منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-108-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٨٢

في الأجسام» :

«أقول : فيه نظر ظاهر ، اذ لا يقول عاقل إنّه إذا احرق زيد وصار رمادا ، والقي في أرض الملح فصار ملحا ، فحينئذ يبقى شخص زيد بعينه ، ضرورة أنّ ما به زيد زيد لم يبق حينئذ ، بل عسى أن يدّعى عدم بقاء النوع. فعلى هذا يلزم على من قال بامتناع إعادة المعدوم ، وكان قائلا بالمعاد الجسماني أن يقول مثل ما يقول مثبتوا الجزء الصوري من أنّ الأجزاء المادّية باقية بعينها ، ويتبدّل ما يكون الشخص به شخصا إلى ما يماثله ، وبه يؤوّل الآيات والأحاديث الواردة في المعاد ، كما هو طريقتهم في تأويل الظواهر ، إذا دلّ القاطع على خلافه.

فإن قيل : فيلزم إيصال الثواب والعقاب إلى من يماثل من يستحقّهما.

قلت : المستحقّ للثواب والعقاب هو النفس المجرّدة ، وهي باقية بعد خراب البدن عند المحقّقين ، ومنهم المصنّف ، والمدرك للذّة والألم وإن كان جسمانيّا إنّما هو النفس ، والبدن آلة لها في الأفعال التي يستحقّ بها النفس الثواب والعقاب. وكذا لبعض اللذّات والآلام ، ولا محذور في أن كان استحقاق النفس لهما عند تعلّقها بآلة وإيصال أحدهما عند تعلّقها بآلة اخرى. ـ انتهى.» (١)

وأقول : لا يخفى عليك أنّ ما ذكره المحقّق الدواني لا غبار عليه ، وسنذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى تحقيق معنى التناسخ المحال ، وأنّ عود النفس إلى بدن متألّف من مادّة البدن الأوّل ومن صورة هي أقرب الصور إلى الصورة الزائلة ، ليس من التناسخ المحال ، فانتظر.

وأمّا ما ذكره المحشّي الشيرازي ، فلا يخفى أنّه مجرّد استبعاد ، نظير استبعاد المنكرين للمعاد ، ومع ذلك فهذا الاستبعاد إنّما هو على تقدير القول بالجزء الصوري خاصّة.

ويندفع أيضا بما ذكره المحقّق الدواني بقوله : قيل يكفي في المعاد الجسماني ـ إلى آخر ما قال ـ وسنحقّق ذلك فيما بعد إن شاء الله العزيز.

وأمّا ذكره بقوله : «ضرورة أن ما به زيد زيد لم يبق حينئذ بل عسى أن يدّعى عدم بقاء النوع» ففيه : أنّ زيدا لو كان عبارة عن بدنه فقط ، لربما كان لما ادّعاه وجه ، وليس كذلك ،

__________________

(١) الحاشية على حاشية الدواني على شرح القوشجي ، مخطوط.

٨١

بل هو عبارة عن مجموع البدن الخاصّ والنفس المخصوصة ، كما أشرنا إليه فيما تقدّم ، وسنزيده بيانا فيما بعد.

ولم يظهر ممّا ذكره عدم بقاء نفسه أيضا ، كيف وهو نفسه قد اعترف بأنّ المستحقّ للثواب والعقاب النفس ، وهي باقية بعد خراب البدن ، بل قد ادّعى جمع من الحكماء أن هويّة زيد وهذيّته إنما هي بنفسه ، فإنّ أعضاءه وبدنه أبدا في التحوّل والذوبان والتبدّل والسيلان بحرارته الغريزية المستولية عليها من نار الطبيعة ، وزيد هو هو نفسا وبدنا من أوّل العمر إلى منتهاه ، لانحفاظ هويّة بدنه بنفسه الّتي هي صورته التمامية ، فهذيّة البدن من حيث هو بدن لهذه النفس بهذه النفس ، وإن تبدّل تركيبه.

على أنّ الحقّ كما سيأتي تحقيقه فيما بعد إن شاء الله تعالى أنّ هويّة زيد بنفسه ، وكذا بهوية الأجزاء الأصلية الباقية من بدنه.

وأمّا ما ارتكبه أخيرا من «كون المخاطب بالتكاليف والمستحقّ للثواب والعقاب هو النفس وحدها ، وكون البدن آلة لها في ذلك وأن لا محذور في أن كان استحقاق النفس لها عند تعلّقها بآلة ، وإيصال أحدهما عند تعلّقها بآلة اخرى ، وإن كانت مغايرة للاولى».

ففيه ، أنّ هذا مخالف لما دلّ عليه الشرع ونطقت به الآيات المتقدّمة ، فإنّك قد عرفت أنّها تدلّ على معاد النفس والبدن ، الذي كان في النشأة الدنيويّة جميعا. أي على معاد الإنسان الذي هو عبارة عن مجموعهما ، وكذلك الظاهر من التكاليف الواردة أنّ المخاطب بها هو الإنسان لا نفسه فقط ، وإن كان للنفس مدخل عظيم في ذلك. والحال قد بيّنا لك أنّ التصديق بالمعاد يجب أن يكون على النهج الذي دلّ عليه الشرع ، فتبصّر.

وإذا عرفت ما ذكرنا وعلمت كيفيّة معاد البدن على تقدير القول بالجواهر الفردة ، ونفي الجزء الصوري للجسم ، فاعلم أنّ القائلين بالمعاد لو كان مذهبهم في الجسم ما ذهب إليه ذيمقراطيس من القدماء ، من أنّ مبادئ الأجسام أجسام صغار صلبة متجزّية وهما غير متجزّية في الخارج ، وأنّ اتّصال الجسم عبارة عن اجتماع تلك الأجسام الصلبة ، وانفصاله عن افتراقها ، من غير أن يكون هناك جزء صوري للجسم ، فحالهم أيضا في القول بموت البدن ومعاده كحال لفرقة الاولى سواء.

وهذا المذهب أيضا وإن كان باطلا كالأوّل ، لكنّه على تقدير القول به أيضا لا يلزم

٨٢

إعادة المعدوم بالمرّة بعينه ، فإنّه على هذا المذهب أيضا لا يلزم انعدام البدن ولا أجزائه ، إنّما المعدوم هو التأليف الخاصّ ، والموت عبارة عن تفرّق تلك الأجسام التي هي أجزاء للجسم ، والعود عبارة عن اجتماعها بتأليف ثان مجدّد ، مثل الأوّل. وعلى هذا أيضا فالبدن المعاد عين المبتدأ باعتبار وغيره باعتبار آخر أي في التأليف.

وأمّا الذين قالوا بأنّ حقيقة الجسم هو الصورة الاتّصاليّة ، وأنّها تبقى بعينها حال الانفصال كما هو مذهب الإشراقيّين ومن تبعهم فيه ، كالمحقّق الطوسي رحمه‌الله وغيره ، وحاصل مذهبهم أنّ الجسم جوهر متّصل في حدّ ذاته ، ليس بذي مفاصل وأجزاء بالفعل ، كما هو عند الحسّ يقبل الانقسام الوهمي والانفكاكي إلى ما لا يتناهى ، وأنّ ذلك الجوهر المتّصل قائم بذاته غير حالّ في شيء آخر ، وهو الجسم المطلق ، فهو عندهم جوهر بسيط لا تركيب فيه بحسب الخارج أصلا ، قابل لطريان الاتّصال والانفصال عليه مع بقائه في الحالين في ذاته ، فهو من حيث جوهره وذاته يسمّى جسما ، ومن حيث قبوله للصور النوعيّة التي لأنواع الجسم يسمّى هيولى ، فكذلك لا يلزم عليهم إعادة المعدوم بالمرّة كما دلّ عليه كلام المحقّق الدواني الذي نقلناه ، وهذا أيضا ظاهر يظهر بالتأمّل في مذهبهم ، لأنّ ملخّصه كما ذكره بعض الفضلاء أنّهم يقولون إنّ الاتّصال وإن كان لازما لجوهر الجسم ، لكنّه لازم له في جميع الجهات في حاقّ ذاته وصرف وجوده ، وهو وحده تمام حقيقة الجسم ، ولا يلزم من طريان الانفصال عليه انعدامه رأسا ، وذلك لأنّ الاتّصال اللازم من انتفاء الجزء ومثله إنّما هو بمعنى توسّع الذات والانبساط في الجهات ، وهو مشتمل بمحض مفهومه على حدود مشتركة بين أجزائه كالنصف والثلث وغير ذلك ، والانفصال في كلّ حدّ إنّما يقابل الاتّصال في ذلك الحدّ بعينه دون سائر الحدود ، فإذا انفصل في حدّ النصف مثلا فإنّما يبطل اتّصاله فيه فقط ، وهو باعتبار سائر الحدود باق متّصلا كما كان. نعم لو كان الاتّصال معنى وحدانيّا غير ذي حدود ، أو كان الانفصال يعرضه في جميع حدوده الممكنة فيه لأدّى إلى انعدامه بالكلّية ، وإذ ليس فليس.

والمحصّل أنّ الاتّصال الذي هو تمام حقيقة الجسم ، هو الاتّصال في الجملة ، فما دام يبقى ذلك الاتّصال في الجملة لم ينعدم الجسم بالكلّية.

فعلى هذا المذهب أيضا يكون البدن المعاد عين البدن الأوّل المبتدأ باعتبار ، ـ أي

٨٣

باعتبار حقيقة الاتّصال في الجملة وبعض مراتب الاتّصال الباقي ـ وغيره ، أي مثله باعتبار آخر ، ـ أي باعتبار بعض مراتب الاتّصال الفاني الذي أعيد مثله حين الإعادة ـ فتدبّر ، والله تعالى أعلم.

وأمّا الذين قالوا بوجود الجزء الصوري في الجسم ، كالمشّائين وأتباعهم ، وحاصل مذهبهم : أنّ الجوهر جوهر متّصل الذات في الذات ، لكنّه من حيث هو جسم مطلقا مركّب من جوهرين : أحدهما هذا الجوهر المتّصل بالذات ، والثاني جوهر آخر محلّ للأوّل ، وهو حالّ فيه ، وليس في حدّ ذاته متّصلا ولا منفصلا ولا واحدا ولا كثيرا ، بل هو في هذه كلّها تابع للأوّل ، ويسمّون الأوّل الصورة الجسميّة ، والثاني الهيولى ، وله من حيث هو نوع ماء أو هواء أو نار أو غيرها جزء يسمّونه الصورة النوعيّة.

فعلى مذهب هؤلاء وإن كان يلزم أن يكون بطريان الانفصال ينعدم الاتّصال ، وينعدم الجسم أيضا لانعدام جزئه الصوري الذي هو الاتّصال الخاصّ المنعدم بطريان الانفصال عليه في أيّة مرتبة منه ، لكنّه لا يلزم أيضا انعدام الجسم بالكلّية لبقاء جزئه الآخر المحلّ للجزء الصوري ، ـ أي الهيولى ـ وإن طرأ عليه صورة اخرى غير الأولى ، فإنّهم لأجل ذلك أثبتوا الهيولى ، حيث إنّ مذهبهم أنّ الانفصال مقابل الاتّصال. والاتّصال لازم لماهيّة الجسم ، وإلّا لزم الجزء أو مثله ، فإذا طرأ عليه الانفصال بطل الاتّصال ، فانعدم ملزومه الذي هو هذا الجوهر المتّصل ، فلو كان هو تمام حقيقة الجسم لزم انعدامه بالكلّية وأن يكون تفريق الجسم إلى جسمين إعداما له بالمرّة وإحداث جسمين آخرين من كتم العدم ، وهو باطل بالضرورة ، فيجب أن يكون للجسم جزء آخر يكون الاتّصال والانفصال مفارقين عنه غير لازمين له في ذاته ، حتّى يكون باقيا في الحالين ، وهو المسمّى بالهيولى.

فعلى هذا المذهب أيضا يكون البدن المعاد عين البدن الأوّل المبتدأ باعتبار أحد جزأيه ـ أي الهيولى ـ وغيره أي مثله باعتبار جزئه الآخر ـ أي الصورة الجسميّة والنوعيّة بل الشخصيّة ـ فإنّ لهم أن يقولوا إنّه حين الإعادة تفاض على تلك الهيولى البدنيّة أقرب الصور الجسميّة والنوعيّة بل الشخصيّة إلى الصورة الاولى.

وكأنّ المحقّق الدواني فيما نقلنا عنه آنفا حيث قال : بناء على هذا المذهب ، قيل : يكفي في المعاد الجسماني كون الأجزاء المادّية هي بعينها ـ إلى آخره ـ أراد ببقاء الأجزاء

٨٤

المادّية بقاء هيولى البدن ، كما هو مذهب هؤلاء في مطلق الجسم ، وإن كان طرأ على هيولاه صورة اخرى غير صورة البدن الأوّل حين الفناء ، وأقرب الصور إلى الصورة البدنيّة الاولى حين الإعادة ، ويحتمل أن يكون أراد به مع ما ذكر بقاء الأجزاء الأصليّة من البدن التي يظهر من بعض أحاديث الأئمّة الأطهار (عليهم سلام الله الملك الجبّار) أنّ منها تكوّن البدن ، وهي مبدأ نشئه ، وهي ممّا تبقى بعد خرابه ، كما روى الشيخ الصدوق ابن بابويه رحمه‌الله في الفقيه عن عمّار الساباطي.

أنّه قال : سئل أبو عبد الله (صلوات الله عليه) عن الميّت هل يبلى جسده؟ قال : نعم حتّى لا يبقى لحم ولا عظم ، إلّا طينته التي خلق منها فإنّها لا تبلى في القبر ، تبقى مستديرة حتّى يخلق منها كما خلق أوّل مرّة. (١)

والمراد من هذه الطينة الباقية ـ والله وأولو العلم أعلم ـ إمّا نفس النطفة المنويّة التي منها بدن الإنسان كما يشهد به ما رواه هو رحمه‌الله فيه أيضا.

أنّه سئل الصادق (صلوات الله عليه) لأيّ علّة يغسّل الميّت؟ قال : تخرج منه النطفة التي خلق منها تخرج من عينيه أو من فيه ... (٢)

وإمّا تلك النطفة المنويّة المخلوطة بالتراب التي هي مبدأ نشأ بدن الإنسان أوّلا ، وكذا هي مبدأ تكوّنه ثانيا في الحشر ، كما هو الأظهر ، وقد ورد في الأحاديث المرويّة عن أهل العصمة (سلام الله عليهم أجمعين) (٣) ، أنّ كلّ طينة خلق منها الإنسان يدفن فيها ، وأنّ النطفة إذا استقرّت في الرحم بعث الله تعالى ملكا ليأخذ من تراب المكان الذي يدفن ذلك الإنسان فيه ، فيأخذه ويخلطه بتلك النطفة ، فيخلق الإنسان من تلك النطفة المخلوطة بذلك التراب ، وإذا اقترب أجله يذهب إلى أن يجيء إلى ذلك المكان ، فيموت ويدفن فيه. وهذه النطفة مستديرة في القبر ، وتبقى إلى أن يخلق الإنسان في الحشر مرّة اخرى منها كما خلق أوّل مرّة ، ويشهد به قوله تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى). (٤) فتبصّر.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٩١ ، طبع مكتبة الصدوق بطهران.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٣٨.

(٣) راجع الكافي ٣ : ٢٠٢ ، باب التربة التي يدفن فيها الميّت ، وراجع أيضا شروح الكافي.

(٤) طه : ٥٥.

٨٥

والمراد باستدارة تلك الطينة ـ والله أعلم ـ إمّا الاستدارة الحسّية أي تكون مستديرة في الحجم والشكل والهيئة ولو كانت جزءا صغيرا ، سواء كانت جزءا واحدا أو أجزاء متعدّدة متفرّقة ، لكن بحيث تكون صلبة في الغاية لا تزول عنها تلك الصورة الجسميّة والنوعيّة ، ولا تفنى ولا تستحيل ولا تصير ترابا ولا رفاتا ولا جزء بدن حيوان أصلا. وإمّا الاستدارة المعنويّة أي الدائر وجودها مع وجود البدن وخرابه ، ومع كلّ حالة تطرأ على البدن ، حتّى أن لو فرضنا صيرورة بدن الإنسان ترابا ، وفرضنا أن صنع منه إناء تبقى تلك الطينة ، إمّا خارجة عن ذلك التراب المصنوع إناء ، وإمّا داخلة فيه غير طارئة عليها الصورة الإنائيّة ، سواء كانت متجزّية أو غير متجزّية ، وإن كان يخفى ذلك على الحسّ.

والحاصل أنّه بعد خراب البدن تبقى في القبر النطفة المنويّة المخلوطة بالتراب المعبّر عنها بالطينة ، التي هي أصل أجزاء بدن الإنسان ، ومبدأ تكوّنه ونشئه بمادّتها بل بصورتها أيضا ، كما أخبر به الصادقون ، بل ربما يدلّ بعض الأخبار على أنّه يبقى أيضا روحه الحيواني الذي يقولون إنّه جسم لطيف رقيق ، وكذا التراب الذي خلق منه الإنسان ، كما سيأتي بيانه فيما بعد في فصل تعديد المذاهب في النفس.

فعلى هذا فلا يلزم أن يكون بدن الإنسان معدوما بالمرّة ، بل المعدوم منه على تقدير التسليم إنّما هو الأجزاء الفضلية غير الأصلية بصورتها لا بمادّتها وكذا الاتّصال الواقع بينها ، وأمّا ما هو الأصل في تكوّنه ، سواء كان جزءا واحدا أو أجزاء متعدّدة متفرّقة فهو باق بمادّته بل بصورته أيضا. (١)

وعلى هذا فالبدن المعاد عين البدن المبتدأ في الأجزاء الأصليّة ، وكذا بحسب الروح الحيواني مطلقا أي مادّة وصورة ، وكذا عينه باعتبار الأجزاء الفضلية ، بحسب المادّة ، ومثله بحسب الصورة.

وحيث عرفت ما ذكرنا حصل لك الجواب عن شبهة المنكرين للمعاد الجسماني الذاهبين إلى انعدام بدن الإنسان بالكليّة ، وظهر لك اندفاع تلك الشبهة على كلّ مذهب من المذاهب المقولة في الجسم ، سواء كان مذهب الحكماء المشّائين منهم ، أو الإشراقيّين ، أو مذهب المتكلّمين. وتلخّص لك توجيه المعاد الجسماني أي معاد البدن

__________________

(١) ما ذكره المؤلّف عبارة عن تسليمه بالإرادة الجزافية كما عليها أرباب الكلام.

٨٦

على تقدير تلك الأقوال المشهورة في الجسم ، وإن كان القولان الأوّلان المتقدّمان باطلين ، والصحيح من هذه الأقوال والمذاهب أحد المذهبين الأخيرين ، أي مذهب الإشراقيّين والمشّائين ، وكان مذهب الإشراقيّين أقرب إلى الصواب ، وتحقيق الحقّ في ذلك لا يناسب الباب.

ثمّ إنّه قد بقي هنا مذهب آخر ، هو أيضا مبنيّ على إثبات الجزء الصوري والجزء المادّي للجسم ينبغي توجيه معاد البدن على تقديره أيضا ، وهو القول بأنّ الجسم موجود بتجدّد الأمثال ، ففي كلّ آن يفنى ويحدث مثله ، لكن يشتبه على الحسّ فيظن أنّه موجود بوجود واحد مستمرّ.

وهذا المذهب وإن كان باطلا لابتنائه على جواز الحركة في الجوهر والتبدّل في ذات الشيء الموجود ، وهو باطل كما حقّق في محلّه ، لكنّه على تقديره أيضا لا يلزم انعدام البدن بالمرّة ، لأنّه عليه وإن كان تنعدم صورة الجسم وتتجدّد آنا فآنا ، لكنّه لا ينعدم جزؤه الآخر ، أي هيولاه ، بل هي باقية ، وانعدام صورته ليس بقادح أصلا على هذا المذهب ، إذ الجسم حين الوجود الأوّل المبتدأ أيضا كذلك ينعدم صورته آنا فآنا ، وتبقى مادّته ، فلا ضير في أن يكون حين الإعادة كذلك.

وعلى هذا المذهب أيضا يكون البدن المعاد عين البدن المبتدأ بحسب المادّة أي الهيولى وغيره أي مثله باعتبار الصور المتجدّدة كما هو حين الوجود المبتدأ المستمرّ كذلك.

ثمّ إنّ هذه العينيّة باعتبار ، والغيريّة ـ أي المماثلة ـ باعتبار آخر اللتين ذكرنا أنّهما لازمتان على تقدير القول بكلّ مذهب من المذاهب المقولة في الجسم ، كما أنّهما لا يأبى عنهما العقل ، بل يدلّ عليهما كما عرفت ، كذلك هما ممّا لا يخالف النقل ، حيث إنّ ما ورد من الأخبار والآيات ـ كالآيات المتقدّمة الدالّة على أنّ البدن الخاصّ الموجود في النشأة الدنيويّة يعاد بعينه في النشأة الاخرويّة ـ لعلّه إشارة إلى العينيّة باعتبار آي التي قد فصّلناها على كلّ مذهب من تلك المذاهب ، وأنّ ما يدلّ منها على المماثلة كقوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ). (١)

__________________

(١) يس : ٨١.

٨٧

وقوله تعالى : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ). (١)

لعلّه إشارة إلى المماثلة باعتبار كما فصّلناها أيضا.

ولعلّ ما ورد من أنّ ما في النشأة الاخرويّة خلق جديد ، هو إشارة إلى تلك المماثلة أيضا ، وسنذكر فيما بعد إن شاء الله العزيز تحقيق القول في أنّ المماثلة باعتبار مع العينيّة باعتبار آخر هو الأصل والعمدة فيما نحن بصدد بيانه ، من إثبات المعاد على النهج الذي دلّ عليه الشرع واقتضاه العقل ، وهو أنّ المعاد يوم القيامة هو ذلك الشخص المكلّف الموجود في الدنيا نفسا وبدنا ، حيث إنّ النفس عين النفس الاولى ذاتا وصفتا ، وكذا الروح الحيواني ، وكذا مادّة البدن والأجزاء الأصليّة منه ، وإن كانت الأجزاء الفضليّة منه وبعض صفاته وحالاته مغايرة ولا ضير فيه.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما أسنده الفاضل الأحساوي (٢) إلى طائفة من القائلين بالمعاد ، من أنّ الروح يتعلّق بجسم آخر غير الأوّل محلّ إشكال ، إن أرادوا به المغايرة بحسب الذات. وكذا ما أسنده إلى بعضهم من أنّه يعاد إلى بدن آخر يماثل الأوّل محلّ اشكال ، إن كان المراد المماثلة في الصفات والمغايرة بحسب الذات. كما أنّ ما أسنده إلى بعضهم من أنّه يعود إلى البدن الأوّل بعينه ، مشكل أيضا إن كان المراد العينيّة من كلّ الوجوه ، فتدبّر.

وقد تمّ بما ذكرنا الكلام في معاد البدن ومبنى القول به ، على كلّ مذهب من تلك المذاهب المعروفة التي قيلت في الجسم ، وبقي الكلام في معاد النفس ومبنى القول به على كلّ مذهب قيل فيها فنقول :

__________________

(١) الواقعة : ٦٠.

(٢) المجلي : ٤٩٢ ـ ٥٠٠.

٨٨

في الإشارة إلى مبنى معاد النفس

أمّا الذين قالوا بالمعاد ، ومع ذلك قالوا بأنّ النفس جسم عنصري بسيط نار أو هواء أو أرض أو ماء ، كما أسند الشيخ في الشفاء القول بذلك إلى بعض القدماء من الحكماء ، أو حرارة غريزية أو برودة غريزية كما أسند فيه القول بهما إلى بعضهم إن عنوا بهما الجسم الحارّ أو الجسم البارد ، لا المعنى الذي هو عرض ، أو جسم عنصري مركّب من العناصر الأربعة ، ومن الغلبة والمحبّة ، كما أسند القول به إلى انباذقلس (١) منهم ، أو دم لطيف كما أسند القول به إلى بعضهم (٢) ، أو جسم بخاري هو بخار الدم ، أو جوهر روحاني سار في البدن كما أسند صدر الأفاضل (٣) القول به إلى جمهور المتكلّمين وعامّة الفقهاء ، وأسنده الفاضل الأحساوي (٤) إلى بعض المسلمين ، (٥) فالذي يلزم على هؤلاء الطوائف مع اختلاف مذاهبهم في النفس ، ويرد عليهم في القول بمعاد النفس لو قالوا بفنائها واضمحلالها ، ما يلزم على القائلين بمعاد البدن على تقدير كلّ مذهب من المذاهب المقولة في الجسم سواء ، فإنّ المفروض أنّ النفس جسم أيضا كالبدن ، فكلّ ما يلزم هناك يلزم هنا.

والحاصل أنّه يلزم عليهم أن يقولوا بإعادة النفس التي هي جسم إلى البدن الذي هو جسم أيضا وكلّ من النفس والبدن عين المبتدأ باعتبار ومثله باعتبار آخر ، والمعاد على كلّ تقدير جسماني مطلقا ولو اصطلح أحد فسمّى معاد النفس روحانيّا حينئذ فلا

__________________

(١) في الشفاء المطبوع بالقاهرة : انباذقلس.

(٢) راجع الشفاء ، الطبيعيّات ، الفنّ السادس : ١٤ ، طبع القاهرة.

(٣) راجع الأسفار.

(٤) راجع المجلي.

(٥) الحاصل أنّ القائل بعدم تجرّد النّفس وفنائها بعد الموت ، ينكر المعاد الّذي هو مذهب أهل البيت ولكن لا يمكن تكفيره وإن كان متوغلا في الجهل التام.

٨٩

مشاحّة ، وكذلك الشخص المعاد نفسا وبدنا هو عين المبتدأ باعتبار ومثله باعتبار كما عرفت بيان ذلك كلّه فيما تقدّم.

فإن قلت : قولك لو قالوا بفناء النفس واضمحلالها ، يشعر بأنّ لهم أن لا يسلّموا ذلك ، مع أنّ الشرع قد دلّ على موت النفس بموت البدن ، كما ذكرت من الآيات الدالّة عليه ، فكيف ذلك؟

قلت : هو كذلك ، فإنّ موت البدن وتلاشي أجزائه ، لمّا كان أمرا محسوسا ، لا يمكن إنكاره. وأمّا اضمحلال جوهر النفس وذاتها بموت البدن فلا دليل عليه ، وما ورد في الشرع من موت النفس ، فهو غير منحصر في اضمحلال ذاتها ، بل هو كما يمكن أن يكون كذلك ، يمكن أن يكون بقطع علاقتها الخاصّة التي كانت لها بالنسبة إلى البدن ، كما هو على مذهب المحقّقين القائلين بأنّها جوهر مجرّد روحاني باق بعد خراب البدن ، ينقطع علاقتها عنه حين الموت ، ثمّ يعاد علاقتها به مرّة اخرى حين البعث ، كما سيأتي بيان ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وأمّا الذين قالوا بأنّ النفس هي الأجزاء الأصليّة من البدن الباقية من أوّل العمر إلى منتهاه ، وكذا بعد خراب البدن كما عدّه الفاضل الأحساوي أشهر مذاهب المتكلّمين في النفس ، فالذي يلزم عليهم في معاد البدن ما يلزم في إعادة الجسم ، وأمّا في إعادة النفس فلا يلزم عليهم ذلك أصلا ، فإنّ المفروض على هذا المذهب عدم فنائها مطلقا ، بل إنّ تلك الأجزاء الأصليّة باقية بمادّتها وصورتها ، ومعنى المعاد عندهم أن يتكوّن من تلك الأجزاء الأصليّة الباقية ، البدن بأجزائه الفضليّة مرّة اخرى ، كما خلق منها أوّل مرّة.

وأمّا الذين قالوا بأنّ النفس هي الهيكل المحسوس المشاهد ، كما أسند القول به الفاضل الأحساوي إلى المتكلّمين أيضا ، فهؤلاء الطائفة حيث إنّه لا يظهر منهم القول بوجود نفس سوى البدن ، فإنّ الهيكل المحسوس هو نفس البدن ، يلزم عليهم في القول بمعادها ، ما يلزم على تقدير القول بمعاد البدن سواء.

وأمّا الذين قالوا بأنّ النفس عرض جسماني كالمزاج الواقع بين أجزاء البدن ، على ما أسندوا القول به إلى جالينوس ، أو التأليف والنسبة بين العناصر كما أسند الشيخ في الشفاء القول به إلى بعض القدماء ، أو الحرارة الغريزية أو البرودة الطبيعية كما أسند القول بهما إلى

٩٠

بعضهم أيضا ، لو عنوا بهما معنى هو عرض ، فاللازم عليهم في القول بمعاد النفس إن قالوا به إعادة المعدوم بالمرّة بعينه ، لأنّ العرض كما هو المحقّق عند أهل المعقول ينعدم بالكلّية بانعدام موضوعه ، فلو قالوا بإعادته ، فإمّا أن يقولوا بتجويز إعادة المعدوم بالمرّة ، وهو باطل كما سيجيء بيانه. وإمّا أن يقولوا بامتناعها ، ويصحّحوا أمر معادها بأنّ بقاء أجزاء البدن بمادّتها ، أو بقاء أجزائه الأصلية بمادّتها وصورتها لو قالوا بها وبأنّها غير النفس بل هي أجزاء البدن ، كاف في كون المعاد في النشأة الاخرويّة عين المبتدأ ، وإن كانت النفس المعادة غير النفس الاولى المبتدأة بالذات ، ومماثلة لها من وجه ، حيث إنّه يجوز أن يفاض على ذلك البدن المعاد مثل ذلك المزاج الأوّل مثلا ، وهذا أيضا باطل ، لكونه خلاف ما يدلّ عليه العقل ؛ فإنّ الشخص المعاد ينبغي أن يكون هو الشخص المبتدأ نفسا وبدنا جميعا ، لكونه عبارة عنها أجمع ، لا بدنا وحده ، وكذا هو خلاف ما يدلّ عليه الشرع كالآيات ، لأنّها تدلّ على إعادة النفس الاولى أيضا كما تدلّ على إعادة البدن الأوّل المبتدأ ، فتبصّر.

إلّا أنّا لم نظفر فيما نقل من القول بالمعاد ، القول بكون النفس عرضا من أحد ، وإنّما ذلك القول لبعض من قدماء الحكماء الطبيعيّين المنكرين للمعاد ، كما عرفت ممّا نقلناه سابقا.

وبالجملة فالمعاد على كلّ تقدير من التقديرات المذكورة ، جسماني فقط.

وأمّا الذين قالوا بأنّ النفس جوهر مجرّد باق بعد خراب البدن ـ كما هو الحقّ وسيأتي تحقيق القول [فيه] ـ فهؤلاء لو قالوا بمعاد البدن أيضا كما نطق به الشرع الشريف ، فالذي يلزم عليهم أن يقولوا إنّ موت النفس عبارة عن قطع تعلّقها عن البدن ، وإنّ معادها عبارة عن عودها وتعلّقها مرّة اخرى بذلك البدن الأوّل المعاد الذي عرفت أنّه عين الأوّل باعتبار ، ومثله باعتبار آخر ، ويكون المعاد على هذا التقدير روحانيّا وجسمانيّا جميعا. أمّا الروحاني فباعتبار عود النفس إلى البدن مرّة اخرى وهو جسم. وسيجيء بيان أنّ الشخص المعاد على هذا التقدير هو بعينه الشخص المبتدأ وأنّ لا إشكال فيه أصلا ، فانتظر. ولو قالوا بمعاد النفس فقط ولم يقولوا بمعاد البدن كما نسب ذلك إلى الحكماء الإلهيّين فالذي يلزم عليهم أن يقولوا بالمعاد الروحاني خاصّة دون الجسماني ، ويرد عليهم إشكالان.

٩١

إيراد إشكال على القول بالمعاد الروحاني فقط

الأوّل لزوم إنكار المعاد الجسماني ، حيث لم يقولوا به ، وهو خلاف ما نطق به الشرع ، بل هو أيضا كفر ، وكإنكار المعاد مطلقا.

والثاني أنّه لا معنى حينئذ لإطلاق لفظ المعاد على عود النفس خاصّة ، لأنّ معنى المعاد على ما بيّناه سابقا هو أن يكون ما فرض متعلّق الإعادة على وجود مخصوص وحال وصفة مخصوصتين ، ثمّ يزول عنه ذلك الوجود وتلك الحالة والصفة ثانيا ثمّ يعود إليه ثالثا ، وهذا المعنى لا يتحقّق هاهنا ، لأنّ المفروض أنّ النفس كانت موجودة حين تعلّقها بالبدن على حال وصفة مخصوصتين ، ثمّ زال تعلّقها عنه ، لكنّها كانت بعد خراب البدن وزوال تعلّقها عنه على ذلك النحو من الوجود والحال والصفة الذي كان حين التعلّق بالبدن وأنّها في الحشر أيضا تكون على ذلك النهج الذي كان قبل ، فتدرك اللذّات والآلام على حسب ما تقتضيه ذاتها ، وهذا ليس من معنى المعاد في شيء ، لأنّه لم يفت عنها شيء كان حاصلا لها أوّلا ويعود ذلك الشيء في الحشر. نعم أنّهم لو قالوا بمعاد البدن أيضا سواء كان عين البدن الأوّل أو غيره مطلقا ، لربّما أمكن تصحيح إطلاق اللفظ ، بأن يقال : إنّها كانت أوّلا متعلّقة ببدن ، ثمّ زال عنها ذلك التعلّق بعد خراب البدن ، ثمّ اعيد حين البعث ، له تعلّق آخر بذلك البدن أو ببدن آخر ، والحال أنّهم لم يقولوا بذلك أصلا. هذا مع أنّ في صورة فرض تعلّقها ببدن آخر يكون إطلاق اللفظ بنوع من التجوّز ، بخلاف صورة فرض تعلّقها بذلك البدن الأوّل ، لأنّه حينئذ يكون إطلاق اللفظ على الحقيقة ، وهذا من أحد الشواهد على أنّ المراد بالمعاد في الشرع هو عود النفس إلى البدن الأوّل بعينه ، وسيجيء إقامة الدليل عليه.

٩٢

وبالجملة فالنظر في معنى لفظ المعاد الذي ورد به الشرع واعتقدوا به ينفي هذا المذهب ، مع قطع النظر عن أنّ فيه إنكار المعاد الجسماني الذي عرفت أنّه ضروري في الأديان.

فإن قلت : لعلّ وجه تفسير المعاد على مذهبهم كما نقله الفاضل الأحساوي عن جماعة كثيرة من أهل الحكمة ، هو أنّهم جعلوا عودها إلى العالم العلوى بعد قطع العلاقة البدنيّة وفراغها عن الاشتغال بتدبير البدن ، عبارة عن المعاد.

قلت : على هذا وإن سلّمنا أنّه يصحّ إطلاق لفظ المعاد ، لكنّه مبنيّ على قدم النفس أو حدوثها ووجودها قبل البدن ، وسنحقّق القول بأنّها حادثة بحدوث البدن ، فانتظر.

على أنّا لا نسلّم صحّة إطلاق اللفظ حينئذ ، لأنّ الظاهر من معنى هذا اللفظ الوارد في الشرع ، أنّه عود أمر بعد ما زال بالموت ، وما فرض معادا على هذا التقدير هو لم يزل بالموت ، بل بالاشتغال بتدبير البدن ، وهو حياة ليس بموت. اللهم إلّا أن يدّعوا أنّه موت وهو كما ترى.

فإن قلت : لعلّ تفسير المعاد على هذا المذهب كما ذكره بعضهم أنّ المراد به عود الإنسان بنفسه بعد موته إلى الحياة لإيصال جزاء ما كسبت يداه.

قلت : العود إلى الحياة أيضا إنّما يصحّ إطلاقه إذا كانت الحياة زائلة عنها ثمّ عادت ، والمقدّر خلافه ، لأنّها كانت حيّة باقية حين ما تعلّق بالبدن وبعده إلى الحشر كما هو المفروض.

فإن قلت : لعلّ هؤلاء القائلين بالمعاد الروحاني خاصّة ، كما يشعر به كلام الشيخ في الشفاء على ما نقلناه سابقا ، إنّما قالوا به خاصّة ولم يتعرّضوا لإثبات الجسماني منه ، لأجل داع إليه لا ينافي القول بالجسماني منه أيضا ، وهو أنّ المعاد وإن كان على قسمين : روحاني ، وجسماني كما نطق به الشرع ، لكن لمّا كان الجسماني منه مقبولا من الشرع ولا سبيل إلى اثباته إلّا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوّة ، وقد بسطت الشريعة الحقّة حال السعادة والشقاوة اللتين بحسب البدن وكان الجسماني مفروغا عنه في الشرع القويم ، فلذا لم يتعرّضوا لإثباته. وأمّا الروحاني فلمّا كان مدركا بالعقل وبالقياس البرهاني وقد صدّقته الشريعة المقدّسة أيضا وكانت السعادة والشقاوة اللتان بحسب الأنفس ممّا

٩٣

يمكن إثباتهما بالعقل وحده ، وأعظم من السعادة والشقاوة بحسب البدن كما سيأتي بيانه ، وكان الحكماء الإلهيّون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية ، بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك ، وإن اعطوها ، ولا يستعظمونها في جنب هذه السعادة التي هي مقارنة الحق الأوّل ، فلذا قصّروا النظر على المعاد الروحاني وتركوا إثبات الجسماني ، وهذا لا يدلّ على إنكارهم له.

قلت : ما ذكرته لا يصحّ أن يكون منشأ لترك إثبات الجسماني منه ، فإنّهم لو صدّقوا بالشرع لكان ينبغي لهم أن يقولوا به ولو كان على سبيل الإجمال وإن كان على طريق الحوالة على الشرع ، كما قال به الشيخ وهم لم يفعلوا هذا ، كما يدلّ عليه ظواهر كلماتهم المنقولة عنهم. وهذا أيضا مخالف للشرع من جهة أنّهم لم يقولوا بما نطق به الشرع ، مع كونه ضروريا في الدين ، ومع أنّ أكثر السعادة والشقاوة الواردتين في الشرع جسمانيّة ، كالفوز بالجنّات والحور والقصور ونظائرها ومقابلاتها وأنّ الروحانيّة منها نادرة.

على أنّا فيما بعد إن شاء الله تعالى سنقيم الدليل العقلي على إثبات أصل الجسماني منه ، وأنّه ممّا يستقلّ به العقل على ما هو المقصود الأصلي من وضع الرسالة ، وهذا الذي ذكرناه وفصّلناه يشبه أن يكون وجه اختلافات الناس في المعاد ، حيث إنّ بعضهم أنكره وبعضهم أثبته مع اختلافهم فيه في كونه جسمانيّا فقط ، أو روحانيّا فقط ، أو روحانيّا وجسمانيّا جميعا ، على ما فصّلناه على كلّ مذهب من المذاهب المذكورة.

وبالجملة فوجه اختلافهم في ذلك اختلاف مذاهبهم في حقيقة النفس والبدن كما يشعر به كلام الفاضل الأحساوي أيضا.

٩٤

كلام مع صدر الأفاضل

وأمّا ما يشعر به كلام صدر الأفاضل ، من أن ظاهر بعض النصوص أيضا صار منشأ لذلك الاختلاف ، حيث إنّ بعضها كقوله تعالى :

(وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً). (١)

أو قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢) ،

يدلّ على أنّ المعاد للأرواح ، وأنّ الحشر على صفة التجرّد. وبعضها كقوله تعالى :

(يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ). (٣)

وكذلك سؤال إبراهيم عليه‌السلام واستشكال عزير وحكاية أصحاب الكهف (٤) يدلّ على أنّه للأبدان ، وأنّ الحشر على صفة التجسّم ، ففيه ما لا يخفى.

أمّا أوّلا فلأنّك قد عرفت ممّا فصّلناه أنّ الآيات القرآنية تدلّ على أنّ المعاد للأبدان والأرواح جميعا ، فتذكّر.

وأمّا ثانيا فلأنّ ما ادّعى أنّه يدلّ على صفة التجرّد ، دلالته على ذلك غير واضحة ، لأنّ معنى الإتيان فردا كما فسّره المفسّرون ، الإتيان منفردا من غير مال وولد ، لا على صفة التجرّد ، وكذلك قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٥) ، كما فسّروه أيضا التشبيه في أصل البدء والإعادة. أو أنّ المراد أنّ المعاد عين المبتدأ إلى غير ذلك من المعاني التي لا مناسبة لها بالتجرّد وبكون المعاد للروح خاصّة.

وأمّا ثالثا فلأنّ قوله : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ) ـ الآية ـ وإن كان يدلّ على إعادة الأجسام ، لكن

__________________

(١) مريم : ٩٥.

(٢) الأعراف : ٢٩.

(٣) القمر : ٤٨.

(٤) راجع سورتي البقرة والكهف.

(٥) الأعراف : ٢٩.

٩٥

لمّا كان المقصود فيه ذكر حال المكلّفين دلّ على إعادة الأرواح أيضا ، وسيأتي بيان أنّ الحكايات الثلاثة أيضا تدلّ على أنّ المعاد للأرواح والأجسام جميعا ، فانتظر.

وحيث تحقّقت ما فصّلناه بطوله ، فاعلم أنّ ما نقلناه سابقا عن الشارح القوشجي حيث أسند إلى أكثر المتكلّمين القول بجواز إعادة المعدوم بعينه ، وإلى بعضهم وجميع الحكماء القول بامتناعها ، ثمّ أسند إلى القائلين بامتناعها أنّهم لا يقولون بانعدام الأجساد ، بل بتفرّق أجزائها وخروجها عن الانتفاع ، ويأوّلون بذلك الظواهر الواردة في هذا المعنى. ويؤيّده قصّة إبراهيم عليه‌السلام يمكن أن يكون الوجه فيما أسنده إليهم من عدم القول بانعدام الأجساد ـ أي بالكلّية ـ مبنيّا على ما فصّلناه على كلّ مذهب من المذاهب المقولة في الجسم كما عرفت وجهه. وأمّا القول بتفرّق أجزائها وخروجها عن الانتفاع ، فوجهه على مذهب المتكلّمين حيث قالوا بأنّ مبادئ الجسم أجزاء لا تتجزّى ظاهر. وكذلك على مذهب الحكماء ، أمّا على مذهب الإشراقيّين منهم ، فيمكن أن يراد به تفرّق قطعات البدن التي تبقى فيها الاتّصالات ، سواء كانت تلك القطعات أجزاء أصليّة من البدن ، أو أصليّة وفرعيّة منه ، وأمّا على مذهب المشّائين منهم فيمكن أن يراد به تفرّق الأجزاء المادّية ، مع أنّه يمكن أن يراد به على هذا المذهب ، بل على المذاهب الاخر أيضا تفرّق الأجزاء الأصليّة التي هي باقية بمادّتها وصورتها كما عرفت.

وعلى كلّ تقدير فإعادة البدن عبارة عن جمع تلك الأجزاء المتفرّقة مرّة اخرى كما كانت أوّلا. ولا يخفى أنّه ممّا لا يأباه العقل عند من يقول بالقادر المختار ، ولا يأباه الشرع أيضا ، بل يدلّ عليه ، لقوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ). (١)

وأمّا ما أسند إلى أكثر المتكلّمين ، من تجويز إعادة المعدوم ، فلعلّ القائلين به ذهبوا إلى أنّ الشخص المعاد يوم القيامة يجب أن يكون هو بعينه الشخص المبتدأ في الدنيا ، مع جميع عوارضه ومشخّصاته ، وذهبوا أيضا إلى أنّه ينعدم بالمرّة أو في الجملة ، فلذا جوّزوا إعادة المعدوم بالكليّة ، أو بالجملة بعينه ، ولا يخفى عليك أنّ ذلك كلّه باطل ، أمّا إعادة المعدوم فسيأتي إبطالها ، وأمّا القول بانعدام الجسد بالمرّة ، فقد تبيّن بطلانه على كلّ

__________________

(١) القيامة : ٣ ـ ٤.

٩٦

مذهب قيل في الجسم ، كما تبيّن بطلان القول بانعدام النفس بالمرّة ، خصوصا على القول بأنّها جوهر مجرّد باق كما هو الحقّ.

وأمّا لزوم كون الشخص المعاد هو بعينه الشخص المبتدأ بجميع عوارضه ، فلأنّه مع كونه ممتنعا ، لما عرفت أنّه ينعدم عنه بعض خصوصيّاته وحالاته البدنيّة البتّة ، والحال أنّ إعادة المعدوم بعينه ممتنعة على ما سيأتي دليله ، لا دليل عليه ، بل الدليل يدلّ على خلافه ، وعلى أنّ بقاء نفسه بعينها التي هي الأصل في تشخّص الشخص مع بقاء الأجزاء الأصليّة من بدنه ، كاف فيما هو منطوق الشرع من المعاد ، حيث إنّ بقاء هذين الأمرين ، هو مناط كون الشخص المعاد ، هو الشخص المبتدأ بعينه ، وأنّه لا يقدح في ذلك المغايرة في بعض الصفات ومن بعض الجهات ، مع المماثلة فيهما على ما سيجيء تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.

وأمّا ما أسنده إلى القائلين بتفرّق الأجزاء وخروجها عن الانتفاع أنّهم يأوّلون بذلك الظواهر الواردة في هذا المعنى. ويؤيّده قصّة إبراهيم عليه‌السلام ، فالظاهر أنّ مرادهم من التأويل المذكور أن موت البدن فيما إذا كان متفرّق الأجزاء ، عبارة عن تفرّق الأجزاء ، وإعادته عبارة عن جمعها مرّة اخرى كما كانت أوّلا في الابتداء ، على ما ذكرنا ، وأنّ موت الشخص المكلّف عبارة عن ذلك التفرّق الحاصل في بدنه ، مع قطع تعلّق نفسه عن بدنه ، وأنّ إعادته عبارة عن ذلك الجمع ، مع إعادة تعلّقها به مرّة اخرى ، وهذا التأويل كما يمكن في المكلّف بما ذكرنا ، كذلك يمكن في غير المكلّف أيضا لو قلنا بإعادته كما سيأتي تحقيق القول فيه. فلا اختصاص له بالمكلّف كما يدلّ عليه كلام آخر من الشارح المذكور وعسى أن ننقله فيما بعد.

وبالجملة فهذا التأويل ولا سيّما في المكلّف ، ممّا لا مانع فيه من جهة العقل والنقل بل ربما يدّعى أنه حيث كان ظاهرا من الكتاب الكريم ، كقوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) ـ الآية ـ (١) فليس بتأويل ، بل هو المصير إلى ظاهر الشرع ، إذ التأويل إنّما يطلق في الأكثر على ما هو خلاف الظاهر ، ولو من وجه ، وهذا ليس كذلك ، وكذلك التأييد الذي ادّعاه ظاهر. ويؤيّده أيضا قصّة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها

__________________

(١) القيامة : ٣.

٩٧

ـ الآية. (١)

فإن قلت : سلّمنا أنّ في القصّتين تأييدا لما ذكر من أنّ موت البدن عبارة عن تفرّق أجزائه ، وإعادته عبارة عن جمعها مرّة اخرى ، حيث إنّ أربعة من الطير أي الطاوس ، والديك ، والغراب ، والحمامة التي أخذها ابراهيم عليه‌السلام وجزّأهنّ وفرّق أجزاءهنّ الأصليّة والفضليّة على كلّ جبل ، ثمّ دعاهنّ بإذن الله تعالى ، فاجتمعت أجزاؤهنّ كما كانت أوّلا وعدن أحياء. فأتينه سعيا. وحيث إنّ حمار عزير (على نبيّنا وعليه‌السلام) قد تفرّقت أجزاؤه ونخرت عظامه ، ثمّ اجتمعت تلك الأجزاء وافيضت عليه الصورة اللحمية بإذن الله فعاد حيّا ، كما قال تعالى :

(وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) (٢).

إلّا أنّه ليس في القصّتين تأييد لتمام ما هو المقصود هنا ، وهو أنّ المعاد أي معاد الشخص إنّما يكون بجمع أجزائه البدنيّة المتفرّقة وإعادة نفس ذلك الروح المتعلّق به أوّلا إليه ثانيا ، فإنّ نفوس الحيوانات كما هو المشهور بينهم ، ليست مجرّدة باقية حتّى تعاد تلك النفس مرّة اخرى إلى البدن.

وإن قيل بإيجاد نفس اخرى مثل الاولى للبدن مرّة اخرى ،

قلنا فليس فيه تأييد للمقصود.

وكذلك لو قيل بأنّ في قصّة عزير عليه‌السلام تأييدا للمقصود من حيث إنّ الآية تدلّ على إماتته أيضا وإحيائه مرّة اخرى ، والحال أنّ النفس الإنسانيّة ولا سيّما نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مجرّدة باقية.

قلنا : هذا وإن كان فيه تأييد للمقصود من هذه الجهة ، لكن ليس فيه تأييد له من الجهة الاخرى ، أي تفرّق اجزاء بدنه ثمّ جمعها ثانيا ، حيث إنّ الظاهر في الآية الكريمة وكذا المنقول من القصّة إن كان بدنه عليه‌السلام باقيا بمادّته وصورته ، لم يتفرّق أجزاؤه أصلا واعيد إليه روحه الشريفة مرّة اخرى بعد مائة عام كما في قصّة أصحاب كهف حيث إنّ الله تعالى أماتهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ولبثوا في كهفهم تلك المدّة بحيث لم يتغيّر أبدانهم ،

__________________

(١) البقرة : ٢٥٩.

(٢) البقرة : ٢٥٩.

٩٨

ولم يتفرّق أجزاؤهم وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ، (١) فأحياهم الله تعالى بعد المدّة بإعادة أرواحهم الشريفة إلى أبدانهم الباقية.

قلت : لا شكّ أنّ في قصّة إبراهيم ، وفي قصّة عزير عليهما‌السلام تأييدا لما ذكر من أنّ موت البدن يمكن أن يكون بتفرّق أجزائه ، وأنّ إعادته بجمعها مرّة اخرى. وأمّا التأييد لتمام المقصود فيمكن أن يكون لأجل أنّ نفوس تلك الطيور ونفس ذلك الحمار لعلّها كانت باقية بعد تفرّق أجزاء أبدانهنّ ، إذ لا دليل على فناء ذوات نفوس الحيوانات بالمرّة أو بوجه بفناء أبدانهنّ وبتفرّق أجزائها ، سواء قيل بأنّها أجسام عنصريّة أو روحانيّة ، أو قيل بتجرّدها في الجملة ، وإن كان أدون من تجرّد النفس الناطقة الإنسانيّة كما سيأتي تحقيق القول في ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وعلى تقدير تسليم أنّ نفوسهنّ تنعدم بانعدام أجسادهنّ كما احتملناه سابقا من جانب المنكرين للمعاد ، حيث إنّ ظاهرهم أنّ النفوس مطلقا تنعدم بانعدام الأجساد ، سواء قيل بكونها أجساما أو أعراضا حالّة في الأجسام. نقول : لعلّ تأييد القصّتين لما ذكرنا إنّما هو من جهة إماتة البدن وإحيائه خاصّة ، حيث إنّ المنكرين للمعاد كما نطقت بعقائدهم الفاسدة الأخبار والآيات ، إنّما استبعدوا المعاد وظنّوا خلافه لاستبعادهم معاد البدن بعد أن صار عظاما ورفاتا وترابا. وأمّا معاد الروح والنفس فلا يظهر ممّا حكي عنهم في الآيات والأخبار استبعادهم له بتلك المرتبة من الاستبعاد ، بل ادّعى جمهور الحكماء أنّ العقل مستقلّ في إثباته ، فلذا رفع الله في تينك القصّتين استبعادهم له وأشار إلى أنّه كما أنّ الإماتة والإحياء في شأن تلك الطيور وذلك الحمار ، كان بتفريق أجزاء الأبدان ثمّ جمعها مرّة اخرى ، كذلك يكون في شأن غيرهنّ كما في أبدان الإنسان ، وإن صارت عظاما ورفاتا وترابا ، بل احرقت فصارت رمادا وذريت في الرياح العاصفة شمالا وجنوبا وقبولا ودبورا ، فإنّ ذلك الجمع والتفريق ممكن فيها أيضا ، حيث إنّ تلك الأجزاء المتفرّقة من الجسد سواء كانت بحيث تبقى فيها صورها مطلقا كما في شأن تلك الطيور حيث كانت الصورة العظميّة واللحميّة والريشيّة باقية فيها ، أو تبقى في الجملة كما في شأن

__________________

(١) وهم رقود : واعلم تعلّق النفس بالبدن باقية في حال الرقود ولا معنى للإعادة والإعادة إنّما هي بعد الموت وزوال التعلّق كما لا يخفى. والبرهان يدلّ على تجرّد النفوس الحيوانيّة تجرّدا برزخيا.

٩٩

ذلك الحمار حيث كانت الصورة العظميّة باقية فيها ، أو لا تبقى فيها تلك الصور ، بل كانت رميما ورفاتا وترابا ومزّقت كلّ ممزّق ، كما في أكثر الموتى الذين أخبر الله عن بعثهم ، فنسبة قدرة القادر المختار العليم الحكيم على السواء إلى جمع الجميع وإفاضة الصور الأصليّة والفرعيّة عليها بحيث تصير عين الأوّل باعتبار الأصل ، وان كانت مثلها من جهة بعض الاعتبارات غير المنافية للعينيّة ذاتا ، وكذا إعادة النفس الاولى الباقية إليها كما في شأن الإنسان الذي كلامنا فيه ، ويدلّ العقل والنقل على أنّ روحه جوهر مجرّد باق ، وبحيث يكون الشخص المعاد عين المبتدأ بعينه ، فإنّ الكلّ ممكن بالذات غير مستحيل عقلا ولا شرعا ، وهو مقدور للقادر المختار الذي لا يعجز عن شيء ، ولا يعزب عنه شيء كما إذا كان البدن غير متفرّق الأجزاء باقيا بمادّته وصورته ، كما في قصّة عزير عليه‌السلام وقصّة أصحاب كهف. فلذلك حكى سبحانه عن عزير عليه‌السلام : انّه لما أماته الله تعالى مائة عام ثمّ بعثه وأحياه فأمره بالنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنّه ، وكانا باقيين على حالهما وصورتهما الأصليّة بمادّتيهما ، بحيث لم يتغيّرا أصلا بمضيّ السنين ، وكذا أمره بالنظر إلى حماره وبقاء عظامه وإفاضة الله تعالى الصورة اللحميّة عليها وجعله حيّا مثل الأوّل. وتبيّن له ذلك (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) وانّه كما يقدر على إعادة الروح إلى الجسد الباقي ، كذلك يقدر على جمع الأجزاء المتفرّقة وجعلها حيّة. وكذلك قال في شأن أصحاب الكهف حيث بعثهم بعد ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا بإعادة أرواحهم إلى أجسادهم الباقية. (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) (٢) وأنّه كما يقدر على إعادة الأرواح إلى الأجساد الباقية غير المتغيّرة ، كذلك يقدر على جمع الأجزاء المتفرّقة من البدن وإعادة الروح إليها مرّة اخرى ، وأنّ المعاد جسمانيّ وروحانيّ لا أحدهما وحده. ولعلّ اختلاف مراتب المعاد الذي أخبر عنه جلّ وعلا في الكتاب الكريم كهذه القصص ، وقصّة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثمّ أحياهم ، (٣) والآيات التي دلّت على وقوع المعاد وإن صارت الأجساد عظاما وترابا ورفاتا ومزقت كلّ ممزّق إشارة إلى إمكان الجميع ، وكون الكلّ مقدورا لله تعالى ،

__________________

(١) البقرة : ٢٥٩.

(٢) الكهف : ٢١.

(٣) إشارة إلى آية ٢٤٣ من سورة البقرة.

١٠٠