منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-108-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٨٢

المخصوصة لكونها علّة معدّة لذلك ، والعلّة المعدّة يجوز ، بل يجب زوالها عند حدوث معلولها.

وأيضا من المعلوم أنّ الصورة الأخلاطية تزول عند حصول الصورة الإنسانيّة ، أي الصورة المنويّة التي هي أوّل مراتبها ، وحصل الارتباط بين النفس والبدن ذلك الارتباط ، فكان ذلك الاستعداد منسوبا أوّلا وبالذات إلى حدوث تلك الصورة ، وثانيا وبالعرض إلى حدوث النفس ، وزال بذلك الحدوث ، أي حدوث الصورة والنفس ذلك الإمكان والتهيّؤ عن البدن ، إذ زال عنه ما كان علّة ماهيّة معدّة له ، أي الصورة الأخلاطيّة التي علّة معدّة لاستعداد البدن لإمكان حدوث النفس ، بل لحدوثها وحدوث تلك الصورة الإنسانيّة جميعا.

وأيضا ليس المراد بالإمكان هنا الإمكان الذاتي ، الذي تبقى مع حدوث الحادث ، بل الإمكان الاستعدادي الذي هو عبارة عن كون الشيء بالقوّة القريبة إلى الفعل ، وهذه القوّة لا تجتمع مع فعليّة ذلك الشيء الحادث ، بل تزول فيزول بسببها ذلك الإمكان والتهيّؤ عن البدن.

وقوله : «فبقي البدن محلّا لإمكان فساد الصورة المقارنة به ، وزوال ذلك الارتباط عنه ، وامتنع أن يكون محلّا لفساد ذلك المبدأ من حيث هو ذات مباين عنه».

كأنّه أراد أن يبيّن به أنّ البدن وإن كان لأجل كونه محلّا بالذات لإمكان حدوث تلك الصورة النوعيّة فيه محلّا بالعرض لإمكان حدوث نفس هي مبدأ قريب لتلك الصورة متعلّقة بالبدن ، لكنّه لأجل كونه محلّا بالذات لإمكان فساد تلك الصورة عنه ، لا يمكن أن يكون محلّا مطلقا ولو بالعرض لإمكان فساد ذات ذلك المبدأ القريب ، أي النفس ، بل إنّما يمكن أن يكون محلّا لزوال ارتباط النفس به ذلك الارتباط عنه ، وزوال ذلك الارتباط بزوال البدن ، لا يستلزم زوال ذات النفس المرتبط بالبدن كما مرّ وجهه ، بل لا يمكن ذلك ، حيث إنّ زوال الارتباط بزوال المرتبط به كالبدن هنا إنّما يمكن أن يستلزم زوال المرتبط كالنفس هنا ، إذا كان المرتبط متعلّق القوام بالمرتبط به ، وإذ ليس فليس.

فليس البدن حاملا لإمكان فساد النفس مطلقا ، ولا فساده مستلزما لفسادها. وهذا هو حاصل مقصوده ، حيث قال : «فبقي البدن محلّا لإمكان فساد الصورة ـ إلى آخره ـ» ، أي

٢٢١

فحيث كان البدن أوّلا محلّا لإمكان حدوث الصورة النوعيّة أوّلا وبالذات ، ولإمكان حدوث النفس متعلّقة به نوع تعلّق وارتباط ، كما ذكر ثانيا وبالعرض ، وحدثت الصورة والنفس وزال ذلك الإمكان والتهيّؤ عن البدن بزوال ما هو العلّة المعدّة لذلك ، أعني تلك الهيئة المخصوصة ، ولأنّ فعليّة الممكن الحادث تستلزم زوال إمكانه أعني كونه بالقوّة. فبقي أن تكون تلك المادّة البدنيّة الباقية بعينها مع هيئة مخصوصة اخرى ، غير الهيئة الاولى المعدّة لاستعداد الحدوث مستعدّة لإمكان الفساد ، أي فساد ما حدث أوّلا بحيث كانت العلّة القابلة لذلك هي تلك المادّة البدنيّة الباقية وتلك الهيئة الاخرى الحاصلة هنا علّة معدّة لها ، فتزول تلك العلّة المعدّة حين فعليّة الفساد ، والمادّة باقية مع فساد ذلك الفاسد عنها. وهذا الاستعداد لإمكان الفساد إنّما يمكن أن يكون استعدادا لفساد ما هو متعلّق القوام بتلك المادّة أعني الصورة الإنسانيّة ، وامتنع أن يكون استعدادا لفساد ما هو مباين القوام عنه ، أي النفس ، بل إنّما يكون استعدادا لفساد الارتباط الذي بينه وبينها ، حيث كانت أوّلا مبدءا قريبا لتلك الصورة النوعيّة ، وقد زالت عنها حينئذ هذه المبدئية لزوال ما هي مبدأ له.

وبما وجّهنا كلامه اندفع عنه الإيراد بأنّ الحامل لإمكان الفساد ، يجب أن يكون هو بعينه حاملا لإمكان الحدوث ، كما هو المقرّر عندهم ، ودلّ عليه كلام الشيخ في الشفاء كما نقلناه ، وهنا ليس الأمر كذلك ، إذ المفروض أنّ حامل إمكان الحدوث هو البدن مع هيئة مخصوصة ، والمفروض أنّ تلك الهيئة قد زالت ، فيكون البدن مع هيئة اخرى غير الاولى حاملا لإمكان الفساد ، ولا شكّ أنّ البدن الحامل للإمكان بهذا الاعتبار غير البدن بالاعتبار الأوّل.

وبيان الاندفاع أنّ الحامل للإمكانين في الحالتين ، هو المادّة البدنيّة الباقية بعينها في الحالتين. وأمّا الهيئتان فهما علّتان معدّتان ، ليستا بحاملتين ، ولا من أجزاء الحامل ، حتّى يكون الحامل متعدّدا أو غير باق ، فتدبّر.

ثم إنّه بما حرّرنا كلامه رحمه‌الله ، ظهر الجواب عن اعتراض الإمام ، وأنّه هو الجواب الذي فصّلناه سابقا إلّا أنّه رحمه‌الله زاد بيانا له.

فقال : بعد ذلك فإذن البدن مع هيئة مخصوصة شرط في حدوث النفس ، من حيث

٢٢٢

صورة أو مبدأ صورة ، لا من حيث هي موجودة مجرّدة ، وليس بشرط في وجودها ، والشيء إذا حدث فلا يفسد بفساد ما هو شرط في حدوثه ، كالبيت فإنّه يبقى بعد موت البنّاء الذي كان شرطا في حدوثه ، وربّما يتوّهم منه أنّه حمل اعتراض الإمام على وجهين :

الأوّل من جهة احتمال كون البدن علّة قابليّة للنفس ، وحاملة لإمكان حدوثها وفسادها.

والثاني من جهة احتمال كون البدن شرطا بالمعنى المصطلح لحدوث النفس ، فتنتفي هي بانتفائه ، كما هو شأن الشرط والمشروط به.

وانّه حيث أجاب عن الاعتراض بالوجه الأوّل كما بيّناه ، شرع في بيان الجواب عنه على الوجه الثاني ، بأنّه يجوز أن يكون البدن مع هيئة مخصوصة شرطا في حدوث النفس ، وأن لا تفسد بفساد البدن ، كما في البنّاء والبيت.

وهذا التوهّم باطل ، لأنّ الشرط بالمعنى الخاصّ المصطلح كما سبق بيانه ، هو ما يتوقّف وجود مشروطه على وجوده ، وينتفي مشروطه بانتفائه ، فكيف يصحّ ادّعاء خلاف ذلك. وأيضا كيف يصحّ التمثيل المذكور ، فإنّ البنّاء ليس شرطا في وجود البيت ، حيث إنّ التحقيق أنّ البنّاء ليس شرطا في وجود البيت ، ولا علّة لقوامه ، بل إنّ البنّاء علّة لوجود حركة خاصّة صادرة منه ، وتلك الحركة علّة معدّة لوجود البيت ، فلذا يبقى البيت بعد انعدام تلك الحركة بل بعد انعدام ذات البنّاء أيضا ، وإن اجتمع وجوده مع وجوده أيضا ، لكن لا يجتمع وجوده مع وجود تلك الحركة.

وهذا الذي ذكرناه موافق لما حقّقه الشيخ في إلهيات الشفاء في فصل في الفرق بين العلل الحقيقية والعلل بالعرض ، كما يظهر على من راجع إليه. (١)

فعلى هذا فالظاهر منه أنّه حمل اعتراض الإمام على الوجه الأوّل خاصّة ، وحمل الشرط في كلامه على ماله مدخل في وجود النفس في الجملة ، وإن كان على سبيل القابليّة لها أو على سبيل كونه علّة معدّة لها ، فأطلق اسم الشرط على البدن متابعة للإمام في ذلك ، فقال : إنّ هذا الاشتراط والمدخليّة.

__________________

(١) راجع الشفاء ، الإلهيات : ٢٥٧ ـ ٢٦١.

٢٢٣

إن كان من جهة مادّة البدن وكون البدن بمادّته حاملا لإمكان حدوث النفس وفسادها ، فقد عرفت حاله ، حيث بيّن فيما سبق أنّ البدن بمادّته القابلة ، وإن كان يمكن كونه حاملا لإمكان حدوث النفس بالعرض ، لكنّه لا يمكن أن يكون حاملا لإمكان فسادها مطلقا.

وإن كان من جهة الهيئة المخصوصة البدنيّة ، فهذا أيضا لا يضرّنا ، لأنّه يجوز أن يكون البدن مع هيئة مخصوصة شرطا ، أي علّة معدّة لحدوث النفس من جهة ارتباطها بالبدن ، أي من حيث كونها صورة بدنيّة ، كما في المرتبة المنويّة ، حيث إنّه لا يطلق على النفس في تلك المرتبة اسم النفس ، بل اسم القوّة والصورة كالصورة المعدنيّة ، وإن كانت النفس حينئذ مغايرة للصورة النوعيّة المنويّة لكونها متعلّقة القوام بتلك المادّة ، بخلاف النفس ، أو من حيث كونها مبدءا قريبا للصور النوعيّة كما في المراتب الاخر المتأخّرة عن تلك المرتبة الاولى ، لا من جهة كون النفس مباينة القوام عن البدن ، ومن حيث هي موجودة مجرّدة ، فإنّ النفس من هذه الحيثيّة ليس البدن ممّا له مدخل في وجودها حتّى على سبيل كونه علّة معدّة لها أيضا ، لكونه مباين القوام عنها ، والشيء كالنفس إذا حدث فلا يفسد بفساد ما هو شرط وعلّة معدّة لحدوثه ، كالبدن بتلك الهيئة المخصوصة ، إذ المفروض كون ذلك الشرط علّة معدّة لحدوثه وشأن العلّة المعدّة أن يجوز بل يجب انعدامها مع وجود معلولها كما هو المقرّر عندهم ، فلا يضرّنا انتفاء الشرط هنا حتّى لو كان الشرط أي البدن مع تلك الهيئة المخصوصة شرطا وعلّة معدّة لحدوث النفس ووجودها من حيث هي ذات موجودة مجرّدة مباينة القوام للبدن ، فكيف إذا كان شرطا لحدوث تعلّقها بالبدن وارتباطها به كما ذكرنا ، وهذا كالبيت فإنّه يبقى بعد موت البنّاء الذي هو شرط في حدوثه ، حيث إنّ البنّاء بحركته الخاصّة منه ، أي من حيث كونه بنّاء ومن حيث وصف البنّائيّة لا من حيث ذاته شرطا وعلّة معدّة لوجود البيت ، ويبقى البيت بعد موت البنّاء ، أي بعد زوال وصف البنّائيّة عنه ، أو بعد انعدام ذاته الذي كان منشأ لانعدام ذلك الوصف عنه.

وعلى هذا التوجيه فيكون هذا الكلام منه زيادة بيان للجواب ، وتأكيدا لما سبق منه ويكون هو رحمه‌الله غير متعرّض للجواب عن الاعتراض على احتمال كون البدن شرطا

٢٢٤

مصطلحا لحدوث النفس.

والجواب عنه ما ذكرناه سابقا.

ثمّ إنّه رحمه‌الله قد زاد في البيان فقال : فإن قيل : لم استوجب استيجاب البدن لحدوث صورة ما حدوث مبدأ لتلك الصورة ، ولم يوجب استيجابه لفساد تلك الصورة ، فساد مبدأ ذلك ، وما الفرق بين الأمرين؟

قلنا : لأنّ ما يقتضي حدوث معلول ما فإنّما يقتضي وجود جميع علل ذلك المعلول بشرائطها ، وما يقتضي فساد معلول لا يقتضي فساد العلل ، بل يكفيه شرط ما ولو كان عدميّا ، وشرحه واضح. وكأنّ غرضه رحمه‌الله من ذلك أنّه كما لا يمكن أن يكون البدن علّة حاملة لإمكان فساد النفس ، كذلك لا يمكن أن يكون فساد الصورة الإنسانيّة التي هي معلولة للنفس منشأ لفساد النفس التي هي علّتها ، حيث إنّ وجود المعلول وإن كان يتوقّف على وجود جميع علله بشرائطها ، لكن انعدام المعلول لا يستلزم انعدام جميع علله ، بل يكفي فيه انعدام شرط ما ولو كان عدميّا.

فبذلك يمكن انعدام تلك الصورة مع بقاء مبدئها القريب ، أي النفس. مع أنّ وجود النفس وبقاءها مستندان إلى العلل التي هي باقية. فبذلك تمّ الجواب عن الاعتراض ، واتّضح كمال الاتّضاح ، وظهر أنّ فساد البدن لا يمكن أن يكون منشأ لفساد النفس ، مع أنّه اتّضح بدليل آخر كما سبق ذكره ، أنّه لا يمكن أن يطرأ عليها الفساد من جهة ذاتها أو من جهة اخرى ، فثبت المقصود ، وهو امتناع طريان الفساد على النفس الإنسانيّة مطلقا ، وهذا الذي ذكرناه هو غاية توجيه كلام المحقّق الطوسي رحمه‌الله والله تعالى أعلم.

في التكلّم فيما قاله صدر الأفاضل من الجواب عن الاعتراض

وحيث انتهى الكلام إلى هذا المقام فلنتكلّم فيما قاله صدر الأفاضل من الأجوبة عن الاعتراض كما نقلنا كلامه سابقا ، فنقول : إنّه ممّا يلوح عليه آثار الإجمال والإهمال ، وعلى تقدير كونه متضمّنا لتحقيق الحال ودفع الإعضال فهو ممّا يعسر علينا دركه ، حيث إنّ ما ذكره في جوابه الأوّل الذي قال : «إنّه مما سنح له في سالف الأزمان على طريقة أهل النظر» ، لا يدلّ إلّا على أنّ النفس الإنسانيّة ، مجرّدة من حيث كونها ذاتا عقليّة ومادّية من

٢٢٥

حيث كونها متصرّفة في البدن ، وأنّها مجرّدة من حيث الذات ، مادّية من حيث الفعل ، وأنّها من حيث الفعل مسبوقة باستعداد البدن حادثة بحدوثه زائلة بزواله ، وأمّا من حيث حقيقتها أو مبدأ حقيقتها ، فغير مسبوقة باستعداد البدن إلّا بالعرض ، ولا فاسدة بفساده ، ولا يلحقها شيء من مثالب المادّيات إلّا بالعرض ، وهذا ممّا لا كلام فيه.

لكنّه لا يتبيّن منه أنّها من جهة مسبوقيّتها باستعداد البدن بالعرض ، كيف استلزم استعداد البدن لها بالعرض ، وجود ذاتها ، ولم يستلزم ذلك الاستعداد فساد ذاتها. وما الفرق بين الأمرين؟ مع أنّه اعترف أنّها من جهة المسبوقيّة باستعداد البدن حادثة بحدوثه زائلة بزواله. اللهم إلّا أن يوجّه ذلك بما يؤول إلى جواب المحقّق الطوسي ، وإلى ما فصّلناه من الجواب.

ثمّ إنّ ما ذكره ثانيا بقوله : «وأمّا الذي نراه الآن في تحقيق الحال ، فهو أنّ للنفس الإنسانيّة مقامات ونشئات ذاتية بعضها من عالم الأمر والتدبير : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (١) وبعضها من عالم الخلق والتصوير : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) ، (٢) فالحدوث والتجدّد ، إنّما يطرءان لبعض شأنها».

فهو أيضا ممّا لا كلام فيه ، لا في كونها ذات نشئات ، ولا في أنّ الحدوث والتجدّد يطرءان عليها من جهة كونها من عالم الخلق والتصوير ومن جهة تعلّقها بالبدن تعلّق التصرّف والتدبير.

إلا أنّ قوله : «فنقول : لمّا كانت للنفس ترقّيات وتحوّلات من نشأة اولى إلى ثانية وإلى ما بعدها ، فإذا ترقّت وتحوّلت من عالم الخلق إلى عالم الأمر ، يصير وجودها وجودا عقليّا إلهيا لا تحتاج إلى البدن وأحواله واستعداده ، فزوال استعداد البدن إيّاها لا يضرّها دواما وبقاء ، إذ ليس حال النفس في أوّل حدوثها كحالها عند الاستكمال ، ومصيرها إلى العقل الفعّال ، فهي بالحقيقة جسمانيّة الحدوث روحانيّة البقاء».

إن أراد به أنّ النفس في أوّل حدوثها مادّية بحسب الذات ، وتصير عند استكمالها مجرّدة ، فهو مع كونه خلاف ما تقرّر عندهم ، يستلزم انقلاب ذاتها من المادّية إلى التجرّد وهذا باطل.

__________________

(١) الإسراء : ٨٥.

(٢) الأعراف : ١١.

٢٢٦

وإن أراد أنّها في جميع الحالات مجرّدة بحسب الذات ، مادّية بحسب الفعل والتصرف في المادّي ، إلّا أنّ كمالاتها الذاتيّة التي هي منشأ الحكم بتجرّدها عند حدوثها ، وفي بعض مراتبها أقلّ منها عند استكمالها ، وهي عند الاستكمال أكثر ، حتّى أنّها بذلك يصير وجودها وجودا عقليّا ، ويظهر عند العقل أنّها مجرّدة ، فهو مسلّم ، لكن ما ذكره : «من أنّها عند الاستكمال لا تحتاج إلى البدن وأحواله واستعداده» ، إن أراد أنّها حينئذ يزول تعلّقها عن البدن واحتياجها إلى أحواله واستعداده ، وقد كانت قبل ذلك متعلّقة به محتاجة إليه ، وإلى استعداده وأحواله حتّى يحصل له الاستكمال ، والحاصل أنّها عند الاستكمال ، غير متعلّقة بالبدن أصلا ، حتّى يستلزم فساد البدن لفسادها ، بل باقية بذاتها ، فزوال استعداد البدن لا يضرّها دواما وبقاء.

فيرد عليه أنّه كيف صار استعداد البدن ايّاها منشأ لاستكمالها الذي هو منشأ لقطع تعلّقها عن البدن ، ولم يصر زوال ذلك الاستعداد منشأ لفساد ذاتها ولو بالعرض ، مع أنّه كان قبل ذلك استعداد البدن منشأ لحدوثها ولوجود ذاتها ولو بالعرض ، ولم يكن ذاتها قبل ذلك مادّية بحسب الذات وبعد الاستكمال مجرّدة بحسب الذات ، حتّى يمكن أن يكون استعداد البدن قبل ذلك منشأ لوجود ذاتها لأجل كونها مادّية ، ولا يمكن أن يكون هو حين الاستكمال منشأ لفساد ذاتها لكونها مجرّدة حينئذ.

اللهمّ إلّا أن يكون أراد أنّها حين حدوثها ، وإن كانت مجرّدة بالذات ، لكنّها محتاجة إلى البدن في أفعالها ، فلذلك استلزم استعداده إيّاها لحدوث ذاتها لأجل المناسبة التي بينهما ، وأمّا هي بعد الاستكمال ، فكما كانت مباينة الذات للبدن ، كذلك تصير مباينة له بحسب الأفعال أيضا ، فلا مناسبة ولا ارتباط بينهما بوجه ، حتى يصير زوال استعداده منشأ لفساد ذاتها ، وعلى هذا ، وإن امكن أن يكون لما ذكره وجه ، إلّا أنّه يرد عليه أنّه على هذا التوجيه يرجع إلى الجواب الذي ذكره المحقّق الطوسي ، وفصّلنا بيانه ، فليس جوابا آخر كما هو ظاهر كلامه.

وأيضا نقول : إنّه يكفي لعدم استلزام زوال استعداد البدن لزوال النفس من حيث الذات ، كونها مباينة للبدن بحسب الذات كما بيّناه ، فاعتبار كونها مباينة له بحسب الفعل أيضا ـ مع أنّه غير واضح ـ ممّا لا احتياج إليه في إثبات المطلوب ، وإن كانت المباينة

٢٢٧

بذلك أتمّ وعدم الاستلزام أظهر.

كيف ولو قيل بأنّ المباينة بحسب الفعل التي منشؤها الاستكمال المذكور ، لها مدخل في عدم ذلك الاستلزام ، وفي بقاء النفس ، لكان الدليل على بقاء النفس مخصوصا بالنفس التي حصل لها الاستكمال ، ولا يجري في النفوس التي لم يحصل لها الاستكمال ، والحال أنّ ظاهر كلام من أقام الدليل على عدم فساد النفس بفساد البدن ، هو العموم بحيث يشمل النفوس الغير الكاملة أيضا كنفوس الصبيان والبله والمجانين وأمثالها.

اللهمّ إلّا أن يكون قد أشار بذلك إلى أنّ هذا الدليل على بقاء النفس إنّما يجري في بقاء نفوس المستكملين في كمالاتها دون غيرهم كما سيأتي أنّ بقاء نفوس غير المستكملين محلّ خلاف بين الحكماء ، إلّا أنّ هذه الإشارة أيضا فيها شيء ، لأنّه في الشواهد الربوبيّة قال ببقاء نفوس غير المستكملين أيضا ، كما يظهر على من راجع كلامه ، والحال أنّ عمدة الدليل عندهم على بقاء النفس الإنسانيّة ، هو هذا الدليل الذي هو على توجيه مخصوص بالمستكملين ، وكفاك شاهدا على قوله ببقاء نفوس غير المستكملين أيضا ما نقلنا عنه سابقا في جواب ذلك الاعتراض ، حيث قال : فالجواهر النطقية بعد وجودها وتجرّدها عن الموادّ ، هي كسائر المفارقات الصوريّة لا ضدّ لها ، إذ لا قابل لها فتبقى ببقاء مبدئها ومعيدها ، ولو لم يكن فيها من المميّزات إلّا شعور كلّ منها بهويّتها لكفى ، فضلا عن الصفات والملكات والأنوار الفائضة عليها من المبادئ ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق القول في ذلك في موضع يليق به.

وإن أراد أنّها حين الاستكمال أيضا يبقى تعلّقها بالبدن ولو كان تعلّقا ضعيفا ، ثمّ يزول بعد ذلك بسبب ما هو منشأ لزوال التعلّق ، فيرد عليه أنّه على هذا يبقى تعلّقها به عند الاستكمال أيضا. فكيف لم يصر فساد البدن بعد ذلك منشأ لفساد ذاتها ، ولو بالعرض ، كما كان في ابتداء التعلّق منشأ لحدوث ذاتها ولو بالعرض.

وقوله : ومثالها كالطفل وحاجته إلى الرحم أوّلا والاستغناء عنه أخيرا ، وكمثال الصيد والحاجة في اصطياده إلى الشبكة أوّلا والاستغناء في بقائه عنها أخيرا ، ففساد الرحم والشبكة لا ينافي بقاء المولود والصيد ولا يضرّه.

هذا المثال إن كان مثالا لما كان بصدده في السابق من أنّ استعداد البدن في الابتداء كان

٢٢٨

منشأ لحدوث النفس ، وأنّ زواله في الانتهاء لا يضرّ بقائها ، فهو غير منطبق على الممثّل ، حيث إنّ البدن علّة قابليّة مستعدّة ، والرّحم والشبكة ليستا بعلّتين قابليّتين ، بل هما بالشرط بالمعنى المصطلح أشبه.

وإن كان مثالا لأنّ البدن يمكن أن يكون شرطا لوجود النفس أو لتعلّقها بالبدن في الابتداء ، وأنّ زوال الشرط بعد ذلك لا يضرّ بقاءها ، فهو ـ مع كونه خلاف ما كان بصدد بيانه أوّلا حيث إنّ كلامه في كون البدن علّة قابليّة لحدوث النفس ، لا في كونه شرطا له بالمعنى المصطلح ـ يرد عليه : أنّا لا نسلّم أنّ الشرط في وجود الطفل واصطياد الصيد ، هو خصوص الرّحم والشبكة من حيث خصوصيّتها ، بل الشرط هناك أمر كلّي ينحصر في أفراد ، والرّحم والشبكة من جملة أفراده ، فلذا لا ينعدم المشروط بانعدام شرط على الخصوص. نعم لو انعدم ذلك الأمر الكلّي من حيث جميع أفراده ، انعدم المشروط.

والحاصل أنّ الشرط أوّلا في وجود الطفل هو الرّحم ، ثمّ ينعدم هو ويخلفه شرط آخر ، وهو حصول حالة خاصّة ومكان خاصّ وهواء خاصّ ونحو ذلك ، به يبقى الطفل ، وهكذا إلى أن ينعدم الشرط بكلّيته فينعدم وجود الطفل.

وكذلك الشرط أوّلا في اصطياد الصيد هو الشبكة ، ثمّ يخلفها وينوب عنها أمر آخر من آلة اخرى كانس الصيد بالصيّاد والإنسان وعدم توحّشه عنه ، وهكذا إلى أن ينعدم الشرط بكلّيته ، فينعدم المشروط ، وحينئذ نقول : لو كان الشرط في حدوث النفس هو البدن مع هيئة مخصوصة من حيث الخصوصية ، للزم انعدام المشروط بانعدامه ، حيث إنّ معنى الشرط هو ذلك.

وكذلك لو فرضنا أنّ الشرط هناك أمر كلّي حيث يلزم من انعدام الشرط بكلّيته انعدام المشروط.

اللهمّ إلّا أن يصار إلى أنّ البدن شرط أوّلا وبالذات لتعلّقها به ، لا لوجودها إلّا بالعرض ، وحدوث التعلّق وإن كان يستلزم حدوث المتعلّق إلّا أنّ فساد التعلّق لا يستلزم فساد المتعلّق ، كما مرّ بيانه لكنّه رحمه‌الله لم يبيّن ذلك.

ثمّ إنّ ما ذكره ثالثا بقوله : «ثمّ اعلم أن العلّة المعدّة عند التحقيق علّة بالعرض ، وليست علّيتها كعلية العلل الموجبة ، حتّى يقتضي زوالها زوال المعلول ـ إلى آخره ـ» ، لو امكن

٢٢٩

توجيهه بما قرّرنا الجواب عن الاعتراض كما سبق ذكره ، لأمكن أن يكون له وجه ، لكنّه لا يكون وجها آخر من الجواب كما هو ظاهر كلامه.

وأمّا لو حمل على ما هو ظاهر كلامه ، فهو طريق آخر غير ذلك ، وفيه شيء ، حيث إنّه مع ابتنائه على الحركة في الجوهر ، وعلى أنّ صور المراتب البدنيّة باقية بعينها كلّ سابقة في مرتبة لاحقتها ، وفيهما ما لا يخفى.

مبناه على ما ذكره أخيرا بقوله : فإذا بلغت النفس الإنسانيّة في استكمالها وتوجّهاتها إلى مقام العقل ، واتّحدت بالعقل الفعّال بعد أن كانت عقلا منفعلا ، اطلقت عن المادة والحدثان ، وتجرّدت عن القوّة والإمكان ، وصارت باقية ببقاء الله سبحانه من غير تغيير وفقدان ، ويوافقه في ذلك ما نقلنا عنه في الشواهد الربوبيّة.

وهذا هو ما ذكره سابقا في قوله : فإذا ترقّت وتحوّلت من عالم الخلق إلى عالم الأمر ـ إلى آخره ـ وقد عرفت ما فيه.

وبالجملة ما ذكره رحمه‌الله ممّا يعسر علينا دركه وفهمه ، وعسى أن يفهمه غيرنا وهو رحمه‌الله أعلم.

وحيث بيّنا كيفيّة فناء بدن الإنسان ، وأقمنا الدليل النقلي والعقلي على بقاء نفسه الناطقة ، وانتهى الكلام إلى هذا المقام ، وخرجنا بالإطناب عمّا هو المرام ، فلنعد إلى ما كنّا بصدده من بيان حال الأجزاء المخصوصة من هذه النشأة الدنيويّة في إمكان البقاء وعدمه

٢٣٠

في بقاء النفوس

فنقول : إنّك إذا تأمّلت فيما ذكرنا من الدليل العقلي على بقاء النفس الناطقة الإنسانيّة أمكنك أن تجريه في بقاء نفس الجنّ أيضا إذا قيل : بأنّ نفوسهم أيضا كنفوس الإنسان مجرّدة عن الموادّ بحسب ذواتها ، متعلّقة بأبدانهم نحوا من التعلّق ، مرتبطة بها نوعا من الارتباط والتدبير والتصرّف ، وإن كانت أبدانهم مخالفة لأبدان الإنسان ، فيظهر لك أنّه بفساد أبدانهم لو فرضنا فسادها ، لا تفسد نفوسهم ، بل تبقى بعد خرابها أيضا.

وهذا مع قطع النظر عن أنّ الشرع دلّ على بقاء بعض أنواعهم ، أو أصنافهم كالشيطان ، حيث دلّ على أنّه من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم.

وكذلك أمكنك أن تجريه في بقاء العقول المجرّدة عن المادّة في ذواتها وأفعالها جميعا ، لو قيل بها ، وإن لم نقل بقدمها ، بل بحدوثها ، بل إنّ جريان ذلك الدليل في العقول أتمّ وأظهر ، إذ ليس لها أبدان ، ولا احتياج أصلا إلى المادّة ، حتّى بحسب الفعل أيضا ، كي يمكن أن يقال بفسادها بفساد أبدانها ، ويجاب بذلك الجواب.

وكذلك أمكنك أن تجريه في الملائكة ، سواء قيل بأنّهم عقول مجرّدة عن المادّة مطلقا ، كما هو مذهب بعضهم ، أو قيل كما يدلّ عليه ظاهر الشرع ، بأنّهم كالإنسان عبارة عن مجموع نفس وبدن ، إلّا أنّ أبدانهم ليست كأبدان الإنسان ، بل هي أجسام لطيفة وجواهر نورانية في غاية اللطافة والنورانية ، كالأجسام السماوية أو ألطف منها وأنور. وكذلك نفوسهم المتعلّقة بتلك الأجسام في غاية التجرّد والتعقّل والعلم والإدراك.

فيظهر لك أنّه لو فرض انقطاع علاقة نفوسهم عن أبدانهم ، بسبب زوال أبدانهم أو بسبب آخر ، لكان تبقى نفوسهم بعد ذلك ببقاء موجدهم ومبدعهم الباقي.

٢٣١

وكذلك أمكنك أن تجريه في الأفلاك وما فيها ، لو قيل بأنّ لها نفوسا كليّة غير منطبعة فيها ، بل مجرّدة متعلّقة بأجرامها نوع تعلّق ، فيظهر لك أنّه بفساد أجرامها لو فرض فسادها ، لا تفسد نفوسها الكلّية المجرّدة.

وبالجملة انّك إذا تأمّلت فيما تلوناه عليك سابقا ، تبيّن لك أنّ كلّ ما هو مجرّد عن المادّة في ذاته من الموجودات ، سواء كان متعلّقا بها في أفعاله ، كالنفس المجرّدة ، أو لم يكن متعلّقا بها فيها كالعقل ، إن جوّزنا وجوده ، فهو من حيث تجرّده عن المادّة في ذاته ممّا لا يطرأ عليه الفساد والزوال من جهة ذاته بذاته ، سواء كانت تلك النفس نفسا ناطقة إنسانيّة ، أو جنّية أو ملكيّة أو فلكيّة ، وإنّما الفساد الذي يتصوّر بالنسبة إلى النفس ، إنّما هو فساد تعلّقها عن بدنها وعن الجسم الذي هو آلة لها في أفعالها ، وبذلك يمكن أن يتأوّل قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) (١) على تقدير أن يراد بكلّ نفس هذا المعنى من النفس. وأن يتأوّل نظائر هذا ، ممّا ورد في الكتاب والسنّة ، وأنّه لا يتصوّر هذا ، أي فساد التعلّق أيضا بالنسبة إلى العقل أصلا ، حيث إنّ المفروض على تقدير جواز وجوده كونه غير متعلّق بالمادّة أصلا.

وبذلك استبان لك حال المجرّدات من الموجودات ، من جملة الأجزاء المخصوصة من العالم في كونها باقية بعد وجودها ، بقاء مستندا إلى علّة من خارج ، وإن كانت هي في ذواتها ممكنة الوجود والعدم.

__________________

(١) الأنبياء : ٣٥ ؛ آل عمران : ١٨٥.

٢٣٢

في بيان حال المادّيات من الموجودات

وبقي بعد ، بيان حال الموجودات المادّية من جملة أجزاء العالم ، سواء كانت أجساما أو صورا أو أعراضا ، وسواء كانت من جملة الكائنات الفاسدات ، أم غيرها ، فلنتكلّم في ذلك.

فنقول : إنّ الكائنات الفاسدات منها سواء كانت اجساما أو صورا أو أعراضا ، لا يخفى أنّ طريان الفساد والزوال عليها من جهة ذواتها ممكن ، بل واقع ، كما يدلّ عليه المشاهدة والعيان.

وبالجملة لا ينكره أحد ، ووجهه أنّ موادّها لكونها قابلة لكلا الضدّين ، يمكن أن تستعدّ لكون صورة أو هيئة فيها فتتكوّن هي فيها ثمّ تستعدّ لفساد تلك الصورة أو تلك الهيئة ، ولطروء ضدّها عليها فتفسد هي ، وقد يفسد بذلك الجسم أيضا لفساد جزئه أي صورته ، وأمّا تلك المواد ، فلعدم كونها قابلة لفساد نفسها فلا يطرأ عليها الفساد ، بل هي باقية في الحالين ، فلذلك لا ينعدم ذلك الجسم بالمرّة ، وقد مرّ بيان ذلك كلّه فيما سبق.

وأمّا غير الكائنات الفاسدات منها كالأفلاك وما فيها من النجوم والكواكب والكرات ، فهي وإن كانت ممّا زعمت الفلاسفة بقاءها وأبديّتها وعدم إمكان طروء الفساد عليها ، ولكنّها عند العقل ممّا لا مانع من طروء ذلك عليها ، لا من جهة ذواتها ، ولا من جهة غيرها ، فإنّها حيث كانت ممكنة بالذات ، يتساوى وجودها وعدمها بالنظر إلى ذواتها ، كما لا مانع من وجودها لا مانع عند العقل من امكان فنائها ، وانعدام صورها عن موادّها ، بل من انعدام موادّها أيضا وانعدامها بالمرّة.

وكذلك هي حيث كانت مركّبة من مادّة وصورة ، كالكائنات الفاسدات ، لا مانع عند

٢٣٣

العقل من كون موادّها قابلة لكلا الضدّين ، فتكون قابلة لكون صورة فيها ، فتتكوّن هي فيها ، وكذا لفسادها عنها فتفسد عنها ، وكذلك لا مانع عند العقل أن يقتضي العلم بالأصلح أن يخلق ضدّ صورها ، فيطرأ عليها ضدّها ، فتنعدم صورها وتفسد.

وما ذكره الفلاسفة من الوجوه الدالّة عندهم على عدم إمكان طروء الفساد عليها كلّها وجوه ضعيفة ، مبنيّة على اصول غير ثابتة ، لا يكاد يتمّ التمسك بها في ذلك. مثل ما ذكروه من أنّها قديمة ، وما ثبت قدمه امتنع عدمه ، كما مضى دليله. فإنّ ذلك مبنيّ على قدم العالم ، أو على قدم خصوص الأفلاك وما فيها ، وقد ثبت بطلان ذلك ، بل الحقّ أنّ العالم بجميع أجزائه حتّى الأفلاك وما فيها حادثة حدوثا دهريّا كما بيّناه في رسالة موضوعة لذلك ، فليرجع إليها. (١)

ومثل ما ذكروه من أنّ الكائن الفاسد ، يجب أن يكون فيه مبدأ ميل مستقيم ، والأفلاك وما فيها لوجود مبدأ ميل مستدير فيها ، لا يمكن أن يكون فيها مبدأ ميل مستقيم ، للتنافي بين الميلين ، وإذا لم يمكن أن يكون فيها مبدأ ميل مستقيم ، فلا يمكن أن يطرأ عليها ما هو لازم ذلك من التغيّر والفساد.

ولذلك فرّعوا على عدم إمكان الحركة المستقيمة فيها ، وكذا على أنّ الحركة المستقيمة لو جاز عليها لجاز أن تكون إلى فوق وسفل أيضا ، وقد ثبت عندهم أنّ المحدّد لذلك ، هو الفلك ، فيلزم أن يقع الحركة المستقيمة إلى جهة محدّدها. أي الفلك الذي فرض فساده ، فيلزم وقوع الحركة إلى جهة من غير محدّد لتلك الجهة ، عدم إمكان قبولها لطروء الخرق والالتيام والتخلخل والتكاثف ، وأمثال ذلك ممّا لا يمكن حصوله إلّا بالحركة.

ومثل ما ذكروه من عدم إمكان ضدّ لصور الأفلاك ، فكيف يطرأ عليها الفساد الذي هو يكون بطروء أضدادها عليها. وأنّ موادّها مخالفة بالنوع لموادّ الكائنات الفاسدات ، فلا تقبل فساد صورها عنها ونحو ذلك ممّا ذكروه في كتبهم ، فإنّ ذلك كلّها وجوه ضعيفة فاسدة ، كما هو مبيّن في كتب أهل الشرع من العلماء. ونحن أيضا في تعليقاتنا على الشفاء قد بيّنا فساد تلك الوجوه بما لا مزيد عليه ، فليطالع ثمّة.

غاية الأمر أنّ موادّها وصورها لكونها مخالفة من بعض الجهات لموادّ العنصريّات

__________________

(١) توجد نسخة هذه الرسالة في مكتبة مدرسة المروي بطهران ومكتبة آية الله المرعشي بقم.

٢٣٤

وصورها ، يجوز أن يقتضي العلم بالأصلح بقاءها بعينها ، أي بقاء صورها في موادّها في هذه النشأة الدنيوية ، ثمّ يقتضي عند قيام الساعة زوالها وانعدامها ، أي فساد صورها عنها بخلق أضداد تلك الصور ، فتطرأ عليها فتقبل موادّها تلك الأضداد وفساد الصور الاولى.

ولا مانع من ذلك عند العقل ، بل إنّ النصوص السمعيّة القطعيّة ، دالّة على وقوع الفساد وطروئه عليها ، كما دلّت على طروئه على غيرها من الأجسام العنصريّة ، كليّاتها وأجزائها وجزئيّاتها ، وتلك النصوص في الكتاب والسنّة من الكثرة بحيث لا تكاد تحصى ، مثل قوله تعالى :

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ). (١)

(وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ). (٢)

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ، وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ، وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ). (٣)

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً ، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً). (٤)

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ). (٥)

(وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ ، وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ). (٦)

(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ). (٧)

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ). (٨)

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ). (٩)

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). (١٠)

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ). (١١)

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً). (١٢)

__________________

(١) الأنبياء : ١٠٤.

(٢) الزمر : ٦٧.

(٣) الحاقّة : ١٣ ـ ١٧.

(٤) النبأ : ١٩ ـ ٢٠.

(٥) المعارج : ٨ ـ ٩.

(٦) المرسلات : ٩ ـ ١٠.

(٧) التكوير : ١١.

(٨) الانشقاق : ١.

(٩) الانفطار : ١.

(١٠) ابراهيم : ٤٨.

(١١) الرحمن : ٣٧.

(١٢) الطور : ٩ ـ ١٠.

٢٣٥

(السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً). (١)

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ). (٢)

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ). (٣)

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ). (٤)

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ). (٥) (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ). (٦)

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ، وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا ، لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ). (٧)

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا). (٨)

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً). (٩)

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ). (١٠)

(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ). (١١)

(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً). (١٢)

(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ). (١٣)

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها). (١٤)

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ). (١٥)

(وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ). (١٦)

وهذه الآيات الكريمة وأمثالها ، ممّا ورد في السنّة الشريفة في ذلك ، كما تدلّ دلالة قطعيّة على وقوع الفساد على الأفلاك وما فيها من النجوم والكواكب ، وعلى غيرها من

__________________

(١) المزمّل : ١٨.

(٢) القمر : ١.

(٣) القيامة : ٧ ـ ٩.

(٤) المرسلات : ٨.

(٥) التكوير : ١ ـ ٢.

(٦) الانفطار : ٢.

(٧) الكهف : ٩٨.

(٨) الكهف : ٩٨.

(٩) طه : ١٠٥ ـ ١٠٦.

(١٠) النمل : ٨٨.

(١١) الزمر : ٦٧.

(١٢) المزّمّل : ١٤.

(١٣) الانشقاق : ٣.

(١٤) الزلزلة : ١ ـ ٢.

(١٥) التكوير : ٦.

(١٦) الانفطار : ٣.

٢٣٦

الأرض والجبال والبحار ، كذلك تدلّ على عدم كونها قديمة ، إذ لو كانت قديمة ، لما جاز عليها وقوع الفساد ، حيث إنّ ما ثبت قدمه ، امتنع عدمه ، إلّا أنّها لا تدلّ على انعدام تلك المذكورات بالمرّة ، وفسادها بالكلّية ، بل إنّما تدلّ على فسادها على تلك الأنهاج المذكورة وعلى الأنحاء التي هي مضامين تلك الآيات الكريمة ، كما يظهر على من تدبّر فيها.

ولا يخفى أنّ تلك الأنهاج والأنحاء ليست بانعدامها بالمرّة ، بل إنّما هي فساد صورها وزوال هيآتها وعدم بقائها على النهج الذي كانت تلك الأشياء عليه أوّلا من الوجود والتشخّص والصورة والكيفيّة ، ولعلّ سرّ ذلك ـ والله أعلم ـ اقتضاء العلم بالأصلح عند قيام الساعة فسادها ، بأن يخلق أضداد تلك الصور ، فتطرأ عليها ، وحيث كانت موادّها قابلة لكلا الضدّين ، قبلت أضدادها ففسدت عنها تلك الصور الأوّل ، لكنّها باقية في الحالين حيث لا دليل على فسادها في ذاتها.

وبالجملة فهذه الآيات ونحوها ، لا تدلّ على انعدام تلك المذكورات بالمرّة حتّى بموادّها ، ولا دليل آخر أيضا عليه ، بل إنّما تدلّ على انعدامها بصورها وهيآتها ووجوداتها الخاصّة ، ويمكن بقاء موادّها ، ولا ضير فيه ، لو قلنا بحدوث تلك الموادّ وبقائها بعد وجودها لأجل عدم كونها قابلة للفساد ، كما في النفس الإنسانيّة ، ومن هذه الجهة ليس في ذلك انعدام تلك الأشياء بالمرّة ، فلذا يجوز إعادتها لو فرضنا إعادتها ، مع أنّا لو قلنا بوجود نفس مجرّدة متعلّقة بالأفلاك وما فيها كما هو مذهبهم ، وقلنا ببقاء تلك النفوس بعد خراب الأفلاك وفساد صورها وهيآتها كما أشرنا إليه سابقا ، لكان عدم انعدام الأفلاك وما فيها بالمرّة أظهر ، إذ النفوس المتعلّقة بها باقية وكذا موادّها. والله أعلم.

٢٣٧

في بيان معنى ما دلّ من السمعيّات

على هلاك كلّ ما سواه أو على الفناء بالمرّة

ثمّ إنّه قد وردت في القرآن الكريم آيات اخر في هذا المقام :

منها قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ). (١)

وهذه مفادها لو كان المراد بالنفس ، النفس بالمعنى المصطلح ، أنّ كلّ نفس تذوق الموت بخراب بدنها وزوال الجسم الذي هي متعلّقة به نوعا من التعلّق ، وتنقطع علاقتها عنه ، فيشمل هذا كلّ ذي نفس مجرّدة من الإنس والجنّ والملك والفلك ، ولو كان المراد بالنفس أعمّ من النفس المجرّدة والمنطبعة كالصور والقوى الحالّة في الأجسام ، كان مفاد الآية أنّ كلّ نفس مجرّدة أو منطبعة تذوق الموت ، أمّا النفس المجرّدة فكما ذكر ، وأمّا المنطبعة فبفسادها في ذاتها ، وزوالها عن مادّتها ، لقبول تلك المادّة فسادها عنها من غير فساد ذات المادّة بذاتها.

ومنه يعلم الحال لو اريد بالنفس ذات الشيء ، أي الشيء مطلقا مجرّدا كان أم مادّيا ، فلكيّا كان أم عنصريّا وحينئذ لو لم نقل بالعقول المجرّدة ، لكان عموم كلّ شيء في الآية باقيا بحاله ، ولو قلنا بها ينبغي تخصيص ذلك العموم بما سوى العقول ونحوها ، إذ الدليل العقلي كما مضى ذكره ، قائم على بقاء الموجودات المجرّدة عن المادّة في ذاتها ، وكذا المفروض أن لا مادّة هنا يتعلّق بها العقل ، حتّى يمكن أن يقال إنّ موته عبارة عن قطع تعلّقه عن تلك المادّة كما ينبغي تخصيصه بغير الصادر الأوّل أيضا.

وكذا بغير موجودات النشأة الاخرويّة ، حيث إنّا قد أقمنا فيما مضى الدليل على بقائها

__________________

(١) آل عمران : ١٨٥ ؛ الأنبياء : ٣٥.

٢٣٨

أيضا ، والله تعالى أعلم.

ومنها قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ). (١)

وهذه بمنطوقها حيث قال : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) : تدلّ على فناء كلّ من على الأرض من ذوي العقول ، أو فناء كلّ ما على الأرض من ذوي العقول وغيرهم ، وينبغي أن يكون معنى الفناء في شأنهم كما فصّل سابقا.

وبمفهومها حيث قال : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) تدلّ على فناء كلّ شيء سوى وجهه تعالى ، وذاته المقدّسة تعالى شأنه ، سواء كان من في الأرض أو من في السماء أو نفس الأرض والسماء وأجزائهما وجزئيّاتهما ، حيث إنّ بقاء وجه الربّ تعالى أي ذاته وحده كما هو مفهوم الآية ، إنّما يكون إذا انعدم ما سواه مطلقا فيرجع مفاده إلى فناء كلّ شيء سواه تعالى. وينبغي أن يكون معنى الفناء حينئذ كما ذكر أيضا سابقا في فناء كلّ شيء ، مع أنّه يمكن تأويل هذه الآية بما سيأتي من تأويل قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ، (٢) فانتظر.

ومنها قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ). (٣) وقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ). (٤)

وهاتان الآيتان تشتركان في الدلالة على عروض تلك الحالة التي هي مضمونهما من الفزع أو الصعق على كلّ من في السّماوات ومن في الأرض من ذوي العقول حتّى الملائكة أو على كلّ ما فيهما من ذوي العقول وغيرهم ، إلّا أنّ الاولى منهما تدلّ على أنّ تلك الحالة هي الفزع ، والفزع معناه نوع اضطراب وتغيّر حالة والثانية منهما تدلّ على أنّ تلك الحالة ، هي الصعق وهو الموت ، فإنّ حملت الاولى على الثانية ، فيكون المراد بتلك الحالة الموت ، أو الثانية على الاولى فيكون المراد بها الاضطراب والتغيّر ، وان لم تحمل إحداهما على الاخرى ، فيكون المراد طروء تينك الحالتين جميعا عليهم ، ولا بعد في أن تطرأ الحالة الاولى أي الفزع أوّلا ثمّ تطرأ الحالة الثانية أي الموت ثانيا.

__________________

(١) الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) القصص : ٨٨.

(٣) النمل : ٨٧.

(٤) الزمر : ٦٨.

٢٣٩

وكذا تشترك الآيتان في الدلالة على عروض التغيّر والفساد والموت على من في السموات والأرض ، إلّا من شاء الله ، وقد فسّره المفسّرون تارة بالملائكة الأربعة أي جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، وتارة بالشهداء.

وبالجملة فالمراد بمن شاء الله إمّا جماعة من الملائكة المقرّبين أو جمع من النبيّين والصدّيقين. فيصير المعنى أنّ تلك الحالة عند النفخة ، لا تعرض لهؤلاء الملائكة وللشهداء ، فيكون مفاد الآيتين عروض الموت والفناء لكلّ أهل العقل أو لكلّ موجود في السماء والأرض ، غير من شاء الله ، وينبغي أن يفسّر الموت والفناء بالنسبة إلى كلّ أحد وكلّ شيء بما يناسب حاله كما ذكر سابقا.

ومنها قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). (١)

وهذه الآية لو اريد بها العموم الحقيقي بحيث يشمل كلّ شيء ممّا سواه تعالى حتّى ما دلّ الدليل على بقائه أيضا كالصادر الأوّل ، والنشأة الاخرويّة بما فيها والنفوس المجرّدة الإنسانيّة وغيرها ، فينبغي أن تتأوّل الآية بما أوّلها بعضهم من أنّه لعلّ المراد بالهلاك ضعف الوجود وليسيّة الماهيّات الممكنة في أنفسها ، يعني أنّ كلّ شيء بحسب وجوده الفائض عليه ضعيف ناقص ليس وجوده تامّا كاملا ، حيث إنّه لو فرض انقطاع فيض الوجود عنه ولو آنا مّا ، لا نعدم وفني إلّا وجهه أي إلّا من جهة إفاضته تعالى الوجود عليه ، فإنّه بهذه الجهة يكون موجودا باقيا ، وبعبارة اخرى أنّ كلّ موجود من الموجودات وكلّ ماهيّة من الماهيّات الممكنة من حيث إنّه ممكن في ذاته ، فهو قابل لطريان العدم عليه ، كما أنّه قابل لطريان الوجود عليه ، فهو بالنظر إلى ذاته وماهيّته ممكن هالك ، ليس له وجود ، بل إنّما وجود من جهة ارتباطه بجاعله ومفيض الوجود عليه.

والحاصل أنّه على تقدير إرادة العموم الحقيقي من كلّ شيء ، ينبغي إرادة أنّ المراد بالهلاك ، الهلاك في مرتبة الذات ، لا الهلاك بالفعل الطارئ بعد الوجود.

وأمّا لو اريد بكلّ شيء العموم في الجملة ، بحيث يعمّ كلّ شيء عدا ما استثني ، لأمكن إرادة الهلاك بالفعل منه ، ويكون المعنى أنّ كلّ شيء سوى ما دلّ الدليل على بقائه ، يعرض له الهلاك والموت بالمعنى الذي يناسب حاله ، كما ذكر سابقا حتّى الملائكة أيضا ، أمّا

__________________

(١) القصص : ٨٨.

٢٤٠