منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-108-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٨٢

لإمكان جوهر مفارق مباين الذات إيّاه ، فإن جعلوها من حيث كونها مبدءا لصورة نوعية لذلك الجسم ، ذات حامل لإمكان الوجود ، فهلّا جعلوها من تلك الحيثيّة بعينها ذات حامل لإمكان العدم. وبالجملة ما الفرق بين الأمرين مع تساوي النسبتين. ـ انتهى كلامه.

الوجه الثاني ـ وهو يظهر من الإمام في آخر كلامه في ذلك الاعتراض لو أراد بالشرط معناه الاصطلاحي ، حيث قال : وبالجملة يجوز أن يكون البدن شرطا لوجود النفس ، ويلزم انعدام المشروط عند فقدان الشرط ـ ، انّه يجوز أن يكون البدن شرطا لوجود النفس. وكأنّه على هذا إيراد على قول الشيخ ، وإذا كان كذلك ، لم يكن أمثال هذه في أنفسها قابلة للفساد بعد وجوبها بعللها وثباتها بها.

وتحريره أنّ تلك العلل التي بها وجود النفس وثباتها لا تخلو عن أن تكون علّة تامّة لها أو غير تامّة ، وعلى الأوّل فإمّا ان تكون قديمة كما هو مذهبهم ، فيلزم حينئذ قدم النفس أيضا وهو باطل ، لكونها حادثة بحدوث البدن ، كما هو مذهب الشيخ أيضا ، وإمّا أن تكون حادثة قبل البدن ، فهو مع أنّه ليس مذهبا لهم ، يلزم على تقديره حدوث النفس قبل البدن ، وهو أيضا خلاف المفروض وإمّا أن تكون حادثة حين حدوث البدن ، فهو أيضا مع كونه خلاف مذهبهم ، يستلزم أن تكون تلك العلل كافية في وجود النفس فلم يكن للبدن مدخل أصلا في وجودها ، ولو بالعرض ، وهو أيضا خلاف ما ذهبوا إليه ، وعلى الثاني أي أن تكون تلك العلل علّة غير تامّة ، فتماميّتها تحتاج إلى شرط أو إلى جزء أخير لتلك العلّة فسواء فرض قدمها أو حدوثها قبل البدن أو معه ، جاز أن يكون البدن شرطا في تماميّة تلك العلّة وفي حدوث النفس ، بل أنّ الظاهر أنّ حدوث البدن شرط لحدوثها أي لحدوث النفس ، وإلّا لما كانت حادثة بحدوثه ، وإذا كان البدن شرطا لحدوثها يلزم فساد النفس بفساده ، لأنّ المشروط ينعدم بانعدام شرطه وهو المطلوب ، وهذا الوجه من الاعتراض كأنّه مبنيّ على التنزّل وتسليم أنّ النفس لكونها مجرّدة عن المادّة ، لا يكون لها محلّ لإمكان حدوثها وفسادها ، وحاصله أنّا سلّمنا أنّها لأجل تجرّدها في ذاتها عن المادّة وكونها غير متعلّقة القوام بها لا يمكن أن يكون البدن ولا شيء آخر من مادّة أو موضوع محلّا لإمكان حدوثها أو فسادها ، لكن لا مانع من أن يكون البدن شرطا لحدوثها [و] وجودها حيث إنّ المفروض أنّها حادثة بحدوثه ، وإذا جاز أن يكون شرطا لها والحال أنّ

٢٠١

المشروط ينعدم بانعدام الشرط ، جاز أن تفسد النفس بفساد البدن.

وبهذه الطريق سلك صاحب المحاكمات في إيراده على الدليل الأوّل الذي ذكره الشيخ ، وهو إيراد على قول الشيخ هناك : «فاستحالة الجسم عن أن يكون آلة لها وحافظا للعلاقة معها بالموت لا يضرّ جوهرها ، بل يكون باقيا بما هو مستفيد (١) الوجود من الجواهر الباقية.» إلّا أنّه فصّل تفصيلا آخر في الاعتراض ، يحتاج إلى توضيح.

قال : وفيه نظر ، لأنّ الجوهر العقليّ الموجد للنفس إن كان علّة تامّة لها ، لزم قدمها لقدمه أي لقدمه عندهم ، وإن كان علّة فاعليّة وتوقّف وجودها على حدوث البدن ، أي كما هو المذهب الحقّ ومذهب الشيخ من أنّ النفس حادثة بحدوث البدن ، والحال أنّ ليس ذلك إلّا لتوقّف وجودها على حدوث البدن ، فلم لم يتوقّف بقاؤها على بقائه ، أي والحال أنّ البقاء ليس إلّا الوجود الأوّل المستمرّ. وعلى تقدير أن يكون البقاء معنا آخر غير الوجود الأوّل فلا يخفى أنّه أيضا نحو من الوجود ، وإذا جاز توقّف وجودها على حدوثه ، فلم لا يجوز توقّف بقائها على بقائه ، بحيث ينتفي الأوّل بانتفاء الثاني ، فالنفس إن كانت مجرّدة إلّا أنّها متعلّقة بالبدن ، فجاز أن يكون تعلّقها شرطا لبقائها فإذا انتفى انعدمت ، أي فالنفس وإن كانت مجرّدة عن المادّة في ذاتها لا تستدعي محلّا لإمكان حدوثها إلّا أنّها متعلّقة بالبدن وحادثة بحدوثه ، فجاز أن يكون حدوث البدن ، ثمّ تعلق النفس به شرطا لبقائها كما كان ذلك شرطا لحدوثها ، فإذا انتفى ذلك الشرط الذي هو شرط لحدوثها ولبقائها انعدمت النفس ، وفسدت ، حيث إنّ المشروط ينعدم بانعدام شرطه.

والحاصل أنّ البدن ما كان موجودا وكذا النفس ما كانت موجودة ثمّ وجد البدن والنفس أي كما هو المذهب الحقّ من أنّ النفس حادثة بحدوثه ، ثمّ ينعدم البدن فلا يخلو إمّا أن يكون للبدن دخل في وجود النفس ، أي بطريق الشرطيّة أو نحوها أولا ، فإن لم يكن له دخل في وجود النفس أصلا فلم لم يوجد النفس قبل وجود البدن ، أي لم يوجد قبله وجودا قديما كما هو مقتضى قدم علّتها الموجدة عندهم أو وجودا حادثا قبله ، لو فرضنا علّتها حادثة قبله ، وإن كان له دخل في وجودها فلم لا يجوز أن يكون له دخل في بقائها ، أي والحال أنّ مدخليّة شيء فى وجود شيء ، يستلزم مدخليّته في بقائه أيضا حتّى إذا

__________________

(١) مبدأ (خ ل).

٢٠٢

انعدم ، ـ أي البدن ـ انعدمت ـ أي النفس ـ وفيه المطلوب.

وهذا الذي ذكرنا إنّما هو تحرير وجوه تلك الشبهة الموردة على كلام الشيخ في الإشارات ، ويعلم منه كيفيّة تحريرها وإيرادها على كلامه في الشفاء. وتلخيص الكلّ ، أنّ القول ببقاء النفس بعد خراب البدن ، ينافي القول بحدوثها بحدوثه كما ذكرنا.

في تحرير الجواب عن الشبهة

وأمّا بيان الجواب عن تلك الشبهة فيستدعي تمهيد مقدّمة ، هي أن قد استبان لك ممّا حقّقه الشيخ في الشفاء على ما نقلنا كلامه سابقا أنّ تغيّر الكائنات الفاسدات ، إنّما يتحقّق إذا كان هناك تركّب من مادّة وصورة يكون بتلك الصورة كون ذلك المركّب بالفعل ، وبتلك المادّة كونه بالقوّة ، وكونه قابلا للضدّين المتواردين عليه ، وبالجملة أن يكون هناك محلّ قابل لكلا الضدّين اللذين هما متعلّق القوام به ، كالمادّة بالنسبة إلى صورة وضدّها وكالموضوع بالنسبة إلى عرض وضدّه وأن يكون في ذلك المحلّ قوة قبول صورة أو عرض فيحدث ذلك المقبول في ذلك المحلّ القابل ، وأن يكون فيه قوّة قبول فساده عنه ، فيفسد هو عنه إلّا أنّ ذلك الكائن الفاسد إن كان صورة هي جزء من المركّب منها ومن المادّة ، وبها قوام مادّتها كما في الجسم ، كان كون تلك الصورة سببا لكون المركّب وكذا فسادها سببا لفساده ، لفساد المركّب بفساد جزئه ، وإن لم يكن صورة كذلك ، بل عرضا بالنسبة إلى موضوعه ، لم يكن كونه سببا لكونه ، ولا فساده سببا لفساده ، فيظهر لك أنّه يشترط في الكون والفساد أن يكون هناك امور :

منها أن يكون هناك محلّ قابل لكون الكائن فيه ولفساده عنه ، مادّة كان ذلك المحلّ او موضوعا ، إذ لو لم يكن هناك محلّ كذلك فلا قبول فلا كون ولا فساد.

ومنها أن يكون ذلك المحلّ واحدا بالذات وكذا بالاعتبار باقيا في الحالين أي أن يكون ذلك المحلّ بعينه من جهة كونه قابلا لكون أمر فيه محلّا لفساده عنه ، وكان باقيا بعينه في الحالين ، إذ لو لم يكن واحدا بالذات وكذا بتلك الجهة ، لكان يجوز أن يكون محلّ قابل لكون أمر فيه ومحلّ آخر مغاير للأوّل بالذات أو بالاعتبار ، أي لا من جهة كونه محلّا لكون ذلك الكائن فيه محلّا لفساد ذلك الكائن عنه ، وهذا ممتنع ، إذ المفروض أنّ هناك

٢٠٣

كون شيء وفساد ذلك الشيء بعينه ، وهذا إنّما يكون إذا كان المحلّ واحدا بعينه من جهة واحدة ، بتلك الجهة يكون المحلّ قابلا لكلا الضدّين حتى يكون الحالّ الكائن الفاسد واحدا ، حيث إنّ تشخّص ذلك الشيء الكائن الفاسد إنّما يكون بمحلّه من مادّته أو موضوعه ، وإذا تغاير المحلّان ذاتا أو من بعض الجهات التي بها يختلف كون المحلّ قابلا للضدّين ، فلا يكون الفاسد هو بعينه ذلك الكائن ، بل أمر آخر حالّ في محلّ آخر غير محلّ الأوّل ذاتا أو من تلك الجهة ؛ هذا خلف وكذلك لو لم يكن ذلك المحلّ باقيا بعينه في الحالين ، لجاز أن يكون محلّا قابلا لكون أمر فيه وكان باقيا في تلك الحال وقابلا أيضا لفساد ذلك الأمر بعينه عنه ، ولم يكن في تلك الحال باقيا بل فاسدا ، وهذا أيضا ممتنع ، لأنّ المفروض أنّ ذلك المحلّ قابل لفساده عنه ، وفساد شيء عن شيء فرع بقاء الشيء الثاني بعينه ، حتّى يتصوّر فساد الشيء الأوّل عنه.

نعم يمكن أن يكون محلّ واحد مع صورة أو هيئة مخصوصة مستعدّا لكون شيء فيه بإعداد تلك الصورة أو الهيئة ، بأن تكون تلك الصورة أو الهيئة علّة معدة له ، ولجعله مستعدّا لذلك الشيء فيكون ذلك المحلّ بذلك الاستعداد محلّا قابلا لكون ذلك الشيء ، فيحدث هو فيه ، وينعدم تلك الصورة أو الهيئة التي هي العلّة المعدّة ، فيحدث فيه صورة اخرى غير الاولى ، ويكون ذلك المحلّ باقيا بعينه فيستعدّ بإعداد صورة اخرى فيه أو هيئة غير الاولى ، لفساد ذلك الشيء عنه ، فيفسد ذلك الشيء عنه ويفسد عنه تلك العلّة المعدّة أيضا ويكون ذلك المحلّ باقيا بعينه حينئذ أيضا. إذ لا دخل لتلك العلّة المعدّة لاختلاف المحلّ ، لا ذاتا ولا من الجهة التي بها يكون المحلّ قابلا للضدّين ، أمّا عدم الاختلاف ذاتا فظاهر ، وأمّا عدم الاختلاف بتلك الجهة ، فلأنّ العلّة المعدّة وإن كان لها دخل في استعداد المحلّ أي لزيادة استعداده وتماميّة قابليّته لكن ليس لها دخل في أصل الاستعداد وأصل القبول ، بل ذلك مستند إلى ذات المحلّ بذاته ، فتدبّر.

ومنها أن يكون الأمر الكائن الفاسد مع كونه غير ذلك المحلّ متعلّق القوام بذلك المحلّ ، إذ لو كان مباين القوام عنه لم يجز أن يكون كونه فيه ، كيف ولو جاز ذلك ، لجاز أن يحصل كون شيء من الأشياء المباينة للحجر مثلا كالنفس مثلا في الحجر ، ولجاز أن يكون كون من هو في المشرق مثلا في من هو في المغرب ، وإذا لم يجز كون شيء مباين في

٢٠٤

شيء مباين له لم يجز فساده عنه ، إذ جواز فساده عنه فرع جواز كونه فيه ، وحيث امتنع الأوّل امتنع الثاني.

ومن هذه الجهة أيضا لم يجز أن يكون شيء من الأشياء محلّا لكون نفسه فيه ولا محلّا لفساده عنه. أمّا الأوّل فلكون الكائن على هذا التقدير عين ذلك المحلّ ، والحال أنّه يجب أن يكون غيره ، وأمّا الثاني ، فلكون فساد نفسه مبائنا له والشيء لا يجوز أن يكون محلّا لما هو مباين القوام عنه ، وجميع ما ذكرناه ظاهر عند التأمّل الصادق. وإذا تمهّدت هذه المقدّمة فنقول :

شروع في تحرير الجواب

لا يخفى عليك أنّ النفس الإنسانية بالنسبة إلى بدنها ذات جهتين ، أي أنّها من حيث ذاتها وحقيقتها جوهر مفارق مجرّد عن المادّة مباين القوام بالذات للبدن ، ومن جهة تصرّفها في البدن وحفظها لمزاجه وكونها مبدءا قريبا لصورة نوعية للبدن ونحو ذلك ، لها علاقة بالبدن ومقارنة له ونوع مناسبة وارتباط معه.

ولا يخفى أيضا أنّ البدن ولا شيئا من أجزائه ومراتبه ، لا يمكن أن يكون حاملا لإمكان حدوث النفس وفسادها من الجهة الاولى ، ولا ممّا له مدخل في وجودها بوجه من وجوه العلّيّة ، لأنّها من تلك الجهة مباينة الذات والقوام للبدن وأجزائه ومراتبه ، والحال أنّ الكائن الفاسد يجب أن يكون متعلّق القوام بمحلّه ، وكذا يجب أن يكون المعلول ممّا لا يبائن علّته. فبقي أن يكون البدن حاملا لإمكان حدوثها وفسادها من الجهة الثانية أي محلّا لإمكان تعلّق النفس به وفساد ذلك التعلّق عنه. وهذا أيضا ممّا لا يجوز ، لأنّ كلّ مرتبة تفرض من مراتب البدن مع مزاج خاصّ بها أو صورة نوعية خاصّة بها أو شخصيّة ، إذا اعتبرت تلك المرتبة بمادّتها وصورتها ومزاجها جميعا كمرتبة النطفة أو العلقة أو المضغة أو العظام واللحم ، مع موادّها وصورها وأمزجتها ، لا يمكن أن تكون حاملة لإمكان حدوث النفس ، ولا لإمكان فسادها وبيان ذلك أنّ محل إمكان الحدوث والفساد كما مرّ بيانه يجب أن يكون باقيا بعينه في الحالين ، أي في حال الحدوث والفساد ، وكذا في حالات بقاء ذلك الحادث. وهذه المراتب البدنيّة إذا اعتبرت بموادّها وصورها محلّا

٢٠٥

لإمكان فسادها ليست كذلك ، فإنها كما هو المعلوم بالبديهة متغيّرة غير باقية بعينها ، وبذلك المزاج الخاص والتركيب الخاص والصورة المخصوصة التي هي بتلك الجهات جميعا لا بمادّتها وحدها ، يمكن أن تعتبر بدنا للنفس.

وليس الأمر كما ظنّه صدر الأفاضل فيما نقلنا عنه في جواب هذا السؤال : «إنّ كلّ مرتبة سابقة من تلك المراتب باقية مع المرتّبة اللاحقة ، وإنّ هذه المراتب ، استكمالات مترادفة وليست إلّا ضربا من الاشتداد ، لا بأن تحدث صورة فتفسد ، ثمّ تحدث صورة اخرى مباينة للاولى» ، لكون ما ادّعاه من عدم الكون والفساد مخالفا للبديهة.

وأيضا فإنّ عدم المباينة وإن كان مسلّما ، لكن عدم المغايرة وعدم الاختلاف غير مسلّم ، بل الاختلاف والمغايرة ممّا لا يمكن إنكاره ، وفيه المطلوب.

ويدلّ عليه قوله تعالى : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) (١).

وعلى هذا فيكون ما هو المفروض محلّا لذلك في كلّ مرتبة لا حقة ، غير ما هو في المرتبة السابقة ، إمّا بالذات أو بتلك الجهة السابقة ، وقد ثبت عندهم أنّ النفس في اولى تلك المراتب أي المرتبة المنويّة ، تكون فائضة عن المبدأ الفيّاض ، متعلّقة بتلك المرتبة البدنية ، باقية بعدها بعينها إلى آخر تلك المراتب ، وإلى ما بعدها إلى أوان حلول الأجل وانقطاع علاقتها عن البدن ، وأنّها في جميع تلك المراتب متعلّقة بالبدن باقية بعينها ، واحدة بالذات ، مختلفة بحسب الأفعال وباعتبار مراتب الكمالات ، لا أنّها تفسد وتحدث اخرى ، ولا أنّها تبقى وتحدث اخرى مجتمعة معها ، كما مرّت الإشارة إليه وسيأتي تحقيقه. وحينئذ فالنفس وكذا تعلّقها بالبدن باقيان في تلك المراتب ، وتلك المراتب متغيّرة غير باقية بعينها ، فكيف يمكن أن تكون تلك المراتب مع تغيّرها حاملة لإمكان تعلّق النفس بها ، مع أنّه يجب أن يكون حامل إمكان كائن باقيا في الحالين. ولو سلّم بقاء تلك المراتب بموادّها وصورها حتّى يمكن أن يفرض كونها حاملة لإمكان تعلّقها وبقاء التعلّق ، فكيف يمكن أن يكون مرتبة من المراتب البدنيّة مع موادّها وصورها حاملة لإمكان فساد النفس عنها ، مع أنّه يجب أن يكون حامل إمكان الفساد هو بعينه حاملا لإمكان الحدوث ، وباقيا في حالة الفساد ، كما مرّ وجهه ، والحال أنّا نجزم أنّ تلك المرتبة

__________________

(١) الزمر : ٦.

٢٠٦

المفروض كونها حاملة لإمكان فسادها ، تفسد بصورتها وهيئتها ومزاجها البتّة ، ثمّ يتبعه زوال علاقة النفس عن البدن ، فكيف تكون تلك المرتبة حاملة لإمكان فسادها وزوال علاقتها عنها ، فإنّ فساد شيء عن شيء يستلزم بقاء الشيء الثاني حين زوال الشيء الأوّل. والمفروض هنا خلافه.

نعم لو فرضنا أن يكون مرتبة من مراتب البدنيّة بمادّتها وبصورة خاصّة ، أو هيئة خاصّة حاملة لإمكان حدوث النفس وتعلّقها بها ، كالمرتبة الأخلاطيّة بحيث يكون المحلّ القابل المستعدّ لذلك الحدوث والتعلّق ، هو نفس تلك المادّة ، ويكون تلك الصورة أو الهيئة الأخلاطيّة علّة معدّة لها ، فيحدث حينئذ النفس متعلّقة بها وينعدم تلك الصورة أو الهيئة لكونها علّة معدّة يجب أو يجوز زوالها فيحدث فيها صورة اخرى أو هيئة غير الاولى وفرضنا أنّ تلك المادّة باقية بعينها إمّا مع تلك الصورة أو الهيئة الثانية أو مع الصور أو الهيئات المتواردة المتعاقبة المعتورة عليها كما هو المعلوم فيما نحن فيه ، وفرضنا بقاء تعلّق النفس بتلك المادّة في جميع تلك المراتب المتجدّدة المتغيّرة ، حتى إذا انتهى إلى المرتبة الأخيرة تكون تلك المادّة الباقية مع هيئة أو صورة اخرى غير الاولى مستعدّة بإعداد تلك الهيئة أو الصورة أن تكون حاملة لإمكان فساد النفس وفساد تعلّقها عنها ، فيحدث الفساد ويزول أيضا تلك الهيئة أو الصورة التي هي العلّة المعدّة لذلك ، مع كون تلك المادّة باقيّة في حالتي الكون والفساد.

لجاز أن يكون البدن بمادّته علّة قابليّة مستعدّة لحدوث النفس متعلّقة به ، ولفسادها وفساد التعلّق عنه ، وأن يكون بصورة خاصّة علّة معدّة لحدوث ذلك ، وبصورة اخرى علّة معدّة لفساده ، وكأنّ ذلك هو منظور من قال : إنّه يجوز أن يكون البدن محلّا لإمكان حدوث النفس ولإمكان فسادها ، إلّا أنّ هذا لا يضرّنا ، فإنّه على هذا أيضا لا يمكن أن يكون البدن محلّا لوجود ذات النفس ولا لفسادها ، بل لحدوث تعلّقها به ولفساد ذلك التعلّق عنه ، أي أن يكون محلّا لاستعداد تعلّقها به وتصرّفها فيه في جميع مراتبه ، وحيث توقّف تعلّق النفس به ـ حيث فرض كونها حادثة بحدوثه على ما يقتضيه الدليل كما سيأتي ، لا قديمة ولا حادثة قبل البدن ـ على وجود النفس في نفسها ، كان هذا الاستعداد منسوبا أوّلا وبالذات إلى تعلّقها به أي وجودها متعلّقة به ، وثانيا وبالعرض إلى وجودها

٢٠٧

في نفسها ، فهذا الاستعداد كاف لفيضان الوجود عليها متعلّقة بالبدن ، ولا حاجة في ذلك إلى استعداد منسوب أوّلا وبالذات إلى وجودها في نفسها ليمتنع قيامه بالبدن لكونها مباينة الذات والقوام للبدن.

ومن هذه الجهة أيضا جاز أن يكون البدن محلّا لاستعداد عدم النفس عنه ، أي لفساد علاقتها عنه ، وانقطاع تصرّفها عنه ، لكن لمّا لم يتوقّف زوال علاقتها عنه على عدمها في نفسها ، لم يكن هذا الاستعداد منسوبا إلى عدمها في نفسها ، لا بالذات ، ولا بالعرض ، فلا يكفي هذا الاستعداد لعدمها في نفسها أصلا ، بل لا بدّ من استعداد آخر ، وقد تبيّن امتناع قيامه بالبدن. وبالجملة قيام إمكان حدوث علاقة النفس بالبدن ، يكفي لإمكان حدوث النفس في نفسها ، ويستلزم الحدوث الأوّل الحدوث الثاني. وأمّا قيام إمكان فساد علاقتها عن البدن بالبدن ، فلا يكفى لإمكان فسادها في نفسها ، ولا يستلزم أيضا فساد علاقتها عنه ، فسادها في نفسه.

وبهذا التقرير ظهر أنّ البدن لا يمكن أن يكون محلّا لإمكان فساد النفس في نفسها ، وظهر أيضا معنى ما تقرّر عندهم أنّ البدن علّة بالعرض للنفس ، لأنّ مادّته وإن فرض كونها علّة قابليّة لها ، لكن هذه العلّية القابلية منسوبة أوّلا وبالذات إلى قابليّته لتعلّقها به ، وثانيا وبالعرض إلى وجودها في نفسها ، وصورته الخاصّة المعدّة لتلك المادّة لذلك علّة معدّة لوجود النفس ، والعلة المعدّة مطلقا علّة بالعرض ، فكيف إذا نسبت إلى تعلّق النفس بالبدن أوّلا وإلى وجودها في نفسها ثانيا.

وحيث عرفت حال احتمال كون البدن حاملا لإمكان حدوث النفس وفسادها أي علّة قابليّة لذلك ، فحريّ بنا أن نتكلّم في أن البدن ، هل يمكن أن يكون شرطا بالمعنى المصطلح لحدوث النفس ووجودها في ذاتها ، أو من حيث تعلّقها به ، حتّى يمكن أن تفسد ، من حيث وجودها في نفسها ، أو من حيث التعلّق به ، بفساد شرطه أي البدن ، أم لا يمكن؟

فنقول : إن الشرط عندهم عبارة عن أمر لوجوده مدخل في وجود مشروطه ، ويتوقّف وجود مشروطه عليه ، حيث قالوا إنّ مدخليّة شيء في وجود آخر إمّا أن يكون بحسب وجوده فقط كالفاعل والشرط والمادّة والصورة ، فيجب أن يكون موجودا ، وإمّا بحسب

٢٠٨

عدمه فقط كالمانع ، فيجب أن يكون معدوما ، وإمّا بحسب وجوده وعدمه معا كالمعدّ ، إذ لا بدّ من عدمه الطارئ على وجوده ، فيجب أن يوجد أوّلا ثمّ يعدم ، فيستفاد من ذلك ومن غيره ممّا ذكروه من معنى الشرط أنّه يعتبر في مفهوم الشرط ، أن يكون أمرا وجوديّا يتوقّف وجود مشروطه عليه ، ويجتمعان معا في الوجود ، ويلزم ذلك أن يكون بانتفائه ينتفي المشروط ، وأن يكون أمرا خارجا عن حقيقة المشروط ، إذ لو كان نفس المشروط أو داخلا فيه ، كان توقّف المشروط عليه توقّفا للشيء على نفسه ، أو على ما هو داخل في حقيقته ، وهو ممتنع ، إذ الموقوف والموقوف عليه يجب أن يكونا متغايرين ، وأن لا يكون هو مباين الذات للمشروط ، إذ المباين لا يمكن أن يكون ممّا يتوقف عليه وجود مباينه ، وكلّ ذلك ظاهر.

وإذا تقرّر هذا ، فنقول : لا يخفى عليك أنّ النفس من حيث كونها جوهرا مفارقا مجرّدا عن المادّة ، لا يمكن أن يكون البدن شرطا لوجودها مطلقا إذ هما من هذه الجهة متباينان بحسب الذات ، والمتباين لا يمكن أن يكون شرطا لوجود ما هو مباين له ذاتا ، فلننظر في أنّها من جهة مقارنتها للبدن وارتباطها به وتصرّفها فيه ، هل يمكن أن يكون البدن شرطا لها أي شرطا لتعلّقها به أم لا؟

فنقول : إنّ البدن على هذا يكون شرطا لتعلّق النفس به ، ويكون المشروط هو التعلّق ، وظاهر أنّ التعلق المذكور أمر إضافيّ يستدعي الطرفين ، أي المتعلّق الذي هو النفس ، والمتعلّق به الذي هو البدن في وجوده الخارجي والذهني جميعا ، وكما أنّه في الخارج يتوقّف تصوّره على تصوّرهما ، فطرفاه داخلان في حقيقته ، فإذا كان البدن الذي هو داخل في حقيقته ، شرطا له ، يلزم أن لا يكون الشرط والمشروط متغايرين ؛ هذا خلف. فكيف يمكن أن يكون البدن شرطا له.

والحاصل أنّ وجود التعلّق المذكور وإن كان فرعا على وجود البدن ، إلّا أنّا لا نسلّم كون البدن شرطا له ، حيث يلزم منه كون شيء شرطا لما هو داخل في حقيقته ، والشرط ينبغي أن يكون خارجا عن حقيقة مشروطه ، وكذا عمّا يدخل في حقيقته. وعلى تقدير تسليم إمكان ذلك بناء على أنّ المشروط ، هو نفس التعلّق المذكور الذي هو غير البدن وأنّ طرفيه خارجان عن حقيقته ، نقول : لا يخفى أنّ المادّة البدنيّة من حيث هي هي من

٢٠٩

غير اعتبار انضمام صورة إليها لا يمكن أن يكون شرطا لتعلّق النفس بها ، إذ الشرط كما عرفت يجب أن يكون أمرا وجوديّا أي أمرا موجودا في حدّ ذاته يتوقّف عليه وجود مشروطه ، والمادّة البدنيّة كالهيولى الاولى ليست كذلك ، إذ وجودها إنّما هو بصورتها ، فبقي أن يكون الشرط هو مادّة البدن مع صورة خاصّة ومزاج خاصّ وتركيب خاصّ ، أي مجموع المادّة والصورة ، بحيث أن يكون مناسبا لمشروطه ويتوقّف وجوده عليه.

ولا يخفى أنّه لا يمكن أن يكون شيء من المراتب البدنيّة شرطا له ، أمّا ما قبل المرتبة النطفية ، كمرتبة الأجزاء الغذائيّة والأجزاء الخلطيّة ، فظاهر ، لأنّه ليس في تلك المرتبة حدوث نفس ولا تعلّقها بالبدن أصلا ، بل إنّما ذلك في المرتبة المنويّة كما هو المقرّر عندهم. مع أنّ تلك المرتبة متغيّرة جدّا والشرط يجب أن يكون مجتمعا مع وجود مشروطه ، بحيث ينتفي وجود مشروطه بانتفائه والحال أنّ المشروط أي تعلّق النفس بالبدن باق مع انتفاء تلك المرتبة ، سواء فرضنا حدوث النفس في المرتبة التي قبل المرتبة المنويّة أو في المرتبة المنويّة أو فيما بعدها.

وكذلك لا يمكن أن يكون شيء من المراتب التي بعد المرتبة المنويّة ، كمرتبة العلقة والمضغة والعظم واللحم شرطا لذلك ، لأنّ المقرّر عندهم ، أنّ تعلّق النفس بالبدن ، إنّما هو عند المرتبة النطفيّة ، وهي مع ذلك باقية بعينها في تلك المرتبة وفيما بعدها من المراتب ، إلى أوان حلول الأجل ، وواحدة بالذات مختلفة باعتبار الكمالات.

ومن المعلوم أيضا أنّ تلك المراتب متغيّرة زائلة بصورها وهيآتها ، وكلّ مرتبة سابقة منها تنعدم بعد حصول المرتبة اللاحقة إلى أن يكمل البدن. وقد مرّ أيضا أنّ الشرط يجب أن يجامع مشروطه في الوجود ، فكيف يمكن أن يكون ما سوى المرتبة الأخيرة من المراتب لتغيّرها شرطا لذلك ، أي لتعلّق النفس بالبدن الذي هو باق بعينه في جميع تلك المراتب ، فبقي أن يكون المرتبة الأخيرة التي هي مرتبة كمال البدن شرطا له ، وهو أيضا لا يمكن أن يكون شرطا ، لأنّ حدوث النفس وكذا تعلّقها بالبدن ، إنّما هما قبل تلك المرتبة البتّة ، والشرط لا يمكن أن يكون متأخّرا في الوجود عن وجود مشروطه.

نعم لو أمكن أن يكون الشرط لشيء ما أمرا كلّيا منحصرا في أفراد محصورة ويكون الشرط بالحقيقة لذلك الشيء هو ذلك الأمر الكلّي أي أفراده من حيث كونها أفرادا له ،

٢١٠

لا من حيث خصوصيّاتها ، ويكون كلّ فرد منها شرطا له على سبيل البدليّة ، ينعدم فرد واحد ويخلفه فرد آخر في ذلك.

لأمكن أن يقال فيما نحن فيه : أنّ الشرط لتعلّق النفس بالبدن ولبقاء ذلك التعلّق ، هو الأمر الكلّي الذي أفراده تلك المراتب البدنيّة إلى كمال البدن ، وكلّ مرتبة منها شرط له ، لا لخصوصيّاتها ، بل لكونها ممّا تحقّق في ضمنها ذلك الأمر الكلّي الذي هو الشرط بالحقيقة ، فيحصل فرد منها ويصير شرطا لذلك ، ثمّ ينعدم ، ولكن لا ينعدم المشروط ، بل يبقى لأجل حصول فرد آخر منها ونيابته عن الأوّل في ذلك ، إلى أن يتمّ البدن ويتكامل ، فيكون حينئذ المرتبة الأخيرة شرطا لذلك إلى أوان حلول الأجل ، حتّى إذا انعدمت هي بفساد البدن ، انعدم الشرط بالكلّية ، فينعدم المشروط الذي هو التعلّق المذكور.

وعلى هذا وإن أمكن تصحيح كون البدن شرطا لتعلّق النفس به ، وأمكن أيضا تصحيح كون البدن علّة بالعرض للنفس ، حيث إنّ تلك العلّية أي الشرطية منسوبة أوّلا وبالذات إلى التعلّق المذكور ، وثانيا وبالعرض إلى وجود ذات النفس في ذاتها ، حيث فرضناها حادثة بحدوث البدن ، متعلّقة به ، وتعلّقها به فرع وجودها في نفسها ، إلا أنّ ذلك أيضا ممّا لا يضرّنا ، لأنّ وجود هذا الشرط ، وإن استلزم وجود النفس وحدوثها ، لكن انتفاؤه لا يستلزم انتفاء ذات النفس في ذاتها ، بل انتفاء تعلّقها بالبدن كما مرّ بيانه في السابق ، فيمكن أن يكون التعلّق وحده منتفيا لأجل انتفاء التعلّق به خاصّة ، أي البدن ، ولا يكون المتعلّق أي ذات النفس منتفيا ، بل باقيا بذاته لبقاء علّته المقيمة إيّاه ، فتبصّر.

وحيث أحطت خبرا بتفاصيل ما فصّلناه ، ظهر لك الجواب عن الاعتراض المذكور الذي أورده الإمام ، سواء قرّر على وجهين ، أي وجه احتمال كون البدن علّة قابلية لفساد النفس ، ووجه احتمال كونه شرطا لوجودها كما هو ظاهر كلام الإمام ، أو قرّر على الوجه الأوّل فقط كما هو الاحتمال ، إلّا أنّك إن اشتهيت زيادة إيضاح لهذا المقام فاستمع لما يتلى عليك من الكلام.

زيادة إيضاح للمقام

فنقول : إنّ الحكمة الإلهيّة المتعالية ، لمّا اقتضت وجود الإنسان الذي من شأنه أن يكون

٢١١

عارفا بالله تعالى واسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله وصنائعه الكلّية والجزئية ، عابدا له تعالى عاملا بما أمره ونهاه من الكلّيات والجزئيات.

وبالجملة أن يكون من شأنه الإدراكات الجزئيّة والأفعال التي هي من خصائص المادّيات والمتعلّقات بالمادّة ، مضافا إلى الإدراكات الكلّية والأفعال التي هي من خصائص المجرّدات عنها ، وكان لا يتمّ وجود من شأنه هكذا إلّا بوجود شيئين :

أحدهما شيء مجرّد عن المادّة في ذاته ، متعلّق بالمادّة في أفعاله الجزئية ، وهو الذي نسمّيه بالنفس ، ليكون هو بذاته ممّا يصدر عنه إدراك الكلّيات والمجرّدات عن المادّة ، ويكون أيضا سبب تعلّقه بالمادّة نوع تعلّق ممّا يصدر عند الأفعال التي هي من خصائص المادّيات.

والآخر شيء متعلّق القوام بالمادّة من جسم يصلح أن يكون آلة للأوّل في أفعاله المختصّة بالمادّيات ، ويكون هو محتاجا إلى الأوّل بحيث يكون الأوّل متعلّقا به تعلّق التدبير والتصرّف ، كما أنّ الأوّل محتاج إلى الثاني بحسب أفعاله الجزئيّة. وبالجملة أن يكون بين الأوّل والثاني ارتباط تامّ واحتياج كامل ، وهذا الشيء الثاني هو الذي نسمّيه بالبدن. وكان أيضا هذا الشيء الذي نسمّيه بالبدن ، حيث كان آلة لشيء مجرّد مفارق ينبغي أن يكون له نوع شرافة وكمال ، منشؤه نوع وحدة بسببها كان قريبا من المبدأ الفيّاض الواحد بالذات الكامل من جميع الجهات المفيض عليه صورة كاملة ، وأن يكون جسما مناسبا للمجرّد في الشرافة والكمال ، ويكون له نوع من الوحدة ، ليصلح أن يكون آلة للمجرّد ، ومرتبطا به ارتباطا تامّا ، فلا يمكن أن يكون ممّا ليس فيه تلك الوحدة المناسبة ، كالبسائط من العنصريّات التي فيها الكيفيّات المتضادّة بالفعل ، وكبعض المركّبات الاسطقسية البعيدة من الوحدة والاعتدال ، بل يجب أن يكون مركّبا معتدلا نوع اعتدال ، وواحدا نوع وحدة ، بهما تفيض (١) عليه من المبدأ الفيّاض صورة وحدانيّة كاملة ، بها يصلح أن يكون آلة للأوّل الذي هو أيضا كامل بالذات وبحسب الافعال ، أي الصورة الإنسانيّة التي هي أكمل الصور وأتمّها وأقربها إلى الوحدة الحقيقية وكان أيضا وجود هذا البدن ممّا لا يمكن أن يكون دفعة ، لتوقّف حصوله على حصول مزاج خاصّ يستدعي

__________________

(١) تفاض (خ ل).

٢١٢

حركة في زمان لا محالة ، بل يجب أن يكون حصوله في زمان ، وأن يكون مع ذلك ممّا يتوقّف حصوله على وجه الكمال على استعدادات متواردة ، يكون هو بحسب كلّ استعداد قابلا لفيضان صورة ، حتّى تكمل صورته ، وتفيض عليه الصورة الإنسانية بكمالها ، إذ الصورة الإنسانيّة مستجمعة للصورة الجماديّة المعدنيّة ، والصورة النباتيّة والصورة الحيوانية ، فيتوقّف حصولها على وجه الكمال على حصول تلك الصور أوّلا حتّى تكمل ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ). (١) أي ثمّ أنشأناه خلقا آخر بحيث كملت صورته الإنسانيّة ونفسه ، بحيث يصدر عنها مع ما تقدّم من الأفعال المعدنيّة والنباتيّة والحيوانيّة الأفعال المختصّة بالإنسان.

فبالجملة حصول الصورة الإنسانيّة بكمالها يتوقّف على حصول تلك الصور ، سواء قلنا بأنّ تلك الصور التي تحصل في ضمن الصورة الإنسانيّة غير الصورة الإنسانيّة ، يتوقّف حصولها على وجه الكمال عليها ، أو هي مراتبها المتفاوتة الغير الكاملة منها.

وكان أيضا قد اقتضت الحكمة الإلهيّة والمصلحة المتعالية الربّانيّة بقاء هذا النوع أي الإنسان بالتوالد والتناسل.

وبالجملة لمّا اقتضت العناية الرّبانيّة ما فصّلنا ، واقتضت كما دلّ عليه كلام المحقّق الطوسي الذي نقلناه سابقا في مسألة حفظ المزاج ، أن تكون نفس الأبوين تجمع بالقوّة الجاذبة أجزاء غذائيّة ، ثمّ تجعلها أخلاطا ، وتفرز منها بالقوّة المولّدة مادّة المنيّ ، وتجعلها مستعدّة لقبول قوّة من شأنها إعداد المادّة لصيرورتها إنسانا. فتصير بتلك القوّة منيّا ، وتكون تلك القوّة صورة حافظة لمزاج المنيّ كالصورة المعدنيّة.

أي اقتضت أن تكون نفس الأبوين تجمع بالقوّة الجاذبة أجزاء غذائيّة غالب أجزائها الطين ، كما سمّاها الله تعالى في كتابه العزيز تارة طينا ، وتارة سلالة من طين ، ثمّ تجعل تلك الأجزاء مستعدّة لصور الأخلاط فتفاض صورة الأخلاط عليها ، بأن يكون العلّة المعدّة هناك لذلك الصورة الغذائيّة وحدها ، أو هي مع حركة ما أو فعل ما من نفس الأبوين ،

__________________

(١) المؤمنون : ١٢ ـ ١٤.

٢١٣

وبالجملة ما لا يجتمع وجوده مع وجود الصورة الخلطيّة ، ثمّ تفرز نفس الأبوين من تلك الأخلاط بالقوّة المولّدة مادّة المنيّ وتجعلها مستعدّة لمرتبة اخرى ، بأن يكون العلّة المعدّة هناك ، إمّا الصورة الخلطيّة وحدها ، أو هي مع حركة ما أو فعل ما من نفس الأبوين ، وكأنّه نسب ذلك الإعداد إلى نفس الأبوين ، لأجل أنّ لها مدخلا في ذلك ، أي وتجعلها مستعدّة لقبول قوّة ونفس من شأنها أي من شأن الصورة التي تلك النفس والقوّة مبدأ قريب لها ، أي الصورة المنويّة ، إعداد تلك المادّة لصيرورتها بدن إنسان بالاستعدادات المتدرّجة ، فتصير تلك المادّة الخلطيّة بتلك القوّة والنفس الفائضة عليها منيّا ، فتكون تلك القوّة والنفس مبدءا قريبا لفيضان صورة منويّة عليها ، وتكون أيضا صورة حافظة لمزاج المنيّ كالصورة المعدنيّة. والحاصل أنّه يكون عند حصول الصورة الخلطيّة تلك الصورة وحدها ، أو هي مع حركة ما من نفس الأبوين ، علّة معدّة لشيئين ، وتكون المادّة الخلطيّة ، مستعدّة لاستحقاق أمرين :

الأوّل فيضان نفس المولود حينئذ التي تكون هي مبدءا قريبا لفيضان الصورة المنويّة عليها ، وحافظة لمزاج المنيّ كما سبق ، من أنّ نفس المولود حينئذ حافظة لمزاج المنيّ ، وتقرّر أيضا أنّها مبدأ قريب لصورة بدنه ، وظاهر أنّ الصورة المنويّة أيضا من مراتب صور بدنه ، إلّا أنّهم لا يطلقون على النفس في تلك المرتبة اسم النفس ، بل اسم القوّة أو الصورة ، ويطلقون اسم النفس عليها فيما بعد تلك المراتب ، كما سبق ذكره فيما نقلنا عن المحقّق الطوسي في باب حفظ المزاج.

وبالجملة أنّ الصورة الخلطيّة تكون علّة معدّة لفيضان نفس المولود وحدوثها حينئذ متعلّقة بتلك المادّة وشأنها ما ذكر فتحدث تلك النفس حينئذ وتنعدم تلك الصورة الخلطيّة حين حدوثها.

الثاني الصورة المنويّة التي هي من الصور البدنيّة ومبدؤها القريب هو تلك النفس ، فتنعدم الصورة الخلطيّة بحدوثها أيضا ، حيث إنّ العلّة المعدّة ، إمّا ما يجب انعدامها عند حدوث معلولها كما هو التحقيق ، وإمّا ما لا يجب بقاؤها مع وجود معلولها بل يجوز عدمها. وعلى التقديرين فيجوز عدمها ، كما فيما نحن فيه بالنسبة إلى نفس المولود ، وكذا بالنسبة إلى الصورة المنويّة ، إلّا أنّ المادّة البدنيّة باقية بعينها ، وكذا النفس متعلّقة بها ، ومبدءا قريبا

٢١٤

لتلك الصورة المنويّة ، وحافظة لمزاج المنيّ.

ثمّ إنّ المنيّ يتزايد كمالا في الرحم بحسب استعدادات يكتسبها هناك في حالاتها ، فحيث استقرّ بحركة ما من نفس الأبوين في قرار الرحم وصادف هناك مادّة طمثيّة صالحة لتكوّن بدن إنسان منها ، وخالطها وامتزجها بحيث كان هو فيها بالنسبة إلى صورة اخرى إنسانيّة بعدها كالإنفحة في اللبن بالنسبة إلى الجبن مثلا ، تكون صورته المنويّة الكائنة بتلك الحالة علّة معدّة لفيضان صورة اخرى. أي الصورة العلقيّة على تلك المادّة المنويّة الممتزجة مع المادة الطمثية المستعدّة بذلك الإعداد للصورة العلقيّة ، فتنعدم الاولى عند حصول الصورة الثانية ، لكن المادّة باقية بعينها ، وكذا النفس باقية بعينها متعلّقة بها مبدءا قريبا لتلك الصورة وحافظة لمزاج العلقة ، وهكذا إلى أن يتكامل المادّة وتصير بإعداد الصورة العلقيّة مستعدّة لقبول صورة اخرى أكمل من الأولى ، أي الصورة المضغيّة ، فتكون الصورة العلقيّة علّة معدّة لفيضان الصورة المضغيّة على تلك المادّة ، فتحدث هي وتنعدم الصورة العلقيّة ، لكونها علّة معدّة لها والمادّة باقية حينئذ بعينها ، وكذا النفس باقية بعينها متعلّقة بها ومبدءا قريبا لتلك الصورة المضغيّة وحافظة لمزاج المضغة. وهكذا إلى أن يتكامل المادّة وتصير بإعداد الصورة المضغيّة مستعدّة لقبول صورة أكمل منها ، أي الصورة العظميّة واللحميّة على تركيب مخصوص وهيئة مخصوصة ، هي الصورة الإنسانيّة ، فتحدث تلك الصورة وتنعدم الصورة المضغيّة لكونها علّة معدّة ، والمادّة باقيّة بعينها.

وكما أنّ المادّة باقية بعينها في جميع المراتب في ضمن الصور المتواردة ، كذلك النفس باقية في جميع تلك المراتب البدنيّة بعينها وبشخصها من غير تغيّر في ذاتها ، نعم يتزايد كمالاتها بحسب تزايد كمالات البدن ، وتزايد استعداداته.

وبالجملة بحسب تزايد كمالات آلتها وقبولها للصور الكاملة واحدة بعد واحدة ، فهي تكون في جميع المراتب البدنيّة مبدءا قريبا لتلك الصور الفائضة ، وحافظة لمزاج ما فاضت الصورة عليه ، كالمنيّ والعلقة والمضغة والعظم واللحم ، فبرهة تكون منشأ لإفاضة الصورة وحفظ المزاج فقط كالصورة المعدنيّة ، وبرهة تكون مع ذلك منشأ للأفعال النباتيّة أيضا ، فتجذب الغذاء وتضيفه إلى تلك المادّة فتنميها ويتكامل المادّة بتربيتها

٢١٥

إيّاها ، وبرهة تكون مع ما تقدّم منشأ للأفعال الحيوانيّة أيضا. وبرهة تكون مع ذلك كلّه منشأ للأفعال الإنسانيّة والإدراكات الكلّية أيضا.

ففي جميع تلك المراتب تكون تلك النفس متعلّقة بذلك البدن نوع تعلّق ، منشؤه كون البدن محتاجا إلى النفس بحسب ذاته وتماميّة حقيقته وصورته ، حيث إنّ النفس مبدأ قريب للصور المتواردة عليه ، وحافظة لمزاجه في جميع المراتب ، وكذا كون النفس محتاجة إلى البدن في أفعالها المخصوصة بالمتعلقات بالمادّة ، وهذه العلاقة الحاصلة بينهما مستحكمة إلى أوان حلول الأجل ، كما أنّ تزايد كمالات النفس بتزايد استعدادات البدن مرتبة فمرتبة ثابت إلى أوانه.

وحيث تمّ وجود بدن كذلك مع نفس كذلك ، تمّ حينئذ وجود إنسان هو مقصود العناية الأزليّة ، وملحوظ الحكمة المتعالية ، فما دام يكون منشأ العلاقة بينهما باقيا بسبب كون النفس بحيث يصدر عنها حفظ المزاج والمبدئية للصورة الإنسانيّة ، ولم يكن هناك مانع من ذلك ، وكان البدن قابلا ومستحقّا لذلك ، يكون تلك العلاقة بينهما باقية ، وإذا كان الأمر بخلاف ذلك واستعدّت تلك المادّة البدنيّة مع صورة مخصوصة أو هيئة مخصوصة أو مزاج مخصوص لفساد علاقة النفس عنها ، فيحدث الفساد ويزول تلك الصورة أو الهيئة أو المزاج ، لكونها علّة معدّة لفساد العلاقة ، ويتبع ذلك فساد ذات البدن بزوال صورته وهيئته ومزاجه ، لكن لا يتبعه فساد ذات النفس بل فساد علاقتها عن البدن.

والتفصيل : أنّه إذا كان الأمر بخلاف ذلك مثل أن طرأ من جهة البدن ، أو من جهة القاسر الخارج ضدّ على ذلك المزاج الواقع بين الكيفيّات المتضادّة المتداعية بموضوعاتها إلى الانفكاك لو خليّت وطباعها ، كانت المادّة البدنيّة بذلك المزاج مستعدّة لفساد علاقة النفس عنها ، وحدث بطروئه عليه فساد في ذلك المزاج الذي هو العلّة المعدّة لذلك ، ويتبعه أن لا تكون حينئذ تلك النفس حافظة لذلك المزاج ، لحصول المانع من الحفظ ، فزالت من حيث كونها حافظة له لا من حيث ذاتها ، وأن لا تكون أيضا مبدءا قريبا للصورة النوعيّة الفائضة على البدن ، لعدم كونه بزوال المزاج والتركيب الخاصّين قابلا لفيضان صورة إنسانيّة عليه ، ولا قابلا لبقائها فيه.

وبالجملة بذلك تفسد العلاقة بينهما وتزول لزوال منشئها ، أي العلّية في حفظ المزاج

٢١٦

والمبدئية للصورة النوعيّة الإنسانيّة ، حيث زالت علّيّتها لانعدام معلولها ، أي ذلك المزاج الخاصّ والتركيب المخصوص ، وتلك الصورة ، إلّا أن فساد العلاقة لا يستلزم فساد ذات المتعلّق كما تقدّم وجهه.

والمحصّل أنّه ما دام يكون البدن بذلك المزاج الخاصّ والتركيب المخصوص ، بحيث يصلح أن يكون آلة للنفس في أفعالها ، أو يكون قابلا لفيضان الصورة الإنسانيّة عليه وقابلا لحفظ النفس مزاجه ، تكون العلاقة بينهما باقية.

وإذا كان الأمر بخلاف ذلك ، بأن لم تحتج إليه في أفعالها ، ـ إمّا بأن تستكمل هي في سعادتها أو شقاوتها ، وبالجملة فيما هو كمالها ، ولم يبق بعد احتياج لها إليه في ذلك ، وإمّا بأن طرأ هناك من قاسر أو غيره مانع من استكمالها بسببه ، وإمّا بأن لم يكن البدن صالحا لكونه آلة لها في ذلك ولم يكن صالحا لفيضان الصورة الإنسانيّة عليه أو لحفظ مزاجه ، بسبب طروء فسادها من داخل أو خارج على مزاجه وتركيبه اللذين بهما هو صالح للآلية لها ، وبسبب انتفائهما ينتفي مبدئيّة النفس لصورته ، وحفظها لمزاجه ـ زالت العلاقة بينهما. وعلى التقادير ، فزوال العلاقة ، لا يستلزم فساد ذات المتعلّق أي النفس كما مرّ وجهه ، بل لا يمكن الاستلزام هنا ، حيث إنّ استلزام زوال العلاقة لزوال المتعلّق ، أي النفس ، إنّما يمكن إذا كان المتعلّق متعلّق القوام بالمتعلّق به الفاسد ، أي البدن ، وإذ ليس فليس.

وبما قرّرنا لك بطوله ، تلخّص لك أنّ ما قالوه ، من أنّ النفس تحدث بحدوث البدن ، معناه أنّ البدن بهيئة مخصوصة وصورة مخصوصة علّة مهيّئة معدّة لحدوث النفس متعلّقة به ، فتحدث النفس متعلّقة به ، ويكون المستعدّ لذلك هو المادّة البدنيّة الباقية ، والمعدّ له هو الصورة المخصوصة الزائلة بحدوث النفس. فظهر معنى قولهم : إنّ البدن علّة بالعرض للنفس ، فإنّ العلّة المعدّة علّة بالعرض مطلقا لو نسبت عليّتها إلى حدوث النفس أوّلا وبالذات ، فكيف إذا نسبت تلك العليّة إلى تعلّقها بالبدن أوّلا وبالذات وإلى حدوثها ثانيا وبالعرض ، كما فيما نحن فيه. وهذا إذا نسبت العليّة إلى الصورة المخصوصة الفائضة على البدن ، التي كانت علّة معدّة لحدوث النفس متعلّقة بالبدن. وكذلك إذا نسبت العليّة إلى المادّة البدنيّة ، حيث إنّ تلك المادّة علّة قابليّة أوّلا وبالذات لتعلّق النفس بها ، وثانيا وبالعرض لوجود النفس.

٢١٧

وتلخّص لك أيضا معنى ما قالوه ، من أنّ النفس لا تفسد بفساد البدن ، حيث إنّ ذلك الفساد لا يتصوّر بالنسبة إلى المادّة البدنيّة الباقية بعينها ، بل يتصوّر بالنسبة إلى صورها وأنّ أولى المراتب البدنيّة ، أي الصورة الأخلاطيّة ، علّة معدّة لحدوث النفس متعلّقة بها ، كما أنّها علّة معدّة لحدوث المرتبة الاخرى بعدها ، أي الصورة المنويّة وهكذا كلّ صورة سابقة علّة معدّة للاحقة منها ، والنفس باقية بعينها في تلك المراتب الاخرى ، ولا يقدح انعدام العلّة المعدّة مطلقا حين وجود معلولها سواء فرضت علّة معدّة لوجود النفس أو لعلاقتها بالبدن ، كما فيما نحن فيه ، إذ العلّة المعدّة ما يجوز بل يجب انعدامها حين وجود معلولها ، ويتوقّف وجود معلولها على عدمها الطارئ على وجودها ، فلا تفسد النفس حينئذ بفساد تلك المرتبة من البدن ، بل يجب وجود النفس حينئذ ، وحيث إنّ النفس فيما بعد تلك المرتبة الاولى من المراتب الاخرى إلى تمام البدن ، وإلى حلول الأجل باقية بعينها ، وبينها وبين البدن علاقة منشؤها نوع علّية واحتياج بينهما كما ذكرنا ، وتلك العلاقة وإن كانت تزول وتفسد بفساد البدن كما ذكرنا وجهه ، لكن زوالها لا يستلزم زوال ذات النفس المتعلّقة بالبدن كما بيّنا وجهه ، بل لا يمكن الاستلزام هنا ، إذ زوال العلاقة بين شيئين بزوال المتعلّق به كالبدن هنا إنّما يمكن أن يستلزم زوال المتعلّق كالنفس هنا ، إذا كان المتعلّق متعلّق القوام بالمتعلّق به وإذ ليس فليس.

فيظهر أنّه بفساد البدن لا تفسد ذات النفس ، بل تكون باقية بعد خراب البدن أيضا بعلّتها الموجدة لها المبقية إيّاها الباقية التي لا يطرأ عليها الزوال والفساد.

وظهر الجواب مفصّلا عن ذلك الاعتراض المورد هنا بحيث انحسمت مادّته ، إلّا أنّه بما ذكرنا من الجواب إنّما يظهر أنّه يمكن بقاء النفس بعد فساد البدن ، ولا يجوز أن يكون خراب البدن سببا لفساد النفس.

وأمّا أنّه لا يمكن فساد النفس مطلقا من جهة ذاتها ، فيدلّ عليه الدليل الثاني الذي ذكره الشيخ في الكتابين. فلذا ذكره بعد الدليل الأوّل ليتمّ بالدليلين ما هو المقصود من عدم إمكان طريان الفساد على النفس ، لا من جهة فساد البدن ولا من جهة ذاتها.

وأمّا عدم إمكان طريان الفساد عليها من غير جهة البدن وذاتها مثل جهة أمر آخر يكون فساده مستلزما لفسادها ، فكأنّه مبنيّ على الظهور ، إذ ليس يتصوّر هنا أمر كذلك ،

٢١٨

فلذا لم يتعرّض الشيخ له ، وأورد الدليلين ، وأورد الثاني عقيب الأوّل ، حيث إنّه بمجموعهما مع ملاحظة ظهور أن ليس هنا أمر آخر يمكن أن يكون منشأ لفساد النفس ، يتمّ المقصود ، وهو وجوب بقاء النفس بعد خراب البدن.

والمحصّل أن طرق تطرّق الفساد إلى النفس منسدّة كلّها.

أمّا من جهة الفاعل ، فلأنّ المفروض بقاؤه.

وأمّا من جهة ذاتها ، فلعدم قبولها الفساد كما مرّ.

وأمّا من جهة البدن ، فلعدم كون فساده منشأ لفسادها.

وأمّا من جهة غير ذلك فلكون المفروض انتفاؤه فحيث انسدّت طرق تطرّق الفساد إليها ، وكانت علّتها الموجدة المبقية لها باقيّة ، وجب بقاؤها.

ثمّ إنّه بما ذكرنا كما يحصل الجواب عن اعتراض الإمام بالوجهين ، إذا اورد على دليلي الشيخ ، كذلك يحصل به الجواب عنه إذا اورد على ما ذكرنا أوّلا من الدليل على بقاء النفس ، وكذا إذا اورد على ما نقلنا عن أفلاطون من الدليل إن أمكن الإيراد.

وحيث أطنبنا الكلام في هذا المقام لكونه عزيز المرام دقيق المنال عند اولي الأفهام ، فلنرجع إلى تحقيق القول فيما ذكروه ، من الجواب عن اعتراض الإمام ، وتوجيهه بقدر الإمكان ، فلنتكلّم أوّلا في الجواب الذي ذكره المحقّق الطوسي رحمه‌الله وقد نقلناه سابقا.

في تحرير جواب المحقّق عن اعتراض الإمام

فنقول : قوله رحمه‌الله : «والجواب أنّ كون الشيء محلّا لإمكان ما هو مباين القوام له ، أو لإمكان فساده غير معقول ، فإنّ معنى كون الجسم محلّا لإمكان وجود السواد ، هو تهيّؤه لوجود السواد فيه ، حتّى يكون حال وجود السواد مقترنا به ، وكذلك في إمكان الفساد ، ولذلك امتنع أن يكون الشيء محلّا لإمكان فساد ذاته ، فالبدن ليس بمحلّ لإمكان حدوث النفس من حيث هو مباين لها ، ولا لإمكان فسادها أيضا» واضح ، وملخّصه أنّ الشيء لا يمكن أن يكون محلّا لإمكان حدوث ما هو مباين القوام عنه ، ولا محلّا لإمكان فساده عنه ، فلا يكون البدن محلّا لإمكان حدوث النفس فيه ، من جهة كونها مباينة القوام عنه ، ولا لإمكان فسادها عنه من هذه الجهة. وقد مضى أيضا ما يتّضح به شرحه.

٢١٩

وقوله : «بل إنّما كان مع هيئة مخصوصة موجودة قبل حدوث النفس ، محلّا لإمكان وتهيّؤ لحدوث صورة إنسانيّة تقارنه وتقوّمه نوعا محصّلا ، ولم يكن وجود تلك الصورة ممكنا إلّا مع ما هو مبدؤها القريب بالذات ، أعني النفس فحدث بحسب استعداده وتهيّئه ذلك مبدأ الصورة المقارنة المقوّمة إيّاه على وجه كان ذلك المبدأ مرتبطا به هذا النوع من الارتباط ، وزال بذلك الحدوث ذلك الإمكان والتهيّؤ عن البدن ، إذ زال عنه ما كان البدن محلّا لإمكان حدوث النفس ، أعني الهيئة المخصوصة».

كأنّه أراد أن يبيّن به أنّ البدن ، وإن لم يمكن أن يكون محلّا لإمكان حدوث النفس ووجودها ، ولا لإمكان فسادها عنه ، من حيث إنّ النفس مباينة الذات والقوام عنه ، إلّا أنّ البدن يمكن أن يكون محلّا لذلك من حيث هي مرتبطة به نوع ارتباط ، وبينهما علاقة خاصّة ، أي محلّا لذلك من حيث هي مرتبطة به نوع ارتباط ، وبينهما علاقة خاصّة ، أي محلّا لإمكان حدوث النفس ووجودها ، ولا لإمكان فسادها عنه ، من حيث إنّ النفس مباينة الذات والقوام عنه ، إلّا أنّ البدن يمكن أن يكون محلّا لإمكان حدوث تعلّقها به ، ولإمكان فساد تعلّقها عنه ، لكن حدوث التعلّق هنا مستلزم لحدوث ذات النفس ووجودها ، بخلاف فساد التعلّق ، فإنّه غير مستلزم لفساد ذات النفس.

فبيّن أوّلا كيفيّة كون البدن محلّا لإمكان تعلّق النفس به ، حيث يكون محلّا أوّلا وبالذات لإمكان حدوث ما هو متعلّق القوام به ، أي الصورة النوعية الإنسانيّة ، وثانيا وبالعرض لإمكان تعلّق النفس التي هي المبدأ القريب لتلك الصورة ، فقال : بل إنّما كان مع هيئة مخصوصة ـ إلى آخره ـ وحاصله : أنّه إنّما كان البدن أي مادّة الأجزاء الأخلاطيّة مع هيئتها المخصوصة وصورتها الأخلاطية الموجودة قبل حدوث النفس محلّا لإمكان وتهيّؤ لحدوث صورة إنسانيّة متعلّقة القوام به ، تقارنه وتقوّمه نوعا محصّلا ، ولم يكن وجود تلك الصورة فيه ممكنا إلّا مع ما هو مبدؤها القريب بالذات ، بل الحافظ لمزاج البدن أيضا أعني النفس ، فكانت المادّة البدنيّة الأخلاطية بإعداد تلك الهيئة التي هي العلّة المعدّة لها مستعدّة أوّلا وبالذات لحدوث صورة إنسانيّة فيها ، وثانيا وبالعرض لحدوث نفس تكون هي علّة قريبة لتلك الصورة الإنسانية ، فحصل بحسب استعداد البدن وتهيّئه تلك الصورة الإنسانيّة فيه. وكذا النفس التي هي المبدأ القريب لها ، وزالت أيضا تلك الهيئة

٢٢٠