منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-108-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٨٢

العلماء ، ومعظمهم من الأدباء والشّعراء.

هذه نبذة موجزة عن حياة آباء المرحوم الملّا نعيما وإخوته وأولاده وأحفاده ، وجميعهم كانوا من العلماء والحكماء ، ويعرفون بألقاب الطّالقانيّ ، والبرغانيّ ، والحكميّ ، والنّعيمائيّ.

الموضوع الثّالث : أمّا سيرة الملّا نعيما نفسه فنأسف أنّنا لا نمتلك معلومات وثائقيّة دقيقة حول تاريخ ولادته ووفاته ، وأساتذته وتلاميذه ، ومدفنه.

ويمكن أن نخمّن أنّه ولد قبل سنة ١٠٠٠ ه‍. اعتمادا على نسخة من (حاشية دواني على شرح المطالع) و (حاشية مير سيّد شريف) عليه بخطّ الملّا نعيما ، وكانت في مكتبة مجد الدّين نصيري بطهران ، (١) وتاريخ كتابها ١١١٥.

فرغ الملّا نعيما من تأليف كتاب العروة الوثقى سنة ١١٥٨ ه‍. (٢) إذن ، كان على قيد الحياة حتّى هذا التّاريخ. أمّا تاريخ وفاته ، فلعلّه كان في سنة ١١٨٠ ه‍ تقريبا كما جاء في مقدّمة موسوعة البرغاني ، ومقالة الأخ صالحي في مجلّة الحوزة. وهذا التّاريخ يتناسب مع تاريخ وفاة أبيه سنة ١١٦١ ه‍ مع أنّ البعض ذكر أنّ أباه مات سنة ١١٨٦ ه‍ ، وذكر آخرون أنّه مات سنة ١١٨٩ ه‍ ، (٣) فيكون قد عمّر قرابة مائة وعشرين سنة في الأقلّ.

أمّا أساتذة الملّا نعيما ، فقد ذكر سماحة الأستاذ الآشتيانيّ وسماحة الأخ صالحي أنّه حضر درس أبيه بقزوين ، ثمّ أفاد في اصفهان من الملّا محمّد صادق الأردستانيّ المتوفّى سنة ١١٣٤ ه‍ ، والفاضل الهنديّ المتوفّى سنة ١١٣٧ ه‍ عدد سنين.

هاجر إلى قم بعد هجوم الأفغان على أصفهان ، وفيها ألّف كتابه أصل الأصول سنة ١١٣٥ ه‍ ، ثمّ رحل إلى قزوين والطّالقان ، وكتب فيهما رسالة حدوث العالم.

ذكره صاحب كتاب أعيان الشّيعة (اعتمادا على نسخة كان قد رآها وسنذكرها لاحقا) بقوله : محمّد نعيم بن محمّد تقيّ المشهور بالعرفيّ الطّالقانيّ. وقال الملّا نعيما نفسه في بداية كتاب أصل الأصول :

__________________

(١) الذّريعة ٦ : ١٣٣.

(٢) فهرست مخطوطات مكتبة آية الله المرعشيّ ، ١٧ : ٣٣٠.

(٣) مجلّة حوزة ، العدد ٥٨ ، ص ١٨٨ ؛ دائرة المعارف تشيّع : ١٩٤.

٤١

لكاتبه ومالكه ومؤلّفه وواقفه الملّا نعيما المعروف بالعرفيّ الطّالقانيّ. (١)

ولعلّ المستنبط من هاتين العبارتين أنّه كان ذا قريحة شعريّة ، و (العرفيّ) لقب اختاره لنفسه ، بيد أنّا لم نجد له شعرا حتّى الآن.

ونقرأ للأستاذ الآشتيانيّ حول مدفنه : لم يكن الملّا نعيما شخصيّة مغمورة قطّ ، فقد كان من مشاهير العلماء ، وضريحه بين نور وطالقان مطاف أولي الإقبال.

الموضوع الرّابع : إنّ ما اطّلعنا عليه وتتبّعناه من مؤلّفات المرحوم الملّا نعيما في الفهارس وغيرها ـ مضافا إلى منهج الرّشاد ـ هو كما يأتي :

١ ـ رسالة أصل الأصول. تاريخ التّأليف ١١٣٥ ه‍. ثلاث نسخ منها في الجزء الخامس من فهرس مخطوطات مجلس الشّورى الإسلاميّ ، ونسخة في فهرس مخطوطات مدرسة مروي بطهران. وجاء في الجزء السّادس والعشرين من الذّريعة نسختان منها. ورأى العلّامة الطّهرانيّ عند المرحوم الشّيخ أسد الله دهاقاني (المعروف باسماعيليان مؤلّف فهارس شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، طبعة قم) نسخة أخرى منها كانت قد كتبت من النّسخة الأصليّة سنة ١١٣٦ ه‍.

صدرت رسالة أصل الأصول قبل سنين بتصحيح الأستاذ الآشتيانيّ ومقدّمته وتعليقاته ، وذلك في صورتين. وجاء في فهرس مخطوطات مجلس الشّورى الإسلاميّ ، ج ١٩ ، ص ٣٦٠ وأعلام الشّيعة في القرن الثّاني عشر ، ص ٧٩٠ رسالة ناقصة بعنوان (رسالة في الوجود) للملّا نعيما. وإذا طابقنا بدايتها مع بداية رسالة أصل الأصول تبيّن لنا أنّ هذه الرّسالة النّاقصة نسخة أخرى من أصل الأصول. من هنا عرفت ثماني نسخ من هذه الرّسالة لحدّ الآن.

٢ ـ فصل الخطاب في تحقيق الصّواب. رسالة في القضاء والقدر. تحتفظ مكتبة مجلس الشّورى الإسلاميّ بنسخة منها. انظر : الذّريعة ١٦ : ٢٣٠.

٣ ـ حدوث العالم. تمّ تأليف هذه الرسالة في قزوين والطّالقان سنة ١١٣٦ ه‍. وهي تحتوي على مقدّمة وثلاثة فصول وخاتمة. (٢) نسخة من هذه الرّسالة في مكتبة آية الله

__________________

(١) مقدّمة الأستاذ الآشتيانيّ دامت إفاداته.

(٢) أعلام الشّيعة في القرن الثّاني عشر : ٧٩٠.

٤٢

المرعشيّ في ٣٠٠ صفحة ، (١) ونسخة أخرى منها في مكتبة مدرسة مروي بطهران. (٢)

٤ ـ تنقيح المرام في شرح تهذيب الأحكام. يشمل جزء منه باب الحيض إلى التّيمّم في ٣٠٠ صفحة من القطع الرّحليّ بخطّ المؤلّف. وهذا الجزء موجود في مكتبة مدرسة مروي بطهران. تاريخ التّأليف : ١١٤٧ ه‍. (٣)

٥ ـ العروة الوثقى في إمامة أئمّة الهدى. تحتفظ مكتبة آية الله المرعشيّ بنسخة من هذا الكتاب. (٤) يتألّف هذا الكتاب من مقدّمة وخمسة أبواب في ٥٠٠ صفحة. تاريخ التّأليف : ١١٥٨ ه‍.

٦ ـ رسالة في جريان التّشكيك في العرضيّات والذّاتيات. ذكرت هذه الرّسالة في آخر مقدّمة رسالة أصل الأصول. (٥)

٧ ـ الحواشي على شرح الإشارات. ذكر هذا الكتاب أيضا في أواخر مقدّمة رسالة أصل الأصول. (٦)

٨ ـ الحاشية على الحاشية للدّواني على حاشية المير السّيّد الشّريف على شرح المطالع. رأى صاحب أعيان الشّيعة نسخة من هذا الكتاب في كرمانشاه ، تاريخ التّأليف : ١١٢٣ ه‍ (٧)

٩ ـ رسالة في العلم. كانت هذه الرّسالة ملحقة بنسخة من أصل الأصول في مكتبة مدرسة آية الله البروجرديّ في النّجف الأشرف. واحتمل صاحب الذّريعة أنّها من تأليف الملّا نعيما أيضا. (٨)

١٠ ـ كان الملّا نعيما قد وعد في رسالة أصل الأصول أن يؤلّف رسالة حول مسألة صدور الكثير عن الواحد. (٩)

الموضوع الخامس : يعدّ كتاب منهج الرّشاد في معرفة المعاد من أهمّ الكتب المؤلّفة في المعاد وإثبات الجسمانيّ منه. قال الأستاذ السّيّد جلال الدّين الآشتيانيّ دامت إفاداته فيه :

__________________

(١) فهرس مكتبة آية الله المرعشي ٦ : ٢٧.

(٢) فهرس مخطوطات مكتبة مروي : ٣٣٠.

(٣) فهرس مروي : ٩٤.

(٤) فهرس مكتبة آية الله المرعشي ١٧ : ٣٣٠.

(٥) منتخباتى از آثار حكماى ايران ٣ : ٣٨٩. [مختارات من آثار حكماء ايران].

(٦) نفسه ٣ : ٣٨٥.

(٧) أعيان الشّيعة ١٠ : ٨١ ، طبعة جديدة.

(٨) الذّريعة ١٥ : ٣١٦.

(٩) نفسه ١٧ : ٩ ؛ فهرس مخطوطات مجلس الشّورى الإسلاميّ ٥ : ٤٦ ؛ أصل الأصول : ٩٠ ، طبعة ١٣٥٧.

٤٣

«هذا الكتاب فريد في بابه. وكنت أبحث عن كتاب في المعاد عدد سنين على أن يكون مؤلّفه مفسّرا ، فقيها ، حكيما ، عارفا حتّى عثرت على نسخة منه في مكتبة مجلس الشّورى الإسلاميّ. وكلّفت ثلاثة من طلّاب مرحلة الماجستير أن يجعلوها رسالتهم لنيل الماجستير ، والحقّ أنّهم لم يدّخروا وسعا في سبيل ذلك. (١) [تصحيح الكتاب وطبعه]. وسيمثّل هذا العمل خدمة كبيرة. وثوابه الأخرويّ يفوق ثواب كتاب في الفقه والأصول أضعافا مضاعفة. [وأثبت] المؤلّف فيه المعاد الجسمانيّ كما سئل عن كيفيّته في الآية الكريمة المباركة : ربّ أرني كيف تحيي الموتى ، وعالج ما يرتبط به من مشكلات ، ودحض ما أثير عليه من شبهات من خلال الإحاطة بكلمات أعلام الفنّ ، بخاصّة صدر المتألّهين ، والإلمام بالرّوايات والتّفسير وشيء أعلى من التّفسير الظّاهريّ ، مع حفظ القواعد العقليّة وأفكار المحقّقين.»

توجد من هذا الكتاب نسختان : الأصل بخطّ المؤلّف في مكتبة مجلس الشّورى الإسلاميّ ، والثّانية استنسخت على النّسخة الأصليّة وهي في مكتبة مدرسة مروي بطهران.

الأصليّة ذات ٢٤٤ ورقة. ويشمل الكتاب مقدّمة وخمسة أبواب وخاتمة ، وسيطبع في ثلاثة أجزاء إن شاء الله تعالى.

يشمل الجزء الأوّل مقدّمة الكتاب ، والورقة (١ ـ ٨٤). وهو الآن بين أيديكم. ويمكنكم أن تتعرّفوا على محتواه من خلال نظرة مجملة على دليل موضوعاته. ومن الضّروريّ أن نذكّر بأنّ موضوعات الجزء الثّاني والثّالث من الكتاب تفصيل لموضوعات الجزء الأوّل منه وتبيين لها.

الأبواب الخمسة وخاتمة الكتاب ، الّتي تشغل الجزء الثّاني والثّالث هي كالآتي :

«الباب الأوّل في إثبات النّفس وإنّيّتها وتحديدها من حيث هي نفس ، وأنّها ليست بجسم ولا عرض وأنّها غير البدن وأجزائه واعضائه وآلاته وقواه وأعراضه.»

هذا الباب الشّامل الورقة (٨٥ ـ ١١٠) من النّسخة الأصل يضمّ لفظ كتاب الشّفاء

__________________

(١) في الوقت الّذي كان سماحة الأستاذ راضيا عن عمل هؤلاء الثّلاثة الأفاضل (عطائي ، هادي نيكى ، نصيري) ، اختارني لتصحيح الكتاب وإعداده للطّبع بنحو أدقّ.

٤٤

لابن سينا وشرحه وتفصيله. وجاء في آخره :

«إنّك بعد ما أحطت خبرا بتفاصيل ما نقلنا عن الشّيخ في الشّفاء في هذا الفصل ، وما ذكرناه في تحريره ، يظهر لك ما عقدنا الباب لأجله ، وهو إثبات النّفس وإنّيّتها وتحديدها من حيث هي نفس ، وانّها ليست بجسم ولا مزاج ولا عرض ، وأنّها غير البدن وأعضائه وأجزائه وحواسّه وقواه وأعراضه.»

«الباب الثّاني في بيان حقيقتها وماهيّتها من حيث إنّها جوهر مجرّد عن المادّة في ذاتها ، وفي أنّها واحدة بالذّات المختلفة بالاعتبار ، ومن حيث الأفعال ولها قوى متعدّدة تختلف أفاعيلها لاختلاف قواها.»

يشمل هذا الباب الورقة (١١١ ـ ١٥٣) من النّسخة الأصل ، وهو يدور حول تجرّد النّفس.

شرحت في بداية هذا الباب أربعة أحاديث حول الرّوح في خمس أوراق نقلا عن كتاب الكافي للكلينيّ والاحتجاج للطّبرسيّ.

ودار الكلام في أواخر الباب أيضا حول حديث من كتاب الكافي ودعاء من الصّحيفة السّجّاديّة ، وظنّ البعض أنّه يدلّ على عدم تجرّد النّفس ، ويقع هذا الكلام في أربع صفحات.

الباب الثّالث في تعديد قوى النّفس الإنسانيّة على ما هو المشهور بين الجمهور ، والإشارة إلى نبذ من الحكمة فيه فيما لعلّه يحتاج إلى بيان الحكمة فيه.

يشغل هذا الباب (الورقة ١٥٤ إلى الورقة ١٦٩) من النّسخة الأصل.

الباب الرّابع (الورقة ١٧٠ إلى الورقة ٢١٣) وفيه مطالب :

المطلب الأوّل في حدوث النّفس بحدوث البدن.

المطلب الثّاني في إبطال التّناسخ ونحوه.

المطلب الثّالث في بيان أحوال النّفس الإنسانيّة بعد خراب بدنها.

نلحظ في هذا المطلب بحثا مفصّلا حول اللذّة والألم ، والسّعادة والشّقاء ، والبدن المثاليّ ورأي ابن سينا في هذه الموضوعات ، وكذلك حول البرزخ وتجسّم الأعمال وغيرهما استهداء بالآيات القرآنيّة الكريمة والأحاديث المأثورة عن

٤٥

المعصومين عليهم‌السلام.

الباب الخامس في إثبات المعاد الجسمانيّ. الورقة (٢١٤ ـ ٢٢٤) ويشمل الموضوعات الآتية :

إنّ للإنسان معادا في دار الآخرة الّتي هي دار الجزاء.

يجب أن يعود الرّوح في القيامة إلى بدن عنصري لها به تعلّق تدبير وتصرّف.

يمكن أن يكون ذلك البدن هو البدن الأوّل بعينه.

يجب أن يكون البعث على هذه الكيفيّة ، أي : تعلّق الرّوح بالبدن الأوّل.

هذه المطالب كما نطق بها الشّرع كذلك هي ممّا يحكم به العقل ويقوم الدّليل العقليّ عليها.

الخاتمة : تشمل الورقة (٢٢٥ إلى ٢٤٤) من النّسخة الأصل ، وتضمّ ثلاثة مطالب هي :

المطلب الأوّل في دفع شبهة المنكرين للمعاد الجسمانيّ (سبع شبهات).

المطلب الثّاني في بيان جملة من الأحوال والأمور الّتي نطق الشّرع بوقوعها يوم القيامة وهي :

النّفخ في الصّور ، والصّراط ، والأعراف والسّور ، والكتاب والحساب والميزان ، والعقبات ، والحوض ، والشّفاعة ، والجنّة والنّار بما فيهما.

المطلب الثّالث في بيان أصناف النّاس وأحوالهم في الجملة في القيامة وفي كيفيّة خلود أهل الجنّة في الجنّة وأهل النّار في النّار.

وفيه بحث إمكان الخلود ، والسّبب الموجب له ، والمصلحة فيه.

يستند معظم البحوث في المطلب الثّاني والثّالث من الخاتمة إلى الآيات والرّوايات لأنّ مصدر هذه المسائل ليس عقليّا فحسب.

في الختام أتقدّم بالشّكر الجزيل للحكيم الرّبّانيّ سماحة السّيّد جلال الدّين الآشتيانيّ وطلّابه الثّلاثة الأفاضل (عطائي ، ونصيري ، وهادي نيكى) الّذين امتثلوا أمره فاستنسخوا من النّسخة الأصل ، ثمّ طبعوا نسختهم بالآلة الطّابعة وأعدّوها للطّبع. كما أتقدّم بالشّكر الوافر لسماحة حجة الاسلام والمسلمين إلهي الخراسانيّ مدير مجمع البحوث الإسلاميّة في مدينة مشهد المقدّسة ومساعدة الأخ الفاضل محمّد رضا مرواريد

٤٦

على تهيئتهما مقدّمات نشر الكتاب. كما أشكر الأخ الكريم محمّد رضا نجفيّ على جهوده المحمودة في المقابلة النّهائيّة للنّسخ. وأرجو من القرّاء الأفاضل أن يغضّوا الطّرف عمّا يغضّ الطّرف عنه ، وينبّهونا على الإشكالات الّتي لا يمكن التّغاضي عنها لعلّنا نتداركها في الجزء الثّاني والثّالث إن شاء الله ، والله وليّ التّوفيق.

قم ـ رضا أستادي

٢٢ ذي القعدة ١٤١٧ ه

٤٧
٤٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين

الحمد لله الذي خلق فسوّى ، وقدّر فهدى ، وأمات وأحيى ، وعليه النشأة الأخرى ، وإليه المنتهى ، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، عدلا منه تبارك وتعالى ، والصلاة على خير الورى ، أشرف من بعث بالبعث والجزاء ، وأكرم من أتى بالنشور والرجعى ، محمّد المصطفى وآله الذين بهداهم يهتدى ، وبطريقتهم يقتدى ، صلاة كثيرة دائمة بدوام الأرض والسماء.

أمّا بعد ، فيقول العبد الضعيف النحيف المذنب الجاني ، محمّد نعيم بن محمّد تقيّ المدعوّ بعرفي الطالقاني ، عفي عنه وعن والديه ، وختم الله لهم بالحسنى ، وجعل آخرتهم خيرا من الأولى :

ذاكرني بعض إخوان الصفا وخلّان الوفاء ، أنّ التصديق بالمعاد مطلقا لا يخفى أنّه ضروريّ في هذه الملّة البيضاء والملل السابقة التي أتى بها الأنبياء عليهم التحيّة والثناء ، وأصل من أصول الدين القويم والمذهب المستقيم ، لم ينكره أحد من أصحاب العقول وأرباب الألباب والنهى ، إلّا شرذمة قليلة من ملاحدة الحكماء ، وأنّ الجسمانيّ منه هو جزء من الإيمان ، وضروريّ في الأديان ، ودلّ عليه الكتاب الكريم والسنّة السمحاء ، إذ عليه أدلّة واضحة لا يعتريها شوب شبهة ولا ريبة ولا خفاء ، وقد أطبق عليه الملّيّون من الحكماء والمتشرّعون من العلماء ، وقد أقاموا الدليل العقليّ على الروحانيّ منه ، إلّا أنّهم عن آخرهم اعتقدوا الجسمانيّ منه على الوجه الذي أتى به الأنبياء ، مثل اعتقادهم للأحكام الفرعيّة ، معترفين بأنّه لا يمكن إقامة الدليل العقليّ عليه ، قائلين بأنّه ليس للعقل استقلال ولا مدخل في إثباته بوجه ما ، وكفاك شاهدا على هذا قول شيخ الرئيس ابن سينا

٤٩

في الشفاء :

«يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو مقبول من الشرع ، ولا طريق إلى إثباته إلّا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوّة ، وهو الذي للبدن عند البعث ، وخيرات البدن وشروره معلومة ، لا تحتاج إلى أن تعلّم ، وقد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا بها سيّدنا ومولانا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن ، ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني ، وقد صدّقته النبوّة ، وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقياس اللتان للأنفس ، وإن كانت الأوهام منّا تقصر عن تصوّرهما الآن ، لما نوضح من العلل. والحكماء الإلهيّون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنيّة ، بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك ، وإن اعطوها ، ولا يستعظمونها في جنبة هذه السعادة التي هي مقاربة الحقّ الأوّل ، وهي على ما سنصفه عن قريب. ـ انتهى كلامه.» (١)

ويقرب منه كلمات المتقدّمين والمتأخّرين من الحكماء والمتشرّعين من العلماء ، كما يعلم بالاستقصاء.

وامّا بعض المتأخّرين منهم كصدر الأفاضل مولانا صدر الدين الشيرازي فهو وإن تصدّى في بعض مصنّفاته الذي سمّاه الشواهد الربوبيّة لإقامة الدليل العقليّ عليه ، وبذل مجهوده فيه ، لكنّه لم يأت بشيء مبين ، يفي بتمام المدّعى كما لا يخفى على من راجع كلامه وتأمّل فيه واستقصى. (٢)

وسألني (٣) أنّه لا يخفى أنّهم عدّوه من أصول الدين لا من فروع الدين ، فحينئذ نقول: لو كان الفرق بين اصول الدين وفروعه كما ذكره كثير من العلماء أنّ الأوّل ما يستقلّ في إثباته العقل ، وإن نطق به الشرع أيضا ، مثل توحيد الله تعالى وإثبات صفاته العليا وعدله ، وأصل النبوّة والإمامة ، والمعاد الروحانيّ وغيرها ، وإن كان إثبات نبوّة نبيّ خاصّ ، وإمامة إمام مخصوص موقوفا على النص أو العصمة ، أو إظهار المعجزة ونحوها ، وأنّ الثاني ممّا لا يستقلّ بإثباته العقل ، كالصلاة والصيام والزكاة والحجّ والجهاد وأمثالها ، فعلى هذا ينبغي أن يكون يمكن إقامة الدليل العقليّ على إثبات أصل الجسمانيّ منه أيضا ، وإن كان

__________________

(١) كتاب الشفا ، الالهيات ، فصل في المعاد : ٥٤٥ ، طبع مكتبة بيدار ؛ ص ٤٢٣ ، طبع القاهرة.

(٢) الشواهد الربوبيّة : ٢٦٦ ، طبع مشهد.

(٣) عطف على : ذاكرني.

٥٠

إثبات خصوصيّاته موقوفا على الشرع ، وهم قد اعترفوا بالعجز عن إقامة الدليل على إثباته مطلقا ، وإلّا فالفرق ما ذا؟ وحينئذ فيلزم عليهم ارتكاب أحد الأمرين : إمّا القول بإدراجه في فروع الدّين ، وهو خلاف ما قرّره العلماء ، أو القول بأنّه يكفي في إدراج مطلق المعاد في اصول الدين استقلال العقل في أحد فرديه ـ أي الروحانيّ منه ـ وإن لم يستقلّ العقل في إثبات فرده الاخرى ، ـ أي الجسمانيّ منه ـ وفيه ما ترى ، فإنّ الظاهر أنّ إدراجه في اصول الدين ، إدراج لكلا فرديه فيها دون أحدهما.

وبالجملة فسواء عدّ من اصول الدين ، كما هو الأحرى والأولى ، أو لم يعدّ منها ، فهل يمكن إقامة الدليل عليه بحيث لا يعتريه شبهة ولا مراء أم لا؟

فرأيت التصدّي للجواب عن هذا السؤال ، والاستكشاف عن جليّة الحال ، والنظر في أنّه هل يمكن إقامة الدليل عليه أحرى ، مع كوني ناقص الذهن ، قاصر الفهم ، قليل القسط من الفطانة والذكاء ، ويبعد عن مثلي إدراك ما اعترف بالعجز عنه فحول الفضلاء ، وقد اشتهر بينهم أنّ الجهالة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء ، لكنيّ قد امتثلت بقول القائل : «كم ترك الأوّل للآخر» ، فراجعت نفسي ، وفكّرت فيه ، وبذلت جهدي ، واستعنت بربيّ جلّ وعلا ، واستمسكت بذيل هداية أئمة الهدى ، الذين هم العروة الوثقى ، في مراقبات تترى ، فآنست نارا من شاطئ الهدى ، فخلعت نعل علائقى وأتيت بقدم الشوق ، وادي الجدّ والطلب ، لعلّي آتي منها بقبس ، أو أجد على النّار هدى. وقلت : ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري واحلل عقدة من لساني واجعل لى وزيرا من عقلي يفقهوا قولي إنّك كنت بنا بصيرا ، فنوديت من شاطئ الواد الأيمن أن : يا طالب الحقّ أقبل ولا تخف ، إنّك قد اوتيت سؤلك ببركة الاعتصام بحبل سادة الورى ، وكنت من الآمنين لا تخاف دركا ولا تخشى ، إنّي أنا ربّك الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى ، فاعبدني واستمع لما يوحى ، إنّ السّاعة آتية أكاد اخفيها لتجزى كلّ نفس بما تسعى ، منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة اخرى ، فاقتبست بتوفيق ربّي جلّ وعلا ، قبسة من تلك النار ، بها أضاء لي وجه المقصود ، فلاح لي كالبيضاء نورا وضياء ، فجاء بحمد الله دليلا واضحا لائحا كما يروق النواظر ويضيئ ألباب أرباب الفهم والذكاء ، إلّا أنّه يعوّقني من تحريره وتهذيبه عوائق شتّى ، وموانع لا تحصى ، أعظمها أنّي قد وقعت في زمن ، قد سنحت فيه بعض

٥١

أمارات قيام الساعة والطامّة الكبرى ، إذ قد ظهرت فيه الداهية الدهياء ، وفشت فيه المحن التي هي عامّة البلوى ، تعمّ عامّة البرايا ، يشيب فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، ويكدح فيها كلّ مؤمن حتّى يلقى ربّه ويفنى ، قد جرّد الدهر على أهاليه سيف العدوان ، وأباد من كان ، وتطرّق الفساد إلى أوضاع العالم ، وانسدّ طرق معاش بني آدم ، قد اغبرّ عيشهم الأخضر ، واسودّ يومهم الأبيض ، وابيضّ فودهم الأسود ، يتمنّون الموت الأحمر ، وأشرف شمس العلم على الغروب ، وخمل أهل الكمال في زوايا الغروب ، يتّقي أهل الديانة من إظهار دينهم ، ويدين بالتقيّة كلّ الورى ، عجّل الله تعالى ظهور دولة صاحبنا ومولانا ، حتّى ينكشف به تلك البليّة العظمى.

ومع هذا فكيف في مثل هذا الزمان لمثلي من القاصرين الخاملين ، مع توزّع البال وتشتّت الحال صرف الوقت في إظهار الحقّ في هذه المطلب الأسنى ، وتحرير الدليل على هذا المقصد الأقصى ، والعمدة الوثقى ، فقعدت عنه برهة وفي العين قذى وفي الحلق شجى ، لكن لمّا كرّر ذلك البعض من الأصدقاء السؤال وألحّ وأعاد الابتهال ، ورأيت أنّ الإقدام على جواب سؤاله والصبر عليه أحجى ، إذ ربّما تصير الفتنة أشدّ وأقوى ، لا أتمكن من إظهاره أصلا ، والحال أنّ الأيّام تمضي ولا تعود ، والعمر يذهب ولا يئوب ، وتكون الحسرة أدوم ، والنّدامة أبقى ، وقد قال تعالى :

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ). (١)

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ). (٢)

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ، الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى). (٣)

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى). (٤)

شرعت مع قلّة البضاعة وفوات الفرصة وكثرة المشاغل وتوزّع البال وتشتّت الحال في تحريره وتهذيبه وتنقيحه بما تيسّر وأمكن ، امتثالا لقول القائل : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (٥) ، وابتغاء لوجه ربّي الأعلى ، وخطابي فيه لمن استمسك في العلم بأوثق الأسباب ، وجانب الاعتساف ونظر فيه بعين الإنصاف ، فإن رأى فيه خطأ أو عثرة وزللا ،

__________________

(١) الضحى : ١١.

(٢) آل عمران : ٩٢.

(٣) الليل : ١٧ ـ ١٨.

(٤) الأعلى : ٩ ـ ١٠.

(٥) من الأمثال المشهورة.

٥٢

عذرني واستغفر الله لي ، فإنّه مقيل العثرات وغافر الخطيئات ، وإن وجده مقبولا لدى الطباع الذكيّة ، أنصفني وأعانني بصالح الدعاء في محو السيّئات وتضعيف الحسنات ، والسلام على من اتّبع الهدى ، وسمّيته بمنهج الرّشاد في معرفة المعاد ، ورتّبته على مقدّمة وخاتمة وخمسة أبواب. ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب.

٥٣
٥٤

المقدّمة

أمّا المقدّمة ففي ذكر نبذ ممّا يتوقّف عليه بيان المراد ، كشرح معنى المعاد ، وتقسيمه إلى الروحاني والجسماني ، ونقل اختلاف الناس في ذلك ، وسبب اختلافهم فيه ، وتحرير ما دلّ الشرع على ثبوته وينبغي إثباته بالدليل العقلي ، وفي بعض مطالب اخر يناسب تحقيقها قبل الخوض في المقصود.

فنقول : ذكر الفاضل الكامل العارف محمّد بن عليّ بن أبي جمهور الأحساوي في كتابه المسمّى بالمجلي مرآة المنجي كلاما بهذه العبارة :

«المحقّقون من الأوّلين والآخرين على القول بإثبات المعاد ، وإنّما يختلفون في معناه ، وقد نقل عن جماعة من الحكماء الطبيعيّين إنكاره ، وكذا جالينوس أنكره لاعتقاده أنّ النفس هي المزاج ، وأنّه يفنى ، والفاني لا يعاد ، خصوصا أنّه عرض ، والأعراض بعد العدم لا يتصوّر عودها ، فإذا بطل المزاج بفناء البدن ، لا يعود.

نعم ، القائلون بالمعاد اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم : إنّه الجسماني فقط ، وهو مذهب جماعة من المتكلّمين بناء على أنّ النّفس جسم ، وآخرون قالوا : إنّه روحاني فقط وهو مذهب جماعة من الحكماء الإلهيّين ، وطائفة قالوا : إنّه جسماني وروحاني وهذا على وجهين : أحدهما أن يكون الروح مجرّدا عن المادّة ، فيعاد الجسم ، ويتعلّق به الروح ، أو يتعلّق بجسم آخر غير الأوّل ، وهو مذهب قليل من أهل الإسلام ، ذهب إليه الغزالي ، والفارابي ، وكلّ من قال بتجرّد النفس من أهل التصوّف ، والثاني أن يكون الروح جسمانيا أو روحانيا ، ويعاد الجسم الأوّل ، ويردّ فيه الروح وهو مذهب كثير من أهل الإسلام والنصارى.

٥٥

فعلم من هذا الاختلاف أنّ تحقّق الإعادة مبنيّ على تحقّق النفس ، وأنّها أيّ شيء هي ، فإنّ هذه الاختلافات إنّما نشأت من الاختلافات فيها كما عرفت ، فإنّ الطبيعيّين لمّا اعتقدوا أنّ النفس جسم ، وأحالوا إعادة المعدوم ، أحالوا المعاد مطلقا. وجالينوس لمّا قال إنّها المزاج نفاه بالكلّيّة. والمتكلّمون لمّا قالوا إنّها جوهر جسماني ، قالوا إنّه إنّما يكون بإعادة النفس على حالتها بناء على أنّها إمّا الهيكل المحسوس المشاهد ، أو أنّها أجزاء أصليّة ، كما في مذاهبهم. وأمّا الغزالي وأتباعه فلمّا قالوا بتجرّد النفس قالوا إنّها تبقى بعد فراق البدن ، فعودها ردّها إلى البدن مرّة اخرى. إمّا الأوّل بعينه ، أو إلى آخر يماثله. وباقي المسلمين ، لمّا كان مذهبهم في النفس على أنحاء متعدّدة ، فالّذي قال منهم إنّها جوهر جسماني ، أو إنّها جوهر روحاني ، قائل بأنّه لا بدّ من إعادة الجسم الأوّل ويردّ فيه الروح جمعا بين الشريعة والحكمة ، ويدّعون أنّ هذا منطوق الآيات القرآنية. والإلهيّون لمّا اعتقدوا تجرّد النّفس وبقاءها بعد فناء البدن ، ذهبوا إلى المعاد الروحاني ، ومرادهم به قطع علاقة النّفس مع البدن.

فبالجملة وقع الاتّفاق على وقوع المعاد ، وأنّه حقّ وإن اختلفوا في كيفيّة وقوعه والدليل المطلق على ثبوت المعاد الجسماني إنّه ممكن في نفسه ، والصّادق أخبر عنه ، فوجب القول به ، أمّا الأوّل ، فلأنّ الإمكان إنّما هو بالنظر إلى القابل والفاعل ، وهما حاصلان ، أمّا بالنّظر إلى الفاعل فلما مرّ من الأصلين السابقين :

أحدهما كونه قادرا على كلّ مقدور ، والثاني كونه عالما بأعيان أجزاء الأشخاص لتعلّق علمه بالجزئيات.

وأمّا الثاني ، فلاتّفاق قول الأنبياء عليهم‌السلام غير موسى عليه‌السلام ، فإنّه لم يذكر ، وما نزل في التوراة فيه شيء ، وقد وجد في كتب من جاء بعده كحزقيل وشعياء. وأمّا الإنجيل ، فالذي ذكر فيه أنّ الأخيار يصيرون كالملائكة ، فيكون لهم الحياة الأبديّة والسعادة السرمديّة ، ويمكن حمله على الروحانيّة ، أو الجسمانيّة أو عليهما ، ودلالته على الأوّل أظهر ، لتحقّق الروحانيّة للملائكة دون الجسمانيّة.

وأمّا القرآن المجيد فقد جاءت ذكره فيه في كثير من المواضع ، مثل قوله تعالى :

٥٦

(مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ). (١)

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ). (٢)

(أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً). (٣)

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا). (٤)

(كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها). (٥)

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً). (٦)

(إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ). (٧)

إلى غير ذلك ممّا جاء في هذا المعنى وهو الكثير. والقول بأنّ المراد بها المجازات الدالّة على الحقائق وهو الروحاني ، ضعيف ، لأنّها صريحة في الجسماني فحملها على المجازات ، تكذيب للأنبياء عليهم‌السلام.

فإذا عرفت ذلك ، فقد ظهر لك ممّا أوردناه من مذاهب القوم ، توقّف المعاد على مقدّمتين :

إحداهما : معرفة النفس وأنّها ما هي ، حتّى يتحقّق كيفيّة الإعادة. والثانية : أنّ المعدوم هل يعاد أم لا؟

فأمّا المقدّمة الاولى فقد وقع فيها التشاجر العظيم والاختلاف الكثير ، وخبط أهل الكلام فيها ، وتعدّدت آراؤهم تعدّدا كثيرا حتّى قيل إنّها بلغت إلى قريب من أربعين مذهبا ، وليس على واحد منها دليل قطعي ، وأشهر مذاهبهم القول بأنّها أجزاء أصليّة في البدن من أوّل العمر إلى آخره ، وجمهور الفلاسفة وجماعة متصوّفة الإسلام وجماعة من أهل الكلام قالوا بتجرّدها وانّها جوهر غير جسماني متعلّق بهذا البدن تعلّق التدبير ، لا تعلّق الحلول ، ولهم على ذلك دلائل هي بالصواب أنسب ، وبالحق أشبه ـ انتهى كلامه رحمه‌الله(٨)

ثمّ قال بعد إثبات تجرّد النفس وتحقّق حقيقتها بهذه العبارة :

«فبالجملة المعاد الجسماني وغيره يتحقّق على مذاهبهم ويصحّ إثباته ، إلّا أنّه يختلف

__________________

(١) يس : ٧٨.

(٢) القيامة : ٣ ـ ٤.

(٣) النازعات : ١١.

(٤) فصّلت : ٢١.

(٥) النساء : ٥٦.

(٦) ق : ٤٤.

(٧) العاديات : ٩.

(٨) المجلي : ٤٩١ ـ ٤٩٢ ، الطبع الحجري.

٥٧

كيفيّاته باختلاف مذاهبهم في النفس.

والقائلون بالتجرّد ، هم في الإعادة فريقان : فريق قصروه عليها وجعلوا عودها إلى العالم العلوى بعد قطع العلاقة البدنيّة وفراغها عن الاشتغال بتدبير البدن عبارة عن المعاد ، وهو مذهب جماعة كثيرة من أهل الحكمة سيأتي الكلام معهم. وفريق قالوا : لا بدّ عند القيامة الكبرى من عود الأبدان الجسمانيّة كما كانت ، فتردّ العلاقة النفسانيّة على حالها على حسب ما كانت عليه في الحالة الاولى قبل قطع العلاقة ، جميعا بين الحكمة والظواهر النقليّة ، وهو مذهب جماعة الإسلاميّين من الحكماء وأهل التصوّف والكلام. ـ انتهى كلامه رحمه‌الله(١)

وقال صدر الأفاضل مولانا صدر الدين الشيرازي رحمه‌الله في الشواهد الربوبيّة :

«الإشراق الرابع في الإشارة إلى مذاهب الناس في المعاد. إنّ من الأوهام العامية اعتقاد جماعة من الملاحدة والدهرية ، وطائفة من الطبيعيّين والأطباء ممّن لا اعتداد بهم في الفلسفة ، ولا اعتماد عليهم في العقليّات ، ولا نصيب لهم في الشريعة ، ذهبوا إلى نفي المعاد واستحالة حشر النفوس والأجساد ، زعما منهم أنّ الإنسان إذا مات فات وليس له معاد كسائر الحيوان والنبات ، وهؤلاء أرذل الناس رأيا وأدونهم منزلة.

والمنقول من جالينوس هو التوقّف في أمر المعاد لتردّده في أمر النّفس هل هو صورة المزاج فتفنى أم صورة مجرّدة فتبقى؟

ثمّ من المتشبّثين منهم بأذيال العلماء ، من ضمّ إلى إنكاره له أنّ المعدوم لا يعاد ، فيمتنع حشر الموتى.

والمتكلّمون منعوا هذا ، تارة بتجويز إعادة المعدوم ، واخرى بمنع فناء الإنسان بالحقيقة ، لأنّ حقيقة إنسانيّته بأجزائه الأصليّة ، وهي باقية إمّا متجزّية أو غير متجزّية ، ثمّ حملوا الآيات والنصوص الواردة في إثبات الحشر على أنّ المراد جمع المتفرّقات من أجزاء الإنسان التي هي حقيقته. فهؤلاء التزموا أحد أمرين مستبعدين من العقل والنقل ، والسكوت خير من الكلام ممّن لا يعلم.

واتّفق المحقّقون من الفلاسفة والمحقّون من أهل الشريعة على ثبوت المعاد ، ووقع

__________________

(١) المجلي : ٤٩٥.

٥٨

الاختلاف في كيفيّته ، فذهب جمهور المتكلّمين وعامّة الفقهاء إلى أنّه جسماني فقط ، بناء على أنّ الروح جرم لطيف سار في البدن ، وجمهور الفلاسفة على أنّه روحاني فقط ، وذهب كثير من الحكماء المتألّهين ومشايخ العرفاء في هذه الملّة إلى القول بالمعادين جميعا. أمّا بيانه بالدليل العقلي فلم أر في كلام أحد إلى الآن ، وقد مرّ البرهان العرشي على أنّ المعاد بعينه هو هذا الشخص الإنساني روحا وجسدا بحيث لو يراه أحد عند المحشر يقول : هذا فلان الذي كان في الدنيا ، فمن أنكر هذا فقد أنكر ركنا عظيما من الإيمان ، فيكون كافرا عقلا وشرعا ، ولزمه إنكار كثير من النصوص. ـ انتهى كلامه.» (١)

وقال أيضا :

«الإشراق التاسع في سبب اختلاف الناس في كيفيّة المعاد : اعلم أنّ اختلاف أصحاب الملل والديانات في هذا الأمر وكيفيّته ، إنّما هو لأجل غموض هذه المسألة العويصة ودقّتها ، وكثير من الحكماء كالشيخ الرئيس ومن في طبقته ، أحكموا علم المبادئ ، وتبلّدت أذهانهم في كيفيّة المعاد ، حتّى رضيت انفسهم بالتقليد في هذه المسألة المهمّة ، لغموضها حتّى أنّ الكتب السماويّة المحكمة متشابهة آياتها في بيان هذا المعنى ، مختلفة بحسب الجليل من النظر ، متوافقة بحسب النظر الدقيق.

ففي التوراة : إنّ أهل الجنّة يمكثون في النعيم عشرة آلاف سنة ، ثمّ يصيرون ملائكة ، وإنّ أهل النار يمكثون في الجحيم كذا أو أزيد ، ثم يصيرون شياطين. (٢)

وفي الإنجيل : إنّ الناس يحشرون ملائكة ، لا يطعمون ولا يشربون ولا ينامون ولا يتوالدون. (٣)

وفي بعض آيات القرآن : إنّ النّاس يحشرون على صفة التجرّد والفردانيّة كقوله تعالى : (كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً). (٤)

وكقوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ). (٥)

وفي بعضها على صفة التجسّم كقوله تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ). (٦)

__________________

(١) الشواهد الربوبيّة : ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

(٢) الشواهد الربوبيّة : ٢٧٩ نقلا عن التوراة.

(٣) الشواهد الربوبيّة : ٢٧٩ نقلا عن الإنجيل.

(٤) مريم : ٩٥.

(٥) الأعراف : ٢٩.

(٦) القمر : ٤٨.

٥٩

وكذلك سؤال إبراهيم الخليل عن الله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى). (١)

واستشكال عزير : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها). (٢)

وحكاية أصحاب الكهف تبيينا لهذا الأمر كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ). (٣)

فبعض هذه النصوص يدلّ على أنّ المعاد للأبدان ، وبعضها يدلّ على أنّه للأرواح ، والتحقيق أنّ الأبدان الأخرويّة مسلوب عنها كثير من لوازم هذه الأبدان ، فإنّ بدن الآخرة كظلّ لازم للروح ، أو كعكس يرى في مرآة ، كما أنّ الروح في هذا البدن كضوء واقع على جدار ، أو كصورة منقوشة في قرطاس. وقد كان شبه هذه الأخبار المنقولة عن الكتب السماويّة واردة في الأحاديث النبويّة ـ على الصادع بها وآله الصلاة والتحية ـ كما هو المشهور عن أهل الحديث والرواية. ـ انتهى.» (٤)

ثمّ نقل كلام بعض أساطين الحكمة في ذلك.

__________________

(١) البقرة : ٢٦٠.

(٢) البقرة : ٢٥٩.

(٣) الكهف : ٢١.

(٤) الشواهد الربوبيّة : ٢٧٩ ـ ٢٨٠.

٦٠