منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-108-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٨٢

في الإشارة إلى أنّ الإنسان

عبارة عن مجموع النفس والبدن

وأقول وبالله التوفيق : لا يخفى عليك أنّ الإنسان لمّا كان مزاجه على أقرب تعديل ، وخلقه في أحسن تقويم ، واجتمع فيه ما يصدر عن شركائه في أجناسه القريبة والبعيدة كالحيوان والنبات والمعدن ، من حفظ التركيب مدّة معيّنة معتدّا بها ، والخواصّ الطبيعيّة والأفعال النباتيّة والخصائص الحيوانيّة ، وامتاز من بينها أجمع ، بحمله من شرائف الأفعال ونفائس الآثار وكرائم الأعمال ولطائف الإدراكات التي تخصّه كالعقل والفهم والفطنة والفكر والتدبير والتقدير وغير ذلك من الامور المحكمة. ولذا اختصّ من بين شركائه بالتكليف وما يلزمه ويتبعه ، فله بالضرورة مبدأ لذلك هو أشرف المبادئ وأفضلها ، به يتقوّم قوام إنسانيّته وبه يتحقّق كونه حيوانا ناطقا ويصدق ذلك عليه ، ولذلك يسمّى نفسا كأنّه تمام حقيقة الإنسانيّة ، فإنّ اسم النفس يطلق غالبا على تمام حقيقة الشيء وذاته ، كما هو المنقول عن أهل اللغة والشائع في إطلاقات أهل العرف وقد يسمّى روحا أيضا.

وبالجملة من المعلوم أنّه كما أنّ للإنسان بدنا وهيكلا محسوسا مخصوصا مشاهدا بالحسّ والعيان ، مركّبا تركيبا تامّا معدنيّا ونباتيّا وحيوانيّا ، يدلّ عليه البرهان. كما سنشير إليه فيما بعد إن شاء الله تعالى ، كذلك فيه ، أو معه هذا الأمر المختصّ الذي هو ما به التمايز بينه وبين شركائه وهذا أيضا معلوم بالوجدان ، ويدلّ عليه العقل والنقل أيضا.

والتميّز بين الأشياء وإن كان عند التحقيق بالوجودات الخاصّة ، لكن تلك الموجودات إمّا عارضة لماهيّات كما هو رأي فريق من الحكماء ، أو معروضة لها كما هو رأي آخرين منهم ، فلتلك الماهيّات أيضا مدخل في التشخّص والتميّز كما لتلك الوجودات ، فذلك الأمر

٦١

الخاصّ بالإنسان الذي هو معروض ذلك الوجود الخاصّ أو عارضه ، هو أيضا منشأ التمايز بينه وبين غيره لا يمكن إنكار وجوده فيه أو معه.

والإنسان عبارة عن مجموع ذلك البدن المخصوص وهذا الأمر المميّز الخاصّ ، وإليهما اشير في مواضع عديدة من الكتاب الكريم ، كقوله تعالى :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ، فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ). (١)

وقوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ). (٢)

وقوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ). (٣)

والحاصل : أنّ ذلك الأمر الخاصّ ، جليّ الإنيّة عند ذوي الفطرة السليمة ، وإن كان خفيّ الماهيّة ، ولذا اختلف فيه على أقوال شتّى كما نقله الشيخ الرئيس في الشفاء عن القدماء ، فذهب بعضهم إلى أنّه جوهر مجرّد ، وبعضهم إلى أنّه مادّي ، جسم أو جسماني ، وسيأتي فيما بعد نقل ذلك تحقيق الحقّ فيه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) المؤمنون : ١٢ ـ ١٤.

(٢) السجدة : ٧ ـ ٩.

(٣) التين : ٤.

٦٢

في الإشارة إلى معنى المعاد

ولا يخفى عليك أيضا ، أنّ لفظ «المعاد» قد جاء مصدرا ميميّا بمعنى العود ، وإن كان جاء اسم زمان ومكان أيضا ، وأنّ العود والإعادة وأشباههما من الألفاظ قد وردت في الكتاب الكريم والشّرع القويم ، مثل قوله تعالى :

(كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ). (١)

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ). (٢)

(إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ). (٣)

(فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). (٤)

(مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى). (٥)

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ). (٦)

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً). (٧)

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ). (٨)

(كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ). (٩)

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

وإنّ معانى هذه الألفاظ وإن كانت ممّا يفهمها كلّ فاهم من ذوي فطرة سليمة

__________________

(١) الأعراف : ٢٩.

(٢) يونس : ٣٤.

(٣) يونس : ٤.

(٤) الإسراء : ٥١.

(٥) طه : ٥٥.

(٦) العنكبوت : ١٩.

(٧) نوح : ١٧ ـ ١٨.

(٨) الروم : ٢٧.

(٩) الأنبياء : ١٠٤.

٦٣

ولا يحتاج إلى شرحها ، لكنّا نقول للتنبيه على ذلك :

إنّ المتبادر من مفهومات هذه الألفاظ ومعانيها عند الإطلاق ، هو أن يكون قد وجد أوّلا ما فرض أنّه متعلّق الإعادة على وجود مخصوص وحال وصفة مخصوصتين ، ثمّ زال عنه ذلك الوجود وتلك الحالة [والصفة] ثانيا في وقت من الأوقات ، سواء كان بزوال نفسه أو زوال أمر متعلّق به ، ثمّ وجد في وقت آخر بعده على ذلك الوجود وعلى تلك الحالة والصفة ، فإنّه حينئذ يصدق على ذلك الأثر الحاصل ثالثا أنّه العود ، وعلى تأثير الفاعل ذلك فيه أنّه الإعادة ، وبهذا المعنى اطلقت تلك الألفاظ في تلك الآيات الكريمة ، إذ هو معناها المتبادر ، ولا سيّما أنّها اطلقت في تلك الآيات في مقابلة البدء والإبداء ، وهو قرينة عليه ، إذ البدء والإبداء معناهما الإيجاد أوّلا ، سواء كان إبداعا من غير تقدّم مدّة ومادّة ، أو إحداثا وتكوينا مع تقدّمهما ، فحيث كان معناهما ذلك وكان متعلّق الإبداء والإعادة واحدا ، كان معنى العود والإعادة في مقابلتهما إيجاد ذلك الموجود أوّلا في وقت آخر ، بعد أن تخلّل زمان زوال وفناء بينهما ، فتدبّر.

فيكون معنى تلك الآيات ـ والله أعلم ـ أنّ الله تعالى أوجد الخلق كالإنسان مثلا على وجود خاصّ وحال مخصوصة ، ثمّ يميتهم ويزيل عنهم ذلك ثانيا ، ثمّ يوجدهم ثالثا على ذلك الوجود وتلك الحال.

وقد يطلق العود والإعادة على وجود شيء أو إيجاده في وقت متأخّر بعد أن كان ينبغي وجوده أو إيجاده في وقت متقدّم عليه ولم يقع ذلك ، إمّا بانتفائه رأسا ، أو بانتفاء جزء من أجزائه ، أو شرط من شروطه ، كما يطلق على فعل الصلاة غير المؤدّاة في وقتها كما أمر بها الشارع ، في وقت ثان ، أنّه إعادتها ، ولا شكّ أنّ هذا المعنى سواء كان حقيقيّا أو مجازيّا غير مراد في الآيات الكريمة.

كما أنّ إرادة إنشاء خلق آخر في النشأة الاخرويّة ، مغاير للخلق الأوّل بحسب الذات وإن كان مماثلا له في بعض الصّفات أو كلّها ، خلاف الظاهر من لفظ الإعادة ، وكذا من تلك الآيات ، فتدبّر تعرف.

وحيث عرفت المعنى المراد من العود والإعادة والمعاد الّتي وردت في الكتاب الكريم ، ظهر لك أنّه ينبغي أن يحمل عليه ما ورد فيه بألفاظ اخر ، مثل الرجوع والرجع

٦٤

والبعث والنسل والإحياء والإحضار والحشر والنشر والخروج والإخراج والردّ والبروز والعرض والإتيان والمصير والجمع والقيام وأمثال ذلك.

قال تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (١)

(وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ). (٢)

(ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ). (٣)

(مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا). (٤)

(كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى). (٥)

(وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ). (٦)

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً). (٧)

(وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ، وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا). (٨)

(ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ). (٩)

(وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ). (١٠)

(ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ). (١١)

(اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ). (١٢)

(وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ). (١٣)

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). (١٤)

(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ). (١٥)

(وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). (١٦)

(كَذلِكَ النُّشُورُ). (١٧)

__________________

(١) البقرة : ٢٨. (٢) الأنعام : ٣٦.

(٣) ق : ٣.

(٤) يس : ٥٢.

(٥) الأعراف : ٥٧.

(٦) التوبة : ١٠٥.

(٧) الأنعام : ٢٢.

(٨) الكهف : ٤٧ ـ ٤٨.

(٩) يونس : ٢٣.

(١٠) يونس : ٣٠.

(١١) هود : ١٠٣.

(١٢) الشورى : ١٥.

(١٣) الشورى : ٢٩.

(١٤) ابراهيم : ٤٨.

(١٥) الإسراء : ٩٧.

(١٦) المؤمنون : ٧٩.

(١٧) فاطر : ٩.

٦٥

(فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ). (١)

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ). (٢)

(يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ). (٣)

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ). (٤)

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً). (٥)

(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ). (٦)

(وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً). (٧)

(مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى). (٨)

(مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). (٩)

(ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ). (١٠)

(فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ). (١١)

(وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (١٢)

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ). (١٣)

إلى غير ذلك من الآيات.

وإن كان لكلّ واحد من تلك الألفاظ معنى يخصّه يعرفه من له دربة في معاني الألفاظ.

__________________

(١) يس : ٥١.

(٢) ق : ٤٢.

(٣) القمر : ٧ والمعارج : ٤٣.

(٤) ق : ٤٣.

(٥) المجادلة : ٦ و ١٨.

(٦) المطفّفين : ٦.

(٧) مريم : ٩٥.

(٨) طه : ٥٥.

(٩) المؤمنون : ١٠٠.

(١٠) القصص : ٦١.

(١١) يس : ٥٣.

(١٢) فصّلت : ٢١.

(١٣) الحاقّة : ١٨.

٦٦

في الإشارة إلى كون الاعتقاد بالمعاد ضروريّا

في هذا الدين القويم وكذا في الأديان السابقة

ولا يخفى أيضا عليك ، أنّ الاعتقاد بالمعاد ركن من أركان الإسلام ، وضروريّ في هذا الدين القويم ، وكذا في الأديان السابقة والملل الماضية ، كما ادّعاه العلماء من أهل الإسلام ، وقد نطق الشرع القويم والكتاب الكريم بكونه ضروريّا في هذا الدين ، بل كونه جزءا من أديان اولي العزم من الرسل وغيرهم.

أمّا كونه ضروريّا في الدين المحمّدي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالقرآن مملوّ منه كالآيات المذكورة وغيرها ممّا لا تحصى. وأمّا في الأديان السابقة ، فلقوله تعالى في سورة نوح حكاية عنه (على نبيّنا وعليه‌السلام) ، انّه قال لقومه :

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً). (١)

وفي سورة العنكبوت حكاية عن إبراهيم (على نبيّنا وعليه‌السلام) ، إنّه قال لقومه :

(وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (٢)

وفي سورة الشعراء حكاية عنه أيضا :

(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ). (٣)

وفي سورة طه خطابا لموسى (على نبيّنا وعليه‌السلام) :

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى). (٤)

وفي سورة القصص حكاية عن قوم قارون ، إنّهم قالوا له :

__________________

(١) نوح : ١٧ ـ ١٨.

(٢) العنكبوت : ١٧.

(٣) الشعراء : ٨١ ـ ٨٢.

(٤) طه : ١٥.

٦٧

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا). (١)

وفي سورة المؤمن حكاية عن مؤمن آل فرعون ، إنّه قال لقوم فرعون :

(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ). (٢)

وفي سورة مريم حكاية عن عيسى (على نبيّنا وعليه‌السلام) :

(وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا). (٣)

وفي سورة يس حكاية عن رسول عيسى إلى قومه :

(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ). (٤)

وفي سورة الأنفال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) ـ الآية ـ.» (٥)

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما ذكره العارف الأحساوي بقوله : وأمّا الثاني فلاتّفاق قول الأنبياء عليهم‌السلام غير موسى عليه‌السلام فانّه لم يذكر ، وما نزل في التّوراة فيه شيء ، فيه شيء مع أنّ ما ذكره معارض بما نقله صدر الأفاضل عن التوراة بقوله : ففي التوراة : إنّ أهل الجنّة يمكثون في النعيم عشر آلاف سنة ثمّ يصيرون ملائكة. (٦)

__________________

(١) القصص : ٧٧.

(٢) المؤمن : ٣٩.

(٣) مريم : ٣٣.

(٤) يس : ٢٢ و ٢٦ ـ ٢٧.

(٥) التوبة : ١١١.

(٦) الشواهد الربوبيّة : ٢٧٩.

٦٨

في كيفيّة دلالة الآيات القرآنيّة على المعاد

ولا يخفى أيضا عليك أنّ الآيات القرآنيّة الواردة في هذا المطلب ،

بعضها ظاهرة في وقوع الموت والفناء والإماتة والإبداء والإعادة والإحياء ونحو ذلك ، وطروؤه على الإنسان الذي عرفت أنّه عبارة عن مجموع البدن المحسوس وذلك الأمر المخصوص أعني النفس والروح ، وهي كثيرة كقوله تعالى :

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ، أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً). (١)

وكالآيات المتقدّمة وغيرها حيث إنّها تضمّنت الخطاب بذلك للمكلّفين وحكاية أحوالهم ، ولا يخفى أنّ المكلّف هو الإنسان بنفسه وبدنه ، وإن احتمل كونه بنفسه وحدها أيضا.

وبعضها ظاهرة في وقوع ذلك على بدنه ، كقوله تعالى :

(مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ).

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). (٢)

(حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (٣)

إلى غير ذلك من الآيات.

__________________

(١) مريم : ٦٦ ـ ٦٧.

(٢) يس : ٦٥ ، ٧٨ ـ ٧٩.

(٣) فصّلت : ٢٠ ـ ٢١.

٦٩

وبعضها ظاهرة في وقوع ذلك على نفسه ، وهي أيضا كقوله تعالى :

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) ـ إلى قوله ـ : (تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). (١)

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبادِي ، وَادْخُلِي جَنَّتِي). (٢)

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ). (٣)

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ). (٤)

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ). (٥)

(لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ). (٦)

(لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى). (٧)

(وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ). (٨)

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى). (٩)

إلى غير ذلك من الآيات التي ظاهرها النفس بمعنى ذلك الأمر المخصوص ، وإن احتمل في بعضها إرادة النفس بمعنى الشخص الإنساني ـ أي مجموع البدن والنفس ـ.

فيظهر ممّا ذكرنا أنّ الآيات دالّة على طروء كلّ من الإماتة والإحياء على كلّ من النفس والجسد ، وسيأتي بيان كيفيّة وقوع الأمرين وتواردهما عليهما فيما بعد إن شاء الله.

__________________

(١) الواقعة : ٨٣ ـ ٨٧.

(٢) الفجر : ٢٧ ـ ٣٠.

(٣) الانفطار : ٥.

(٤) الزمر : ٧٠.

(٥) آل عمران : ١٨٥.

(٦) إبراهيم : ٥١.

(٧) طه : ١٥.

(٨) التوبة : ٥٥.

(٩) الزمر : ٤٢.

٧٠

في كيفيّة دلالة الآيات الواردة في إنكار المنكرين للمعاد

ولا يخفى عليك أيضا أنّ الآيات القرآنيّة التي تضمّنت لحكاية أحوال المنكرين للمعاد وبعضها ظاهرة في إنكارهم معاد المكلّفين ومعاد الإنسان ، أي معاد النفس والبدن جميعا كقوله تعالى :

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (١)

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ، أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً). (٢)

(وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). (٣)

(فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). (٤)

(وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ، بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ). (٥)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ) ـ الآية». (٦)

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ). (٧)

(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ

__________________

(١) النحل : ٣٨.

(٢) مريم : ٦٦.

(٣) هود : ٧.

(٤) الإسراء : ٥١.

(٥) النمل : ٦٥ ـ ٦٦.

(٦) سبأ : ٣.

(٧) فصّلت : ٥٤.

٧١

مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ). (١)

(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ). (٢)

(يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ، يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ). (٣)

(قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ). (٤)

(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً). (٥)

إلى غير ذلك من الآيات.

وبعضها ظاهرة في إنكارهم معاد البدن خاصّة ، كقوله تعالى :

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ). (٦)

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ). (٧)

وبعضها ظاهرة في إنكارهم معاد الإنسان ، لكن لأجل إنكارهم معاد البدن ، كقوله تعالى:

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). (٨)

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). (٩)

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً). (١٠)

(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ، هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ). (١١)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ). (١٢)

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ). (١٣)

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ). (١٤)

__________________

(١) الجاثية : ٢٤.

(٢) المؤمنون : ٣٧.

(٣) الذاريات : ١٢ ـ ١٣.

(٤) الممتحنة : ١٣.

(٥) الجنّ : ٧.

(٦) يس : ٧٨.

(٧) القيامة : ٣ ـ ٤.

(٨) الرعد : ٥.

(٩) السجدة : ١٠.

(١٠) الإسراء : ٤٩.

(١١) المؤمنون : ٣٥ ـ ٣٦.

(١٢) النمل : ٦٧.

(١٣) سبأ : ٧.

(١٤) ق : ٣.

٧٢

(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ). (١)

إلى غير ذلك من الآيات.

وأمّا ما يدلّ صريحا على إنكارهم معاد خصوص النفس فلم نظفر به في الكتاب الكريم ، ولعلّ وجهه ـ والله أعلم ـ مع الإشارة إلى أنّ إنكارهم معاد الإنسان كما دلّت عليه آيات كثيرة يدلّ على إنكارهم معاد النفس أيضا ، فإنّ الإنسان كما عرفت عبارة عن مجموع البدن والنفس ، ولا إنكار لأحد في وجود النفس مع البدن أو فيه ، فإنكار معاد الإنسان متضمّن لإنكار معاد البدن والنفس جميعا ، وإنّ إنكار معاد البدن وحده كاف في الإنكار للمعاد الضروري في الدين القويم.

الإشارة (٢) إلى أنّهم اعتقدوا أنّ النفس جسم في البدن أو معه ، كما هو مذهب بعض الحكماء ، من أنّها جرم لطيف سار في البدن أو جسمانيّ عرض فيه كالمزاج على ما هو المنقول من مذهب بعض المنكرين له من الحكماء الطبيعيّين ، وقد عرفت بيان ذلك ممّا نقلنا من كلام الفاضل الأحساوي وصدر الأفاضل. وبالجملة فالنفس أيضا تنعدم بانعدام البدن ، فلا يمكن إعادة شيء منهما ، فلذا قالوا تارة بامتناع إعادة البدن بعد خرابه وصيرورته عظاما ورفاتا ، وتارة بامتناع إعادة الإنسان لأجل امتناع إعادة البدن بعد خرابه في زعمهم ، وتارة بامتناع إعادة الإنسان مطلقا كما نطقت بذلك الآيات المتقدّمة ، فإنّ منشأ هذه العقائد واحد. فتنبّه لهذه الدقيقة.

__________________

(١) الواقعة : ٤٧.

(٢) خبر لعلّ.

٧٣

في الإشارة إلى معنى معاد الروحاني والجسماني

وحيث عرفت ذلك فاعلم : أنّ الشرع كما نطق بثبوت المعادين جميعا وحكم بكفر منكريهما جميعا ، كذلك يدلّ على كفر منكر واحد منهما فقط أيضا ، لأنّ في ذلك أيضا إنكارا لما نطق به الشرع.

واعلم أيضا أنّا حيث نطلق لفظ المعاد الروحاني ، نريد به عود الروح إلى البدن الأوّل مرّة اخرى بعد مفارقتها عنه ، سواء قيل بأنّ الروح جوهر مجرّد أو مادّي ، جسم أو عرض ، (١) وحيث نطلق المعاد الجسماني نريد به عود البدن الأوّل مرّة اخرى بعد ما كان بطل وفني. وكذلك نقول يجب أن يصدّق بهذين المعادين جميعا ، وأنّ من أنكرهما أو أنكر واحدا منهما فهو منكر للمعاد الضروريّ في الدين.

فعلى هذا فمن قال بأنّ المعاد جسماني فقط ، وصدّق بالمعادين جميعا ، وأراد أنّ المعاد الذي تسمّونه روحانيّا حقّ ، إلّا أنّه جسماني أيضا كمعاد البدن ، بناء على أنّ الروح جسم في اعتقاده ، فهو ليس بمنكر للمعاد ، إلّا أنه اصطلح فسمّى المعاد الروحاني بالجسماني أيضا. وكذلك من قال بأنّه روحاني ، وأراد به عود الروح إلى البدن الأوّل (٢) بعد عوده أيضا فهو ليس بمنكر له أيضا. نعم إن أراد به عود الروح فقط ، سواء قال إنّ الروح جوهر مجرّد أو مادّي ، من غير أن يقول بعود البدن فهو منكر له كما أنّ من قال بعود البدن فقط من غير أن يقول بعود الروح منكر له.

__________________

(١) قوله : «سواء قيل بأن الروح» وفيه ما لا يخفى ، لأنّ الروح إذا كان ماديا ينعدم من رأس. وأيضا : الروح إذا كان عرضا لا يطلق عليه الروح ، لأنّ جهة الباقي من الإنسان مجرّد عن المادة والمادة القابلة للكون والفساد لن يلج الملكوت وهي فاقدة للوجود الأخرى (ج ٥).

(٢) عود الروح إلى البدن الأول تناسخ صريح وليس له في الآخرة من نصيب.

٧٤

وبالجملة فكلامنا في المعاد الروحاني والجسماني بهذين المعنيين اللذين ذكرناهما ، وقد عرفت أنّ الشرع ناطق بهما جميعا. وحيث تحقّقت ما بيّناه ، وتبيّنت أنّ الآيات القرآنيّة ، كما أنّها ناطقة بإعادة الإنسان وبإعادة خصوص البدن وخصوص النفس ، كذلك هي ناطقة بأنّ المنكرين للمعاد ، منكرون لذلك أجمع ، فحريّ بنا أن نكشف أوّلا جليّة الحال عن أنّ مبنى زعم المنكرين له على ما ذا؟ ثمّ نتبعه بشرح مبنى القول بالمعاد.

٧٥

في الإشارة إلى مبنى إنكار المنكرين للمعاد

فنقول : لا يخفى على من تأمّل في الآيات الواردة في حكاية حالهم ، كالآيات المتقدّمة وغيرها ، أنّهم إنّما أنكروه لشبهة واهية داحضة ، خيّلها إليهم الشيطان وأملى لهم.

هي أنّهم لمّا رأوا أنّ الأبدان تفنى وتهلك وتصير عظاما وترابا ورفاتا وممزّقا كلّ ممزّق ، كما هو معلوم بالمشاهدة والعيان.

ورأوا أيضا أنّ النفس إمّا جسم أو جسماني في البدن كما هو مذهبهم ، وتصير هي أيضا مثل البدن في الاضمحلال والفناء.

ورأوا أنّ الجسم جوهر متّصل في حدّ ذاته ، والاتّصال لازم لماهيّته وحقيقته ، وأنّه إذا طرأ عليه الانفصال ، ولا سيّما مثل هذا الانفصال والتمزّق ، وتبدّلت صورته الجسميّة ، بل النوعيّة والشخصيّة أيضا ، إلى صورة اخرى كالترابيّة والرفاتيّة فلا سترة في أنّه ينعدم ذلك الاتّصال. وتلك الصورة ، فينعدم لازم ذلك الجوهر المتّصل ، وانعدام اللازم مستلزم لانعدام ملزومه ، ـ أي ذلك الجوهر المتّصل ـ إمّا بالمرّة ، كما هو الظاهر عندهم ، أو بصورته المقوّمة له مطلقا إن لم يسلّم انعدامه بالمرّة ، لأجل بقاء مادّته ـ أي الهيولى أو الأجزاء الأصليّة ـ إن كانت تبقى.

وكذلك رأوا أنّ النفس تنعدم مثل البدن بانعدامه ، أمّا إذا كانت جسما ـ أي جرما لطيفا ساريا في البدن ـ فبتقريب السابق ، لأنّها تابعة للبدن في الوجود والعدم ، وأمّا إذا كانت جسمانيّة وعرضا حالّا فيه ، فبالطريق الأولى ، لأنّه حينئذ يكون البدن بصورته الخاصّة موضوعا لها ، وبانعدام الموضوع ينعدم العرض بالمرّة.

ورأوا أيضا أنّ المعدوم يمتنع أن يعاد ، أمّا المعدوم بالمرّة فبالبرهان الذي سيجيء بيانه ،

٧٦

وأمّا المعدوم بصورته الخاصّة فبذلك البرهان أيضا ، ولأنّه لو فرضنا إمكان إعادته واعيد ، لم يكن المعاد ذلك الشخص بعينه بجميع مشخّصاته ، بل يكون خلقا جديدا ـ أي مخلوقا جديدا ـ وإن كان مماثلا للأوّل في بعض الصفات ، كما حكى الله تعالى عنهم في الآيات المتقدّمة لو أرادوا به هذا المعنى أو ما يتناوله ، والخلق الجديد بمعنى الإعادة ، وسيجيء أيضا بيان هذا.

فمن هذه الشبهة ذهبت أوهامهم إلى امتناع البعث وإنكار المعاد ، وإن كانوا قائلين بوجود الفاعل القادر المختار أيضا ، لأنّ متعلّق القدرة ينبغي أن يكون شيئا ممكنا مقدورا بالذات ، والممتنع بالذات لا يصدق عليه اسم الشيء ، فلا يكون متعلّق القدرة ، وهذا لا يستلزم نقصا في قدرة القادر المختار ، ولا في فاعليّة الفاعل ، بل النقص إنّما هو في جانب القابل ، وهذا ممّا لا ضير فيه.

وقوله تعالى حكاية عنهم : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ). (١) يمكن أن يراد به هذا المعنى ، وإن كان يمكن أن يراد به نفي الفاعل المختار القادر على ذلك ، وإسناد الموت والحياة في النشأة الدنيويّة إلى الدهر أو إلى البخت والاتّفاق من غير أن يكون نشأة اخرويّة أو معاد فيها ، كما هو مذهب الدهريّة والملاحدة منهم ، ويدلّ عليه قوله تعالى حكاية عنهم :

(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ). (٢)

وكذلك قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ). (٣) محتمل للوجهين المذكورين ، وعلى الأوّل فيكون المراد بقوله : (بَلى قادِرِينَ) إثبات أنّ جمع العظام ممّا هو متعلّق القدرة ، وليس فيه إعادة المعدوم بالمرّة ، ولا هو بممتنع بالذات على ما سيأتي بيانه ، وعلى الثاني فيكون المراد به مضافا إلى ما ذكر إثبات أصل القدرة ، وإثبات الفاعل المختار القادر عليه ، فتدبّر.

وبالجملة فهذه الشبهة بالوجهين المحكيّة عن المنكرين للمعاد في الآيات المتقدّمة أعظم شبههم في ذلك ، ولهم شبه اخرى عليه ، سيأتي بيانها مع إبطالها في مواضعها.

__________________

(١) يس : ٧٨.

(٢) المؤمنون : ٣٧.

(٣) القيامة : ٣ ـ ٤.

٧٧

وشبهتهم هذه وغيرها باطلة ، مخالفة للعقل والنقل ، كما سيجيء بيان ذلك ، كلّها نشأت عنهم من غير علم ، فلذا نفى الله تعالى عنهم في ذلك العلم ، وأسند إليهم فيه الظنّ والزعم والشك وعدم العلم وعدم الشعور والحسبان ونحو ذلك ، ممّا يدلّ على عدم علمهم فيه ، وتعجّب من قولهم هذا.

وأمّا ما اسند إليهم في قوله تعالى :

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ). (١)

فلعلّه لكمال عنادهم وعتوّهم ، أو أنّهم حسبوه يقينا فاقسموا بالله عليه ، كما أنّ تسمية ذلك حجّة في قوله تعالى :

(ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). (٢)

لأجل أنّهم حسبوه حجّة ، وإن لم يكن حجّة في الواقع ، أو لأجل التهكّم بهم. وكيفما كان فحجّتهم داحضة عند ربّهم وعليهم غضب ، وقولهم هذا كفر بالله ورسوله واليوم الآخر.

__________________

(١) النحل : ٣٨.

(٢) الجاثية : ٢٥.

٧٨

في الإشارة إلى مبنى القول بالمعاد

وإذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ القائلين بالمعاد حيث كان السبب العمدة في قولهم به تصديق الشرع القويم ، يجب عليهم تصديقهم به كما أتى به الشارع العليم الحكيم ، وحيث ورد الشرع بمعاد البدن والنفس جميعا ، كما ورد بموتهما جميعا على ما دلّت عليه الآيات المتقدّمة فيجب عليهم تصديق ذلك جميعا وإن كانت مذاهبهم مختلفة في كيفيّته ، فلنفصّل ذلك في كلّ من معاد البدن والنفس وكذا في موتهما.

أمّا موت البدن فلا شبهة لأحد فيه على ما يشاهد بالحسّ والعيان وسيظهر أيضا بيان كيفيّته.

في الإشارة إلى مبنى معاد البدن

وأمّا معاده ، فالذين قالوا بنفي الجزء الصوري في الأجسام وحصر أجزائه في الجواهر الفردة أي أنّ مبادئ الأجسام جواهر فردة ، وأجزاؤه لا تتجزّى ، والجسم عبارة عن تلك الأجزاء المتلاصقة المؤتلفة ، من غير أن يكون للاتّصال مدخل في حقيقته وتقوّمه ، كما هو مذهب المتكلّمين منهم ، فمعاد البدن عندهم عبارة عن اجتماع تلك الأجزاء المتفرّقة بالموت بتأليف مجدّد وإلصاق ثان ، كما أنّ موته عبارة عن ذلك التفرّق وانعدام التأليف الأوّل ، فلا يلزم عليهم انعدام البدن ولا أجزائه بالموت ، ولا أن يكون إعادته إعادة المعدوم. نعم يلزم عليهم القول بانعدام ذلك التأليف الخاصّ الأوّل ، ثمّ حصول مثل ذلك التأليف في الحشر.

فعلى هذا فالبدن المعاد عين البدن المبتدأ باعتبار أجزائه ، ومثله باعتبار التأليف ، فهو

٧٩

عين الأوّل باعتبار ، وغيره ـ أي مثله ـ باعتبار آخر.

ولعلّ هؤلاء الجماعة قالوا بهذا المذهب مع بطلانه ، لأجل تصحيح المعاد الجسماني ، وهربا عن لزوم الإشكال الوارد في زعمهم على تقدير كون الاتّصال جزءا صوريّا للأجسام ، وهذا الذي ذكرنا ظاهر على المتدبّر.

وقد قال الشارح القوشجي في شرح التجريد في قول مصنّفه : «والمعدوم لا يعاد بعينه» :

«اختلفوا في جواز إعادة المعدوم بعينه ـ أي بجميع عوارضه المشخّصة ـ فذهب أكثر المتكلّمين إلى جوازها ، وذهب الحكماء وبعض الكرّامية وأبو الحسين البصري ومحمود الخوارزمي من المعتزلة إلى امتناعها ، واختاره المصنّف. وهؤلاء وإن كانوا مسلمين معترفين بالمعاد الجسماني ينكرون إعادة المعدوم ، لأنّهم لا يقولون بانعدام الأجساد ، بل بتفرّق أجزائها وخروجها عن الانتفاع ، ويأوّلون بذلك الظواهر الواردة في هذا المعنى ، ويؤيّده قصّه إبراهيم عليه‌السلام. ـ انتهى.» (١)

وقال المحقّق الدواني في الحاشية على قوله : «لا يقولون بانعدام الأجساد» :

«وهذا بناء على نفي الجزء الصوري للأجسام وحصر أجزائه في الجواهر الفردة ، كما هو مذهب المتكلّمين ظاهر ، وكذا على مذهب المصنّف حيث قال بأنّ حقيقة الجسم هو الصورة الاتّصاليّة وأنها تبقى بعينها حال الانفصال. ولو أثبت الجزء الصوري في الأجسام ، قيل يكفي في المعاد الجسماني كون الأجزاء الماديّة هي بعينها ، ولا يقدح فيه تبدّل الجزء الصوري بعد أن كان أقرب الصور إلى الصور الزائلة.

فإن قيل : فيكون تناسخا ، قيل : الممتنع عندنا هو انتقال النفس إلى بدن مغاير له بحسب المادّة ، لا إلى بدن متألّف من عين مادّة هذا البدن وصورة هي أقرب الصور إلى الصورة الزائلة ، فإن سمّي ذلك تناسخا فلا بدّ من البرهان على امتناعه ، فإنّ النزاع إنّما هو في المعنى لا في الألفاظ. ـ انتهى.» (٢)

وقال المحشّي الشيرازي في الحاشية على قوله : «هذا بناء على نفي الجزء الصوري

__________________

(١) شرح التجريد للقوشجي : ٧١ ، الطبع الحجري ، تبريز ، ١٣٠٧ ق.

(٢) راجع هامش ص ٧١ من شرح القوشجي.

٨٠