ...

(٧) فإذا ...

(٨) قد بليت ...

(٩) قد اختلف ...

(١٠) طريق الحياة ...

(١١) فمن ...

(١٢) تخيّل ...

(١٣) إليها.

(١) آل عمران / ١٦٩ و١٧٠.

(٢) الشفاء ـ الطبيعيّات ٢ / ١٤ ـ ١٦ ، الفصل الأوّل من المقالة الأولى من الفنّ السادس.

١٢٠