منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-108-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٨٢

غير الملائكة الأربعة والشهداء كما دلّت الآيتان السابقتان عليه ، فهو إن كان من غير الملائكة من الجنّ والإنس وغيرهم فعروض الهلاك على بعضهم الذين لم يكونوا باقين عند النفخة الاولى ، يكون قبل النفخة الاولى بموتهم قبلها ، وعلى بعضهم الباقين عندها ، يكون عندها ، كما يكون عروض ذلك على غيرهم من السماء والأرض والجبال والبحار وأمثالها ، ممّا كانت باقية عند النفخة الاولى عندها أيضا ، كما دلّت عليه الآيات السابقة ، وإن كان من الملائكة غير من شاء الله فعروضه عليهم أيضا يكون عندها أيضا كما دلّت عليه الآيتان السابقتان. وأمّا من شاء الله فإن لم نقل بعروض الهلاك عليهم أصلا كما هو مفاد الآيتين ، فينبغي تخصيص (كُلُّ شَيْءٍ) في قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ) بغيرهم أيضا ولا محذور فيه. وإن قلنا بهلاكهم كما يدلّ عليه عموم (كُلُّ شَيْءٍ) في الآية ، فينبغي أن يقال بأنّه يجوز أن يطرأ عليهم الموت أيضا بعد موت الملائكة غيرهم ، وإن كانت البعدية آنا مّا ، وكذلك الهلاك آنا مّا.

وعلى التقادير فينبغي أن يراد بهلاك الملائكة انقطاع علاقة نفوسهم الشريفة عن أبدانهم اللطيفة ، لا انعدامهم بالمرّة. وهذا الذي ذكرنا ، هو وجه التأويل في قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ويظهر منه أنّه لا دليل فيه على انعدام النشأة الاخرويّة ، ولو آنا مّا كما تمسّك به من قال به وإنّ ما ذكره بعضهم من حمل (كُلُّ شَيْءٍ) على العموم الحقيقي ، وحمل الهلاك على الهلاك بالفعل ، وحمل الآية على أن كلّ شيء يعرض له الموت والفناء قبل قيام الساعة ولو آنا مّا فيعاد بعده ، ليس بواضح. وبالجملة الهلاك والفناء وأمثالهما من الألفاظ ليست بصريحة في الانعدام بالمرّة ، بل يمكن حملها على الهلاك والفناء الذي يناسب حال ذلك الفاني والهالك كما ذكرنا سابقا ، فتأمّل.

ومنها قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) ، (١)

وبيان كيفيّة دلالة هذه الآية يحتاج إلى تفسير معنى الأوّل والآخر في شأنه تعالى أوّلا حتّى يستبين ذلك ، حيث إنّ الأوليّة والآخريّة اللتين أطلقنا على ذاته تعالى ، سواء اريد بهما الأوّليّة والآخريّة الحقيقيّتين كما في الآية أو أعمّ منهما ومن الإضافيّتين ، معناهما التقدّم والتأخّر.

__________________

(١) الحديد : ٣.

٢٤١

والمشهور عندهم أنّ التقدّم والتأخّر على أنحاء خمسة : بالعلّية وبالطبع وبالزمان وبالرتبة وبالشرف ، كما هو مذهب الحكماء ، أو ستّة كما هو رأي المتكلّمين : تلك الخمسة وبالذات ، كما بين أجزاء الزمان عندهم.

فينبغي أن ينظر أنّ أيّا من معاني التقدّم والتأخّر يصحّ إرادته في الآية الكريمة ، وعلى تقدير الصحّة فهل هما بمعنى واحد في الأوّلية والآخريّة أو بمعنيين مختلفين ، وأنّه كيف يصحّ إطلاق الأوّل والآخر على ذات واحدة ، وأنّ هذا الإطلاق هل هو باعتبار واحد أم باعتبارين ، وأنّ هذه الأوّليّة والآخريّة هل هما بالنسبة إلى ذاته تعالى بمعنى أنّه تعالى متقدّم على ذاته ومتأخّر عن ذاته ، أو بالنسبة إلى غيره بمعنى أنّه متقدّم على غيره ومتأخّر عن غيره.

فنقول : لا يخفى عليك أنّ التقدّم بالعلّية وإن صحّ إطلاقها على ذاته تعالى بالنسبة إلى غيره ، بمعنى أنّه تعالى علّة موجدة لما سواه ، لكنّه لا يصحّ إطلاق المتأخّر بهذا المعنى عليه ، فإنّ المتأخّر بالعلّية معناه كونه معلولا ، والحال أنّه تعالى شأنه ليس بمعلول لا لذاته ولا لغيره.

وكذلك التقدّم بالطبع ، لو اريد به تقدّم العلّة الناقصة ما سوى العلّة الفاعليّة ، فلا يصحّ إطلاقه عليه تعالى أصلا وإن اريد به أعمّ من ذلك حتّى يشمل تقدّم العلّة الفاعليّة أيضا ، فهو على تقدير صحّة إطلاقه عليه تعالى بالنسبة إلى غيره ، لا يصحّ إطلاق المتأخّر بالطبع عليه تعالى ، لاستلزام كونه معلولا بالطبع ، وهو سبحانه وتعالى منزّه عن ذلك.

وأيضا قد تقرّر عندهم أنّه لا يجوز في السبق بالعلّية وبالطبع أن يصير السابق متأخّرا وهو هو بعينه ، ولذلك قيل : إنّهما سبقان حقيقيّان ، وأولى بمفهوم السبق من غيرهما ، كالسبق بالشرف وبالرتبة وبالزمان ، حيث يجوز فيها ذلك.

والحال أنّه في الآية الكريمة اطلقت الأوّلية والآخريّة كلتاهما على ذاته تعالى ولا يخفى أنّ ذاته تعالى لا تغيّر فيه أصلا وهو هو بعينه في الحالين ، فلا يكون معناهما التقدّم والتأخّر بالعلّية أو بالطبع.

ولا يخفى أيضا أنّ التقدّم والتأخّر بالرتبة لا يصحّ إرادتهما في الآية ، إذا المعتبر فيهما أن يكون هناك ترتّب بين السابق والمسبوق ، إمّا ترتّب حسّي كما بين الإمام والمأموم ،

٢٤٢

أو ترتّب عقلي كما بين الأجناس والأنواع الإضافية المترتّبة على سبيل التصاعد أو التنازل ، ولا سترة في أنّ هذا الترتّب منفيّ هنا ، سواء فرض ترتّب بين ذاته تعالى وبين ذاته ، أو بين ذاته تعالى وبين غيره ، فلا يصحّ إرادتهما في الآية.

نعم لو صحّت إرادتهما فيها ، لا مانع من إطلاق الأوّليّة والآخريّة كلتيهما على ذاته تعالى ، حيث يجوز فيهما أن يصير السابق متأخّرا وهو هو بعينه.

ولا يخفى أيضا أنّ التقدّم بالشرف وإن كان يجوز إطلاقه عليه تعالى ، لكن بالنسبة إلى غيره ، بمعنى أنّه تعالى أشرف من غيره ، لكنّه لا يصحّ إطلاق المتأخّر بهذا المعنى ، سواء اعتبر بالنسبة إلى ذاته تعالى إلى غيره ، وسواء كان ذلك باعتبار واحد أم باعتبارين ، وإن جاز في هذا القسم أيضا اجتماع الوصفين على ذات واحدة باعتبارين.

ولا يخفى أيضا عدم صحّة إرادة التقدّم والتأخّر بالذات اللذين أثبتهما المتكلّمون بين أجزاء الزمان ، كسبق الأمس على الغد ، سواء اعتبر ذلك بالنسبة إلى ذاته تعالى أو إلى غيره ، وسواء كان باعتبارين أو باعتبار واحد.

فبقي أن يكون المراد بالأوّليّة والآخريّة في الآية التقدّم والتأخّر بالزمان ، ومعنى ذلك هو أن يكون السابق قبل المسبوق قبليّة لا يجامع معها البعد. وهذا أيضا لا يصحّ إرادته في الآية ، أمّا إذا اعتبر التقدّم على ذاته أو التأخّر عن ذاته سواء فرض وجوده تعالى وجودا زمانيّا ، أم لم يفرض ، لأنّ السابق هنا يجامع المسبوق ، وأيضا تقدّم الشيء على نفسه غير معقول ، ولا جهة أيضا هنا بها يصحّ اعتبار تقدّمه على نفسه وتأخّره عن نفسه بجهة اخرى حتّى يكون التقدّم والتأخّر باعتبارين.

وأما إذا اعتبر ذلك التقدّم على غيره وذلك التأخّر عن غيره ، فلأنّ المعتبر في التقدّم والتأخّر الزمانيّين أن يجوز كون المتقدّم والمتأخّر زمانيّا ، وما وجوده زماني ، إمّا ما يكون وجوده تدريجيّا كالزمان مثل الحركة ، وهذا لا يجوز على وجوده تعالى لكونه ثابتا أبد الدهر لا تدريجيّا موجودا شيئا فشيئا ولا متجدّدا متصرّفا. وإمّا ما يكون وجوده ثابتا غير تدريجيّ سواء كان حدوثه تدريجيّا أو دفعيّا ، ومع ذلك ما يكون وجوده محفوفا بالزمان ، واقعا تحته ، ويكون قبله زمان وبعده زمان إن انقطع زمان وجوده كبعض الأجسام. وهذا أيضا لا يجوز على وجوده تعالى ، لأنّه ليس قبله زمان ولا ما هو منشأ لانتزاع الزمان عنه،

٢٤٣

بل ليس له قبل أصلا ، وكذا ليس له بعد ولا بعده زمان.

وإمّا ما كان الزمان منتزعا عنه ويكون هو واقعا في حدّ من الزمان ، وإن كان حدّا أوّلا منه ويبقى بعد ذلك ، وهذا كالفلك على رأيهم ، وهذا أيضا لا يجوز على وجوده تعالى لأنّه حيث كان ثابتا أبد الدهر لا يجوز أن ينتزع منه الزمان الذي هو متغيّر متقضّ شيئا فشيئا ، وليس أيضا في مرتبة ذاته تعالى شيء يمكن أن ينتزع منه الزمان ، ويكون أوّل وجوده واقعا في الحدّ الأوّل منه ، تعالى الله عن ذلك كلّه علوّا كبيرا.

وبالجملة التقدّم والتأخّر الزمانيان إنّما يصحّ إطلاقهما على ما هو وجوده زماني ، داخل تحت الزمان ، ومتغيّر بتغيّره ، محفوف به أو واقع في حدّ منه ، وأمّا ما هو وجوده غير متغيّر ، بل ثابت أبد الدهر ، متعال عن الزمان ، كوجوده تعالى فلا يصحّ عليه إطلاق المتقدّم والمتأخّر بهذا المعنى.

وممّا ذكرناه وفصّلناه ظهر أنّه لا يصحّ إرادة الأوّليّة والآخريّة في الآية بأحد المعاني الخمسة أو الستّة ، سواء كان الإطلاق بمعنى واحد أو بمعنيين ، وسواء كان باعتبار واحد أو باعتبارين ، وسواء كان بالنسبة إلى ذاته تعالى أو إلى غيره ، فكأنّ ما ذكرنا يرد إشكالا على معنى الآية الكريمة في إطلاق الأوّل والآخر على ذاته تعالى.

وأمّا الجواب عن هذا الإشكال ، فهو أنّ التقدّم والتأخّر الزمانيّين ، كما يطلقان على ما كان وجوده زمانيّا ، وهذا بهذا المعنى منفيّ عن وجوده تعالى ، حيث إنّه ليس زمانيّا ، كذلك يمكن أن يطلقا على ما ليس وجوده زمانيّا ، لكن بمعنى آخر ، وهو أن يكون هناك زمان موجود أو زمان مقدّر ، بحيث لو فرض هناك فارض أمكن حكمه فيه بأنّ ذلك الشيء موجود ، وليس شيء غيره موجودا ، لا بأن يكون ذلك الزمان الموجود أو المقدّر ظرفا لوجود الشيء حتى يكون زمانيّا ، بل ظرفا للحكم به. وحينئذ لو كان ذلك الشيء بحيث يفرض وجود غيره بعد وجوده ، وكذا بعد زمان صحّة هذا الحكم ، كان متقدّما على غيره بالزمان بهذا المعنى ، ولو كان بحيث يفرض وجود غيره قبل زمان صحّة هذا الحكم كان متأخّرا عن غيره بهذا المعنى أيضا ، ولا شك أنّ إطلاق التقدّم والتأخّر بهذا المعنى يصحّ في شأنه تعالى ، إذ لا سترة في أنّ وجوده تعالى بحيث لا يمكن أن يكون في مرتبته شيء غيره ، ولا في أنّ وجوده كان ثابتا دائما باقيا في الأزل في الواقع ، ولم يكن معه شيء ، لا في

٢٤٤

الواقع ولا في مرتبة منه ، ثمّ شاء وأوجد الأشياء بحيث كان قبل إيجاده الأشياء زمان مقدّر أو دهر غير متناه كما هو معنى القول بالحدوث الدهري على ما بيّناه في الرسالة الموضوعة لذلك ، وبحيث لم يكن ذلك الدهر الغير المتناهي ظرفا لوجوده تعالى حتّى يلزم كون وجوده تعالى زمانيّا أو دهريّا ، بل ظرفا لصحّة الحكم بأنّه تعالى موجود ، وليس شيء غيره موجودا ، ولا أن يكون وجوده حدّا أوّلا لذلك الدهر ، ويكون وجود غيره حدّا آخر منه ، حتّى يلزم كون غير المتناهي محصورا بين حاصرين.

ثمّ إنّه تعالى شاء ـ بعد إيجاد الأشياء وبقائها زمانا ـ فناءها ، فتفنى هي كما دلّت عليه الآيات والأخبار ، بحيث إنّ الأشياء تفنى بعد وجودها ، ويفرض هناك زمان موجود أو مقدّر ، يصحّ الحكم فيه بأنّه تعالى موجود وليس غيره موجودا.

فيظهر ممّا ذكرنا أنّه بالاعتبار الأوّل يصحّ إطلاق الأوّل عليه تعالى ، حيث كان أوّلا بحسب الزمان بهذا المعنى ، وكذا بالعلّية بالنسبة إلى غيره ، وبالاعتبار الآخر يصحّ إطلاق الآخر عليه بالنسبة إلى غيره ، لكن بالزمان بهذا المعنى فقط ، فيظهر منه أنّ إطلاق الأوّل عليه تعالى يمكن أن يكون بمعنيين ، وأمّا اطلاق الآخر عليه ، فإنّما هو بمعنى واحد ، هو بالزمان بهذا المعنى ، وأنّ إطلاقهما جميعا إنّما هو بالنسبة إلى غيره تعالى لا بالنسبة إلى ذاته ، وكذلك إطلاقهما عليه تعالى باعتبارين ، لا باعتبار واحد ، وبذلك انحلّ الإشكال وظهر تفسير معنى الأوّل والآخر في حقّه تعالى.

وإن أبيت إطلاق التقدّم والتأخّر الزمانيّين بهذا المعنى عليه تعالى فلا مشاحّة في أن يطلق عليه تعالى التقدّم والتأخّر بمعنى آخر غير تلك المعاني الخمسة أو الستّة كالتقدّم والتأخّر بالوجود مثلا بذلك المعنى الذي ذكرنا ، فإنّ الحصر في الخمسة أو الستّة ، ليس حصرا عقليّا حتّى لا يمكن إثبات قسم سابع معها ، بل استقرائي وكأنّه لذلك أثبت بعضهم كصدر الأفاضل قسمين آخرين أيضا مع تلك الأقسام المشهورة ، هما التقدّم بالحقّ والتقدّم بالحقيقة. ومثّل للأوّل بأنّ الحقّ في تجلّيه في أسمائه ومراتب شئونه التي هي أنحاء وجودات الأشياء يتقدّم ويتأخّر بذاته ، لا بشيء آخر ، فلا يتقدّم متقدّم ولا يتأخّر متأخّر إلّا بحقّ لازم. وللثاني بأنّ الجاعل والمجعول إذا كان لكلّ منهما شيئيّة ووجود ، فتقدّم الشيئيّة على الشيئيّة من جهة اتّصافهما بالوجود ، تقدّم بالذات ، سواء كان بالعلّية

٢٤٥

أو بالطبع ، وتقدّم نفس الوجود على الوجود تقدّم بالحقيقة.

وحيث عرفت ما ذكرنا من تفسير الأوّل والآخر في شأنه تعالى ، فاعلم أنّه موافق لما ورد من بعض كلمات المعصومين عليهم‌السلام كقولهم في الأدعية المأثورة عنهم : «يا كائنا قبل كلّ شيء ، يا كائنا بعد كلّ شيء ، يا حيّ قبل كلّ حيّ ، ويا حيّ بعد كلّ حيّ ، يا حيّ حين لا حيّ ، يا حيّ يبقى ويفنى كلّ حيّ ، يا ذا الذي كان قبل كلّ شيء ، ثمّ خلق كلّ شيء ، ثم يبقى ويفنى كلّ شيء».

وكذا هو مطابق للتفسير الذي ذكره العلماء. قال الشيخ الطوسي رحمه‌الله في تفسير قوله تعالى في سورة الحديد هو الأوّل : القديم السابق لجميع الموجودات بما لا يتناهى من الأوقات أو تقدير الأوقات. والآخر الذي يبقى بعد فناء كلّ شيء. ـ انتهى. (١)

وقال بعض أجلّة العلماء رحمه‌الله ما مضمونه : إنّ معنى الأوّل في حقّه تعالى أنّه قبل كلّ شيء ، وليس قبله أو في مرتبة وجوده شيء ومعنى الآخر في حقّه تعالى أنّه ليس بعده شيء ، وكلاهما من الصفات السلبيّة. ـ انتهى.

وحيث عرفت تفسير الأوّل والآخر في حقّه تعالى ، وعرفت أنّ معنى الآخر في حقّه سبحانه أنّه هو الذي يبقى ويفنى غيره ، عرفت أنّ معنى هذه الآية الكريمة آئل من بعض الوجوه إلى معنى الآية السابقة ، وهي قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) إلّا أنّه يمكن في تلك الآية السابقة التأويل بكلا الوجهين اللذين ذكرناهما ، وأمّا في هذه الآية فلا يستقيم التأويل إلّا بالوجه الأخير ، لأنّ المتبادر من فناء غيره فناؤه بالفعل ، كما دلّت عليه الآيات والأخبار أيضا ، لا الفناء في مرتبة ذاته.

وحيث كان المراد ، هو الفناء بالفعل الشامل بإطلاقه لفناء كلّ شيء غيره تعالى ـ كما هو الظاهر ـ فينبغي أن يخصّص هذا العموم أيضا بما سوى ما دلّ الدليل على بقائه ، وقلنا إنّه مستثنى من العموم. والله تعالى يعلم حقيقة الحال.

ومنها قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ). (٢)

وهذا لا يدلّ على فناء المخاطبين بالمرّة ، بناء على أنّهم في حال البدء كما لم يكونوا

__________________

(١) تفسير التبيان ٩ : ٥١٨ ؛ تفسير مجمع البيان ٩ : ٢٣٠.

(٢) الأعراف : ٢٩.

٢٤٦

شيئا فبدءوا وخلقوا عن لا شيء ، كذلك هذا التشبيه ، يقتضي أن يكونوا في حال العود أيضا معدومين بالمرّة ، فيعادوا عن لا شيء ، لأنّه لا نصّ في الآية أنّ التشبيه في هذا المعنى ، بل يمكن أن يكون التشبيه في أصل الفعل ، أي كما أنّ البدء قد وقع ، يكون العود واقعا أيضا وإن لم يكونوا في حال العود معدومين بالمرّة ، وأن يكون التشبيه في الآية نظير التشبيه في قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ). (١) وسيأتي أنّ إعادة المعدوم بالمرّة بعينه ممتنع.

ثمّ إنّك حيث أحطت خبرا بتفاصيل ما قدّمناه لك ، يظهر لك تأويل كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة في خطبة له عليه‌السلام في التوحيد وهو قوله عليه‌السلام : «وانّه يعود سبحانه بعد فناء الدنيا وحده ، لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ، ولا مكان ولا حين ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السنون والساعات ، فلا شيء إلّا الواحد القهّار الذي إليه مصير جميع الامور». (٢) فتدبّر تعرف.

وبالجملة تلك السمعيات المذكورة وغيرها ، لا دلالة قطعيّة فيها على فناء كلّ ما سواه تعالى فناء بالفعل ، ويمكن تخصيص عموماتها بما عدا ما استثني ، كما أنّها لا دلالة قطعيّة فيها على أنّ ما يفنى من جملة الموجودات يفنى بالمرّة وينعدم بالكلّية ، بل يمكن تأويلها بما ذكرنا في ذيل بيان حال كلّ والله تعالى يعلم.

ختام

قد استبان لك ممّا ذكرنا بطوله في هذا الباب ، أنّ العالم بجميع أجزائه وإن كان بالنظر إلى ذاته وإمكانه جائز الفناء والعدم ، إلّا أنّه لا يدلّ دليل عقلي أو سمعي على طريان الفناء بالفعل عليه بجميع أجزائه ، بحيث لا يشذّ عنها فرد ، وإنّما الدليل يدلّ على طروء الفناء بالفعل على بعض أجزائه كما فصّلنا ، وكذا لا دليل على أنّ كلّ ما يفنى بالفعل من جملة أجزائه يفنى بالمرّة وينعدم بالكلّية ، بل الدليل كما عرفت بيانه ، إنّما يدلّ على أنّ بعضا من

__________________

(١) الأنعام : ٩٤.

(٢) نهج البلاغة ٢ : ١٤٨ ، طبع مطبعة الاستقامة بالقاهرة.

٢٤٧

ذلك ينعدم بالمرّة كالصور والأعراض القائمة بالموادّ ، وبعضا منه وإن كان ينعدم لكن لا بالكلّية.

والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب ، وهذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الباب ، أي في المقام الأوّل من المقامين اللذين كنّا بصدد بيانهما ، فلنرجع إلى التكلّم في المقام الثاني.

٢٤٨

المقام الثاني في جواز إعادة المعدوم وعدمه

فنقول : المقام الثاني في أنّ المعدوم هل يجوز أن يعاد بعينه ، أي بجميع عوارضه المشخّصة أم لا؟ ذهب أكثر المتكلّمين إلى جوازه ، وذهب الحكماء وبعض المتكلّمين إلى امتناعه ، ولكلّ من الفريقين حجج ، فلنذكر أوّلا حججهم على ما ذهبوا إليه ، ثمّ نتبعه بتحقيق ما هو الحقّ ، إن أمكن ، فنقول : إنّ الشيخ في الفصل الخامس من إلهيّات الشفاء حقّق أوّلا : أنّ الموجود والشيء والضروري والواحد ترتسم معانيها في النفس ارتساما أوّليّا ، ليس ذلك الارتسام ممّا يحتاج إلى أن يجلب بأشياء أعرف منها ، وتكون هي مبادئ تصوريّة ، كما يقال : إنّ الشيء هو الذي يصحّ عنه الخبر ، حيث إنّ ذلك لو كان تعريفا حقيقيّا لكان دوريّا ، فإنّ قولنا يصحّ أخفى من الشيء والخبر أيضا أخفى من الشيء ، وإنّما يعرف الصحّة ، ويعرف الخبر بعد أن يستعمل في بيان كلّ واحد منهما إنّه شيء أو أمر أو نحو ذلك.

نعم ربما كان في هذا التعريف وأمثاله تنبيه على ما في النفس ، وأمّا بالحقيقة فليس تعريفا فإنّك إذا قلت إنّ الشيء هو ما يصحّ الخبر عنه ، يكون كأنّك قلت إنّ الشيء هو الشيء الذي يصحّ عنه الخبر ، فتكون قد أخذت الشيء في حدّ الشيء.

وبالجملة أنّه قد حقّق أن الشيء والموجود ونحوهما ، أعرف الأشياء عند العقل ، ثمّ حقّق أنّ معنى الموجود ومعنى الشيء متصوّران في الأنفس ، وهما معيّنان فالموجود والمثبت والمحصّل ، أسماء مترادفة على معنى واحد ، ولا نشكّ أنّ معناها قد حصّل في النفس ، والشيء وما يقوم مقامه ، قد يدلّ به على معنى آخر في اللغات كلّها ، فإنّ لكلّ أمر حقيقة هو بها ما هو. فللمثلّث حقيقة أنّه مثلّث ، وللبياض حقيقة أنّه بياض ، وذلك هو الذي ربما سمّيناه الوجود الخاصّ ، ولم يرد به معنى الوجود الإثباتي ، فإنّ لفظ الوجود يدلّ به

٢٤٩

أيضا على معان كثيرة ، منها الحقيقة التي يشيّء عليها الشيء ، فكأنّه ما عليه يكون الوجود الخاصّ للشيء.

ثمّ قال : إنّه من البيّن أنّ لكلّ شيء حقيقة خاصّة ، هي ماهيّته ، ومعلوم أنّ حقيقة كلّ شيء الخاصّة به غير الوجود الذي يرادف الإثبات ، وذلك لأنّك إذا قلت حقيقة كذا موجودة ، إمّا في الأعيان أو في النفس أو مطلقا ، يعمّها جميعا ، كان لهذا معنى محصّل مفهوم ، ولو قلت إنّ حقيقة كذا ، أو أنّ حقيقة كذا حقيقة ، لكان حشوا من الكلام غير مفيد ، ولو قلت إنّ حقيقة كذا شيء ، لكان أيضا قولا غير مفيد ما يجهل ، وأقلّ إفادة منه ، أن يقال : إنّ الحقيقة شيء ، إلّا أن يعنى بالشيء الموجود ، كأنّك قلت إنّ حقيقة كذا حقيقة موجودة.

وأمّا إذا قلت حقيقة «ألف» شيء ، وحقيقة «ب» شيء آخر ، فإنّما يصحّ هذا وأفاد ، لأنّك تضمر في نفسك أنّه شيء آخر مخصوص ، ومخالف لذلك الشيء الآخر ، كما قلت : إنّ حقيقة «ألف» حقيقة ، وحقيقة «ب» حقيقة اخرى ، ولو لا هذا الإضمار ، وهذا الاقتران جميعا لم يفد.

فالشيء يراد به هذا المعنى ولا يفارق لزوم معنى الوجود إيّاه البتّة بل معنى الموجود يلزمه دائما ، لأنّه يكون إمّا موجودا في الأعيان ، أو موجودا في الوهم والعقل ، فإن لم يكن كذا لم يكن شيئا.

وانّ ما يقال إنّ الشيء هو الذي يخبر عنه ، حقّ ، ثمّ الذي يقال مع هذا إنّ الشيء قد يكون معدوما على الإطلاق ، أمر يجب أن ينظر فيه. فإن عنى بالمعدوم المعدوم في الأعيان ، جائز أن يكون كذلك ، فيجوز أن يكون الشيء ثابتا في الذهن معدوما في الأشياء (١) الخارجة ، وإن عنى غير ذلك كان باطلا ، ولم يكن عنه خبر البتّة ، ولا كان معلوما إلّا على أنّه متصوّر في النفس فقط ، فأمّا أن يكون متصوّرا في النفس صورة تشير إلى شيء خارج ، فكلّا ، أمّا الخبر فلأنّ الخبر يكون دائما عن شيء متحقّق في الذهن ، والمعدوم المطلق لا يخبر عنه بأن يجاب. واذا اخبر عنه بالسلب أيضا فقد جعل له وجود بوجه ما في الذهن ، لأنّ قولنا هو يتضمّن إشارة ، والإشارة إلى المعدوم الذي لا صورة له بوجه من الوجوه في الذهن محال. فكيف يوجب على المعدوم شيء.

__________________

(١) الأعيان (خ ل).

٢٥٠

ومعنى قولنا إنّ المعدوم كذا ، معناه أنّ وصف كذا حاصل للمعدوم ، ولا فرق بين الحاصل والموجود ، فيكون كأنّا قلنا : إنّ هذا الوصف موجود للمعدوم ، بل نقول : إنّه لا يخلو ما يوصف به المعدوم ويحمل عليه إمّا أن يكون موجودا وحاصلا للمعدوم أولا يكون موجودا وحاصلا له ، فإن كان موجودا حاصلا للمعدوم ، فلا يخلو إمّا أن يكون هو في نفسه موجودا أو معدوما ، فإن كان موجودا فيكون للمعدوم صفة موجودة ، وإذا كانت الصفة موجودة فالموصوف بها موجود لا محالة ، فالمعدوم موجود ، وهذا محال وإن كانت الصفة معدومة ، فكيف يكون المعدوم في نفسه موجودا لشيء ، فإنّ ما لا يكون موجودا في نفسه يستحيل أن يكون موجودا للشيء. نعم قد يكون الشيء موجودا في نفسه ولا يكون موجودا لشيء آخر. فأمّا إن لم تكن الصفة موجودة للمعدوم ، فهو نفي الصفة عن المعدوم ، فإنّه إن لم يكن هو النفي للصفة عن المعدوم ، فإذا نفينا الصفة عن المعدوم ، كان مقابل هذا ، فكان وجود الصفة له وهذا كلّه باطل. وإنّما نقول : إنّ لنا علما بالمعدوم ، فلأنّ المعنى إذا تحصل في النفس فقط ، ولم يشر فيه إلى خارج ، كان المعلوم نفس ما في النفس فقط ، والتصديق الواقع بين المتصوّر من جزئيه ، هو أنّه جائز في طباع هذا المعلوم وقوع نسبة له معقولة إلى خارج ، وفي هذا الوقت فلا نسبة له ، فلا معلوم غيره ، وعند القوم الذين يرون هذا الرأي ، أنّ في جملة ما يخبر عنه ويعلم أمورا لا شيئيّة لها في العدم ، ومن شاء أن يقف على ذلك فليرجع إلى ما هذوا به من أقاويلهم التي لا يستحقّ فضل الاشتغال بها ، وإنّما وقع أولئك فيما وقعوا فيه بسبب جهلهم بأنّ الإخبار إنّما يكون عن معان لها وجود في النفس ، وإن كانت معدومة في الأعيان ، ويكون معنى الإخبار عنها ، أنّ لها نسبة ما إلى الأعيان ، مثلا إذا قلت : «إنّ القيامة تكون» فهمت «القيامة» ، وفهمت «تكون» وحملت «تكون» التي في النفس على «القيامة» التي في النفس ، بأنّ هذا المعنى إنّما يصحّ في معنى آخر معقول أيضا ، وهو معقول في وقت مستقبل أن يوصف بمعنى ثالث معقول ، وهو معقول الوجود ، وعلى هذا القياس الأمر في الماضي. فبيّن أنّ المخبر عنه لا بدّ من أن يكون موجودا وجودا ما في النفس والإخبار بالحقيقة هو عن الموجود في النفس ، وبالعرض عن الموجود في الخارج. وقد فهمت الآن أنّ الشيء بما ذا يخالف المفهوم للموجود والحاصل ، وأنّهما مع ذلك متلازمان. وعلى أنّه قد بلغني أنّ قوما يقولون :

٢٥١

إنّ الحاصل يكون حاصلا وليس بموجود ، وقد يكون صفة الشيء وليس شيئا لا موجودا ولا معدوما ، وأنّ «الذي» و «ما» يدلّ على غير ما يدلّ عليه الشيء ، فهؤلاء ليسوا من جملة المخيرين.

ثمّ إنّه قد حقّق تعسّر تعريف الواجب والممكن والممتنع بالتعريف الحقيقي ، بل إنّما يمكن ذلك بوجه العلامة وأنّ جميع ما قيل فيه قد يكاد يقتضي دورا وبيّن ذلك.

ثمّ قال : ومن تفهيمنا هذه الأشياء يتّضح لك بطلان قول من يقول : إنّ المعدوم يعاد ، لأنّه أوّل شيء يخبر عنه وذلك لأنّ المعدوم إذا اعيد يجب أن يكون بينه وبين ما هو مثله لو وجد بدله ، فرق ، فإن كان مثله إنّما ليس هو لأنّه ليس الذي كان وعدم ، وفي حال العدم كان هذا غير ذلك ، فقد صار المعدوم موجودا على النحو الذي أومأنا إليه فيما سلف آنفا ، وعلى أنّ المعدوم إذا اعيد احتيج إلى أن يعاد جميع الخواصّ التي بها كان هو ما هو ومن خواصّه وقته فإذا اعيد وقته كان المعدوم غير معاد ، لأنّ المعاد هو الذي يوجد في وقت ثان ، فإن كان المعدوم يجوز إعادته وإعادة جملة المعدومات التي كانت معه ، والوقت إمّا شيء له حقيقة وجود وقد عدم ، أو موافقة موجود لعرض من الأعراض على ما عرفت من مذهبهم ، جاز أن يعود الوقت والأحوال فلا يكون وقت ووقت فلا يكون عود.

على أنّ العقل يدفع هذا دفعا لا يحتاج فيه إلى بيان وكلّ ما يقال فيه فهو خروج عن طريق التعليم. ـ انتهى كلامه.

ونقل المحقّق الدواني عن الشيخ في التعليقات : «انّه قال في بيان هذا المطلب إذا وجد الشيء وقتا ما ثمّ لم يعدم واستمرّ وجوده في وقت آخر وعلم ذلك أو شوهد علم أنّ الموجود واحد ، وأمّا إذا عدم فليكن الموجود السابق «ألف» وليكن المعاد الذي حدث «ب» وليكن المحدث الجديد «ج» وليكن «ب» ك «ج» في الحدوث والموضوع والزمان وغير ذلك ، ولا يخالفه إلّا بالعدد فلا يتميّز «ب» عن «ج» في استحقاق أن يكون «ألف» منسوبا إليه دون «ج» فإنّ نسبة «ألف» إلى أمرين متشابهين من كلّ وجه إلّا في النسبة التي ننظر هل يمكن أن يختلفا فيه أو لا يمكن ، لكنّهما إذن لم يختلفا فليس أن يجعل لأحدهما أولى من أن يجعل للآخر.

فإن قيل : إنّما هو أولى ل «ب» دون «ج» لأنّه كان ل «ب» دون «ج» فهو نفس هذه

٢٥٢

النسبة وأخذ المطلوب في بيان نفسه ، بل يقول الخصم إنّما كان ل «ج».

بلى إذا صحّ مذهب من يقول إنّ الشيء يوجد فيفقد من حيث هو موجود ويبقى من حيث ذاته بعينه ذاتا لم يفقد من حيث هو ذات. ثمّ اعيد إليه الوجود أمكن أن يقال بالإعادة إلى أن يبطل من وجوه اخرى ، وإذا لم يسلّم ذلك ولم يجعل للمعدوم في حال العدم ذات ثابتة ، لم يكن أحد الحادثين مستحقّا لأن يكون قد كان له «ألف» وهو الموجود السابق دون الحادث الآخر ، بل إمّا أن يكون كلّ واحد منهما معادا أولا يكون ولا واحد منهما معادا وإذا كان المحمولان الاثنان ، يوجبان كون الموضوع لهما مع كلّ واحد منهما غير نفسه مع الآخر ، فإن استمرّ موجودا واحدا وذاتا ثابتة واحدة كان باعتبار الموضوع الواحد القائم موجودا وذاتا شيئا واحدا وبحسب اعتبار المحمولين شيئين اثنين فإذا فقد استمراره في نفسه ذاتا واحدة ، بقي له الاثنينيّة الصرفة لا غير. ـ انتهى كلامه.» (١)

وقال المحقّق الطوسي رحمه‌الله في التجريد : «والمعدوم لا يعاد لامتناع الإشارة إليه ، فلا يصحّ الحكم عليه بصحّة العود ، ولو اعيد لتخلّل العدم بين الشيء ونفسه ، ولم يبق فرق بينه وبين المبتدأ ، وصدق المتقابلان عليه دفعة ويلزم التسلسل في الزمان ، والحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهيّة. ـ انتهى. (٢)»

وقال الفاضل الأحساوي رحمه‌الله في المجلي : «قال : النوع الثاني في تحقيق المذهب في جواز إعادة المعدوم. فنقول : ذهب طائفة كثيرة من المتكلّمين كالأشعري ومن تبعه إلى جواز إعادة المعدوم محتجّين بأنّه لو استحال عوده للزم انقلابه من الإمكان الذاتي إلى الامتناع الذاتي وهو باطل ، إذ لا شكّ في أنّه ممكن الوجود حالتي الوجود والعدم ، فلا يصحّ اتّصافه بالامتناع الذاتي للتنافي بين حقيقتي الإمكان والامتناع الذاتيّين.

وتحرير محل النزاع أنّ مراد المانعين بعود المعدوم إن كان الامتناع الغيري ، فينبغي أن يرتفع النزاع ، لأنّ دعوى القائلين بالجواز تحقّق الإمكان الذاتي ، وإن كان الامتناع الذاتي فهو الظاهر من عباراتهم ، لأنّ إطلاق الامتناع وإطلاق الوجوب مشعر بالذات إذ المطلق ينصرف إلى الكامل ، ولأنّ المحال لازم على تقدير العود ، وما هو ممكن لذاته لا يستلزم المحال.

__________________

(١) راجع هامش شرح التجريد : ٧٢.

(٢) شرح التجريد : ٧١ ـ ٧٥.

٢٥٣

فإذا قيل : كيف يقال للذي وجد في وقت ما ممتنع ذاتا ، قالوا إنّ وجوده الثاني ممتنع ، فأجازوا الأوّل وأحالوا الثاني.

واعترضوا على حجّة القائلين بجوازه بأنّ قبول الوجود ثانيا أخصّ من مطلق الوجود ، وقابليّة الأعمّ لا توجب قابليّة الأخصّ كما أنّ الإنسان قابل للحيوانية وليس بقابل للفرسية ، فجاز أن يكون قابلا لمطلق الوجود دون الوجود الثاني.

وأقول : وبيان ذلك ، أنّ الوجود الثاني مقيّد بكونه بعد الوجود الأوّل متخلّلا بينهما عدم ، والممتنع هو هذا المقيّد ، والوجود الأوّل خال عن هذا القيد ، لأنّه وجود أوّل بعد عدم أوّل ، فيكون مطلقا بالنسبة إلى هذا الوجود.

وتحقّق الامتناع في المقيّد لا يستلزم تحقّقه في المطلق ، لما بينهما من المغايرة الذاتيّة ، فإمكان الأوّل لا يستلزم إمكان الثاني لما قلناه من المغايرة ، فصحّ اتّصاف أحدهما بالامتناع والآخر بالإمكان.

قال : اجيب بأنّه إذا ثبت أنّه قابل للوجود من حيث هو يلزم أن يكون قابلا له في جميع الأوقات ، فحينئذ لو فرضناه أنّه لم يكن موجودا أوّلا كانت هذه القابليّة ثابتة دائما ، فوجوده الأوّل إن أفاده زيادة استعداد لقبول وجوده الثاني ، أو لم يفده ، فإن أفاده فقد صار العود أهون ، وإن لم يفده فلا ينقص عمّا هو عليه في الذات من قابليّة الوجود في جميع الأوقات لامتناع الانقلاب.

أقول : لقائل أن يقول إنّ قبوله الوجود الأوّل ما زاده استعداد القبول الثاني ، بل كان مانعا من قبول الوجود الثاني ، لأنّ قبول المطلق يكون هو المانع من قبول المقيّد الذي لا يصحّ اجتماعه معه بناء على امتناع اجتماع المثلين.

قال : بل الحقّ أنّ حصول الوجود الأوّل يفيده زيادة استعداد لاكتسابه معنى يفيد زيادة استعداد لقبول الوجود ثانيا لأنّ القبول إذا حصل للقابل مرّة يصير القابل أقبل له واتّصافه به أسهل ، فإذا اتّصف ثالثا صار أشدّ قبول ، حتى يصير ملكة وهذا ضروري.

أقول : لمانع أن يمنع الضرورة هنا ، فإنّ القابل لا يزداد في الاستعداد بتكرّر القبول إلّا إذا كانت الهويّة القابلة متحقّقة الثبوت بعد عدم المقبول الأوّل ، أمّا إذا انتفت الهويّة بانتفاء المقبول فلا يتحقّق زيادة الاستعداد ، بل ولا يبقى هناك استعداد أصلا خصوصا إذا قيل : إنّ

٢٥٤

الاستعداد أمر وجودي يفتقر إلى محلّ يقوم به فمع انتقاء الهويّة لا يبقى شيء أصلا فلا استعداد البتّة ، خصوصا على مذهب الأشعري القائل بأنّ الموجود نفس الماهيّة ، فإنّ بانتفائه ينتفي الماهيّة بالكلّية ، لأنّه نفسها فلا يبقى للاستعداد محلّ إذ لا مستعدّ.

نعم هذا الكلام لو صحّ فإنّما يتمّ على رأي المعتزلي القائل بمغايرة الوجود للماهيّة خارجا فإنّ محلّ الاستعداد حينئذ يكون باقيا عند زوال الوجود الأوّل ، لكون الماهيّة شيئا في العدم مع أنّ لقائل أن يقول إنّ قبولها للثاني منع من قبولها للأوّل ، والمانع للشيء لا يكون معدّا له ، فتدبّر.

قال : ولعلّ المراد من قوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) هذا القدر ، ولله المثل الأعلى فإنّ خلق السموات والأرض ابتداءً أعلى وأقوى من الحشر ، فهو مثال له ودليل عليه لمن تدبّر.

ولهذا قال عليّ عليه‌السلام : «عجبت لمن أنكر النشأة الآخرة وهو يرى النشأة الاولى» والآية الكريمة دالّة على ذلك في قوله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، (١)

ومن ذهب إلى امتناع العود ، احتجّ عليه بوجوه :

الأوّل : أنّا المعدوم لا يبقى له هويّة ليصحّ الحكم عليه بالعود ، والصغرى بديهيّة ، وأمّا الكبرى ، فلأنّ الحكم إنّما يكون على الهويّة وحيث لا هويّة لا حكم.

الثاني أنّه لو اعيد لوجب أن يعاد جميع الخواصّ التي هو بها ، وإلّا لما كان المعاد هو ، بل غيره ، لأنّ الشخص إنّما يكون هو بخواصّه ، ومن خواصّه وقته الذي وجد فيه ، وإذا اعيد مع وقته فقد اعيد هو في وقته ، فيكون مبتدأ من حيث إنّه معاد فلا يكون معادا ، فإنّ المعاد هو الذي وجد في وقت ثان ، وقد وجد في وقته الأوّل ، فكيف يكون معادا.

الثالث : أنّه لو أمكن عوده لأمكن عود مثله معه ، لأنّ حكم الأمثال واحد ، وذلك محال ، فإنّه لو اعيد مع مثله لما امتاز أحدهما عن الآخر لتساويهما مع جميع الوجوه ، وإلّا لما كانا مثلين ، فلا امتياز بين اثنين ؛ هذا خلف.

واعترض على الأوّل : بأنّ قولكم «لا يصحّ الحكم عليه» حكم عليه ، وهو تناقض ، ومتى صحّ الحكم عليه لا يصحّ الحكم عليه بامتناع العود ، لأنّ الامتناع إن كان لما هو هو ،

__________________

(١) يس : ٧٩.

٢٥٥

كان وجوده محالا مطلقا فلا يصحّ عليه الدخول في الوجود ؛ هذا خلف ، وإن كان لغيره كان هو من حيث هو قابلا للعود وهو المطلوب.

أقول : قوله : «قولكم لا يصحّ الحكم عليه حكم عليه» فيه نظر ، لأنّه عند التحقيق مغالطة ظاهرة ، لأنّ قولنا لا يصحّ الحكم عليه ، ليس هو من الإيجاب المعدول حتّى يتحقّق احتياجه إلى الموضوع المحصّل ، بل هو من السلب البسيط الذي لا يفتقر إلى ثبوت موضوع ، لأنّ الشيء إذا عدم وانتفت هويّته صحّ سلب كلّ شيء عنه بخلاف الحكم عليه بالعود ، فإنّه حكم إيجابي محصّل يحتاج فيه إلى موضوع محصّل ثبت له المحمول في ذاته وبينهما فرق كما حقّق في المنطق وحينئذ نقول : قولكم : «المعدوم يعاد» ، موجبة محصّلة يحتاج في ثبوت محمولها لموضوعها إلى ثبوت الموضوع وتحقّقه في ذاته والمعدوم لا هويّة له حتّى يصحّ ثبوت حكم العود له بخلاف قولنا : المعدوم لا يعاد ، فإنّه سالبة بسيطة فلا يحتاج في جواز الحمل هنا إلى ثبوت الموضوع وتحقّقه في نفسه حتّى يصح سلب العود عنه ، بل يصحّ ذلك السلب عنه لكون هويّته غير متحقّقة فلا يتحقّق شيء من صفاتها ، فإن الماهيّة إذا انتفت صحّ سلب جميع لوازمها على سبيل المناسبة ، وذلك ممّا بيّن عند أهله.

قال : وفيه نظر ، لأنّ الحكم بامتناع العود لا يستلزم الحكم عليه بامتناع الوجود الأوّل ، لأنّ امتناع الوجود لا يستلزم امتناع الوجود الأوّل ، لعدم التلازم.

والتحقيق أنّ الحكم بالإعادة ليس على المعدوم المطلق ليمتنع ، وانّما هو حكم على المعدوم الذهني بأنّه يعاد في الخارج كما كان قبل وجوده الأوّل فإنّه إن صدق عليه أنّه يصحّ الحكم عليه بالوجود فكذا يصحّ هنا. والعجب عن غفلتهم عن هذا المعنى مع ظهوره.

وعلى الثاني : بعدم تسليم كون الوقت من الخواصّ التي يكون الشخص بها هو ، فإنّ الزمان لا دخل له في التشخّص.

وفيه نظر ، إذ لمانع أن يمنع من ذلك ، فإنّ الوقت من جملة المشخّصات ، بل الأحسن أن يقال لا نسلّم أنّ المعاد الذي وجد في وقت ثان ، بل الذي وجد ثانيا سواء وجد في وقت آخر أو في وقته الأوّل ، بل نقول إنّه يجوز أن يكون هو ووقته معادين.

٢٥٦

وعلى الثالث : أنّ المثل هو المساوي في الماهيّة ، ولا يجب المساواة في جميع الصفات ، فلا يلزم أنّه لو اعيد مثله لما بقي الامتياز ، فإنّ الامتياز متحقّق بين زيد وعمرو مع تحقّق المماثلة بينهما ، والتماثل من جميع الوجوه ممتنع.

قال : قال بعض من منع أنّ هذه الوجوه تنبيهيّة لا استدلاليّة فلا يرد عليها ما ذكروه ، فإنّ الحكم بامتناع إعادة المعدوم من الأحكام الضرورية ، فإنّ من عدمت هويّته بالكليّة لا يصحّ اتّصافه بشيء من الصفات الضروريّة ، والعود صفة ضروريّة ثبوتيّة لا حقة له ، فلا يصحّ ثبوتها لمن لا هويّة له قطعا.

واعترض عليه بأنّ تجويز نقيضه يمنع من كونه ضروريّا ، فإنّ الشيء مع جواز النقيض لا يصحّ أن يكون ضروريّا.

وحقّق آخرون هذه الدعوى ، فقالوا : إنّ المعدوم لا يعاد مع جميع عوارضه ، فلعلّ أحدا لا يخالفه ، فإنّ بعض من جوّز إعادته ذهب إلى أنّ بعض العوارض لا مدخل له في هويّة الشخص ، كالقدر المعيّن والوقت المعيّن والوضع المعيّن وأمثال هذه ، وقد صرّحوا بأنّ الشخص بعد البعث يكون على وصف آخر ، فيرتفع النزاع من البين ، وصحّ دعواهم تجويز العود مع بعض العوارض ، ودعوى منعه ، لأنّ المراد بجميع العوارض.

أقول : هذا صلح بين الفريقين ، ودفع للتنازع الواقع بين القوم في منع إعادة المعدوم وجوازه ، فإنّ القائل بمنعه إنّما منعه على تقدير أخذ جميع العوارض والمشخّصات معه ، ومعلوم أنّ إعادته على هذا النوع من الإعادة ممتنع ، والقائل بجوازه إنّما جوّزه على تقدير أخذه من حيث الهويّة الذاتيّة ، وان اختلفت العوارض ، فيرتفع النزاع من البين ، وهو ظاهر. فإنّ من منع إعادة المعدوم مطلقا يكون مخالفا لمقتضى البديهة ، وكذلك من جوّزه بجميع أحواله وعوارضه ، إذ العقل الصريح يمنعه ، لاستحالة إعادة الأعراض والصفات والعوارض اللاحقة الاعتبارية ، بل والصفات الحقيقية. فالنزاع بين الفريقين حينئذ لا طائل تحته ، لأنّه نزاع لا محصول له. ـ انتهى كلامه. (١)

__________________

(١) المجلي : ٤٩٧ ـ ٥٠٠.

٢٥٧

في تحرير ما ذكره الشيخ في الشفاء أوّلا في هذا المطلب

وأقول وبالله التوفيق : إنّ تحرير ما ذكره الشيخ في الشفاء بحيث يتّضح منه المدّعى أن يقال : من المستبين عند العقل السليم أنّ الشيء والموجود والمحصّل والمثبت وأمثال ذلك أسماء مترادفة على معنى واحد ، وكلّها بديهيّة التصوّر ، غنيّة عن التحديد والتعريف ، وأنّ معنى الموجود لا يفارق الشيء ، بل يلزمه دائما ، لأنّ الشيء يكون إمّا موجودا في الأعيان أو موجودا في الأذهان ، فإنّه إن لم يكن كذا ، لم يكن شيئا ، وأنّ الشيء هو الذي يمكن أن يخبر عنه ، وأنّه لا يكون معدوما مطلقا. نعم قد يكون معدوما في الأعيان وموجودا في الأذهان. وأنّ الخبر دائما ـ كما هو مذهب الشيخ والمنقول عن الفارابي ـ يكون بالحقيقة ، سواء كان إيجابيّا أو سلبيّا ، عن شيء متحقّق في الذهن وعن الموجود في الخارج بالعرض ، يعني أنّ الإخبار مطلقا يكون دائما بالذات عن الموجود في النفس ، من حيث ماهيّته الموجودة في ضمن الوجود الذهني ، لا من حيث تقيّده بوجوده الذهني خاصّة ، حتى يرد أنّه من هذه الحيثية علم ، لا معلوم ، سواء كان الموجود في النفس من تلك الحيثيّة المذكورة مشارا به إلى خارج ، حيث كان هناك خارج وواقع مع قطع النظر عن الوجود في الذهن ، وكان حينئذ الإخبار عن الموجود في الخارج بالعرض ، سواء قلنا بأنّ الموجود في النفس نفس ماهيّة الشيء الخارجي معرّى عن الوجود الخارجي ، كما هو مذهب القائلين بوجود الأشياء في أنفسها في الذهن ومنهم الشيخ في مبحث العلم من الشفاء ، أو قلنا بأنّ الموجود فيها هو شبحه ومثاله ، كما هو مذهب القائلين بوجودها بأشباحها وصورها في الذهن ، أو لم يكن مشارا به إلى خارج حيث لم يكن هناك خارج وواقع ، بل كان وجوده في الذهن بمحض الفرض واختراع النفس.

٢٥٨

وإنّما قلنا إنّ المعلوم بالذات والمخبر عنه بالحقيقة ، هو ما في الذهن من تلك الحيثيّة المذكورة ، وأنّ الأمر الخارجي معلوم ومخبر عنه بالعرض ، حيث كان هناك أمر خارجي ، لأنّ النفس لا تدرك إلّا ما حصل فيها أوّلا وبالذات ، وما ذلك إلّا ما في الذهن دون الأمر الخارجي.

وأيضا لو كان المخبر عنه بالذات ، هو الأمر الخارجي لكان يجب في كلّ خبر أن يكون هناك أمر خارجي هو المخبر عنه ، وليس كذلك ، إذ قد لا يكون ما في الذهن مشارا به إلى خارج كما قد عرفت ، ومع هذا يكون الإدراك والإخبار بحاله على نحو الإدراك والإخبار عن الأمر الخارجي.

ومن هذه الجملة قد انكشف أنّ الحكم والإخبار سواء كان إيجابيّا أو سلبيّا يستدعي وجود المخبر عنه والمحكوم عليه في الذهن. كيف وقولنا في الحكم السلبي : «هو ليس كذا» يتضمّن إشارة ، والإشارة إلى المعدوم المطلق لا معنى له بوجه من الوجوه ، إلّا أنّ بين الحكم الإيجابي والحكم السلبي فرقا من وجه آخر ، وهو أنّ الحكم الإيجابي ـ حيث كان الغرض منه الإيجاب المحض ، وإن عبّر عنه بالحكم السلبي ، وكان المحمول أمرا ثبوتيّا واقعيّا ثابتا للموضوع في الواقع لا سلبيّا وإن عبّر عنها بالأمر السلبي ـ يستدعي وجود المخبر عنه والموصوف في ظرف الثبوت والاتّصاف وجودا واقعيّا مع قطع النظر عن ذلك الفرض في الذهن ، وجودا يترتّب عليه الآثار الواقعيّة المطلوبة منه. وهذا الوجود الواقعي قد يكون وجودا خارجيّا حيث كان الخارج ظرفا لثبوت المحمول أو مبدأه في نفسه في الخارج ، سواء كان ذاتيّا للموضوع كقولنا : زيد إنسان ، أو عرضيّا له في قولنا : الجسم أبيض ، أو أمرا عدميّا باعتبار وله ثبوت في الخارج باعتبار آخر ، كما في قولنا : زيد أعمى ، فانّ العمى أي عدم البصر وإن كان أمرا عدميّا باعتبار ، لكنّه حيث كان عدم ملكة من محلّ قابل ، ولم يكن هو محض العدم ، بل كان لذلك الشكل وتلك الهيئة الحاصلان في البدن مدخل في انتزاعه ، كان له نحو ثبوت في الخارج بوجود موضوعه فيه ، ولذلك كان ثبوته له منشأ لثبوته في الخارج ، أو كان المحمول أمرا انتزاعيّا منتزعا من موجود خارجي ، أي ينتزعه العقل من الموجود الخارجي من حيث وجوده الخارجي كما في قولنا : السماء فوقنا. وقد يكون وجودا واقعيّا في نفس الأمر أعمّ من الوجود الخارجي والذهني الواقعى

٢٥٩

مع قطع النظر عن الفرض الذهني ، حيث كان المحمول أو مبدؤه منتزعا من كلا الوجودين كما في قولنا : الأربعة زوج ، وقد يكون وجودا ذهنيّا واقعيّا مع قطع النظر عن الفرض الذهني كما في قولنا : الإنسان نوع والحيوان جنس ، فإنّ النوعيّة والجنسيّة إنّما تنتزعان من الطبيعة الكلّية للإنسان والحيوان من حيث وجودهما في النفس ، لكن لا بمحض وجودهما الذهني الفرضيّ الاختراعي ، بل بوجودهما في النفس وجودا واقعيّا يترتّب عليه الآثار الواقعيّة المطلوبة منه ولو قطع النظر عن فرض الذهن وجودهما فيه.

وعلى التقادير فوجود الموضوع في الواقع ، أي مشارا به إلى واقع كما فصّلنا في الخبر الإيجابي ممّا لا خفاء فيه ، أعمّ من أن يكون ثبوت المحمول له حين الحكم كما في الأمثلة المذكورة أو بعده كما في قولنا : القيامة تكون ، والمعدوم الممكن يجوز أن يوجد ومن سيوجد يجوز أن يتعلّم ، وأمثال ذلك ، أو قبله كما في قولنا : وقائع الامم الماضية قد كانت.

ومن هذه الجملة يظهر أنّ الحكم الإيجابي الذي الغرض فيه الإيجاب كما يقتضي وجود الموضوع في الواقع كما فصّلناه كذلك يقتضي وجود المحمول أيضا فيه ، حتّى العدميّات ، إلّا أنّ وجود الذاتيّات بالذات والعرضيّات بالعرض.

وما ذكرنا كلّه ظاهر في الصوادق من الأحكام الإيجابيّة ، وأما في الكواذب منها كالاختراعيات المحضة منها فلا يقتضي وجود الموضوع في الواقع ، ولا وجود المحمول فيه ، بل إنّما يكون وجودها بمحض الفرض كما في قولنا : للأغوال أنياب ، والعنقاء طائر طويل العنق يسكن الجبال ، وأمثال ذلك.

وهذا كلّه بخلاف الحكم السلبي مطلقا سواء كان صادقا أو كاذبا حيث كان المقصود فيه السلب ، فإنّه لا يقتضي سوى وجود الموضوع في الذهن ، أي من جهة فرض الذهن له واختراعه إيّاه ، وأمّا الوجود الواقعي فلا ، بل قد يكون وقد لا يكون.

فظهر من ذلك معنى قول القوم : إنّ الإيجاب يقتضي وجود الموضوع بخلاف السلب.

وظهر أيضا أنّ المعدوم المطلق لا يخبر عنه مطلقا ، لا خبرا إيجابيّا ولا خبرا سلبيّا ، أمّا الإيجاب فلكونه يقتضي وجود الموضوع في الذهن وفي الواقع جميعا ، والمفروض كونه معدوما مطلقا غير موجود في شيء من الذهن والواقع أصلا ؛ هذا خلف ، وأمّا السلب ، فلكونه أيضا يقتضي وجوده في الذهن ، وإن كان بمحض الفرض ، والمفروض خلافه ،

٢٦٠