منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-108-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٨٢

هذا القائل قد ذكر الإمكان والامتناع أيضا ، وحذفهما غير مستقيم. وأمّا الثاني فلأنّ التعليل المغيّر ، ليس يشملهما بل لا يتناول إلّا الوجوب الذاتي ، ولا عبارة هنا غير ذلك ، بحيث تشملهما ، وبها يندفع الإيراد الثاني للشارح.

في الإشارة إلى دفع مناقشة المحشّي الشيرازي عن المحقّق الدواني

وأنت خبير باندفاع هذه المناقشة عن المحقّق ، بأن يقال : يمكن أن يكون المراد باقتضاء الذات الواحدة إيّاها اقتضاءها للاتّصاف بها امتناعا أو إمكانا أو وجوبا أو اقتضاءها لوجوب الاتّصاف بها أو لامتناع الاتّصاف بها أو لإمكان الاتّصاف بها. فكما يصحّ في الوجوب أن يقال : إنّ ذات الواجب يقتضي وجوب الاتّصاف بالوجود ، كذلك يصحّ في الامتناع أن يقال : إنّ ذات الممتنع يقتضي امتناع الاتّصاف به ، وفي الإمكان أن يقال : إنّ ذات الممكن يقتضي إمكان الاتّصاف به ، وهذا كما أنّ المحشّي المذكور نفسه في كلامه السابق حيث ذكر جريان الوجه الأوّل من وجهي إبطال السند في إبطال السند الأوّل ، قال : الماهيّة أمر واحد في حدّ ذاته لا يختلف إعادة وابتداءً ، فلا يختلف في اقتضاء إمكان الاتّصاف بالوجود الواحد ، فأسند اقتضاء امكان الاتّصاف بالوجود إلى الماهيّة الممكنة.

والحاصل أنّه يمكن إسناد الاقتضاء إلى الممتنع والممكن أيضا ، ولو كان على سبيل التجوّز ، وحينئذ فيكون الدليل عامّا كالدعوى لا يحتاج فيه إلى تغيير آخر ، وكذا لا يحتاج إلى تغيير الدعوى في تطبيق الدليل على المدّعى ، فافهم.

وقوله : ويمكن أن يقال : الوجوب والإمكان إذا اخذت صفة للوجود ، كانت من مقتضيات الوجود ، فلا حاجة إلى تغيير العبارة ، لأنّ الكلام في المعاني التي هي صفة الوجود ، ضرورة أنّ المانع لم يقل إنّ الذات يصير واجبا في وقت ممكنا في وقت آخر.

مناقشة اخرى مع المحقّق

حاصلها أنّ مقصود المحقّق من تغيير العبارة إنّما هو دفع الإيراد الثاني للشارح على الوجه الأوّل لإبطال السند ، ودفعه لا يحتاج إلى هذا التغيير في العبارة ، حتّى يرد عليه

٣٦١

المناقشة المتقدّمة ، بل إنّه لو ابقيت عبارة القائل بحالها لا ندفع عنه إيراد الشارح عليه من غير ورود مناقشة عليه.

وبيان الاندفاع أنّ هذه الموادّ الثلاث أي الوجوب والإمكان والامتناع إذا اخذت صفة للوجود كما هو ظاهر كلام المانع والقائل ، كانت تلك الموادّ من مقتضيات الوجود ، لكونها صفات له ، لا من مقتضيات الماهيّة ، لعدم كونها صفات لها ، بل صفات لوجودها ، فعلى هذا يصحّ إسناد الاقتضاء لها إلى الوجود ، ولو أسند الاقتضاء إلى الماهيّة أيضا يكون المراد به نظير الوصف بحال متعلّق الموصوف ، يعني أنّ اقتضاء الماهيّة لها بمعنى اقتضاء وجوداتها لها ، فحينئذ يكون ما قاله القائل من أنّ الأشياء المتوافقة في الماهيّة يجب اشتراكها في هذه الامور المستندة إلى ذواتها صحيحا. ومع صحّته يكون مقابلا لكلام المانع ومضرّا له ، فإنّ المانع وإن أسند الاقتضاء إلى الماهيّة كما زعمه الشارح ، إلّا أنّ معنى قوله هذا ينبغي أن يكون راجعا إلى إسناد الاقتضاء إلى الوجود لما ذكر ، فكما أنّه لا يجوز اختلاف اقتضاء الوجود إمكانا ووجوبا وامتناعا كما سلّمه الشارح من القائل ، كذلك لا يجوز اختلاف اقتضاء الماهيّة في ذلك سواء بسواء وإن ادّعى الشارح جوازه فحينئذ فلا حاجة إلى تغيير العبارة ، لأنّ الكلام في المعاني التي هي صفة للوجود ، وهذه الموادّ كذلك ، لا أنّها صفات للماهيّة ، ضرورة أنّ المانع أيضا في كلا التقريرين للسند ، لم يقل بكونها صفات للماهيّة ، بل قال بكونها صفات للوجود ، وهذا هو بيان مقصود المحشّي المذكور ، إلّا أنّ قوله : ضرورة أنّ المانع لم يقل إنّ الذات يصير واجبا في وقت ممكنا في وقت آخر ، الأنسب أن يقول بدله : ضرورة أنّ المانع لم يقل إنّ الذات يصير ممتنعا في وقت ممكنا في وقت آخر ، لكنّ المقصود واضح ، وهو أنّ المانع لم يقل بصيرورة الماهيّة بذاتها ممتنعة أو واجبة أو ممكنة ، بل قال بأنّ وجودها يصير ممكنا أو ممتنعا أو واجبا ، وإلّا أنّ فيما ذكره نظرا لأنّه مبنيّ على أن يكون مقصود الشارح من الإيراد ما فهمه ، وقد بيّنا فيما تقدّم مقصود الشارح ، بحيث لا يرد عليه كلام القائل ، سواء غيّر التعليل أم لم يغيّر ، وإلّا أنّ فيما ادّعاه من كون الموادّ الثلاث من مقتضيات الوجود مطلقا مناقشة ، فإنّه ربما يمكن أن يقال : إنّ المقتضي في الحقيقة هو الماهيّة لا الوجود ، وأنّه إذا نسب الاقتضاء إلى الوجود فهو بالحقيقة منسوب إلى الماهيّة نظير الوصف بحال متعلّق الموصوف ، لكن هذه المناقشة كأنّها لا تقدح فيما هو

٣٦٢

غرض المحشّي هنا ، فتدبّر.

ثمّ إنّ قول المحشّي المذكور في الحاشية التالية المعنونة بقوله : قوله فلا يكون واجب الوجود أي بالذات لاحتياجه إلى الاقتران بالزمان مثلا ـ إلى آخر ما ذكره في تلك الحاشية ـ فبيانه أنّ ما ذكره المحقّق في حسم مادّة الشبهة : «أنّ الموضوع وهو الحادث بوصف اقتران الزمان ، محتاج في ذاته إلى غيره ، فلا يكون واجب الوجود» ، معناه أنّه لا يكون واجب الوجود بالذات لاحتياجه إلى الاقتران بالزمان مثلا.

وقوله فيها : لا يقال : يلزم عدم الحاجة إلى المؤثّر الموجود وهذا كاف في لزوم المحذور» إيراد على المحقّق ، بأنّه حينئذ وإن كان فرض الوجوب الذاتي الذي هو ظاهر كلام صاحب المواقف ممتنعا لما ذكره ، لكنّه يلزم محال آخر ، وهو لزوم عدم الحاجة إلى المؤثّر الموجود.

وبعبارة اخرى لزوم الوجوب الغيري من غير أن يكون هنا أمر يكون منشأ لهذا الوجوب الغيري ، ولا يخفى أنّ فرضه حينئذ غير ممتنع ، وأنّ لزومه ظاهر ، ولعلّه كان هو مقصود صاحب المواقف في الإلزام على المانع حيث ادّعى لزوم غناء الحوادث عن المحدث.

وقوله : «لأنّ الذات مع هذا الوصف إنّما هي علّة لنفس الوجوب ، وأمّا اصل الوجود فلا بدّ من الاستناد إلى علّة موجودة ، لما تقرّر عندهم أنّ العدم لا يفيد الوجود ، وذلك كما أنّ العدم الطارئ مستند إلى عدم علّته. نعم وجوبه الذي في قوّة امتناع وجوده ثانيا مستند إلى الذات مع القيد ، فتأمّل» جواب عنه بأنّه لو كان ذلك هو مراد صاحب المواقف فهو لا يرد إلزاما على المانع ، لأنّ للمانع أن يقول : يجوز أن يكون الذات أي ذات الحادث مع هذا الوصف ، أي وصف اقتران الزمان أي زمان الوجود علّة لنفس الوجوب ، أي هذا الوجوب الغيري اللاحق ، وأمّا أصل الوجود ، فلا بدّ من الاستناد إلى علّة موجودة لما تقرّر عندهم أنّ العدم لا يفيد الوجود ، فلا يلزم عدم الحاجة إلى مؤثّر موجود ، ولا أن يكون هناك الوجوب الغيري ، من غير أن يكون شيء منشأ له حتّى يرد إلزاما على المانع.

وهذا كما أنّ المانع قال في امتناع إعادة المعدوم بجواز أن يكون العدم الطارئ الذي جعله مانعا عن عود الوجود مستندا إلى عدم علّته أي إلى عدم علّة وجود ذلك المعدوم

٣٦٣

المفروض ، وبجواز أن يكون وجوب ذلك العدم الطارئ الذي في قوّة امتناع وجود ذلك المعدوم ثانيا مستندا إلى ذات المعدوم مع قيد طريان العدم.

كلام معه أيضا

ولا يخفى أنّ ما ذكره أنّما هو مبنيّ على ما فهمه صاحب المواقف من كلام المانع ، وتبعه فيه المحقّق الدواني ، وأمّا على ما وجّهنا به كلام المانع كما فهمه الشارح منه وبيّناه أيضا فلا ورود لما ذكره صاحب المواقف على المانع بوجه ، ولا يحتاج في دفعه إلى هذه التكلّفات والتعسّفات. والله أعلم بالصواب.

وحيث أحطت خبرا بما ذكرناه ، وظهر لك اندفاع ما أورده القائل الأوّل ، وكذا صاحب المواقف عن كلام المانع ، وظهر أيضا اندفاع ما أورده المحقّق الدواني وتبعه فيه المحشّي الشيرازي عمّا ذكره الشارح في جواب إيراد صاحب المواقف ، فحريّ بنا أن ننظر في أنّ ما أورده الشارح نفسه على المانع بقوله : وأقول : يمكن تتميم هذا الدليل بأن يقال : الحكم بامتناع عود المعدوم ـ إلى آخر ما ذكره ـ هل له وجه أم لا؟

في الكلام فيما أورده الشارح القوشجي على المحقّق الطوسي

فنقول : إنّه أراد بذلك تتميم الدليل الذي نقله عن القائلين بجواز إعادة المعدوم بإبطال ما ذكره المحقّق الطوسي في جوابهم بطريق المنع ، وأسنده بأنّه يمكن أن يكون امتناع إعادة المعدوم لأمر لازم للماهيّة ، أي طريان العدم أي أراد الشارح إبطال كلا سندي منع المانع اللذين يحتمل هذا المنع في كلامه أن يكونا سندين له. والحال أنّ مجموع السندين سند مساو للمنع وبإبطالهما يبطل المنع بالكلّية ، فيبطل الجواب الذي ذكره المحقّق الطوسي. فقال : إنّ الحكم بامتناع عود المعدوم كما ذكره المصنّف في الجواب ، إذا لخّص وجرّد أطرافه يعود ، إمّا إلى قولنا : «إنّ ذاتا ما من الذوات الممكنة الوجود يمتنع وجودها المسبوق بالعدم المسبوق بالوجود» ، بأن يكون التقييد في جانب المحمول كما هو مفاد التقرير الثاني لسند المنع. وإمّا إلى قولنا : «إنّ ذاتا قد اتّصف بالعدم المسبوق بالوجود يمتنع وجودها» ، بأن يكون التقييد في جانب الموضوع كما هو مفاد التقرير الأوّل للسند. وعلى

٣٦٤

التقريرين فالموصوف بالامتناع إمّا الوجود أي الوجود المنسوب إلى تلك الماهيّة أو اتّصافها بالوجود حيث إنّ المآل واحد ، ولذلك هو اعتبر في التلخيصين ، كون الموصوف به ، هو الوجود وفي إبطالهما كونه هو اتّصاف الماهيّة بالوجود.

ثمّ قال إنّ كلا التلخيصين باطلان ، لأنّ القيد المعتبر هنا في جانب المحمول أو الموضوع إنّما هو في الحقيقة قيدان اثنان : أحدهما المسبوقيّة بالعدم والثاني المسبوقيّة بالوجود. ولا شبهة في أنّه لا مدخل لواحد منهما ولا لمجموعهما في هذا الامتناع ، أي امتناع الوجود أو امتناع اتّصاف الماهيّة بالوجود.

وبيان ذلك أمّا في التلخيص الأوّل ، فلأنّه لا شبهة في أنّ اتّصاف ذات الممكن بالوجود المطلق غير المقيّد بالقيد غير ممتنع ، فلو امتنع اتّصافها بالوجود المقيّد بهذين القيدين أي بالعود لكان هذا الامتناع ناشئا إمّا من المسبوقيّة بالعدم ، فهذا باطل أيضا ، لأنّه على هذا يلزم أن لا يتّصف ماهيّة بالحدوث حيث إنّ الحدوث وجود مسبوق بالعدم وإمّا من المسبوقية بالوجود فهذا باطل أيضا لأنّه على هذا يلزم أنّ لا يتّصف ماهيّة بالبقاء ولو كان البقاء بقاء في الجملة حيث إنّ البقاء وجود مسبوق بالوجود. وإمّا من مجموع القيدين فهذا باطل أيضا ، لأنّا نعلم بالضرورة أن لا أثر لاجتماعهما في هذا الامتناع. وحيث بطلت الاحتمالات الثلاثة ثبت أنّ اتّصاف الذات الممكنة بالوجود المقيّد بهذين القيدين أعني اتّصافها بالعود غير ممتنع وهو المطلوب.

وأمّا في التلخيص الثاني ، فلأنّه لا شبهة في أنّ ذات الممكن من حيث هي أي غير مقيّدة بقيد أو وصف لا يمتنع اتّصافها بالوجود ، فلو امتنع اتّصاف ذاته المقيّدة بالقيدين والموصوفة بهذين الوصفين بالوجود أي بالعود ، لكان هذا الامتناع ناشئا ، إمّا من المسبوقيّة بالعدم واتّصافها به ، فهذا باطل ، وإلّا لم تخرج ماهيّة من العدم إلى الوجود ، حيث إنّ الذات متّصفة بالعدم حينئذ ، وإمّا من المسبوقيّة بالوجود ، فهذا باطل أيضا ، لأنّ الوجود الأوّل إن أفادها زيادة استعداد لقبول الوجود على ما هو شأن سائر القوابل بناء على اكتساب ملكة الاتّصاف بالفعل ، فقد صار قابليّتها للوجود ثانيا أقرب وإعادتها على الفاعل أهون ، وإن لم يفدها زيادة الاستعداد فمعلوم بالضرورة أنّها لا تنقص عمّا هي عليه بالذات من قابليّة الوجود في جميع الأوقات ، لكونها ممكنة بالذات ، ومعنى الإمكان ذلك ،

٣٦٥

وإمّا من مجموع الوصفين ، فهذا أيضا باطل ، لأنّا نعلم بالضرورة أن لا أثر لاجتماعهما في هذا الامتناع. وحيث بطلت الاحتمالات الثلاثة ثبت أنّ ذات الممكن الموصوفة بالعدم المسبوق بالوجود لا يمتنع اتّصافها بالوجود أي بالعود وهو المطلوب.

وهذا الذي ذكرنا هو محصّل كلامه فيما رامه من تتميم الدليل.

ولا يخفى عليك أنّ ما ذكره في إبطال أن يكون المسبوقيّة بالعدم منشأ للامتناع المذكور في كلا التلخيصين دليل واحد ، وإن كان مختلفا بحسب العبارة ، حيث إنّ لزوم عدم اتّصاف ماهيّة بالحدوث كما ذكره في الأوّل ولزوم عدم خروج ماهيّة من العدم إلى الوجود معناهما واحد.

وأمّا ما ذكره في إبطال أن يكون المسبوقيّة بالوجود منشأ للامتناع المذكور ، فهو في التلخيص الثاني أمر آخر غير ما ذكره في التلخيص الأوّل ، حيث إنّه في الأوّل لزوم عدم اتّصاف ماهيّة بالبقاء ، وفي الثاني هو الدليل الأخير المبنيّ على شقّي الترديد ، بل هو الجواب الذي ذكره القائلون بجواز عود المعدوم عمّا أورده عليهم القائلون بامتناعه ، حيث إنّك قد عرفت ممّا نقلنا من كلام الفاضل الأحساوي فيما سلف أنّه نقل عن القائلين بجوازه دليلا عليه ، مفاده : أنّه لو استحال عود المعدوم للزم انقلابه من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي ـ إلى آخر ما نقله عنهم ـ ومآله هو الدليل الذي نقله الشارح عنهم ، وجعل كلام المصنّف إشارة إلى الجواب عنه. ثمّ نقل عن القائلين بامتناعه إيرادا عليه وجوابا عنه ، مفاده أنّ العود أي الوجود الثاني مقيّد بكونه بعد الوجود الأوّل متخلّلا بينهما عدم ، والممتنع هو هذا المقيّد والوجود الأوّل خال عن هذا القيد ، لأنّه وجود أوّل بعد عدم أوّل ، فيكون مطلقا بالنسبة إلى هذا الوجود ، وتحقّق الامتناع في المقيّد لا يستلزم تحقّقه في المطلق ، لما بينهما من المغايرة الذاتيّة ـ إلى آخر ما نقله عنهم ـ ثمّ نقل عن القائلين بجوازه جوابا عن هذا الإيراد ، وهو ما ذكره الشارح أخيرا دليلا على أنّه لا يمكن أن يكون المسبوقيّة بالوجود منشأ للامتناع المذكور.

وحينئذ نقول : لا سترة في أنّ ما ذكره الشارح أوّلا لإبطال أن يكون المسبوقيّة بالوجود إذا اعتبرت قيدا للمحمول منشأ لهذا الامتناع ، أي لزوم عدم اتّصاف ماهيّة بالبقاء ، لو تمّ لجرى في إبطال ذلك لو اعتبرت قيدا للموضوع أيضا كما في التلخيص الثاني ، وأنّ ما ذكره

٣٦٦

أخيرا لإبطال ذلك ، أي الدليل المبنيّ على الترديد ، لو تمّ لجرى في الأوّل أيضا ، فيرد عليه سؤال وجه الفرق بين الدليل في الصورتين.

ويمكن أن يقال : إنّه لعلّه إنّما خالف بينهما في الدليل إمّا تفنّنا في الدليل ، وإشارة إلى أنّ كلّا من الدليلين يجري في كلّ من الصورتين. وإمّا لأجل أنّه رأى أنّ الدليل الأوّل إنّما يجري في الوجود المسبوق بالوجود الذي يكون المسبوقيّة فيه بلا واسطة ، أي لا يتخلّل بينهما عدم ، كما في صورة البقاء ، ولا يجري في الوجود المسبوق بالوجود الذي يكون المسبوقيّة فيه بالواسطة وتخلّل بينهما عدم ، كما فيما نحن بصدده ، أي العود ، فحيث إنّه تفطّن لذلك ، ذكر فيه في إبطال التلخيص الثاني ما يجري في صورة تخلّل العدم أيضا ، وهو الدليل الذي ذكره بقوله : لأنّ الوجود الأوّل ـ إلى آخره ـ وأشار بذلك إلى أنّه يجري في إبطال التلخيص الأوّل أيضا ، فأشار به إلى أنّ المسبوقيّة بالوجود مطلقا لا يمكن أن تكون منشأ لهذا الامتناع. أمّا المسبوقيّة به بلا واسطة سواء كانت قيدا للموضوع أو المحمول ، فلأنّه يلزم أن لا يتّصف ماهيّة بالبقاء. وأمّا المسبوقيّة بواسطة ، أي مع تخلّل العدم ، سواء كانت أيضا قيدا للموضوع أو المحمول ، فللدليل الذي ذكره أخيرا.

بل ربما يمكن أن يقال : إنّه أشار أيضا به إلى أنّ القيد الذي اعتبرناه قيدا للمحمول في التلخيص الأوّل ، وقيدا للموضوع في التلخيص الثاني ، لو اعتبر قيدين اثنين للمحمول أو الموضوع كما اعتبرناه ، فظاهر أنّه لا يمكن أن يكون منشأ للامتناع المذكور ، لما ذكرنا من الوجه في ابطال كون كلّ من المسبوقيّة بالعدم والمسبوقيّة بالوجود أو مجموعهما منشأ له. وكذا لو اعتبر قيدا واحدا أي أن يكون المسبوقيّة بالعدم قيدا للمحمول أو الموضوع ، والمسبوقيّة بالوجود قيدا للعدم كما هو المحتمل ، فإنّه لا يكون أيضا منشأ له ، لما ذكرنا من الدليل الأخير ، فسواء اعتبر ذلك القيد قيدين اثنين أم قيدا واحدا ، فهو لا يكون منشأ لهذا الامتناع.

ولا يخفى عليك أنّ الإشارة الثانية ، وإن كانت ممّا يمكن فهمها من كلامه بتكلّف وعناية ، إلّا أنّ الإشارة الأخيرة ممّا يأبى عنها كلامه ، فإنّ صريح كلامه في إبطال التلخيصين أنّه جعل القيد قيدين اثنين لا واحدا ، ومع ذلك فلا يخفى أنّ في كلامه أنظارا وأبحاثا.

٣٦٧

في بيان ما يرد على الشارح من الأنظار

منها ما أشار إليه المحشّي الشيرازي ، وبيانه أنّ ما ادّعى الشارح من كون القيد هنا قيدين اثنين للمحمول أو الموضوع خلاف ما ادّعاه المانع ، فإنّ للمانع أن يقول : إنّا لم نجعله قيدين اثنين للمحمول أو الموضوع ، بل جعلناه قيدا واحدا لما قيّد به كما هو ظاهر العبارة في كلا تقريري سند المنع في كلامنا. وكذا هو ظاهر عبارة القائلين بامتناع العود كما نقله الفاضل الأحساوي عنهم. وكذا هو صريح معنى الإعادة التي ادّعينا امتناعها أي جعلنا المسبوقيّة بالعدم قيدا للمحمول أو الموضوع والمسبوقيّة بالوجود قيدا للعدم. وعلى تقدير عدم ظهور العبارة في ذلك وعدم صراحة الإعادة في ذلك أيضا ، فلا يخفى أنّه يمكن أن يقال بوحدة القيد هنا على النحو المذكور في مقام المنع ، كما هو منصب المانع ، فيندفع ما ذكره الشارح في إبطال كون كلّ من القيدين منشأ للامتناع في إبطال التلخيص الأوّل ، وفي إبطال كون المسبوقيّة بالعدم منشأ له في ابطال التلخيص الثاني ، أمّا لزوم كون الممكن غير متّصف بالبقاء ، فلأنّ البقاء ليس مسبوقا بالعدم المسبوق بالوجود الذي كلامنا فيه ، بل إنّما هو مسبوق بالوجود خاصّة بلا واسطة. وأمّا لزوم عدم اتّصاف ماهيّة بالحدوث ، وكذا لزوم عدم خروج ماهيّة من العدم إلى الوجود ، فلأنّ الحدوث أو الخروج من العدم ليسا مسبوقين بالعدم المسبوق بالوجود ، بل إنّما هما مسبوقان بالعدم السابق على الوجود وحده.

ومنه يظهر أنّ اكتفاء المحشّي الشيرازي باندفاع الأوّل غير جيّد ، فإنّه يندفع بذلك الثاني أيضا ، بل جميع ما ذكره الشارح في تتميم الدليل ، حيث إنّ كلّه مبنيّ على جعل القيد ، قيدين اثنين وقد عرفت بطلانه.

نعم لا يندفع بذلك ما ذكره من الدليل أخيرا ، لو اجرى على تقدير وحدة القيد ، وسيأتي بيان وجه اندفاعه أيضا.

ومنها ما أشار إليه المحقّق الدواني ، وكأنّه على سبيل التنزّل. وبيانه أنّه على تقدير تسليم كون القيد هنا قيدين اثنين لا قيدا واحدا ، فما ذكره الشارح في إبطال كلّ من التلخيصين من قوله : ونعلم بالضرورة أن لا أثر لاجتماعهما في هذا الامتناع. ومعلوم بالضرورة أيضا أن لا أثر لاجتماعهما في هذا الامتناع ممنوع ، بل هو أوّل المسألة ، وكيف

٣٦٨

تسمع دعوى الضرورة في مثل هذا المقام مع مخالفة الجماهير من الأعلام.

وحيث ذكرنا أنّه يمكن أن يكون هذا الكلام من المحقّق الدواني على سبيل التنزّل ، فلا يرد عليه ما ذكره المحشّي الشيرازي : من أنّه اقتفى أثر الشارح في جعل القيدين قيدا للوجود ـ إلى آخره ـ فتبصّر.

وأيضا يرد على الشارح على تقدير جعل القيد قيدين اثنين كما فعله ، ما أشار إليه ذلك المحقّق أيضا وهو أنّه يمكن إجراء نظير ما ذكره في تتميم الدليل في استلزام أزليّة الإمكان إمكان الأزليّة ، الذي نفاه الشارح فيما تقدّم منه في التمهيد. فما ذكره في التتميم مخالف لما ذكره في التمهيد ، بل هو ينتقض به. وبيان الإجزاء أنّه يمكن أن يقال : إنّ اتّصاف ذات الممكن بالوجود المطلق ، غير ممتنع ، فلو امتنع اتّصافه بالوجود المقيّد بالدوام ، لكان هذا الامتناع ناشئا من هذا القيد أي قيد الدوام الذي جعل قيدا آخر للممكن ، لكنّه ليس منشأ للامتناع وإلّا لم يتّصف ممكن بالدوام. ومعناه كما ذكره المحشّي الشيرازي : وإلا لم يتّصف ممكن بالدوام المطلق المتناول لدوام الوجود ودوام العدم المتحقّق في ضمن دوام العدم ، وهذا باطل ، لأنّ اتّصاف ممكن ما بدوام العدم ممّا لا يمكن إنكاره ، بل هو ممّا لم يخالف فيه أحد ، وإن كان اتّصافه بدوام الوجود مختلفا فيه بين القائلين بقدم العالم والقائلين بحدوثه ، متحقّقا عند القائلين بقدمه. هذا مع قطع النظر عن أنّ من قال بالصفات الموجودة الزائدة على ذاته تعالى قال بتحقّق اتّصاف الممكن بدوام الوجود.

فإن قلت : للشارح أن يقول في دفع هذا الإجراء والنقض عنه : إنّا حيث قلنا بامتناع اتّصاف ذات الممكن بالوجود المقيّد بالدوام ، وجعلنا الامتناع ناشئا من هذا القيد فاللازم علينا أن لا يتّصف ممكن بدوام الوجود ، وهو حقّ ، نلتزمه ، فإن فرض اتّصافه بدوام الوجود إنّما يصحّ عند من قال بقدم العالم أو بالصفات الزائدة ، وكلّ من المذهبين باطل ، كما تقرّر في مقرّه ، وليس يلزم علينا أن لا يتّصف ممكن بالدوام المطلق المتحقّق في ضمن دوام العدم حتّى يكون باطلا.

قلت : فعلى هذا فيجعل الشارح القيد قيدا واحدا ، أي يجعل الوجود قيدا ووصفا للممكن ، ويجعل الدوام قيدا للقيد الأوّل أي الوجود ، فليكن الحال فيما ذكره في التتميم

٣٦٩

كذلك ، فلم جعله فيه قيدين اثنين ، مع كونه خلاف ظاهر كلام المانع ، بل خلاف صريح كلامه.

فحاصل اعتراض المحقّق على الشارح أنّه إن اعتبر القيد قيدين اثنين ، كما ذكره في التتميم ، فيرد عليه أنّه يمكن إجراء نظير ذلك في استلزام أزليّة الإمكان إمكان الأزليّة ، وإن اعتبره قيدا واحدا حتّى يندفع عنه هذا الإجراء ، فليكن الحال فيما ذكره في التتميم كذلك ، وبه يندفع ما ذكره : فالفرق بجعل القيد قيدين اثنين وجعله قيدا واحدا هنا تحكّم.

ومنه يظهر أنّ المحقّق الدواني تفطّن لإمكان جعل القيد قيدا واحدا ، وأنّه به يندفع ما ذكره الشارح في التتميم ، وأن ما أورده عليه على تقدير جعل القيد قيدين اثنين إنّما على سبيل التنزّل والتسليم كما ذكرنا ، وإن كان أيضا بعض إيراده على مذهب بعض ، فتدبّر.

ومنها ما أورده المحقّق الدواني على قوله : لأنّ الوجود الأوّل إن أفادها زيادة استعداد ـ إلى آخره ـ ، وحاصله امتناع فرض المقدّم في الشرطيّة الاولى ، ولذلك امتنع لزوم التالى. ومنع حقّية التالي في الشرطيّة الثانيّة. بيان الأوّل ، أنّه من البيّن أن الشيء كالوجود الأوّل إذا حصل بالفعل كما هو المفروض ، برئت المادّة القابلة له كالماهيّة من جميع مراتب استعداده ، فلا يبقى استعدادها له بوجه أصلا فضلا عن أن يكون الوجود الأوّل مفيدا لزيادة استعدادها له ، إذ الاستعداد والفعليّة متنافيان ، وما ليس في المادة استعداده أصلا لا يمكن حدوثه مطلقا ، فضلا عن أن يكون قابليّتها للوجود أقرب وإعادتها على الفاعل أهون. وبالجملة فمع عدم بقاء استعداد له بوجه كيف يكون قابليّتها للوجود أقرب. وهذا هو بيان إيراده في الشرطيّة الاولى. وقد اعترض عليه المحشّي الشيرازي وأجاب عنه.

وحاصل الاعتراض أنّ للشارح أن يقول : إنّما برئت المادّة من جميع مراتب استعداد الوجود المبتدأ الأوّل الحاصل بالفعل ، دون الوجود الثاني المعاد ، فإنّه يجوز أن يبقى استعدادها له. وهذا معنى قوله : فقد صارت قابليّتها للوجود ثانيا أقرب ـ إلى آخره ـ.

٣٧٠

وحاصل الجواب أنّ الشارح لا يمكنه القول بذلك ، لأنّ كلامه في هذا الدليل إنّما هو في العبارة الاولى في تقرير السند التي هي العبارة الثانية في التلخيص ، ولا يخفى أنّ في تلك العبارة قد اعتبر التقييد والتخصيص في جانب الموضوع ، وترك المحمول الذي هو الوجود على صرافة الإطلاق. وحيث كان الوجود مطلقا فلا يكون المأخوذ هنا وجود أوّل وثان ، حتّى يمكن أن يقال إنّ المادّة وإن برئت من استعداد الوجود الأوّل ، لكن استعدادها للوجود الثاني باق ، بل المعتبر هنا الوجود المطلق على إطلاقه ، وحيث كان المفروض براءة المادّة عن استعداده مطلقا ، فكيف يكون استعدادها له مرّة اخرى باقيا.

وأنت خبير بأنّ هذا الجواب لا يحسم مادّة الشبهة ، فإنّ الشارح لو أجرى هذا الدليل في العبارة الاولى في التلخيص التي هي العبارة الثانية في تقرير السند ، حيث إنّ ظاهره إمكان ذلك الإجراء ، لورد عليه هذا الاعتراض ولم يصحّ هذا الجواب ، فإنّه من البيّن أنّ التقييد والتخصيص فيها قد اعتبر في جانب المحمول أي الوجود وترك الموضوع على صرافة الإطلاق. اللهم إلّا أن يقال : لعلّ الشارح لا يجري ذلك ثمّة والجواب الحاسم لمادّة الشبهة أن يقال : إنّ الوجود الثاني إن كان هو الوجود الأوّل بعينه فقد فرض براءة المادّة من جميع مراتب استعداده ، فكيف يكون استعداده باقيا وإن كان غيره فعلى تقدير بقاء استعدادها له وحصوله ثانيا بذلك الاستعداد ، لم يكن هو الوجود الأوّل بعينه ولا الذات ، هي الذات الاولى. إذ قد عرفت أنّ اختلاف الوجود يستلزم اختلاف الذات ، فلم يكن هنا عود معدوم كما هو المفروض ؛ هذا خلف.

وأيضا على تقدير الإغماض عن ذلك ، فما ذكره الشارح من «إفادة الوجود الأوّل زيادة استعداد للثاني ، وكون قابليّة المادّة للوجود الثاني أقرب ، وإعادتها على الفاعل أهون» ممنوع ، إذ اللازم ممّا ذكر إمكان بقاء أصل الاستعداد له ، لا زيادته.

فإن قلت : لعلّ من يقول بجواز عود المعدوم بعينه ، يقول : بجواز عود جميع مراتب استعداده بعد براءة المادّة عنها أيضا ، وحينئذ يمكن أن يكون الوجود الثاني هو الأوّل بعينه ، وأن يعود ويحصل بعود جميع مراتب استعداده ، وأن يكون الوجود الأوّل أفاد

٣٧١

المادّة القابلة زيادة استعداد لقبول الوجود ، على ما هو شأن سائر القوابل ، بناء على اكتساب ملكة الاتّصاف بالفعل. حيث إنّ المقبول إذا حصل للقابل مرّة ، يصير القابل أقبل له ، واتّصافه به أسهل ، فإذا اتّصف مرّة اخرى ، صار أشدّ قبولا له ، حتّى يصير ملكة ، وهذا ظاهر ، وأن يصير قابليّتها للوجود ثانيا أقرب وإعادتها على الفاعل أهون.

قلت : فعلى هذا يجوز أن يعود جميع الصفات والخواصّ والحالات الحاصلة مع الوجود الأوّل ثانيا ، حتّى الزمان ، وإن لم نقل بكونه مشخّصا فيعود حينئذ جميع المفاسد التي ذكرت سابقا على تقدير عود الزمان ؛ فتذكّر.

وأيضا القابل إنّما يزداد في الاستعداد بتكرّر القبول ، إذا كانت الهويّة القابلة باقية بعد عدم المقبول الأوّل. وأمّا إذا انتفت الهويّة بعد المقبول الأوّل ، حيث إنّ المفروض هنا انتفاء الهويّة أي ذات الممكن في الخارج بعد ما وجد أوّلا أو انتفت بانتفاء المقبول ، حيث إنّك قد عرفت أنّ اختلاف الوجود يستلزم اختلاف الذات ، وأنّه بانتفائه ينتفي الذات. فلا يتحقّق حينئذ هنا أصل استعداد فضلا عن زيادة استعداد ، فإنّ الاستعداد لكونه أمرا وجوديّا يفتقر إلى محلّ يقوم به ، وإذ ليس فليس. نعم ربما يمكن تصحيح ما ذكره على مذهب المعتزلة القائلة بثبوت المعدومات وهذا المذهب مع كونه باطلا في نفسه كما تقرّر في موضعه لم يذهب هو إليه.

وأمّا بيان الثاني ـ أي بيان منع التالي في الشرطيّة الثانية ـ ، أنّه على تقدير عدم إفادة الوجود الأوّل زيادة استعداد للثاني كيف علم بالضرورة أنّ الماهيّة لا تنقص حينئذ أصلا عمّا هي عليه بالذات من قابليّة الوجود في جميع الأوقات. وهل النزاع إلّا فيه ، حيث إنّ المانع لم يدّع إلّا أنّ طريان العدم يجوز أن يكون مانعا عن قبول الماهيّة للوجود ثانيا يعني أنّه يمكن أن يمتنع اتّصافها بالوجود المسبوق بالعدم وإن لم يمتنع اتّصافها بالوجود المطلق غير المقيّد بهذا القيد ، أو أنّه يمكن أن يمتنع اتّصاف الماهيّة الموصوفة بطريان العدم عليها بالوجود مطلقا ، وإن لم يمتنع اتّصاف الماهيّة غير الموصوفة بهذا الوصف به.

والحاصل أنّ ذلك محلّ النزاع ، فكيف يدّعي الضرورة فيه؟!

وأيضا إن أراد بقابليّة الوجود في جميع الأوقات معنى يكون فيه جميع الأوقات ظرفا

٣٧٢

للوجود ، فهذا وإن كان ينفعه هنا لكنّه باطل في نفسه ، كما أبطله هو نفسه في التمهيد ، وإن أراد به معنى يكون فيه ذلك ظرفا للقابليّة ، فهو على هذا يكون ظرفا للوجود في الجملة كما تبيّن فيما سبق ، وهذا وإن لم يكن باطلا ، لكنّه ممّا لا ينفعه هنا أصلا إذ قابليّة الماهيّة في جميع الأوقات للوجود في الجملة لا تستلزم كونها قابلة بعد طريان العدم عليها للوجود.

وهذا التفصيل هو مقصود المحشّي الشيرازي في توجيه كلام المحقّق.

ثمّ إنّه بما ذكر يتلخّص أنّ الوجود الأوّل بعد طريان العدم عليه كما أنّه لم يفد زيادة استعداد للثاني ، يمكن أن يكون مانعا أيضا عن الثاني ، فتدبّر.

٣٧٣

[بيان ضعف احتجاج القائلين بجواز إعادة المعدوم

على الجواز بالآيات والروايات]

ثمّ إنّه بما ذكرناه هنا مع ما أسلفناه فيما تقدّم يظهر ضعف احتجاج القائلين بجواز إعادة المعدوم على الجواز بالآية والحديث ، كقوله تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١)

وقوله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ). (٢)

وقوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ). (٣)

وأمثال ذلك من الآيات

وكقول عليّ عليه‌السلام : «عجبت لمن أنكر النشأة الاخرى وهو يرى النشأة الاولى». (٤)

وأمثاله من الأخبار ، كما وقع لبعض القائلين بالجواز.

أمّا الاحتجاج بالآية الاولى ، فلأنّ الاحتجاج بها عليه ، إنّما هو مبنيّ على أن يكون معنى الأهونيّة في الآية ، هو ما ادّعاه الشارح المذكور تبعا للقائلين بجواز إعادة المعدوم ، وقد عرفت عدم صحّة هذا المعنى ، ومع ذلك فالآية غير صريحة ولا ظاهرة في الأهونيّة بهذا المعنى حتّى يجب تصحيحها ، بل يمكن حملها على معنى آخر لا يكون مؤيّدا للقول بجواز الإعادة ، ولا يكون منافيا أيضا للقول بامتناعها ، وهو حملها ـ والله أعلم ـ على أنّه إذا جاز بدء الخلق وإنشاؤه ابتداءً من غير مادّة وعن لا شيء وإخراجه عن كتم العدم ،

__________________

(١) الروم : ٢٧.

(٢) يس : ٧٩.

(٣) الأعراف : ٢٩.

(٤) نهج البلاغة ، الكلمة ١٢٦ من قصار كلمات أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٣٧٤

فإعادته بعد فنائه وهلاكه ، أى جمع الأجزاء المتفرّقة من الأجسام مطلقا بعد تفرّقها مع بقاء موادّها ، بل بقاء أجزائها الأصليّة ، كما دلّ الدليل على بقائها ، وكذا إعادة النفوس والأرواح التي هي باقية غير فانية فيما له نفس مجرّد كما دلّ الدليل على بقائها أيضا إلى تلك الاجسام ذوات النفوس بعد قطع علاقتها عنها تكون أهون عليه ، حيث إنّ الجمع بعد التفرّق ، وكذا إعادة ما هو باق إلى ما كان متعلّقا به وزال تعلّقه عنه أهون من الإنشاء ابتداءً ومن الإخراج من كتم العدم ، لا الأهونيّة بحسب الحقيقة حتّى يرد أنّ قدرة القادر على الإطلاق ـ تعالى شأنه ـ لا يختلف نسبتها إلى مقدور دون مقدور ، بل هي بالنسبة إلى جميع الممكنات على السواء ، بل أهونيّة بحسب ما يراه القادرون غيره تعالى في مقدوراتهم وأفعالهم.

والحاصل أنّ الأهونيّة ينبغي أن تكون محمولة على التمثيل والمجاز ، وكأنّ قوله تعالى : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) (١) يمكن أن يكون إشارة إليه ، وإن كان قد فسّره بعض المفسّرين بأنّ له الوصف الأعلى.

وأمّا الاحتجاج بالآية الثانية ، فلأنّ قوله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢) لا دلالة فيه على أنّ الإحياء مثل الإنشاء في الكيفيّة وأنّه كما كان الإنشاء إخراجا من كتم العدم ، كذلك الإحياء ، حتّى يكون دليلا على إعادة المعدوم ، سواء قيل بكون الإنشاء مفيدا زيادة استعداد للإحياء في تلك المادّة القابلة أم لم يقل ، بل إنّما تدلّ الآية على أنّ الذي أنشأها أوّل مرّة يحييها بعد ذلك ، وإن كانت الكيفيّة مختلفة على ما ذكرنا. ولعلّ قوله تعالى في صدر الآية : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) إشارة إلى الاختلاف في الكيفيّة ، لأنّ العظام إذا كانت رميما لا تنعدم بالمرّة ، بل من وجه.

وأمّا الاحتجاج بالآية الثالثة فبمثل ما تقدّم ، لأنّ قوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٣) لا دلالة فيه على أنّ التشبيه في ذلك مع استواء الكيفيّة ، بل يمكن أن يكون التشبيه في أصل الفعل ، وإن كانت الكيفيّة مختلفة أيضا كما ذكرنا.

وأمّا الاحتجاج بالحديث فبمثل ما تقدّم أيضا لأنّه يمكن أن يكون معناه : عجبت لمن

__________________

(١) الروم : ٢٧.

(٢) يس : ٧٩.

(٣) الأعراف : ٢٩.

٣٧٥

أنكر النشأة الاخرى وأنكر العود ، والحال أنّه يرى النشأة الاولى ، أي أنّه حيث رأى النّشأة الاولى ، وعلم أنّه تعالى أوجد الأشياء عن لا شيء ، فلم لم يعلم أنّه يقدر أن يوجد النشأة الاخرى مع كونه أهون بالنظر إلى ما يراه القادرون ، أي أن يجمع متفرّقات الأجسام الباقية موادّها وأجزاؤها الأصليّة وأن يعيد النفوس الباقية أيضا فيما له نفوس مجرّدة إلى تلك المجتمعات من الأجسام ، بعد قطع تعلّقها عنها ، والله تعالى وأولو العلم أعلم.

٣٧٦

في تضعيف الوجه الإقناعي الذي ذكره الشارح القوشجي

على جواز الإعادة وكذا في تضعيف الوجه الذي ذكره المحقّق الدواني

على امتناع الإعادة

وحيث عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الوجه الإقناعيّ الذي ذكره الشارح القوشجي على جواز الإعادة ضعيف أيضا ، يرد عليه ما أورده المحقّق الدواني عليه ، كما لا يخفى على المتأمّل.

مثل أنّ الوجه الآخر الذي ذكره ذلك المحقّق نفسه على امتناع الإعادة ضعيف أيضا. وبيانه أنّ ذلك الوجه إنّما يصحّ على مذهب من يقول بأنّ وجود الحادث يتوقّف على أسباب غير متناهية ، وهي الحوادث المتسلسلة ، من غير بداية كالحكماء القائلين بقدم العالم ، وكذا بامتناع عود المعدوم ، وأمّا على مذهب من لم يقل بالتوقّف المذكور كالمتكلّمين القائلين بحدوث العالم ، سواء كانوا قائلين بجواز العود كالأكثرين منهم ، أو بامتناعه كبعض المعتزلة منهم ، فلا يصحّ ذلك لأنّ للقائلين بجوازه أن يقولوا : إنّا لم نقل بتوقّف الوجود الابتدائي على أسباب غير متناهية متسلسلة ، حتّى يلزم علينا على تقدير العود توقّفه على تلك الأسباب المتسلسلة غير المتناهيّة ، حتّى يكون باطلا.

وأيضا على تقدير أن يكون هناك قائل بجواز العود يقول بالتوقّف على تلك الأسباب المتسلسلة ، فله أن يقول : إذا جاز العود أي عود المعدوم ، فجاز أيضا عود أسبابه وإن كانت غير متناهية متسلسلة. ولا نسلّم بطلانه ، لأنّه كما جاز وجود تلك الأسباب ابتداءً ، جاز وجودها حين العود أيضا فما وجه الفرق؟ فإن كان وجه الفرق هو مجرّد جواز وجودها الابتدائي وعدم جواز وجودها الثانوي ، فهو أوّل المسألة ، وإن كان وجهه أنّها حين الوجود

٣٧٧

الابتدائي كانت حاصلة في أزمنة غير متناهية ، ولا امتناع فيه لكون العالم قديما ، ولا مانع من وجود أزمنة غير متناهية فيما مضى يتحقّق فيها أسباب غير متناهية متسلسلة ، وأمّا هي حين العود لو عادت فتتوقّف على عود تلك الأزمنة غير المتناهية أيضا حتّى يتحقّق هي فيها ، وهو محال ، لأنّا نعلم بالضرورة أن ليس تعود في حال العود تلك الأزمنة غير المتناهية ، وأن ليس هنا أزمنة غير متناهية ، بل ليس إلّا زمان واحد عرفي أو أزمنة متناهية ، فذلك الوجه يرجع إلى أنّ عود الزمان محال ، فعلى هذا فلا يكون هذا الوجه وجها آخر مغايرا لما تقدّم إلّا في أنّ ما تقدّم كان مبنيّا على امتناع عود الزمان مطلقا ، وهذا مبنيّ على أنّه يمتنع عود الزمان غير المتناهي ، فتدبّر.

وأمّا ما ذكره ذلك المحقّق في منع لزوم إعادة جميع الأسباب ، بقوله : لجواز أن يعود بأسباب اخر متناهية فقط ، فهو إن كان مبنيّا على هذا المذهب القائل بتوقّف وجود الحادث على أسباب غير متناهيّة ، كما هو ظاهر سياق كلامه ، فيرد عليه أنّه على هذا المذهب ، كيف يمكن أن يقال بتوقّف وجود الحادث على أسباب متناهية ، مع كونه مخالفا لهذا المذهب ، وكأنّ هذا الإيراد هو منظور المحشّي الشيرازي ، حيث قال : إنّ السند ليس بشيء ، لما تقرّر عندهم أنّ العلّة التامّة للحادث لا بدّ أن تشتمل على امور غير متناهية متعاقبة وإلّا يلزم التخلّف عن العلّة التامّة ؛ هذا خلف. وإن كان مبنيّا على أنّ هذا الوجه إنّما يصحّ على مذهب من يقول بالتوقّف على امور غير متناهيّة ، وأمّا على مذهب من لا يقول به فلا يصحّ ، لأنّ له أن يقول : يجوز أن يعود بأسباب اخر متناهية فقط ، ولا امتناع فيه ، فله وجه. ويرجع إلى ما ذكرنا ، إلّا أنّ سياق كلامه كأنّه يأبى عنه.

وأمّا ما ذكره بقوله : «أو بها منضمة إلى تلك الأسباب السابقة المتسلسلة» ، فيرد عليه أنّ تلك الأسباب السابقة المتسلسلة حتّى السبب الأخير القريب لوجود الحادث لمّا فرضت معدومة بأجمعها ، لم يكن لها دخل في وجود ذلك ثانيا ، إذ ليست هي موجودة حينه ، إلّا أن يقال بجواز عودها ، وهو باطل كما ذكره ، فبقي أن يكون السبب في وجودها ثانيا هو تلك الأسباب المتناهية فقط ، وقد عرفت حاله ، فيظهر منه أنّ انضمام الثانية إلى الاولى لا يجدي نفعا ، فتدبّر.

وحيث تحقّقت ضعف حجج القائلين بجواز إعادة المعدوم ، فاعلم أنّ ما نقلناه عن

٣٧٨

الفاضل الأحساوي ، حيث ذكر أنّه حقّق آخرون هذه الدعوى ، فقالوا : إنّ المعدوم لا يعاد مع جميع عوارضه ، فلعلّ أحدا لا يخالفه ، فإنّ بعض من جوّز إعادته ذهب إلى أنّ بعض العوارض لا مدخل له في هويّة الشخص كالقدر المعيّن والوقت المعيّن والوضع المعيّن وأمثال هذه. وقد صرّحوا بأنّ الشخص بعد البعث يكون على وصف آخر ، فيرتفع النزاع من البين ، وصحّ دعواهم تجويز العود ، مع بعض العوارض ودعوى منعه لأنّ المراد بجميع العوارض.

ثمّ ذكر أنّ هذا صلح بين الفريقين ، ورفع للنزاع الواقع بين القوم في منع إعادة المعدوم وجوازه ، فإنّ القائل بمنعه إنّما منعه على تقدير أخذ جميع العوارض والمشخّصات معه ، ومن المعلوم أنّ إعادته على هذا النوع من الإعادة ممتنع ، والقائل بجوازه إنّما جوّزه على تقدير أخذه من حيث الهويّة الذاتيّة وإن اختلفت العوارض ، فيرتفع النزاع من البين وهو ظاهر ، فإنّ من منع إعادة المعدوم مطلقا يكون مخالفا لمقتضى البديهة ، وكذلك من جوّزه بجميع أحواله وعوارضه ، إذ العقل الصريح يمنعه ، لاستحالة إعادة الأعراض والصفات والعوارض اللاحقة الاعتباريّة ، بل والصفات الحقيقيّة ، فالنزاع بين الفريقين حينئذ لا طائل تحته ، لأنّه نزاع لا محصول له.

كأنّ فيه نظرا وتأمّلا ، لأنّ هذا الصلح المبنيّ على هذا التحقيق الذي ملخّصه أنّ مراد القائلين بامتناع العود ، امتناع عود المعدوم مع جميع عوارضه مشخّصة كانت أم غير مشخّصة ، وأنّ مراد القائلين بجوازه ، جواز عوده مع بعض العوارض ، أي العوارض المشخّصة ، إنّما يصحّ إذا تراضى الخصمان به ، وكان كلامهم ممّا لا يأبى عن الحمل عليه ، وكان على تقدير الحمل لا يرد عليه محذور ، والظاهر أنّه ليس كذلك فإنّه لا سترة في أنّ مراد القائلين بامتناعه ، امتناع عود المعدوم بعينه كما هو المصرّح به فيما نقلنا من كلام المحقّق الطوسي وغيره. سواء كان كلامهم في امتناع عود المعدوم بالمرّة بعينه أو في امتناع عود المعدوم من وجه من ذلك الوجه الذي عدم بعينه.

ولا سترة أيضا في أنّ معنى امتناع عود المعدوم بعينه ، امتناع عوده بشخصه وبجميع عوارضه المشخّصة فقط ، لا بجميع عوارضه مطلقا ولو كانت غير مشخّصة ، التي قد تتبدّل وتتغيّر مع بقاء الشخص بحاله بعينه كالكمّ والوضع وأمثالهما ، وأمّا أخذهم العوارض

٣٧٩

غير المشخّصة أيضا فهو إنّما كان في الدليل على مدّعاهم ، لا في أصل الدعوى ، كما أشرنا إليه في كلام الشيخ في الشفاء والتعليقات : من أنّ غرضهم أنّه لو جاز إعادة المعدوم بعينه ومع مشخّصاته ، لجاز عوده مع جميع حالاته وصفاته وأعراضه ولو كانت غير مشخّصة أيضا ، إذ لا فرق في ذلك بين العوارض المشخّصة وغير المشخّصة ، وأنّه حينئذ يلزم المحال كما مرّ بيانه.

وكيف يمكن لهم أخذ العوارض غير المشخّصة في الدعوى ، والحال أنّه على تقدير أخذهم ذلك ، وكون مرادهم أنّه لا يجوز عود المعدوم بجميع عوارضه المشخّصة وغير المشخّصة ، إن كان مرادهم كما هو مبنى هذا التحقيق ، أنّ العود بجميع العوارض مطلقا محال ، وأمّا عوده بجميع عوارضه المشخّصة فقط فليس بمحال ، لورد عليهم أنفسهم ما أوردوه على تقدير جواز عوده بجميع المشخّصات من المحالات المتقدّمة ذكرها ، وهل هذا إلّا تناقض؟

ثمّ إنّه حيث ظهر أن مدّعى القائلين بامتناع العود ، امتناع عود المعدوم بجميع عوارضه المشخّصة ، فيكون مدّعى القائلين بجوازه كما ذكره في التحقيق المذكور أي جواز عوده بجميع عوارضه المشخّصة ، مقابلا لمدّعى القائلين بالامتناع ، ويكون النزاع بين الفريقين معنويّا لا لفظيّا لا طائل تحته كما ذكره.

وحيث دلّ دليل القائلين بالامتناع على بطلان ذلك ، يكون ما ادّعاه المجوّزون باطلا. والحاصل أنّه إن كان مراد المجوّزين ما ذكره ، لورد عليهم المحال ، كما أنّه لو كان مرادهم أعمّ من ذلك أي جواز عود المعدوم بجميع عوارضه مشخّصة كانت أم غير مشخّصة ورد عليهم أشنع المحال. وعلى كلا التقديرين ، فيكون نزاعهم مع الأوّلين في ذلك معنويّا لا لفظيّا ، فتدبّر.

وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذا المقام الذي كان المقصود فيه إقامة الدليل على امتناع عود المعدوم ، وإبطال ما ذكره المجوّزون له دليلا على التجويز.

وحيث فرغنا بعون الله وحسن تأييده من تحقيق الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه ، وكأنّه من خواصّ هذه الرسالة وتمّ ما رمنا إيراده في المقدّمة ، فلنرجع إلى ما كنّا بصدده وهو الغرض الأصلي من وضع الرسالة.

٣٨٠