منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-108-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٨٢

أو مركّبا ، لا سبيل إلى الأوّل لما ثبت أنّ النفس غير منطبعة في شيء.

لا يقال : الثابت بالدلائل السابقة أنّها ليست قوّة حالّة في الجسم ، وهذا لا يستلزم أنّها لا تكون حالّة في شيء أصلا ، لم لا يجوز أن تكون حالّة في مفارق؟

لأنّا نقول : قيام النفس بالذات من الضروريات لا يمكن منعه ، ولو كان مركّبا فإمّا من بسائط كلّها غير حالّة ، أو يكون شيء فيها حالّا كالصورة والآخر محلّا كالهيولى. وأيّا ما كان يوجد بسيط غير حالّ ، والبسيط الغير الحالّ ليس بقابل للفساد ، فلا تكون النفس قابلة للفساد. والاعتراض أنّا لا نسلّم أنّه إذا وجد بسيط يلزم أن لا تكون النفس قابلة للفساد ، وإنّما يلزم كذلك لو كان البسيط الغير الحالّ هو النفس وليس كذلك ، بل المفروض أنّه جزء النفس. وغاية ما في الباب أنّ جزء النفس لا يقبل الفساد ، ولا يلزم منه أن لا تقبل الفساد لجواز انعدام الجزء الآخر.

لا يقال : نحن نقول من الابتداء النفس لا بدّ أن تكون بسيطا غير حالّ ، وإلّا لكان حالّا أو مركّبا وهما باطلان ، أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلأنّه يلزم وجود بسيط غير حالّ من أجزائه ، فيكون قائما بذاته مجرّدا عن جسم وجسمانيّ ، عاقلا لذاته ولغيره ، متعلّقا بالبدن ، فهو النفس وقد كان جزء النفس ؛ هذا خلف.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّه يلزم من كونه بسيطا غير حالّ ، أن يكون قائما بذاته ، لم لا يجوز أنّ يكون كالهيولى لا يقوم إلّا بما يحلّ فيه ، وحينئذ لا يلزم أن يكون نفسا. ـ انتهى كلامه رحمه‌الله. (١)

وقد سبقه الإمام الرازي بناء على ما فهمه من كلام الشيخ في الإيراد على هذا الدليل ، واعترض عليه اعتراضات ، كما نقله المحقّق الطوسي رحمه‌الله.

الأوّل : أنّه لو كان للنفس هيولى وصورة مخالفتان لهيولى الأجسام وصورها ، وكان الباقي منها هيولاها وحدها ، لما كان الباقي من النفس هو النفس ، بل جزءا منها ، وحينئذ يجوز أن لا يكون كمالاتها الذاتية باقية لأنّها تابعة لصورتها.

الثاني : أنّ النفس تحت مقولة الجوهر ، فهي مركبّة من جنس وفصل ، والجنس والفصل إذا اخذا بشرط التجرّد ، كانا مادّة وصورة ، فالنفس عندهم مركبّة من مادّة وصورة. وذلك

__________________

(١) المحاكمات ؛ راجع هامش شرح الاشارات ٣ : ٢٨٦.

١٨١

يؤكّد ما ذكرناه.

وقال صاحب المحاكمات في تقرير اعتراضه الأوّل هكذا : إنّ عدم قبول النفس الفساد على تقدير أنّها أصل ظاهر ، وأمّا على تقدير أنّها ذات أصل أي مركّبة من بسائط ، لا يكون كلّها حالّا حتّى يتحقّق منها بسيط غير حالّ غير ظاهر ، بل اللازم عدم قبول جزء النفس الفساد ، ومدار اعتراض الإمام على هذا الاحتمال ، أعني أن يكون النفس مركّبة واحتمال تركيبها من حالّ ومحلّ ، فإنّها على تقدير تركيبها من جواهر غير حالّة ، يكون كلّ منها قائما بذاته عاقلا لذاته ، فيكون كلّ منها نفسا فيلزم أن يكون النفس الواحدة نفوسا متعدّدة ، وأنّه محال ، فلهذا فرض الإمام تركيبها من حالّ ومحلّ وأنّهما مخالفان لهيولى الأجسام وصورته ، لأنّهما جزءا النفس مجرّدان ، وأنّ الباقي المحلّ لا الحالّ ، فحينئذ لا يلزم من بقاء المحلّ بقاء النفس كما لا يلزم من بقاء الهيولى بقاء الجسم.

وأمّا قوله : «وحينئذ يجوز أن لا تكون كمالاتها الذاتيّة باقية» ، فقد تمّ الاعتراض دونه ، ولا دخل له في الاعتراض ، إلّا أنّه زيادة زادها لتأكيد بطلان كلام القوم في هذا الباب ، فإنّهم لمّا أثبتوا بقاء النفس ، قالوا إنّها تبقى بعد موت البدن عاقلة لمعقولاتها ، موصوفة بالأخلاق التي اكتسبتها حال تعلّقها بالبدن ، ومع قيام ذلك الاحتمال لا يمكن القطع بشيء من هذه ، لجواز أن يكون اتّصاف النفس بهذه الكمالات مشروطا بوجود الجزء الحالّ ، فإن انتفى انتفت. ـ انتهى كلامه. (١)

وأقول : إنّ هذه الإيرادات ، لو كانت واردة على دليل الشيخ في الإشارات ، ربّما يتراءى ورودها على دليله على هذا المطلب في الشفاء أيضا ، إذ مآلهما واحد ، والاختلاف إنّما هو في العبارة ، وأنّ ما ذكره في الشفاء بقوله : «وكلامنا في هذا الشيء الذي هو السنخ والأصل وهو الذي نسمّيه النفس ، وليس كلامنا في شيء مجتمع منه ومن شيء آخر» لا يجدي نفعا في دفع تلك الإيرادات كلّها أو بعضها ، إذ مجرّد التسمية وادّعاء أنّ كلامنا في هذا دون ذاك ، مع فرض التركيب من جزءين ، ليس بنافع في ذلك. وظنّي هذه الإيرادات كلّها إنّما نشأت عن الغفلة عن كلام الشيخ في الكتابين مثل ما تقدّم ، حيث إنّه عند إمعان النظر فيما ذكره في الكتابين من الدليل على هذا المطلب ، وما بني عليه الدليل ، يمكن

__________________

(١) المحاكمات ؛ راجع هامش شرح الإشارات ٣ : ٢٨٨.

١٨٢

توجيه بحيث لا يرد عليه تلك الأنظار والإيرادات.

أمّا كلامه في الشفاء ، فلأنّه ذكر في فصل «أنّ النفس الإنسانيّة لا تفسد» بعد ما بيّن في فصل سابق عليه ، أنّ الأنفس غير مادّية ، ثمّ بيّن في فصل بعده كيفيّة انتفاع النفس بالحواسّ في إدراكاتها الجزئية ، وأنّها عاقلة لمعقولاتها بالذات كما يظهر ذلك على من راجع كلامه (١) ونظر فيه ، وأنّه حيث أثبت في الفصل المتقدّم ، أنّ النفس الإنسانيّة غير مادّية ، أثبت أنّها غير مركّبة من مادّة وصورة كالجسم أي تركيبا من جزءين ، أحدهما حالّ في الآخر يسمّى صورة ، والآخر محلّ له يسمّى مادّة أو هيولى ، بحيث يكون تشخّص الحالّ بالمحلّ وتقوّم المحلّ بالحالّ كما ذكروه. فنفى بذلك كون النفس جسما ذا مقدار مركّبا من هذين الجزءين ، أي جزءين كان كلّ منهما ذا وضع ، بل مركّبا مطلقا من حالّ ومحلّ وإن كان المحلّ والحالّ كلاهما مفارقين عن المادّة غير ذي وضع وكذا المركّب منهما حيث إنّ التركيب من جزءين إذا لم يكن أحدهما حالّا في الآخر ، ولا الآخر محلّا له ، ولم يكن احتياج لأحدهما إلى الآخر في الوجود والتشخّص ، لا يكون تركيبا حقيقيّا ، ولا منشأ لكون الجزءين مع التركيب مركّبا وإن كان ، كان التركيب من مادّة وصورة كالجسم ، فلزم أن يكون النفس جسما ومادّية ، والمفروض خلافه.

وبالجملة أنّه أثبت بذلك كون النفس غير مركّبة من مادّة وصورة ، أو من شيء كالمادّة وشيء كالصورة ، فما ذكره الإمام فيما نقلنا عنه : «انّ النفس تحت مقولة الجوهر ، فهي مركبة من جنس وفصل ، والجنس والفصل إذا اخذا بشرط التجرّد ، كانا مادّة وصورة ، فالنفس عندهم مركّبة من مادّة وصورة» شبهة في هذا المقام ، وجوابها ما ذكره المحقّق الطوسي : أنّ ما ذكره مغالطة باشتراك الاسم ، فإنّ المادّة والصورة تقعان على ما ذكره ، وعلى جزئي الجسم بالتشابه ، وإلّا فجميع أنواع الأعراض أيضا مركّبة من مادّة وصورة.

والحاصل أنّ ما ادّعوه من انتزاع الجنس والفصل من المادّة والصورة الخارجيّتين على تقدير تسليمه إنّما هو في الأجسام ، وأمّا في غيرها فلا يسلّم ، كيف وأنّ الأعراض أيضا ربما يكون لها جنس وفصل ، ولا يكونان منتزعين من المادّة والصورة الخارجيّتين إذ ليست هي أجساما ، فكيف الجواهر المجرّدة عن المادّة ، وكذلك أثبت حيث أثبت إنّ

__________________

(١) الشفاء ، الطبيعيات ، الفصل الرابع في أنّ الأنفس الإنسانيّة لا تفسد : ٢٠٢ ، طبع القاهرة.

١٨٣

النفس غير مادّية أنّها ليست عرضا أو صورة حالّين في مادّة أو جسم ذي مادّة ، فلزم ممّا ذكره ، أن ليست النفس مركّبة في ذاتها ، ولا بسيطة قائمة في مادّة ، وكذلك أنّه حيث أثبت في الفصل التالي أنّها عاقلة لمعقولاتها بالذات من دون توسط آلة في ذلك ، أنّ قيامها إنّما هو بالذات كتعقّلها لمعقولاتها ، إذ العاقل بالذات لا يكون إلّا قائما بالذات من غير دخل أمر آخر في قيامها ووجودها ، إذ لو كان لأمر ما مدخل فيه ، لما كان كذلك ، والمفروض خلافه ، وحيث أثبت ذلك ، لزم منه أنّ النفس غير مركّبة من جزءين حالّ ومحلّ ، إذ المركّب تركيبا كذلك يكون تقوّمه بجزئيه ، فلا يكون قائما بالذات ، وكذلك لزم منه أنّها غير حالّة في شيء أيّا كان ذلك الشيء جسما أو غيره ، مجرّدا أم مادّيا إذ الحالّ كذلك لا يكون عاقلا بالذات ، ولا قائما بذاته ، فلزم منه أيضا أنّها ليست عرضا ولا صورة لشيء ما جسم أو جسمانيّ أو مجرّد ، وكذلك لزم منه أنّها ليست بمحلّ لشيء يكون قيامها بذلك الشيء ، إذا لمحلّ القائم بما حلّ فيه لا يكون قائما بذاته كما هو المفروض ، فلزم منه أنّها ليست هيولى ولا مادّة لصورة ما ، يكون تقوّمها بتلك الصورة ، كالصورة الجسميّة أو النوعيّة بالنسبة إلى الهيولى. وأنّ الصورة العقلية الحالّة في النفس ليست ممّا به تقوّمها أو عقلها لذاتها ، إذ لو كان الأمر كذلك ، لما كان للنفس قيام بالذات ولا عقل بالذات مع قطع النظر عن حلول تلك الصورة العقليّة فيها ، والمفروض خلافه ، حيث إنّها في مبدأ الفطرة أيضا لها قيام بالذات وتعقّل بالذات وأنّها قد تزول تلك الصورة العقليّة عنها ، وهي باقية على حالها من القيام بالذات والتعقّل بالذات.

وبالجملة فقيام النفس بالذات من الضروريات ، كما اعترف به صاحب المحاكمات أيضا ، ويلزم منه عدم قيامها في وجودها وفي تعقّلها بالمحلّ ، ولا بالحالّ ، والعجب منه أنّه اعترف بذلك ، وادّعى أنّه يمكن أن يكون النفس كالهيولى لا تقوم إلّا بما يحلّ فيها ، وهل هذا إلّا تناقض؟

فلزم ممّا ذكره الشيخ أنّ النفس مع بساطتها في ذاتها أصل في الوجود والقيام والتعقّل ، من غير دخل أمر آخر في ذلك ، والحاصل أنّه لزم ممّا بيّنه في الفصلين المتقدّمين ، كون النفس شيئا بسيطا لا تركيب فيه من حالّ ومحلّ أصلا ، ولا هي ممّا هو قائم بالمركّب ، وتعلّق له بالمادّة ، ولا قيام لها في وجودها وتعقّلها إلّا بذاتها لا بأمر آخر ، هو جزؤها

١٨٤

مطلقا ، أو محلّ لها أو حالّ فيها ، وأنّه لا يقدح في ذلك كونها محلّا للصور العقليّة ، سواء عددناها من جملة الصور أو من جملة الأعراض ، لأنّها ليست ممّا بها قيام النفس بالذات أو تعقّلها بذاتها ، لأنّها قد تزول ، ومع ذلك يبقى محلّها وهو النفس موجودة بذاتها ، عاقلة لذاتها ، فلزم من ذلك بساطتها بساطة حقيقيّة ، تنافي كونها مركّبة بوجه ، وكذا كونها قائمة في المركّب ، وكذا لزم منه أصالتها في الوجود والتعقّل أصالة مطلقة وإن كانت البساطة أعمّ مطلقا من الأصالة في الوجود والتعقّل ، لأنّ كلّ أصل يلزمه أن يكون بسيطا من غير عكس كلّي ، إذ قد يكون الشيء بسيطا ولا يكون أصلا في ذلك ، كبعض الأعراض البسيطة وكالهيولى ، فلذلك أثبت الشيخ بساطة النفس أوّلا ثمّ أثبت أصالتها فيهما ثانيا حتّى يخرج من ذلك البسائط التي ليست أصلا.

ثمّ إنّه حيث أثبت ما ذكرنا أطلق على النفس ، أنّها بسيطة وأنها أصل وسنخ بمعنى أنّها أصل وسنخ في الوجود والقيام بالذات والتعقّل لذاتها لا مدخل لشيء غيرها سوى الفاعل المفيض إيّاها في ذلك ، سواء كان ذلك الشيء جزؤها مطلقا ، أو حالّا فيها أو محلّا لها ، وأنّها كما أنّ لها أصالة في ذلك ، بالنظر إلى ذاتها كذلك لها أصالة حين فرض التركيب مع غيرها ، إذا أخذت على أنّها مركّبة مع شيء آخر ، لوحظ ذلك الشيء معها في ذلك التركيب ، فإنّ أخذ ذلك الشيء معها حين التركيب ، لا يقدح في بساطتها وأصالتها بالمعنى المذكور ، بل لا يكون ذلك التركيب ، إلّا مجرّد اجتماع ، فإنّ ذات ما هو بسيط حقيقي بحسب ذاته لا ينقلب ، إذا اخذ مركّبا ومجتمعا مع غيره إلى كونه مركّبا حقيقيّا ، وكذلك ذات ما هو أصل في الوجود والقيام والتعقّل لذاته ، إذا اخذ مركّبا كذلك لا ينقلب إلى كونه جزءا للمركّب حالّا أو محلّا ، وبالجملة إلى كونه غير أصل في ذلك ، بحيث يحتاج كلّ من جزئيه إلى الآخر ، فلا يكون ذلك التركيب المأخوذ إلّا اعتباريّا ومجرّد اجتماع ، ولا يقدح ذلك في بساطتها الحقيقيّة الذاتيّة ، ولا في أصالتها المطلقة.

كلام مع المحقّق الطوسي رحمه‌الله

وحينئذ فما ذكره المحقّق الطوسي من «أنّ الشيخ يريد بالأصل كلّ بسيط غير حالّ في شيء من شأنه أن يوجد فيه أعراض وصور ، وأن يزول عنه تلك الأعراض والصور وهو

١٨٥

باق في الحالتين ، فهو أصل بالقياس إليها» راجع إلى ما ذكرنا من معنى الأصل من بعض الجهات ، إلّا أنّه ربما يوهم أنّ ذلك مجرّد اصطلاح ، اصطلح عليه الشيخ وليس كذلك ، بل إنّ ذلك معنى الأصل لغة وعرفا ، أي ما هو الأصل في الوجود والقيام والتعقّل ، وإلّا أنّه لو كان قوله : «من شأنه أن يوجد فيه أعراض وصور ـ إلى آخره ـ» نعتا لقوله : «كلّ بسيط» كما يشعر به قوله: «فهو أصل بالقياس إليها» يلزم منه أنّ الأصل ما هو البسيط الغير الحالّ في شيء ، ومن شأن ذلك البسيط أن يوجد فيه أعراض وصور ، وأن يزول عنه تلك الأعراض والصور وهو باق في الحالتين ، فيلزم منه أن يكون المحلّ المتقوّم بالحالّ أيضا أصلا في الوجود والقيام والتعقّل ، وقد عرفت أنّه ليس كذلك. ولو كان قوله : «من شأنه ـ إلى آخره ـ» نعتا للشيء يلزم منه أنّ البسيط لو كان حالّا في شيء كذلك كان أصلا أيضا ، فيلزم منه أن يكون الأعراض والصور البسيطة الحالّة في الهيولى الباقية في الحالتين أصلا في الوجود والتعقّل ، وهذا أظهر فسادا من الأوّل ، وإلّا أنّه عدّه أصلا بالنسبة إلى الأعراض والصور ، وأنّه يوهم عدّ الهيولى الاولى أيضا أصلا ، والظاهر من كلام الشيخ أنّه عدّه أصلا لأصالته في الوجود والقيام والتعقّل ، وأنّ المحلّ مطلقا خارج عن كونه أصلا بهذا المعنى ، لكنّه رحمه‌الله أعلم.

وإذا عرفت ما ذكرنا فنقول : إنّ الشيخ بعد ما ذكر أنّ قوّة الفساد يستلزم التركيب من مادّة وصورة ، إمّا في ذات ذلك الأمر المفروض فاسدا أو فيما يقوم هو به ، سرد الدليل على عدم فساد النفس هكذا : إن كانت النفس بسيطة مطلقة بحيث لا تركيب في ذاتها أصلا ولا قيام لها في المركّب كما هو الثابت بما تقدّم لم تنقسم هي ولا ما تقوم هي به إلى مادّة وصورة ، فلم تكن قابلة للفساد وإن اخذت مركّبة فذلك التركيب ، إمّا بأخذها مركّبة في ذاتها فذلك غير ممكن ، لمنافاته لبساطتها الذاتيّة وأصالتها المطلقة ، وإمّا بأخذها مجتمعة مع غيرها وذلك إمّا بأخذها كالصورة في ذلك المجتمع ، وهذا أيضا غير ممكن ، لمنافاته لأصالتها المطلقة ، ولعدم قيامها بالمادّة ، فبقي أخذها كالمادّة لذلك المجتمع ، مع أنّ لها مناسبة للمادّة من وجه ، حيث إنّ المادّة أيضا شيء بسيط غير قابلة للفساد ، وكذا هي أصل في المركّبات ، وإن لم تكن أصلا بالمعنى المذكور المقصود هنا. وحينئذ فلنترك ذلك المركّب المجتمع ، لعدم كونه نفسا ، لأنّ كلامنا في النفس ، وهي جزء من هذا المجتمع ،

١٨٦

لا عينه ، ولنترك أيضا الجزء الآخر من هذا المجتمع الذي هو بمنزلة الصورة ، لعدم كونها نفسا أيضا ، ولننظر في الجزء الذي هو بمنزلة المادّة أي النفس التي هي الأصل والسنخ في هذا المركّب المجتمع ، ولنتكلّم فيها ونقول :

إنّ تلك المادّة التي هي الأصل والسنخ إمّا أن تؤخذ مركّبة هكذا إلى غير النهاية ، فننقل الكلام فيها إلى غير النهاية وهذا محال. وإمّا أن ينقطع الأخذ على سبيل التركيب ، فينتهي الكلام إلى ما هو الأصل والسنخ منه ، وان لا يبطل ذلك الأصل ، حيث إنّه ليس فيه تركيب ولا قيام بالمركّب ولا قوّة فساد ، فأخذ النفس مع غيرها على سبيل التركيب لا يقدح في مطلوبنا ، إذ كلامنا في النفس لا في غيرها ، وهي الأصل والسنخ من جملة أجزاء هذا المركّب ولا في هذا المركّب المجتمع من النفس وغيرها ، إذ هو ليس نفس النفس حتّى يلزم كون ذلك الأصل جزءا من النفس لا عينها.

فتبيّن من ذلك أنّ كلّ شيء بسيط غير مركّب ولا قائم بالمركّب كما في الفرض الأوّل ، أو كلّ شيء هو أصل مركّب وسنخه كما في الفرض الثاني ، فهو غير مجتمع فيه فعل أن يبقى وقوّة أن يعدم بالقياس إلى ذاته ، إذ ذلك الاجتماع إنّما هو سبب التركيب الحقيقي في ذاته ، أو فيما يقوم ذاته به والمفروض خلافه هنا ، ولا يلزم منه كون النفس مادّة ، إذ المادّة وإن كانت بسيطة غير قابلة للفساد ، وكانت أصلا في المركّب من بعض الوجوه لكنّها ليست أصلا بالمعنى المذكور إذ قيامها إنّما هو بما يحلّ فيها.

ثمّ إنّه ربما أشعر كلامه في التركيب حيث قال : «ولنترك المركّب ولننظر في الجوهر الذي هو مادّته ـ إلى آخره ـ إنّ هذا التركيب إنّما هو بأخذ النفس التي اعتبرها مادّة ، وهي الأصل مع غيرها الذي يكون غير أصل ، ويكون كالصورة ، ولم يتعرّض لأخذها مع أصل آخر ، وكأنّ وجهه أنّ أخذها كذلك غير ممكن إذا لجزء الآخر الذي هو الأصل أيضا لا يمكن أن يكون صورة لما عرفت.

وأيضا يستلزم أن يكون نفس واحدة أكثر من واحدة ، ومع ذلك فيستلزم ما هو المقصود وهو عدم فساد ما هو الأصل فيه ، غايته أن يكون ذلك الأصل أكثر من واحد ، وغير النفس التي نحن بصدد التكلّم فيها أيضا ، وهذا الذي ذكرنا وإن كان حمل كلام الشيخ عليه لا يخلو عن تكلّف ، إلّا أنّه غاية توجيهه بناء على اصوله ، وبه يندفع جميع الأنظار

١٨٧

التي نقلناها عن الإمام الرازي وصاحب المحاكمات كما يعرف بالتدبّر ، فتدبّر تعرف.

ثمّ إنّ الشيخ في قوله : «وأمّا الكائنات التي تفسد فإنّ الفاسد منها هو المركّب» ـ إلى آخر ما نقلنا عنه ـ تصدّى لبيان أنّ الأجسام وصورها وموادّها والأعراض الحالّة فيها ، أيّ منها يمكن أن يفسد وأيّ منها لا يمكن أن يفسد ، وأنّ السبب في إمكانه وعدم إمكانه ما ذا؟ وأنّ أمر النفس ليس كأمر شيء منها.

فقال : وأما الكائنات التي تفسد ، كالاجسام العنصريّة ، فإنّ الفاسد منها هو المركّب المجتمع ، وقوّة أن تفسد أو تبقى ليس في المعنى الذي به المركّب واحد حتّى يلزم قبوله للفساد من هذه الجهة ، والحال أنّ جهة الوحدة مشابهة للبساطة التي تنافي ذلك ، بل في المادّة التي هي بالقوّة قابلة لكلا الضدّين أي بقاء صورها فيها وفسادها عنها ، وبسبب تلك المادّة التي يلزمها أن يكون محلّا لحالّ آخر يلزم أن يكون هناك كثرة ملتئمة من محلّ ومادّة ، هي قابلة لكلا الضدّين ، ومن صورة حالّة بسببها تكون فعليّة ذلك المركّب وإن كان العمدة في قبول الفساد هو المادّة ، إذ هي قابلة لفساد الصورة عنها في المركّب وبسبب فساد الصورة يلزم فساد المركّب أيضا. فليس في الفاسد المركّب من جهة وحدته لا قوّة أن يبقى ولا قوّة أن يفسد ، بل كان منشأ قبول الفساد فيه جهة تلك الكثرة ، وذلك التركيب من صورة ومادّة في تلك المادّة قوّة فساد الصورة التي من شأنها أن تفسد عنها وإن كانت المادّة هي الأصل في قبول الفساد ، أي فساد الصورة ويتبعه فساد المركّب ، فأشعر بما ذكره أنّ النفس حيث لم تكن مركّبة من مادّة فيها قوّة الفساد ولا قائمة بالمركّب ، كذلك لا تكون قابلة للفساد أصلا.

ثم قال : «وأمّا المادّة أي مادّة الجسم مطلقا سواء كانت مادّة لجسم كائن فاسد ، أو لجسم ثابت على الدوام ، ففيها احتمالان : أحدهما ـ وهو المرجوح ـ أنّها تبقى بنفس ذاتها لا بقوّة تستعدّ بها للبقاء ، والآخر ـ وهو الراجح ـ إنّما تبقى بقوّة بها تبقى ، لكن ليس لها قوّة أن تفسد شيئا آخر غير قوّة البقاء ، لأنّ المراد بقولنا : أنّ في المادّة قوّة الفساد ، أنّ فيها قوّة فساد غيرها كالصورة ، كما أنّ فيها قوّة حدوث الصورة لا قوّة فساد نفسها ، فإنّ الشيء لا يمكن أن يكون محلّا لفساد نفسه ، ففيها قوّة بقاء نفسها خاصّة ، وعلى التقديرين يلزم أن تكون المادّة باقية لبساطتها وعدم تركّبها من مادّة وصورة ، وإنّ ذلك وإن كان

١٨٨

يؤكّد ما ذكرنا من أنّ البساطة منشأ لعدم الفساد ، لكن ليس أمر النفس كأمر المادّة ، إذا النفس مع بساطتها أصل وسنخ ، وهي ليست كذلك ، إذ وجودها وقيامها إنّما هو بما يحلّ فيها لا بذاتها كما في النفس.

ثمّ قال : والبسائط التي في المادّة فإنّ قوّة فسادها في جوهر المادّة لا في جوهرها ، يعني أنّ الأعراض والصور البسيطة الحالّة في المادّة وإن كان يتوهّم فيها أن لا تكون فيها قبول فساد من جهة بساطتها وعدم تركّبها بحسب الذات من مادّة وصورة ، إلّا أنّ تلك البساطة المستلزمة لعدم قبول الفساد ، هي ما تكون منافية للتركيب في الذات ، وللقيام بالمركّب جميعا وتلك الأعراض والصور البسيطة ليست كذلك ، إذ هي محتاجة إلى الموضوع أو المادّة في الوجود أو التشخّص قائمة بالمادّة أو بالمركّب من المادّة وحينئذ فقوّة فسادها في جوهر مادّتها لا في جواهر أنفسها ، ولذلك تقبل الفساد ، وكذا قوّة فسادها ليست من جهة بساطتها في ذواتها ، بل من جهة قيامها بالمادّة أو بالمركّب من المادّة.

وبالجملة فليس أمر النفس كأمر تلك الأعراض والصور ، إذ النفس مع بساطتها في ذاتها غير قائمة بالمادّة ولا بالمركّب من المادّة وهي أصل في القيام والوجود ، وتلك الأعراض والصور ليست كذلك.

ثمّ قال : والبرهان الذي يوجب أنّ كلّ كائن فاسد من جهة تناهي قوّة البقاء والبطلان ، إنّما يوجب فيما هو كائن من مادّة وصورة ، ويكون في مادّته أن يبقى فيه تلك الصور ، وقوّة أن تفسد هي منه معا تكملة لما ذكره فيما تقدّم ، وبيانا كلّيا لوجه إمكان فساد ما يمكن أن يفسد وما لا يمكن أن يفسد ، فبيّن أنّ كلّ ما هو مركّب من مادّة وصورة أو قائم بالمركّب منهما ، وبالجملة له مادّة في ذاته أو في قيامه وفي مادّته قوّة أن تبقى فيها صورته وقوّة أن تفسد ، أمكن أن تفسد صورته فيفسد المركّب أيضا ، وما ليس كذلك فليس كذلك ، فأشعر بأنّ غير الكائنات الفاسدات من الأجسام كالفلكيّات منها عندهم ، إنّما لا تفسد لأجل أن ليس في مادّتها قوّة الفساد ، وكذلك صورها ليست من شأنها أن تزول عنها ، ولا ينافي ذلك كونها مركّبة وغير أصل ، لأنّا قلنا إنّ البساطة والأصالة تكونان منشأين لعدم قبول الفساد ، ولا يلزم منه أن يكون كلّ ما هو منشأ لذلك هذين السببين ، بل يمكن أن يكون ذلك بسبب آخر غيرهما كما في الأفلاك. وهذا غاية توجيه كلام الشيخ

١٨٩

في الشفاء ، وبه تمّ دليله على أنّ الأنفس الإنسانيّة لا تفسد ، واندفع عنه الأنظار الموردة عليه ، كما أشرنا إليه والله أعلم بالصواب.

في توجيه كلامه في الإشارات

وأمّا توجيه كلامه في الإشارات ، فلأنّه ذكر أوّلا في بيان الدليل على أن الأنفس الإنسانيّة لا تفسد بفساد البدن ، قوله : «ولمّا كانت النفس الناطقة التي هي موضوع ما للصور العقليّة ، غير منطبعة في الجسم ، بل إنّما هي ذات آلة بالجسم ـ إلى آخره ـ». (١) وأشار بلفظة «لمّا» إلى ما أثبته في النمط الثالث وغيره ، فأشار بقوله : «هي موضوع ما للصور العقليّة» إلى أنّها مجرّدة في ذاتها وكمالاتها الذاتيّة عن المادّة ، لأنّ موضوع الصور العقليّة التي هي مجرّدة عن المادّة لا يكون إلا مجرّدا عنها أيضا كما هو المستبين عندهم ، وسيأتى بيانه ، فحيث أشار إلى تجرّدها في ذاتها وكمالاتها الذاتيّة عن المادّة ، أشار إلى أنّها غير مركّبة من المادّة والصورة كالجسم ، وغير قائمة بالمادّة والجسم كالصور والأعراض ، كما أنّه أشار بقوله : «غير منطبعة في الجسم» إلى الأخير ، وأشار أيضا بقوله : «بل إنّما هي ذات آلة بالجسم» إلى كيفيّة ارتباطها بالجسم على وجه لا يلزم منه احتياجها في وجودها وكمالاتها العقليّة الذاتيّة إليه ، بل إنّ احتياجها إليه إنّما هو في أفعالها وإدراكاتها الجزئيّة ، وأمّا في أفعالها وإدراكاتها الكلّية فلا ، بل هي عاقلة بذاتها لمعقولاتها من غير توسّط آلة في ذلك. فأشار بما ذكره إلى بساطتها الذاتيّة الحقيقيّة وإلى أصالتها المطلقة في الوجود والقيام والتعقّل كما عرفت وجه ذلك.

ثمّ إنّه بعد بيان أنّ النفس لا تفسد بفساد البدن ، قال : «إذا كانت النفس الناطقة قد استفادت ملكة الاتّصال بالعقل الفعّال لم يضرّها فقدان الآلات ، لأنّها تعقل بذاتها كما علمت ، لا بآلتها ، ولو عقلت بآلتها لكان لا يعرض للآلة كلال إلّا ويعرض للقوّة كلال». (٢) إلى آخر ما ذكره من الأدلّة على ذلك ، فبيّن أنّها تعقل بذاتها من غير آلة.

ثمّ قال : «لو كانت القوى العقليّة منطبعة في جسم من قلب أو دماغ ، لكانت دائمة التعقّل

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ : ٢٦٤.

(٢) شرح الإشارات ٣ : ٢٧٦.

١٩٠

له أو كانت لا تعقله البتّة» (١) إلى آخر ما ذكره من الدليل عليه ، فبيّن أيضا أنّها عاقلة لذاتها وكذا هي غير منطبعة في الجسم.

ثم قال تكملة لهذه الإشارات : «فاعلم من هذا أنّ الجوهر العاقل منّا له أن يعقل بذاته.» «فأشار بما ذكره إلى كونها عاقلة» بذاتها ، وإلى أصالتها في الوجود والقيام والتعقّل ، وإلى بساطتها الحقيقة الذاتيّة اللازمة لأصالتها أيضا ، فأشار بذلك إلى نفي كونها مركّبة من هيولى وصورة ، بل إلى نفي كونها مركّبة من جزءين حالّ ومحلّ مطلقا وإن كانا مفارقين ، بل إلى نفي كونها مركّبة من جزءين مطلقا وإن لم يكونا حالّا ومحلّا ، وكذلك أشار إلى نفي كونها صورتا أو عرضا ، بل نفي كونها قائمة بالمحلّ مطلقا وإن كان المحلّ جوهرا مفارقا غير ذي وضع ، وكذا أشار إلى نفي كونها مادّة أو كالمادّة من شيء لكون جميع ذلك غير أصل في الوجود والقيام والتعقّل بخلاف النفس. وأيضا ما سوى المادّة من هذه إمّا مركّب أو قائم بالمركّب بخلاف النفس.

ثمّ قال : في بيان الدليل على عدم إمكان فساد النفس بسبب من الأسباب ، ولأنّه أصل وذكره على سبيل الاستبانة ممّا تقدم ، وعلى أنّ هذه القضية مقدّمة ظاهرة لا ينبغي لعاقل إنكارها يعني أنّها أصل في الوجود والقيام والتعقّل ، وإنّما اكتفى في الدليل بأصالتها في ذلك ولم يتعرّض لبساطتها ، لأنّ أصالتها كذلك تستلزم بساطتها الذاتيّة الحقيقيّة المطلقة التي هي العمدة في عدم إمكان قبول الفساد من غير عكس ، كما أشرنا إليه ، مع أنّه لا يرد على تقدير أصالتها كونها مادّة في المركّب كما عرفته أيضا.

ثمّ فرّع على أصالتها المستلزمة لبساطتها في ذاتها أنّها لا تقبل الفساد. وقال : فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوّة الثبات (٢) كما بيّنا وجه ذلك مطابقا لما في الشفاء ، ثمّ قال : فإن اخذت لا على أنّها أصل بل كالمركّب من شيء كالهيولى وشيء كالصورة عمدنا بالكلام نحو الأصل من جزئيه. وأشار بقوله : «فإن اخذت لا على أنّها أصل» أي اخذت لا على أنّها أصل بهذا المعنى المتقدّم ولا على أنّها بسيطة بالمعنى المذكور ، إلى أنّ أخذها كذلك ، لا يقدح في أصالتها الذاتيّة ولا في بساطتها المطلقة ، بل إنّما هو بمحض اعتبار اجتماعها مع غيرها في ذلك التركيب كما عرفت ، وأشار بقوله : «بل

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ : ٢٧٦.

(٢) شرح الإشارات ٣ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

١٩١

كالمركّب من شيء كالهيولى وشيء كالصورة» إلى أنّ النفس على هذا الأخذ لا تكون مركّبة بحسب ذاتها ، إذ ذاك غير محتمل ، بل تكون كالمركّب أي المأخوذ مجتمعا مع غيرها ، بحيث لا يكون ذلك المجتمع مركّبا حقيقيّا ، بل بمحض الاعتبار وملاحظة الاجتماع ، وإلى أنّ هذين الجزءين من هذا المجتمع ، لا يحتمل كونهما هيولى وصورة ، بل كالهيولى وكالصورة ، حيث إنّ أحد الجزءين الذي هو النفس يمكن أن تعتبر في هذا الاجتماع الذي هو كالتركيب كالهيولى لمناسبتها للنفس في البساطة وعدم قبول الفساد وفي الأصالة في المركّب من بعض الوجوه ، وإن لم تكن أصلا بالمعنى المتقدّم المقصود هنا ، وإن لم يمكن اعتبارها صورة أو كالصورة ، إذ لا مناسبة لها بالنفس من وجه ، بل المأخوذ كالصورة ينبغي أن يكون هو الجزء الآخر من المأخوذ كالمركّب أي المجتمع كما عرفت بيانه فيما تقدّم.

وأشار بقوله : «عمدنا بالكلام نحو الأصل من جزأيه» ، أي من جزئي هذا المجتمع من النفس ومن غيرها إلى أنّه إذا اخذت النفس كذلك تركنا المجتمع لعدم كونه نفسا ، إذ هو مجتمع من النفس ومن غيرها ، وكلامنا في النفس ، وتركنا أيضا الجزء الآخر منه الذي هو بمنزلة الصورة ، وليس بأصل مطلقا وعمدنا بالكلام نحو الأصل من جزئيه ، أي نحو النفس التي هي الأصل واعتبرناها كالهيولى والمادّة من هذا المجتمع.

فنقول : إنّ الجوهر الذي هو بمنزلة المادّة وهو الأصل والسنخ ، إمّا أن يؤخذ مركّبا هكذا إلى غير النهاية ، فننقل الكلام فيه هكذا إلى غير النهاية وهو محال ، وإمّا أن لا يبطل الجوهر الذي هو الأصل والسنخ أي النفس ، ولا يكون فيه قوّة فساد لبساطته في الذات ، ولأصالته في القيام والذات وهو المطلوب ، وحينئذ لا يلزم أن يكون النفس مادّة أو كالمادّة بحسب ذاتها ، لأنّ المادّة ومثلها إنّما قيامها بما يحلّ فيهما ، والنفس ليست كذلك ، بل إنّ قيامها إنّما هو بذاتها.

ثمّ قال : «والأعراض وجوداتها في موضوعاتها ، فقوّة فسادها وحدوثها هي في موضوعاتها ، فلم يجتمع فيها تركيب» (١) بيانا لوجه إمكان فساد الأعراض ودفعا للنقض بالأعراض البسيطة ، كما ذكره ، بل بالصور البسيطة أيضا كما ألحقها بها المحقّق

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ : ٢٨٧.

١٩٢

الطوسي رحمه‌الله في شرحه لبيان النقض ، وذكر أن كثيرا من الأعراض والصور البسيطة تكون باقية ممكنة الفساد مع بساطتها ، فهلّا كانت النفس كذلك.

وبيان الدفع أنّ البساطة الموجبة لعدم إمكان الفساد إنّما هي البساطة المطلقة ، بحيث لا يكون هناك تركيب من مادّة قابلة للفساد أصلا ، لا في ذات ذلك البسيط ولا فيما يقوم هو به كما في النفس ، وأمّا تلك الأعراض والصور فليست كذلك ، لأنّها قائمة بالمركّب من مادّة أو بالمادّة ، وتلك المادّة قابلة للفساد أي لفساد تلك الأعراض والصور عنها ، فلا بساطة مطلقة هناك ، فلهذا كانت ممكنة الفساد ، ولا يلزم من ذلك أن يكون هناك تركيب في ذوات تلك الأعراض والصور البسيطة ، حتّى ينافي بساطتها الذاتية.

ثمّ قال : «وإذا كان كذلك لم تكن أمثال هذه قابلة للفساد بعد وجوبها بعللها وثباتها بها» ، (١) أي إذا كان الجوهر العاقل منّا كذلك أو إذا كان الأمر كذلك أي أنّ النفس أصل وسنخ في الوجود والقيام بالذات والتعقّل بالذات وبسيطة في ذاتها غير قائمة بالمركّب من المادّة ولا بالمادّة التي هي قابلة للفساد وأنّها إذا اخذت مركّبة مع غيرها لم يؤثّر ذلك في صيرورتها مركّبة في ذاتها ولا في كونها قائمة بالمركّب من المادّة ولا بالمادّة ، بل كانت أصالتها وبساطتها المطلقتان باقيّتين لم تزولا ، لم تكن أمثال هذه في أنفسها قابلة للفساد بعد وجوبها بعللها وثباتها بها ولم يلزم أيضا كونها مادّة ، لأنّ المادّة أيضا وإن كانت بسيطة غير ممكنة الفساد وأصلا في المركّب من بعض الوجوه لكنّها ليست أصلا بالمعنى المذكور بخلاف النفس كما مرّ بيان ذلك كلّه. وإنّما قال : «بعد وجوبها بعللها وثباتها بها» ، إشارة إلى أنّ النفس كما أنّها ليس لها سبب لفسادها كذلك لها سبب لبقائها وهو وجوبها وثباتها بعللها الباقية التي لا يطرأ عليها الفساد البتّة ، فيلزم أن تكون هي أيضا باقية البتّة غير فاسدة أصلا ، لأنّ سبب بقائها موجود والمانع عنه ـ أي سبب فسادها ـ منتف ، فبأىّ طريق يطرأ عليها الفساد. وهذا نظير قول الشيخ فيما تقدّم من الدليل على عدم إمكان فساد النفس بفساد البدن ، حيث قال : فاستحالة الجسم عن أن يكون آلة لها وحافظا للعلاقة معها بالموت لا تضرّ جوهرها ، بل يكون باقيا بما هو مستفيد (٢) الوجود من الجواهر الباقية.

ثمّ إنّك بعد ما أحطت خبرا بتفاصيل ما ذكرناه وبينّاه ، ظهر لك توجيه كلام الشيخ بناء

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ : ٢٨٨.

(٢) مبدأ (خ ل).

١٩٣

على اصوله على وجه يتمّ به مطلوبه ويندفع عنه الإيراد ، وكذا انتفاء الاحتمالات التي هي صارت منشأ لإيراد صاحب المحاكمات ، والإمام الرازي عليه ما أوردا عليه كما لا يخفى. نعم ما ذكره الإمام الرازي من الاعتراض الثالث لم يتّضح بعد بيان اندفاعه ، وسنتكلّم عليه إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّه ربما يتراءى من الإمام في اعتراضه الثاني أنّه حمل قول الشيخ في الدليل : «وإن اخذت لا على أنّها أصل ، بل كالمركّب من شيء كالهيولى وشيء كالصورة عمدنا بالكلام نحو الأصل من جزئيه» على أنّه إن اخذت لا على أنّها أصل اخذت مركّبة في ذاتها من جزءين كالهيولى والصورة ، مثل الجسم. إلّا أنّ هذين الجزءين حيث كانا جزئي شيء مفارق عن المادّة ، أي النفس يكونان مخالفين لهيولى الأجسام وصورها ، وعمدنا بالكلام نحو هيولاها ، فإنّها حيث كانت أصلا ، ـ أي بسيطة في ذاتها غير قائمة بمادّة ـ ليس فيها قوّة فساد نفسها ، فهي باقية غير قابلة لطريان الفساد عليها ، وهذا أعني عدم فساد هيولاها كاف فيما نحن بصدده من بيان أنّ النفس غير فاسدة ، حيث إنّ جزءها الأصل أعني شيئا كالمادّة لها غير فاسد.

وحيث هو حمل كلام الشيخ على ذلك أورد عليه الاعتراض ، وقال : إنّه على هذا لما كان الباقي من النفس هو النفس ، بل جزءا منها ، وهو خلاف المقصود ، وحينئذ يجوز أن لا تكون كمالاتها الذاتيّة الباقية ببقائها باقية ، لأنّها تابعة لجزئها الآخر الذي هو صورتها ، والمفروض فسادها ، لأنّها متعلّقة بمادّتها ، ويمكن أن يكون قوّة فسادها في مادّتها كما في سائر الكائنات الفاسدات وإن لم يكن في تلك المادّة قوّة فساد نفسها ، وعلى هذا فلا تكون النفس باقية ولا كمالاتها الذاتيّة.

ولا يخفى عليك أنّه بما قرّرنا كلام الشيخ في الاستدلال كان هذا الاحتمال الذي فهمه منه منتفيا ، بل كان بعيدا عنه بمراحل ، كيف ولو حمل كلام الشيخ على ذلك لكان استدلالا واهيا لا يرتكبه من له أدنى مسكة فكيف مثل الشيخ؟! وهل هذا إلّا مثل أن يقال : إنّ الجسم العنصري الكائن الفاسد غير فاسد ، لأنّه مركّب من هيولى وصورة ، وصورته المتعلّقة بمادّته وإن كانت قابلة للفساد حيث إنّ في هيولاها قوّة فسادها لكن هيولاه غير قابلة للفساد من جهة أنّها بسيطة غير قائمة بالمادّة وليس فيها قوّة فساد نفسها ، وهذا ممّا

١٩٤

لا يرتكبه عاقل.

فعلم من ذلك أنّ هذا الاعتراض من الإمام مثل اعتراضه الثاني ، بل مثل إيرادات صاحب المحاكمات إنّما نشأ من الغفلة عن التدبّر في كلام الشيخ وعن سوء الفهم منه.

ثمّ إنّ الجواب الذي أجاب به المحقّق الطوسي عن هذا الاعتراض ، جواب صواب ، وكأنّه أيضا مبنيّ على بساطة النفس بساطة ذاتيّة مطلقة ، وعلى أصالتها في القيام أصالة مطلقة ، كما بنينا توجيه كلام الشيخ على ذلك.

وما ذكره أوّلا من بيان أنّ النفس لا يمكن أن يكون لها هيولى مطلقا وإن كانت مخالفة لهيولى الأجسام ، حيث احتمل في ذلك احتمالات وأبطل كلّها ، فأثبت بذلك عدم ثبوت هيولى أو كالهيولى لها ، غنيّ عن البيان.

وأمّا ما ذكره أخيرا بقوله : «ثمّ إنّ الصورة المقيمة إيّاها والكمالات التابعة لتلك الصورة لا يجوز أن تفسد وتتغيّر بعد انقطاع علاقتها عن البدن ، لأنّ التغيّر لا يوجد إلّا مستندا إلى جسم متحرّك كما تقرّر في الاصول الحكميّة ، فهو كأنّه يحتاج إلى بيان ، به يندفع الإيراد عنه ، وهو أنّه ادّعى أنّه قد تقرّر في الاصول الحكمية مثل ما نقلنا عن الشيخ في الشفاء في وجه تغيّر الكائنات الفاسدات من الأجسام ، أنّه إذا كان هناك صورة قائمة بمادّة هي بالقوّة قابلة لكلا الضدّين ، أي لقبول صورة حادثة فيها وكذا لقبول فساد تلك الصورة عنها فحينئذ يمكن أن تفسد تلك الصورة عنها ، وبه يتحقّق فساد ذات تلك الصورة القائمة فسادها بمادّتها حيث فسدت ذاتها في ذاتها وفسدت عن مادّتها ، وكذا يتحقّق به فساد ذلك المركّب من تلك الصورة وتلك المادّة ، حيث فسد جزؤه ، وفساد الجزء مستلزم لفساد الكلّ ، أو أنّه إن كان هناك جسم مركّب من مادّة وصورة وكان ذلك الجسم موضوعا لعرض ما قابلا لذلك العرض ولضدّه أمكن أن يفسد ذلك العرض عنه بطروء ضدّه عليه ، وإن لم يستلزم ذلك فساد ذلك الموضوع نفسه ، لعدم كون ذلك العرض جزءا منه ولا مقوّما له. وكان ما ذكرنا هو معنى قوله : لأنّ التغيّر لا يوجد إلّا مستندا إلى جسم متحرّك ، أي إنّ التغيّر أي فساد الصورة أو فساد العرض لا يوجد إلّا مستندا إلى جسم مركّب من مادّة وصورة متحرّك ، أي متغيّر في صورته عن مادّته مستلزم تغيّره تغيّرا في ذات تلك الصورة نفسها ، وكذا في ذلك الجسم المركّب في جزئه ، أو متغيّر في ذلك العرض بحيث استلزم

١٩٥

تغيّره تغيّرا في ذلك العرض دون موضوعه أي ذلك الجسم.

ثمّ ادّعى أنّا قد أقمنا الدليل على أنّه لا يمكن أن يكون للنفس هيولى ولا ما هو كالهيولى ، فحيث انتفت عنه الهيولى وكالهيولى ، انتفى احتمال أن يكون لها صورة أو كالصورة أيضا ، إذ ذلك لا يكون إلّا بملاحظة كون هيولى أو كالهيولى لها. وقد عرفت أنّ ذلك منتف عنها ، فإذا لم يكن لها مادّة مطلقا ولا صورة مطلقا فكيف يتطرّق إليها وإلى كمالاتها الذاتيّة فساد ، وبعبارة اخرى : إذا لم يكن لصورتها مادّة حاملة لها قابلة لفسادها عنها فكيف يتطرّق إلى صورتها فساد يلحقه فساد كمالاتها الذاتية التابعة لصورتها ، وهو المطلوب.

وإذا عرفت ذلك ، عرفت أنّ تسليم المحقّق الطوسي كون صورة للنفس ، مماشاة مع الإمام في كون شيء هنا يطلق عليه الصورة أو كالصورة ، لا أنّه مبنيّ على الواقع أو بحسب اعتقاده ، حتّى يرد عليه أنّه مخالف لما بيّنه أوّلا من عدم كون هيولى أو كالهيولى لها ، فإنّ الصورة إنّما تكون إذا كان هناك مادّة وتركّب منها ومن صورة ، والمفروض خلافه ، وعليه ما ذكره صاحب المحاكمات بقوله : «ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يقوم قوّة فساد الصورة المقيمة بمحلّها ، ولا نسلّم احتياج قوّة الفساد بمادّة جسميّة بل هو أوّل المسألة؟»

ثمّ قال : «لا يقال : المفارق يمتنع أن يفارق المفارق. لأنّا نقول : إذا جاز أن يحدث في المفارق فلم لا يجوز أن ينعدم». هذا كلامه وبيان عدم الورود ظاهر ، وكان هذا الإيراد أيضا مبنيّ على الغفلة عن كلام المحقّق الطوسي رحمه‌الله.

وحيث عرفت ما ذكرنا ... (١) أيضا وأنّه مبنيّ على بساطة النفس وأصالتها في القيام ، كما ذكرنا ، أمّا بساطتها ، فلأنّه نفى عنها التركيب مطلقا ، وأمّا أصالتها ، فحيث ادّعى كونها عاقلة بذاتها ومستغنية في وجودها عن البدن ، وكلّ ذلك ظاهر على من تدبّر في كلامه ، إلّا أنّه كان ينبغي له أن يوجّه كلام الشيخ أوّلا بحيث لا يتطرّق إليه الاحتمالات التي هي منشأ للإيراد عليه كما فعلنا وهو رحمه‌الله لم يفعله ، لكنّه رحمه‌الله أعلم.

وإنّما تعرّضنا نحن لتصحيح ما ذكره الشيخ في الكتابين من الدليلين ، مع كون بعض ما ذكره فيهما مبنيّا على مقدّمة مقرّرة عند الحكماء غير تامّة عندنا ، وهي أنّ كلّ حادث

__________________

(١) هنا في الأصل كلمة لا تقرأ.

١٩٦

مسبوق بمادّة ، لأجل أنّه ربما كان مؤيّدا للدلائل الاخر على بقاء النفس بعد خراب البدن ، التي ليست مبنيّة على هذا الأصل كما عرفتها. وكذا لأجل تحقيق ما ذكره الشيخ وتصحيحه بناء على ذلك الأصل بقدر الإمكان ، حيث كان مزلقة للأقدام.

١٩٧

في ذكر شبهة مشهورة موردة على أدلّة بقاء النفس بعد فساد البدن

وحيث انتهى الكلام إلى هذا المقام ، واندفع الإيرادات الموردة على كلام الشيخ في الكتابين في الدليلين ، ـ أي الدليل على عدم فساد النفس بفساد البدن والدليل على عدم فسادها مطلقا ـ وبقي اعتراض الثالث الذي ذكره الإمام هنا ـ أي على الدليل الثاني الذي ذكره الشيخ على عدم فساد النفس مطلقا ـ فلنتكلّم في تحرير ذلك الاعتراض ، وفي بيان دفعه ، حيث إنّ ذلك الاعتراض اعتراض قويّ أوردوه على كلا الدليلين اللذين ذكرهما الشيخ في الكتابين وقد أشرنا فيما سبق أنّه يرد ظاهرا على بعض من الدلائل الاخر غيرهما أيضا وقد عرفت أنّ صاحب المحاكمات ـ كما نقلنا كلامه ـ أورده على الدليل الأوّل الذي ذكره الشيخ في الإشارات ، أي الدليل على بقاء النفس وعدم إمكان فسادها بفساد البدن ، وأنّ الإمام الرازي ـ كما نقلنا كلامه ـ أورده على دليله الثاني ، ذكره فيه ، أي الدليل على بقائها وعدم إمكان فسادها مطلقا ، وتعلم أيضا أنّه لو كان واردا على دليلي الشيخ في الإشارات ، لكان واردا على دليليه في الشفاء أيضا ، إذ مآل ما في الكتابين واحد والاختلاف إنّما هو في العبارة ، وقد عرفت أيضا ممّا نقله صدر الأفاضل من كلام المحقّق الطوسي رحمه‌الله في رسالته إلى بعض معاصريه ، أنّه أورد هذا الاعتراض في هذا المقام مطلقا ، بحيث يمكن أن يورد على كلّ من الدليلين في الكتابين ، وسأل الجواب عنه ، إلّا أنّ الإمام الرازي في اعتراضه حيث قال : إنّ الحدوث والفساد متساويان في احتياجهما إلى إمكان يسبقهما وإلى محلّ لذلك الإمكان ، أو في استغنائهما عن ذلك ، وأنّه إن استغنى إمكان الحدوث عن المحلّ مع وقوع الحدوث ، فليستغن إمكان الفساد أيضا عنه مع وقوع الفساد ، وإن افتقر إمكان الحدوث إلى محلّ ، هو البدن ، فليكن البدن أيضا

١٩٨

محلّا لإمكان الفساد ، وبالجملة يجوز أن يكون البدن ، شرطا لوجود النفس ، ويلزم انعدام المشروط عند فقدان الشرط ، إن أراد بالشرط الأمر الذي له مدخل في الجملة في حدوث النفس ، وإن كان على سبيل العلّية القابليّة ، فيكون هو قد رام إيراد الاعتراض على كلام الشيخ من وجه واحد ، وهو احتمال أن يكون البدن علّة قابليّة ومحلّا لإمكان حدوث النفس وفسادها ، وحينئذ يكون قوله : وبالجملة ـ إلى آخره ـ من تتمة السابق ، أمّا لو أراد بالشرط معناه الاصطلاحي الذي هو أمر وجودي خارج عن حقيقة المشروط ، ويتوقّف وجود مشروطه عليه وينتفي بانتفائه ، فكأنّه رام إيراد الاعتراض على كلام الشيخ من وجهين :

الوجه الأوّل من جهة تجويز كون البدن محلّا لإمكان فساد النفس أي علّة قابليّة له وكأنّه إيراد على قول الشيخ في الدليل الثاني : «والأعراض وجوداتها في موضوعاتها فقوّة فسادها وحدوثها في موضوعاتها فلم يجتمع هناك تركيب».

وتحريره : أنّه كما جاز أن يكون قوّة حدوث الأعراض البسيطة وقوّة فسادها في موضوعاتها فتحدث هي فيها وتفسد هي عنها من غير لزوم تركيب في ذواتها ، فلم لا يجوز أن يكون قوّة حدوث النفس التي هي بسيطة في ذاتها ، وكذا قوّة فسادها في البدن الذي هي متعلّقة به ، فإنّ البدن وإن لم يكن موضوعا لها لكونها مجرّدة عن المادّة في ذاتها ، لكنّه ممّا يمكن أن يكون محلّا لإمكان حدوثها وفسادها أي علّة قابليّة لذلك ، كالموضوع بالنسبة إلى الأعراض.

وبيان ذلك أنّه لا يخفى أنّ المذهب الحقّ كما تقرّر في موضعه ، وكذا مذهب الشيخ كما يظهر لمن نظر في كلامه في الكتابين ، هو القول بحدوث النفس بحدوث البدن ، ولا سترة في أنّ فسادها لو فرض يكون حادثا أيضا ، فحدوثها وفسادها كلاهما حادثان بعد ما لم يكونا ، فحينئذ نقول : إمّا أن يكون كلّ حادث مطلق سواء كان مجرّدا أو مادّيا ، محتاجا إلى إمكان يسبقه وإلى محلّ لذلك الإمكان ، كما هو المقرّر عند الحكماء ، وإمّا أن لا يكون كذلك.

وعلى الأوّل فحدوث النفس وفسادها متساويان في احتياجهما إلى ذلك الإمكان ، وإلى ذلك المحلّ الحامل له ، فكما جاز أن يكون محلّ إمكان حدوثها هو البدن ، حيث إنّها

١٩٩

حدثت بحدوثه ولذلك جعل الشيخ وغيره البدن علّة بالعرض للنفس ، فكذلك يجوز أن يكون محلّ إمكان فسادها أيضا ، هو البدن ، فتفسد هي بفساده. والقول بأنّه محلّ لإمكان حدوثها دون فسادها ممّا لا وجه له ، لأنّه إن كان مبنيّا على أنّها لا تفسد البتّة وإن كان هناك حامل لإمكان الفساد فهو أوّل المسألة ، وإن كان مبنيّا على أنّ إمكان الفساد مطلقا لا يستدعي محلّا له ، فهو مخالف لما هو المقرّر عندهم ، من أنّ كلّ حادث يستدعي ذلك ، مع أنّه يستلزم المطلوب ، وهو ثبوت الفساد لها من غير أن يكون هناك حامل لإمكانه ، وإن كان مبنيّا على أنّ النفس لكونها مجرّدة عن المادّة لا يستدعي إمكان فسادها محلّا لذلك ، فهو جار في إمكان حدوثها أيضا ، وقد ثبت عندهم أنّه يستدعي محلّا ، وهو البدن ، مع أنّه يستلزم المطلوب وهو ثبوت الفساد لها. وإن كان مبنيّا على أنّ محلّ إمكان فسادها هو شيء غير البدن ، فهو مع كونه مخالفا لما تقرّر عندهم من أنّ محلّ إمكان الفساد يجب أن يكون هو بعينه محلّ إمكان الحدوث ، يستلزم المطلوب ، وهو ثبوت محلّ لإمكان فسادها ، وإن كان غير البدن.

وبالجملة كلّ ما يمكن أن يقال في ذلك فهو باطل.

وعلى الثاني أي أن لا يحتاج الحادث مطلقا أو حدوث النفس وفسادها إلى محلّ كذلك فهما متساويان في ذلك ، فكما يجوز أن تحدث النفس من غير احتياج إلى محلّ ، كذلك يجوز أن تفسد أيضا مع الاستغناء عن محلّ كذلك ، وهو المطلوب.

وبهذا الطريق الذي سلك الإمام في اعتراضه أوّلا كما حرّرناه سلك المحقّق الطوسي في رسالته إلى بعض معاصريه في بيان الاعتراض على هذا المقام كما نقلنا كلامه ، وفي احتمال كون البدن محلّا لإمكان فساد النفس ، إلّا أنّه فصّل تفصيلا أتمّ ، به يكون الاعتراض أقوى ، حيث قال : «ما بال القائلين بأنّ ما لا حامل لإمكان وجوده وعدمه فإنّه لا يمكن أن يوجد بعد العدم أو يعدم بعد الوجود ، وحكموا بوجود النفس الإنسانيّة وامتنعوا عن تجويز فنائها ، فإن جعلوا حامل إمكان وجودها البدن ، فهلّا جعلوه حامل إمكان عدمها أيضا ، وإن جعلوها لأجل تجرّدها عمّا تحلّ فيه عادم حامل لإمكان العدم ، كيلا يجوز عدمها بعد الوجود ، فهلّا جعلوها لأجل ذلك بعينه عادم حامل لإمكان الوجود ، فيمتنع وجودها بعد العدم في الأصل. وكيف ساغ لهم أن يجعلوا جسما مادّيا حاملا

٢٠٠