منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-108-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٨٢

وبناء هذه الأقوال كلّها على عدم العثور والاطّلاع على كيفيّة الحركات الجوهريّة ، وكيفيّة تجدّد الصورة على المادّة وتلازمهما. وقد مرّت الإشارة إلى أنّ المادّة باستعدادها علّة مصحّحة لتشخّص الصورة ، والصورة بجوهرها العقليّ علّة موجبة لمادّة غير الاولى ، بل لبقائها. وهكذا تسلسلت الموادّ بالصور والصور بالموادّ ، فالجامع في كلّ حين غير الحافظ ، لأنّ الأوّل معدّ ومحرّك بحسب تحرّكه ، والثاني موجب ممسك حسب ثباته وبقائه ، وهكذا في كلّ صورة طبيعية أو نفسانيّة ، إذ لها جهتان جهة حدوث وتجدّد بواسطة تعلّقه بالمادّة التي شأنها الانصرام ، وجهة بقاء ودوام لأجل تعلّقه بالواجب القيّوم ، فالمقوّم من الصورة للمادّة غير المتجدّد فيها بوجه ، وعينه بوجه ، كما نبّهناك عليه مرارا.

ثمّ إنّ العلامة الطوسي بعد أن زيّف قول الشارح القديم للإشارات بأنّ تصرّف نفس المولود في المادّة التي تصرّفت فيها نفس الوالدين ، وتفويض التدبير من قوّة أو نفس بعد مدّة إلى اخرى مستحيل. لأنّ تفويض أحد الفاعلين مادّة صنعه إلى فاعل آخر ينوب عنه في تتميم فعله ، إنّما جاز في الأفاعيل غير الطبيعية بين فاعلين يفعلان بإرادة دون الطبيعية.

أجاب عن أصل الإشكال بأنّ ما يقتضيه القوانين الحكميّة أنّ نفس الأبوين تفرز من موادّ الغذاء بقوّتها المولّدة مادّة مستعدّة لقبول قوّة من شأنها إعداد المادّة وتصييرها انسانا بالقوّة ، وهي صورة حافظة لمزاج المنيّ كالصورة المعدنيّة ، ثمّ المنيّ يتزايد كمالا في الرحم بحسب استعدادات يكتسبها إلى أن يصير مستعدّا لقبول نفس أكمل يصدر عنها مع حفظ المادّة الأفعال النباتية ، وهكذا إلى أن يصير مستعدّا لقبول نفس أكمل يصدر عنها مع جميع ما تقدّم الأفعال الحيوانيّة ، فيتمّ البدن ويتكامل إلى أن يستعدّ لقبول نفس ناطقة يصدر عنها مع ما تقدّم النطق وتبقى مدبّرة إلى أن يحلّ الأجل. (١)

وقال : فبيّن أنّ الجامع للأجزاء الغذائية الواقعة في الجنين هو نفس الأبوين ، وهو غير حافظها ، والجامع للأجزاء المنضافة إلى أن يتمّ البدن وإلى آخر العمر والحافظ للمزاج هو نفس المولود.

فقول الشيخ : «إنّهما واحد» بهذا الاعتبار ، وقوله : «انّ الجامع غير الحافظ» بالاعتبار الأوّل.

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

١٦١

هذا تلخيص ما ذكره وفيه امور صحيحة ، إلّا أنّه لم يتبيّن منه ما تحيّروا فيه من أنّ هذه الأفاعيل المترتّبة ، من الحفظ والتغذية والتصوير والإنماء والإحساس والنطق ، أهي كلّها صادرة من كلمة فاعلة ، لها قوى متعدّدة متجدّدة الحدوث ، أو هي كلمات فعّالة متعدّدة متفاضلة في الكمال ، فإن كان الأوّل فيلزم حدوث الناطقة مع حدوث النطفة فتكون معطّلة عن فعلها الخاصّ مدّة ، وهذا يخالف قواعدهم ، وإن كان الثاني يلزم عليه ، ما يلزم به الشارح القديم ، من تفويض أحد الفاعلين الطبيعيّين تدبير موضوعه إلى الآخر ، وإن كان هناك فساد صورة سابقة وتكوّن صورة لا حقة ، فكيف انجرّ تكامل الاستعداد إلى الفساد ، والفطرة حاكمة بأنّ التوجّه إلى الكمال ينافي الفساد والاضمحلال ، فقوّة واحدة لمادّة واحدة لا تفعل فعلين متناقضين فيها.

وأمّا ما ذكره الأطباء من أنّ الحرارة الغريزية توجب الحياة والموت جميعا فوجه ذلك أنّ فعل تلك الحرارة ليس بالذات إلّا تقليل الرطوبات. وهذا التقليل نافع في حفظ الحياة ما دامت الرطوبات زائدة في بدن الحيّ ، ضارّ ما دامت ناقصة ، ففعلها شيء واحد دائما وكلّ واحد من النفع والضرّ ، فعلها بالعرض ، وأمّا فعل المصوّرة في مادّتها فليس إلّا التكميل والحفظ. وكلّ من له قدم راسخ في الحكمة يعرف أنّ الأفاعيل الطبيعيّة نحو شيء مناف لها مضادّة ، بل الأشياء كلّها طالبة للخير الأقصى ، كما يشهد به الكشف الأتمّ ، فالتحقيق في هذا المقام يتوقّف على ما لوّحنا إليه سابقا من حال اشتداد الطبيعيّة وسلوكها الجوهريّ الاتّصاليّ ، حسب ما يقتضيه البراهين المشرقية. ـ انتهى كلامه رحمه‌الله.

وأقول لا يخفى عليك أنّ التحقيق الذي ذكره المحقّق الطوسي رحمه‌الله ، تحقيق أنيق ، ينبغي أن يكون عليه المعوّل في جواب ذلك السؤال المشهور الذي أورده ، إلّا أنّ هاهنا امورا ينبغي التنبيه عليها.

١٦٢

في امور ينبغي التنبيه عليها هنا : [الأمر الأوّل]

منها أنّه قال : في قول الشيخ «ولأنّ المزاج واقع فيه بين أضداد متنازعة إلى آخره» بهذه العبارة :

وهذا استدلال بوجود المزاج نفسه وبقائه على وجود النفس ، وهو أنّ المزاج كما مرّ إنّما يحدث بين اسطقسات متضادّة متنازعة إلى الانفكاك لاختلاف ميولها وإلى امكنتها ، فهو محتاج أوّلا إلى شيء يجمعها بالقسر حتّى تمتزج وتلتئم بعد الاجتماع ، ثمّ تتفاعل ، فيحدث بعد ذلك المزاج ، وإلى شيء يحفظ الاسطقسات بالقسر مجتمعة ليبقى المزاج موجودا ، وإلّا تفرّقت بحسب طبائعها فانعدم المزاج ، فالمزاج المستمرّ الوجود محتاج إلى جامع وحافظ ، أحدهما سبب وجوده والثاني سبب بقائه ، وهما متقدّمان على الالتيام المتقدّم على المزاج ، وهذا هو المراد من قوله : «وكيف وعلّة الالتيام وحافظه قبل الالتيام فكيف لا يكون قبل ما بعده» أي وكيف وعلّة الالتيام وحافظه تكون ما قبل الالتيام المستمرّ الوجود ، فكيف لا يكونان قبل المزاج الباقي الذي هو بعد الالتيام ، وهذا الالتيام يتداعى إلى الانفكاك عند لحوق الجامع أو الحافظ وهن بالأمراض المنهكة أو عدم بالموت لارتفاع المعلول عند ارتفاع العلّة. وهذا استدلال مؤكّد للذي قبله باعتبار المشاهدة ، فإذن هناك شيء هو الجامع والحافظ للمزاج وهو الشيء الذي صار المركّب به إنسانا. ـ انتهى. (١)

فيستفاد ممّا ذكره أنّ ذلك الجامع كما أنّه جامع بالقسر لذوات تلك الاسطقسات ، كذلك هو جامع كذلك للمزاج الذي هو يحدث بعد اجتماعها وتفاعلها ، وكذلك ذلك

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ : ٣٠١ ـ ٣٠٢.

١٦٣

الحافظ كما أنّه حافظ لتلك الاسطقسات مجتمعة أي لاجتماعها كذلك هو حافظ للمزاج. فيظهر من ذلك توجيه اختلاف إطلاقات كلام الشيخ في الشفاء والإشارات حيث إنّه في الإشارات.

قال : أوّلا إنّ تلك القوّة إنّما تجبر الأضداد المتنازعة على الالتيام والامتزاج فأشار به إلى أنّها جامعة لتلك الاسطقسات على الالتيام.

ثمّ قال : «وكيف وعلّة الالتيام وحافظه قبل الالتيام» فأشار به إلى أنّها علّة الالتيام أي علّة جمع الأجزاء على الالتيام ، وكذا هي حافظة للالتيام ، أي حافظة لتلك الأضداد مجتمعة.

ثمّ قال : «فكيف لا يكون قبل ما بعده» ، إشارة إلى أنّها جامعة وحافظة للمزاج أيضا حيث إنّه يحدث بعد الالتيام والمفروض أنّها علّة للالتيام وحافظة له.

ثم قال : «وهذا الالتيام كما يلحق الجامع الحافظ وهن أو عدم ـ إلى آخره ـ» ، إشارة إلى أنّها جامعة وحافظة للالتيام ، أي جامعة للأجزاء على الالتيام وحافظة لذلك أي حافظة للالتيام.

ثمّ قال : فأصل القوى المدركة والمحرّكة والحافظة للمزاج شيء آخر تصريحا بأنّ تلك القوّة حافظة للمزاج أيضا.

وحيث إنّ الشيخ في الشفاء في الكلام الذي نقلنا عنه قال : «فالنفس التي لكلّ حيوان هي جامعة اسطقسات بدنه مؤلّفها ومركّبها على نحو يصلح معه أن تكون بدنا لها» ، إشارة إلى أنّها جامعة للاسطقسات وجابرة لها على الالتيام والاجتماع ، بل إشارة إلى أنّها جامعة للمزاج أيضا فإنّ جمع الاسطقسات وتأليفها وتركيبها على نحو يصلح معه أن تكون بدنا لها ، لا يتصوّر إلّا بجمع المزاج أيضا أي بجمع الأجزاء التي وقع بينها المزاج ، فإنّ ذلك النحو الصالح هو المزاج اللائق.

ثمّ قال : «وهي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي» ، إشارة إلى أنّها حافظة للالتيام وللأجزاء مجتمعة ، وكذا هي حافظة للمزاج ، فإنّ حفظ البدن على النظام الذي ينبغي يشمل هذين جميعا ، فتدبّر.

وإذا عرفت ذلك فاعلم أنّه يستفاد من كلام المحقّق الطوسي هذا حيث قال : «إنّ

١٦٤

المزاج محتاج أوّلا إلى شيء يجمع الاسطقسات بالقسر حتّى تجتمع وتلتئم بعد الاجتماع ثمّ تتفاعل فيحدث بعد ذلك المزاج ، وإلى شيء يحفظ الاسطقسات بالقسر مجتمعة ليبقى المزاج موجودا» انّ فعل النفس أوّلا ، إنّما هو جمع الاسطقسات والالتيام بينها ، وأنّه يتبع ذلك حدوث المزاج. وكذا فعلها بالذات حفظ الالتيام بين الاسطقسات وحفظها على الاجتماع ، ويتبعه حفظ المزاج وبقاؤه ، فجمع الاسطقسات وحفظها مجتمعة فعل النفس فعلا أوّليّا وحدوث المزاج وحفظه فعلها أيضا فعلا ثانويّا. وبذلك يصحّ إطلاق أنّها جامعة للمزاج ، إذ هي جامعة لما يقع فيه المزاج وكذلك يستفاد ممّا تقدّم ، ومن قوله : «فالمزاج المستمرّ محتاج إلى جامع وحافظ أحدهما سبب وجوده والثاني سبب بقائه ، وهما متقدّمان على الالتيام المتقدّم على المزاج» أنّ ذلك الشيء الجامع من حيث جمع الأجزاء وقسرها على الالتيام ، وحفظها على الاجتماع مدّة يحصل فيها الامتزاج والالتيام والتفاعل بينها سبب لحدوث أصل المزاج ووجوده ، ومن حيث حفظها على الالتيام بعد ذلك سبب لبقاء المزاج وحفظه ، وأن ليس ذلك السبب هو المزاج لتقدّمه على الالتيام المتقدّم على المزاج ، والمتقدّم على المتقدّم على الشيء متقدّم على ذلك الشيء وعلّة له ، فلا يكون نفسه ، فيستفاد منه أنّ ذلك الجامع من جهة أصل الجمع ، والجمع مدّة يحصل فيها المزاج سبب لوجوده وأنّ الحافظ من جهة حفظ الالتيام بعد ذلك ، سبب لبقائه لا أنّ الأوّل علّة معدّة للثاني علّة معدّة لا تجتمع مع معلولها في الوجود ويجب تغايرهما كما زعمه صدر الأفاضل ، وحيث كان الأوّل سببا للوجود والثاني سببا للبقاء ، فجاز اجتماعهما في الوجود بل اتّحادهما كما في مراتب كون ذلك السبب نفسا نباتيّة أو حيوانيّة أو ناطقة وإن جاز اختلافهما وتغايرهما كما في مرتبة كونه صورة منويّة كالصورة المعدنيّة في حفظ المزاج ، فإنّ حافظ المزاج وسبب بقائه حينئذ هو تلك الصورة وجامعه وسبب وجوده هو نفس الأبوين كما حقّقه رحمه‌الله. وحيث يستفاد منه أنّ حدوث المزاج وبقاءه أمران متغايران فيمكن أن يدفع بذلك ما يمكن أن يورد على المحقّق الطوسي رحمه‌الله.

١٦٥

دفع إيراد عن المحقّق الطوسي رحمه‌الله

من أنّ ما أورده هو نفسه على الإمام من الإلزام بتفويض أحد الفاعلين الطبيعيّين تدبيره إلى آخر ، وارد عليه أيضا في تفويض نفس الأبوين حفظ المزاج إلى الصورة المنويّة التي هي من قوى النفس المولود.

وبيان الدفع أنّ فعل نفس الأبوين إنّما هو أصل الجمع وحفظ الأجزاء إلى أن يحصل المزاج ، وفعل الصورة المنويّة إبقاء المزاج وحفظه بعد ذلك ، والفعلان متغايران ، فلم يفوّض نفس الأبوين فعلها الخاصّ بها إلى الصورة المنويّة ، بل انقطع فعلها وحدث فعل آخر من فاعل آخر حدث. وهذا بخلاف ما قاله الإمام حيث إنّه قال : إنّ تدبير المزاج من حيث الوجود والبقاء جميعا كان في عهدة نفس الامّ ، ثمّ فوّضته إلى الناطقة ، ففوّضت فعلها الخاصّ بها إليها ، فتبصّر.

الأمر الثاني

ومن تلك الامور التي ينبغي التنبيه عليها ، أنّ أوّل كلام المحقّق الطوسي رحمه‌الله في تحقيقه ، وإن كان يوهم أنّ النفس النباتيّة والحيوانيّة والناطقة نفوس متغايرة وذوات مختلفة بالماهيّة متفاضلة في الكمال ، كما هو رأي بعضهم ، لكنّ التمثيل الذي ذكره لتلك القوى والنفوس في أحوالها من مبدأ حدوثها إلى استكمالها ، وكذا قوله أخيرا : «فجميع هذه القوى كشيء واحد متوجّه من حدّ ما من النقص إلى حدّ ما من الكمال ، واسم النفس واقع منها على الثلاث الأخيرة ، فهي على اختلاف مراتبها نفس لبدن المولود» يدلّ على أنّ هذه النفوس ، بل الصورة الحافظة لمزاج المنيّ أيضا التي هي كالصورة المعدنيّة كلّها بحسب الذات ، والحقيقة شيء واحد يتزايد كمالاته بحسب استعدادات يكتسبها في مراتبه. وهو في تلك المراتب باق بحسب الذات من غير فساد أمر من ذاته ولا تكوّن أمر في ذاته وله قوى متعدّدة مختلفة بسببها يصير أفعال تلك الذات الواحدة متغايرة مختلفة ، كما هو رأي جمهور الحكماء ، وهو الحقّ ـ كما سيأتي تحقيقه ـ وكأنّه لأجل ملاحظة وحدتها بالذات وتعدّدها بحسب الأفعال والآثار قال : إنّها كشيء واحد ولم يقل إنّها شيء واحد.

١٦٦

ويؤيّده أنّ القول بوحدتها بالذات وتغايرها بحسب القوى والأفعال ، هو الموافق لكلام الشيخ في الكتابين ، حيث إنّه في الإشارات (١) في هذا المقام الذي ذكر المحقّق الطوسي فيه هذا التحقيق قال : «فأصل القوى المدركة والمحرّكة والحافظة للمزاج شيء آخر ، لك أن تسمّيه النفس ، وهذا هو الجوهر الذي يتصرّف في أجزاء بدنك ثمّ في بدنك.» ثمّ قال : «فهذا الجوهر فيك واحد ، بل هو أنت على التحقيق ، وله فروع من قوى منبثّة في أعضائك». وكذلك قد حقّق في الشفاء في فصل عدّ المذاهب في النفس وأفعالها وأنّها واحدة أم كثيرة ، القول في وحدتها بحسب الذات واختلافها بحسب القوى والآلات والأفعال بما لا مزيد عليه. (٢) وسنذكر تلخيصه فيما بعد إن شاء الله تعالى في موضع يليق به.

وبالجملة فهذا القول هو الحقّ الحقيق بالتصديق ولا ينافيه ما ورد في أخبار الصادقين عليهم‌السلام من أنّ الله تعالى جعل في الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام خمسة أرواح ، روح القدس ، وروح الإيمان ، وروح الحياة ، وروح القوّة ، وروح الشهوة ، وفي المؤمنين الأربعة الأخيرة ، وفي الكافرين الثلاثة الأخيرة ، (٣) لأنّه يمكن أن يكون ذلك إشارة إلى تعدّد مراتب كمالات الأرواح ، وتعدّد قواها ، لا تعدّدها بحسب الذات.

وكذا لا ينافيه ما ورد : من أنّ ولوج روح الحياة ، وكذا روح العقل ، إنّما يكون إذا مضى على الجنين في الرحم مدّة بعد فيضان الروح النباتي عليه ، (٤) إذ ذلك أيضا يمكن أن يكون محمولا على أنّ النفس بعد تلك المدّة تزيد كمالاتها ، وتكون بحيث يصدر عنها مع ما تقدّم من الأفعال النباتيّة الفعل الحيواني ، وبعد ذلك بحيث يصدر عنها مع جميع ما تقدّم الفعل الإنساني.

وعلى هذا أيضا يمكن أن يحمل قوله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ). (٥)

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ : ٣٠٢ ـ ٣٠٦.

(٢) الشفاء ، الطبيعيات ، الفصل السابع في عدّ المذاهب ... : ٢٢١ ، طبع القاهرة.

(٣) راجع الوافي ٣ : ٦٢٧ ، باب ما خصّوا عليهم‌السلام به من الأرواح.

(٤) راجع تفسير نور الثقلين ٣ : ٥٣٢ ، ذيل آية ١٢ من سورة «المؤمنون».

(٥) السجدة : ٧ و ٩.

١٦٧

مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) ، (١) لو كان قوله تعالى (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ) إشارة إلى إفاضة النفس الإنسانيّة عليه ، فتدبّر.

وإذا عرفت ذلك تبيّن لك أنّ ما أورده صدر الأفاضل بقوله : «إلّا أنّه لم يتبيّن منه ما تحيّروا فيه من أنّ هذه الأفاعيل المترتّبة ، من الحفظ والتغذية والتصوير والإنماء والإحساس والنطق ، أهي كلّها صادرة من كلمة فاعلة لها قوى متعدّدة متجدّدة الحدوث؟ أو هي كلمات فعّالة متعدّدة متفاضلة في الكمال؟» غير وارد ، حيث إنّ كلام المحقّق الطوسي ؛ دلّ على الأوّل كما هو ظاهر كلامه ، ولكونه الحقّ ، ولكونه موافقا لكلام الشيخ وهو بصدد شرح كلامه.

وأمّا ما أورده بقوله : «فإن كان الأوّل فيلزم حدوث الناطقة مع حدوث النطفة ، فتكون معطّلة عن فعلها الخاصّ مدّة وهذا يخالف قواعدهم» ، فغير وارد أيضا.

أمّا أوّلا فلأنّه يمكن أن يكون مراد المحقّق الطوسي كما يشعر به بعض كلماته وحدة ما يقع عليه اسم النفس ، أي النباتيّة والحيوانيّة والناطقة بالذات ، لا الصورة الحافظة لمزاج المنيّ أيضا. فعلى هذا فلا يرد حدوث الناطقة مع حدوث النطفة حتّى يلزم التعطيل المذكور.

وأمّا ثانيا فلأنّه على تقدير أن يكون مراده وحدة تلك الصورة الحافظة أيضا مع تلك النفوس بالذات ، كما هو الأظهر ، يمكن أن يقال إنّ ذلك التعطيل إنّما يلزم لو لم يكن هناك مانع من توجّه الناطقة إلى فعلها الخاصّ بها ، وهذا ممنوع ، إذ ربما كان توجّهها إلى تكميل مادّة بدنها بحيث تصلح أن تكون آلة لاستكمالها ، أو انغمارها في الرطوبة على ما قيل ، أو نحو ذلك مانعا عن فعلها الخاصّ بها ، وهذا ليس فيه التعطيل المحال ، كما أنّها في مرتبة النباتيّة والحيوانيّة أيضا كذلك ، بل إنّها في بعض مراتب كونها ناطقة كمرتبة العقل الهيولاني أيضا كذلك ، ولا تعطيل ، إذ المانع من فعلها الخاصّ هناك موجود من نحو ما ذكرنا ، ولم يقل أحد بأنّ الناطقة في مراتب قواها النظريّة مثلا ، كالهيولانية وبالملكة وبالمستفاد وبالفعل نفوس متعدّدة بالذات أو أنّها في مرتبة الهيولانيّة ، نفس مغايرة بالذات

__________________

(١) المؤمنون : ١٢ ـ ١٤.

١٦٨

للنفس التي فيما بعد تلك المرتبة ، بل الاتّفاق واقع على أنّها في تلك المراتب أجمع ، ذات واحدة تختلف كمالاتها.

ثمّ إنّه لو كان هذا الإيراد الذي أورده صدر الأفاضل على تقدير وحدة النفس بالذات واردا لكان يرد على نفسه أيضا ، إذ هو أيضا ذهب إليها حيث قال في تلك الرسالة بهذه العبارة :

«الإشراق الثامن في أنّ لكلّ إنسان نفسا واحدة.

من الناس من زعم أنّ فينا نفسا إنسانيّة ، واخرى حيوانيّة ، واخرى نباتيّة ، والجمهور على أنّ النفس فينا واحدة ، هي الناطقة فقط ولها مشاعر وقوى ، فانّ لك أن تقول أحسست فغضبت وأدركت فحرّكت ، فمبدأ الكلّ أنت ، وأنت نفس شاعرة فكلّ القوى من لوازم هذه.» (١)

ثمّ ذكر وجوها اخرى على هذه الوحدة كما يظهر على من راجع كلامه.

وأمّا قوله : «وإن كان الثاني يلزم عليه ما يلزم به الشارح المتقدّم من تفويض أحد الفاعلين الطبيعيّين تدبير موضوعه إلى آخر» ، فهو وارد على هذا التقدير أي على تقدير تعدّد النفوس بالذات ، حيث إنّه يلزم حينئذ تفويض الصورة المنويّة التي هي فاعل طبيعي تدبيرها إلى النفس النباتية ، التي هي فاعل طبيعي ، وكذا تفويض النفس النباتية تدبيرها إلى النفس الحيوانية ، وتفويض الفاعل الطبيعي تدبيره إلى آخر ، سواء كان فاعلا طبيعيّا أيضا كما في الأوّل ، أو فاعلا غير طبيعي كما في الثاني ، ممتنع ، على اصولهم ، لأنّ الطبيعة لا تكون طالبة لأمر وتاركة له ، وكأنّه رحمه‌الله أشعر في كلامه ذلك ، بأنّ هذا التفويض إنّما يلزم على تقدير تعدّد النفوس بالذات لا على تقدير وحدتها بالذات ، وتعدّدها باعتبار القوى والكمالات ، إذ هي على هذا التقدير فاعل واحد ، هو النفس الناطقة المجرّدة التي هي فاعل إراديّ ، وليس هناك تفويض ، بل زيادة كمالها بزيادة استعداداتها ، وبأنّ المحقّق الطوسي حيث أورد هذا الإلزام على الإمام الرازي ينبغي أن يكون نظره إلى تعدّدها بالذات ، فإنّه لو كان نظره إلى وحدتها بالذات لم يرد إلزامه على الإمام حيث إنّ تفويض نفس الامّ التي هي واحدة بالذات ـ وهي نفسها الناطقة التي هي فاعلة بالإرادة ـ تدبيرها

__________________

(١) الشواهد الربوبية : ٢٢٧.

١٦٩

إلى النفس الناطقة للمولود التي هي أيضا واحدة بالذات وفاعلة بالإرادة ، ليس من تفويض أحد الفاعلين الطبيعيّين تدبيره إلى الآخر ، فهذا الإلزام قرينة على أنّ نظر المحقّق الطوسي إلى تعدّد النفوس بالذات.

وما ذكره من قوله : «فجميع هذه القوى كشيء واحد» قرينة على أنّ نظره إلى وحدتها بالذات ، وبذلك يحصل الإبهام والإجمال في كلامه : «ولم يتبيّن منه أنّ هذه الأفاعيل أهي صادرة من كلمة واحدة فاعلة؟ أو من كلمات متعدّدة فعّالة؟»

وبالجملة لو كان نظره إلى وحدتها بالذات ، لم يرد إلزامه على الإمام الرازي ولم يعلم بعد أنّ مذهب الإمام هو التعدّد بالذات ، حتّى يكون الإلزام عليه إلزاميا ، وإن كان نظره إلى تعدّدها بالذات ورد عليه أيضا ما ألزمه على الإمام.

وهذا غاية توجيه كلام صدر الأفاضل في إيراده على المحقّق الطوسي.

دفع إيراد آخر على المحقّق الطوسي رحمه‌الله

ويمكن الجواب عن ذلك بأنّ الظاهر كما ذكرنا أنّ نظر المحقّق الطوسى رحمه‌الله إلى الوحدة بالذات ، وأنّه على تقدير هذه الوحدة أيضا يرد إلزامه على الإمام ، فإنّ ذات نفس الامّ وكذا ذات نفس المولود وإن كانتا فاعلين بالإرادة في بعض أفاعيلهما ـ أي الأفاعيل الحيوانيّة والإنسانيّة ـ لكن فعلاهما هذان ، أي جمع أجزاء النطفة وحفظها أوّلا الذي أسنده الإمام إلى نفس الامّ ، وحفظها ثانيا الذي أسنده إلى نفس المولود الحادثة فعلان طبيعيّان غير إراديّين كما لا يخفى. والفاعل من حيث فعله الطبيعي سواء كان ذاته بذاته طبيعيّا أيضا ، أو إراديّا ، لا يمكن أن يفوّض تدبيره الطبيعي إلى فاعل آخر طبيعي أو غير طبيعي وخصوصا إذا كان فعله أيضا غير طبيعى كما هنا ، حيث إنّ الدليل الذي ادّعوه على هذا الامتناع جار هنا أيضا. والحاصل أنّ الفعل الطبيعي من حيث هو فعل طبيعي لا يمكن أن يفوّض تدبيره من فاعل إلى آخر. ولا مانع من أن يكون فاعل واحد من جهة ذاته بذاته أو من بعض الاعتبارات فاعلا بالإرادة ، ومن جهة بعض الاعتبارات الاخر فاعلا طبيعيّا ، فإنّه لا مانع من أن يكون النفس المجرّدة الإنسانيّة من جهة تعلّقها بمجموع البدن كالصورة المعدنيّة ، وفاعلة بالطبع ، ومن جهة تعلّقها ببعض أجزاء بدنها كالكبد نوعا من التعلّق

١٧٠

كالنفس النباتيّة ، وفاعلة بالطبع أيضا ، ومن جهة تعلّقها ببعض آخر منها كالقلب نوعا من التعلّق كالنفس الحيوانيّة ، وفاعلة بالإرادة ، ومن جهة ذاتها بذاتها نفسا مجرّدة فاعلة بالإرادة أيضا ، كما أنّها من جهة تعلّقها ببعض أجزاء بدنها كالدماغ نوعا من التعلّق مدركة للجزئيات ، ومن جهة ذاتها بذاتها مدركة للكلّيات ، فإنّ أمر النفس عجب عجاب والله أعلم بالصواب.

ومن هذا تبيّن أنّ نظر المحقّق الطوسي رحمه‌الله إلى الوحدة بالذات وأنّ إلزامه على الإمام الرازي وارد.

وأمّا قول صدر الأفاضل : «وإن كان هناك فساد صورة سابقة وتكوّن صورة لا حقة ، فكيف انجرّ تكامل الاستعداد إلى الفساد. والفطرة حاكمة بأنّ التوجّه إلى الكمال ينافي الفساد والاضمحلال».

فهو إن كان ناظرا إلى تقدير وحدة تلك النفوس بالذات واختلافها في الآثار كما هو المستفاد من كلام المحقّق الطوسي والشيخ وغيرهما ، فلا يخفى أنّه غير وارد ، فإنّ هؤلاء لا يقولون بذلك ، بل إنّهم يقولون بتكامل استعداد تلك النفس الواحدة وتزايد كمالاتها بحسب مراتبها من غير فساد نفس وتكوّن نفس اخرى. وعليه ينبغي أن يحمل قول المحقّق الطوسي : «وظاهر أنّ كلّ ما يتأخّر يصدر عنه مثل ما يصدر عن المتقدّم وزيادة.»

وكذلك لو كان ذلك ناظرا إلى تقدير تعدّدها بالذات ، فإنّهم وإن قالوا بتكوّن نفس لا حقة لكنّهم لم يقولوا بفساد النفس السابقة ، بل إنّ ظاهر كلامهم أنّهم قالوا باجتماع تلك النفس اللاحقة مع السابقة في الوجود وترتّب الآثار حيث قالوا بأنّ فينا نفوسا متعدّدة ، كما نقل صدر الأفاضل نفسه عنهم في كلامه المنقول عنه آنفا.

وأمّا قوله : «فقوّة واحدة لمادّة واحدة لا تفعل فعلين متناقضين».

فهو إن كان من تتمّة السابق ، وكان مراده أنّ القوّة الواحدة لا تفعل فعلين متناقضين ، أي التوجّه إلى الكمال والفساد ، فجوابه قد ظهر ممّا ذكرنا ، وإن كان إيرادا آخر على تقدير وحدة النفس بالذات ، وكان مراده أنّ النفس الواحدة لا تفعل الفعل النباتي والحيواني والنطقي ، فهو أيضا غير وارد ، إذ هذه الأفعال غير متناقضة ، بل يجتمع بعضها مع بعض في الوجود ، وتعدّدها لا ينافي وحدة فاعلها بالذات ، إذ فاعلها مع وحدتها بالذات مختلفة

١٧١

متعدّدة من جهة الاعتبارات وبحسب الآثار والكمال.

فظهر من ذلك أنّ الإيرادات التي ذكرها صدر الأفاضل في هذا المقام لا وجه لها ، كما أنّ ما اختاره في جواب ذلك السؤال المشهور ، وقال إنّه هو التحقيق ، ممّا لا وجه له ، إذ هو مبنيّ على تجويز الحركة في الجوهر ، وقد تبيّن بطلانها في موضعه ، حيث إنّ المتحرّك في كلّ مقولة يجب أن يبقى ذاته بشخصه حين الحركة ، وإذا فرضت الحركة في الجوهر كانت الحركة في الصور الجوهرية بحيث لا تبقى واحدة منها في أزيد من آن ، فيكون المتحرّك نفس الهيولى والهيولى لا وجود شخصيا لها إلّا بالصورة. وبما ذكرنا ظهر لك تزييف ما ذكره صدر الأفاضل هنا.

وقد ظهر أيضا بما ذكره المحقّق الطوسي تزييف ما ذكره الإمام الرازي ، فظهر أنّ ما حقّقه المحقّق الطوسي رحمه‌الله ممّا ينبغي أن يكون المعوّل عليه في جواب ذلك السؤال المشهور.

في بيان الجواب عن السؤال الذي أوردناه على كلام الشيخ في الشفاء

وحيث عرفت ما أوردنا من الكلام في البين للتمهيد عن جواب السؤال الذي أوردناه على كلام الشيخ في الشفاء فلنرجع إلى بيان الجواب عنه ، فنقول : إنّك إذا أحطت بما تلوناه عليك ، تبيّنت معنى ما ذكر الشيخ من كون النفس حافظة للمزاج والتركيب وعلّة لهما ، فإنّ معناه كما تلخّص لك ممّا تقدم أنّ المزاج البدني لمّا كان واقعا بين أضداد متنازعة إلى الانفكاك ، وهى اسطقسات البدن التي تطلب كلّ منها احيازها الطبيعيّة لو خلّيت وطباعها ، فلا بدّ من أن يكون هناك قاسر يقسرها على الاجتماع والالتيام وليس ذلك القاسر هو المزاج ، لأنّ المزاج إنّما يحدث بعد الاجتماع ، فلا يمكن أن يكون قبله ، فلا يكون علّة له ، بل العلّة القاسرة لتلك الأضداد على الاجتماع إنّما هي أمر آخر ، إن شئت سمّيته قوّة ، وإن شئت سمّيته صورة ، وإن شئت سمّيته نفسا ، وهذا القاسر كما أنّه علّة لجمع تلك الأجزاء والتيامها ، كذلك هو علّة لما يحدث بعد الالتيام ، ويتبعه أي المزاج ، فهو علّة أوّلا للالتيام ، وثانيا لحدوث المزاج من المبدأ الفيّاض ولبقائه وانحفاظه ، فهو كما أنّه جامع للأجزاء كذلك هو علّة حافظة للمزاج.

١٧٢

وبالجملة ، فهذا القاسر الجامع الحافظ ، هو نفس المولود التي هي واحدة بالذات ، مختلفة باعتبار القوى والآثار والأفعال والكمالات. ويصدر عنها في كلّ حالة من حالاتها الجمع والحفظ معا ، ما سوى مرتبة كون تلك القوّة بحيث لا تسمّى نفسا ، بل صورة منويّة ، فإنّ فعلها في تلك المرتبة ، إنّما هو حفظ مزاج المنيّ كالصورة المعدنيّة لا الجمع ، حيث إنّ الجامع للأجزاء الغذائية التي يتبع جمعها المزاج المنويّ ، إنّما هو نفس الأبوين لا نفس المولود. وليس في ذلك تفويض أحد الفاعلين الطبيعيّين من حيث فعلهما الطبيعي تدبيره إلى الآخر ، كما أشرنا إليه ، أي من جهة أنّ الجمع والحفظ وإن كان كلاهما فعلين طبيعيّين ، والمفروض أنّ نفس الأبوين فوّضت الحفظ إلى نفس المولود. إلّا أنّه ليس فيه تفويض نفس الأبوين فعلها الخاصّ بها إلى نفس المولود ، حيث إنّ فعل نفس الأبوين إنّما هو الجمع ، وهي لم تفوّضه إلى نفس المولود بل الصادر من نفس المولود في تلك المرتبة إنّما هو الحفظ خاصّة دون الجمع ، فتبصّر.

ثمّ إنّه عند حدوث المزاج المنويّ تستعدّ تلك الأجزاء التي هي مادّة إنسان لحدوث نفس من المبدأ الفيّاض متعلّقة بها ، لا قائمة بها ، وبعبارة اخرى إنّه عند ذلك يستعدّ البدن لكون القوّة المتعلّقة به يتزايد كمالها بحيث تسمّى نفسا وهذه القوّة وهذه النفس وهي التي قلنا إنّها واحدة بالذات ، مختلفة باعتبار القوى والكمالات يصدر عنها الجمع والحفظ معا ، وبذلك يظهر معنى قول الشيخ : «إنّ المزاج والبدن علّة بالعرض للنفس ،» وعسى أن نأتي على زيادة إيضاح لهذا فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وأمّا وجه الجمع بين ما ذكره في الشفاء في ذلك الاحتمال الثالث ، من أنّ فساد البدن إنّما يكون بسبب يخصّه من تغيّر المزاج والتركيب.

وما نقلناه عنه في الكتابين ، من أنّ النفس جامعة لاسطقسات البدن وحافظة للبدن على النظام الذي ينبغي فلا يستولي عليه المغيّرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيه ، وأنّ الالتيام الواقع في أجزاء البدن إذا لحق جامعه وحافظه ـ أي علّته التي هي النفس ـ وهن او عدم يتداعى إلى الانفكاك.

فبيانه أنّ هذا الجمع والحفظ سواء كان متعلّقهما الأجزاء البدنيّة أو المزاج البدني حيث كانا فعلين حاصلين في مادّة يستدعيان فاعلا وقابلا وفاعلهما النفس ، كما دلّ عليه كلام

١٧٣

الشيخ ، وقابلهما البدن بأجزائه وكيفيته ، وبعبارة اخرى علّتهما بالذات هي النفس وعلّتهما بالعرض هي البدن ، كما يدلّ عليه كلام المحقّق الطوسي في ذيل قول الشيخ في الإشارات : «واستحالة الجسم عن أن يكون آلة لها وحافظا للعلاقة معها بالموت لما تضرّ جوهرها» حيث قال : «واعلم أنّ إسناده حفظ العلاقة مع الجسم هنا إلى الجسم ليس بمناقض لإسناده حفظ المزاج الذي هو سبب العلاقة في النمط الثالث إلى النفس ، لأنّ النفس كما كانت حافظة لها بالذات فالجسم حافظ أيضا ولكن بالعرض ، وذلك لأن فساد المزاج المقتضي لقطع العلاقة إنّما يتطرّق من جهة الجسم وعوارضه ، ولذلك أسند استحالة البدن عن كونه آلة للنفس إلى الجسم ، وعدم تطرّق الفساد إلى الشيء ممّا من شأنه أن يتطرّق فيه الفساد حفظ ما لذلك الشيء ، لكنّه حفظ بالعرض. ـ انتهى.»

ثمّ إنّه حيث كان هذا الجمع وهذا الحفظ أمرين حادثين بعد ما لم يكونا ، وكان وجود معلول ما يقتضي وجود جميع علله بشرائطها ، وكان زواله لا يقتضي زوال جميع ذلك ، بل يكفي زوال أمر ما من أجزاء عللها وشروطها أو طروء ضدّه عليه ، كان وجود هذا الجمع والحفظ لوجود فاعلهما وقابلهما معا مع جميع الشرائط التي هي شروط فيها بخلاف زوالهما ، فإنّه يكفي فيه زوال قابلها وعلّتها بالعرض كالبدن من غير أن يقتضي ذلك زوال ذات علّتهما الفاعلة وعلّتهما بالذات كالنفس.

لست أعني بقولي هذا زوال البدن بالذات وفساده عن أصله ، حتّى ينافي ما ذكره الشيخ في ذلك الاحتمال الثالث أنّ فساد البدن إنّما يكون بسبب يخصّه من تغيّر المزاج والتركيب ، أي بسبب زوال الجمع والحفظ حيث إنّ فساد البدن إنّما يكون بفساد المزاج لا بالعكس.

بل أعني به زوال البدن ، من حيث كونه قابلا للجمع والحفظ وصالحا لوقوع الالتيام والمزاج بين أجزائه ، بأن يتطرّق أوّلا إلى البدن وهن وضعف بسبب استيلاء المغيّرات الخارجيّة والداخليّة ، فيخرج بذلك عن الصلاحية لوقوع المزاج الخاصّ بين أجزائه ، ثمّ يتطرّق بذلك وهن وفساد إلى ذلك المزاج الحاصل بينها ، فيفسد ذلك المزاج ويتداعى أجزاء البدن إلى الانفكاك ، على مقتضى طباعها ، فيلحق ذلك فساد البدن ويتبعه زوال علاقة النفس عنه ، ونحن نعلم بالضرورة أنّ زوال الجمع والحفظ أي تغيّر المزاج والتركيب

١٧٤

إنّما يكون بهذا السبب ، وأنّ ذلك يتبعه فساد البدن ، كما نعلم بالضرورة أنّ فساد البدن إنّما يكون بتغيّر مزاجه وتركيبه.

ويؤيّد ما ذكرناه قول الشيخ في الشفاء في فصل جوهرية النفس : «وإذا فارقت النفس وجب ضرورة أن يكون فراقها لغالب صيّر الموضوع بحالة اخرى وأحدث فيه صورة جماديّة ، كالمقابلة للصورة المزاجيّة الموافقة للنفس ، ولتلك الصورة والمادّة التي للنفس لا تبقى بعد النفس على نوعها البتّة ، بل إمّا أن يبطل نوعها وجوهرها الذي به كان موضوعا للنفس ، أو يخلف النفس عنها صورة تستبقي المادّة بالفعل على طبيعتها فلا يكون ذلك الجسم الطبيعي كما كان ، بل يكون صورة وأعراض اخرى ويكون قد تبدّل أيضا بعض أجزائها وفارق مع تغيّر الكلّ في الجوهر فلا يكون هناك مادّة محفوظة الذات بعد مفارقة النفس هي كانت موضوعة للنفس والآن هي موضوعة لغيره.» (١)

وكذا قوله في الإشارات : «واستحالة الجسم عن أن يكون آلة لها وحافظا لعلاقة معها بالموت ، لا تضرّ جوهرها» (٢) حيث أسند تلك الاستحالة إلى الجسم أوّلا.

وكذا قول المحقّق الطوسي : «وذلك لأنّ فساد المزاج المقتضي لقطع العلاقة ، إنّما يتطرّق من جهة الجسم وعوارضه» (٣). والمحصّل أنّ زوال المزاج والتركيب إنّما يكون بطروء عوارض على البدن الحاصل على المزاج الخاصّ والتركيب الخاصّ لا غير ، فيخرج البدن عن القابليّة لذلك المزاج الخاصّ ، فيفسد المزاج بزوال علّته القابلة له من حيث إنّها قابلة له ، أي فيفسد المزاج ويتبعه زوال البدن وفساده من حيث المزاج والتركيب ، وكذا من جهة الصورة الشخصيّة والنوعيّة بل الجسميّة أيضا بطروء الضدّ عليها ، ولا يستلزم ذلك زوال ذات العلّة الفاعليّة للمزاج والتركيب أو علّتهما بالذات ، أعني النفس الجامعة والحافظة للمزاج ، حيث إنّ انعدام المعلول لا يستلزم انعدام جميع علله ، مع أنّك قد عرفت فيما تقدّم أنّ تغيّر المزاج والتركيب لكونه تدريجيّا مستلزما لحركة في زمان على مادّة تقبل التدريج ، لا يمكن أن يكون مستتبعا لانعدام ذات النفس لكونها مجرّدة عن المادّة في ذاتها. نعم هو يمكن أن يكون مستتبعا لزوال النفس من حيث كونها

__________________

(١) الشفاء ، الطبيعيّات ، الفصل الثالث في أنّ النفس داخلة في مقولة الجوهر : ٢٢ ، طبع القاهرة.

(٢) شرح الإشارات ٣ : ٢٦٥.

(٣) شرح الإشارات ٣ : ٢٦٦.

١٧٥

جامعة وحافظة بالذات أي لزوال صفة جمعها وحفظها ، وكذا لقطع علاقتها عن البدن ، حيث إنّه إذا لم تكن هناك مادة قابلة للجمع والحفظ لا يتصوّر الجمع والحفظ ، وإن كان ذات الجامع والحافظ بذاته موجودا ، لا نقص في ذاته ولا في علّيته بذاته وإذا زال ذلك المزاج الخاصّ الموافق للنفس الذي هو منشأ علاقتها بالبدن زالت علاقتها عنه من غير أن يكون ذلك مستلزما لانعدام ذات النفس ـ وسيجيء زيادة بيان له إن شاء الله تعالى.

وعلى هذا فيمكن أن يحمل كلام الشيخ في الشفاء : «وهي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي فلا يستولي عليه المغيّرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيها» (١) على أنّها حافظة له على ذلك النظام ، ما دام يمكن الحفظ ويمكن أن يكون ذلك المزاج قابلا له صالحا له ولم يطرأ عليه الضدّ ولم يستول عليه المغيّرات ، وما دامت النفس موجودة مع البدن متعلّقة به جامعة حافظة ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ، خرج البدن عن الصلاحيّة لقبول حفظ المزاج ، وفسد المزاج ، وفسد البدن أيضا ، وزال الحفظ وانقطعت علاقتها عنه.

وكذا كلامه في الإشارات : «وهذا الالتيام كما يلحق الجامع الحافظ وهن أو عدم يتداعى إلى الانفكاك» (٢) ، على أنّه إذا لحق الجامع الحافظ وهن من حيث الجمع والحفظ بسبب الأمراض المنهكة البدنيّة أو عدم من هذه الحيثيّة أيضا بسبب الموت البدني ، تداعى الالتيام إلى الانفكاك فزال جمعه وحفظه فزال تعلّقها عن البدن ففارقته من غير أن يكون مستلزما لانعدام الجامع الحافظ بذاته ، وعلى هذا فيحصل الجمع بين كلامي الشيخ اللذين نحن بصدد الجمع بينهما من غير إشكال.

وهذا الذي ذكرنا إنّما هو على مساق ظاهر ما نقلنا عن الشيخ آنفا في فراق النفس عن البدن ومذاق الحكماء الطبيعيّين في الموت ، وأمّا على مذاق بعض الحكماء الإلهيّين فيه فيمكن أن يقال : إنّ البدن بذلك المزاج الخاصّ والتركيب الخاصّ اللذين هما منشأ تعلّق النفس به لمّا كان آلة لاستكمالها حيث كانت تحتاج إليه في استكمالها ، كانت جامعة حافظة للبدن على مزاجه ، وكانت العلاقة شديدة باقية ، وحيث خرج كمالها المقدّر لها به

__________________

(١) الشفاء ، الطبيعيات ، الفصل الثالث في أنّ النفس داخلة في مقولة الجوهر : ٢٥ ، طبع القاهرة.

(٢) شرح الإشارات ٢ : ٣٠١.

١٧٦

من القوّة إلى الفعل مرتبة فمرتبة وكان الاحتياج أقلّ فأقلّ ، ولا سيّما إذا استولت المغيّرات على البدن ضعف الجمع والحفظ مرتبة فمرتبة ، إلى أن انتهى الأمر إلى مرتبة يزول فيها الاحتياج بالمرّة ، وينعدم العلاقة ويزول الحفظ ، فيتداعى الالتيام المحفوظ ، وكذا الاجزاء الملتئمة إلى الانفكاك فينعدم المزاج ويفسد البدن بفساده ، وعلى هذا أيضا فيحصل الجمع بين كلاميه أيضا وكأنّه ألصق بكلامه الذي نقلنا عنه في حفظ النفس للمزاج والله تعالى أعلم.

في ترميم بعض ما ذكره الشيخ في الكتابين من الدليل على بقاء النفس

ثمّ اعلم أنّ ما ذكره الشيخ في الشفاء في الدليل على أنّه لا يجوز أن يكون سبب من الأسباب يعدم النفس ، حيث ذكر أن كلّ شيء موجود من شأنه أن يفسد بسبب يجب أن يكون فيه قوّة أن يفسد ، وقبل الفساد فيه فعل أن يبقى ، وقوّة الفساد وفعليّة البقاء متغايرتان ، فإذن هما لأمرين مختلفين. ثمّ ذكر أنّ كلّ شيء يبقى وله قوّة الفساد ، فله أيضا قوّة أن يبقى ، لأنّ بقاءه ليس بواجب ضروري ، واذا لم يكن واجبا كان ممكنا ، والإمكان الذي يتناول الطرفين ، هو طبيعة القوّة ، فإذن يكون في جوهره قوّة أن يبقى ، وأنّ فعليّة البقاء وقوّة البقاء أيضا متغايرتان ، وهما لأمرين مختلفين. فيلزم أن يكون ذاته مركّبة من أمرين بأحدهما فعليّة بقائها وهو الصورة ، وبالآخر قوّة بقائها واضح كما ذكره ، وإنّما لم يكتف بالمقدّمة الاولى في بيان الدليل ولم يقل إنّ قوّة الفساد وفعليّة البقاء متغايرتان فإذن هما لأمرين مختلفين ، فيلزم التركيب ، وبعبارة اخرى أنّ موضوع قوّة الفساد غير موضوع فعليّة البقاء وأنّه لا يمكن عروضهما لشيء واحد لأنّ محلّ قوّة الفساد ، هو بعينه موصوف بالفساد ولا شيء من محل البقاء بالفعل هو بعينه موصوفا بالفساد. لأنّ الباقي لو قبل الفساد والقابل يجتمع مع المقبول للزم اجتماع الباقي مع الفساد وهو محال. والحاصل أنّ الباقي لا يبقى مع الفساد والموصوف بالفساد يبقى مع الفساد ، فلا يكون الباقي موصوفا بالفساد ، فلا يثبت له قوّة الفساد ، لأنّه إذا قرّر الدليل هكذا ، ورد عليه النظر كما أورده صاحب المحاكمات بأنّا لا نسلّم أنّ الباقي لو قبل الفساد ، لاجتمع معه ، فإنّ معنى قبول الشيء العدم أو الفساد ليس أنّ ذلك الشيء يتحقّق ويحلّ فيه الفساد ، بل معناه

١٧٧

أنّه ينعدم في الخارج ، وإذا حصل في العقل وتصوّر العقل العدم الخارجي ، كان العدم الخارجي قائما به في العقل ، وأمّا في الخارج فليس هناك شيء وقبول عدم. وإن كان يمكن دفع هذا النظر بأنّ الشيء لا يمكن أن يقبل فساد نفسه لأنّ القابل للشيء يجب أن يكون قابلا لما هو متعلّق القوام به ، وفساد نفسه مباين له ، فلا يمكن أن يقبله. نعم يمكن أن يكون شيء قابلا لفساد غيره عنه. وسيأتي تحقيق ذلك كلّه إن شاء الله تعالى.

وإذا تمسّك في الدليل بتينك المقدّمتين جميعا ، أي أنّ قوّة الفساد وفعليّة البقاء لأمرين مختلفين وأنّ قوّة الفساد وفعليّة البقاء تستلزمان قوّة البقاء أيضا ، وأنّ قوّة البقاء وفعليّته لأمرين مختلفين ، فيلزم التركيب ، وأن لا يكون موضوعاهما أمرا واحدا كما تمسّك الشيخ بهما ،

تمّ البيان من غير ورود هذا الإيراد عليه ، حتّى يحتاج إلى الجواب عنه بما ذكرنا ، وبالجملة فكلامه في الشفاء في ذلك لا غبار عليه.

وأمّا كلامه في الإشارات في ذلك حيث قال : «ولأنّه أصل فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد ، ومقارنة لقوّة الثبات» (١) ، فكأنّه مجمل في ذلك ، حيث لم يتعرّض لذكر فعليّة الثبات ومغايرة قوّة الثبات لها ، وقد عرفت أنّ إتمام الدليل يتوقّف عليه ، إلّا أنّه يمكن حمله على ما في الشفاء بأن يقال : معناه : فلن يكون مركّبا من ذلك ، لأنّ قوّة الفساد مع فعليّة الثبات تستلزمان قوّة الثبات ، وأنّ قوّة الثبات وفعليّته متغايرتان ، وتستلزمان محلّين متغايرين مختلفين والتركيب.

وأمّا المحقّق الطوسي رحمه‌الله في شرحه للإشارات فكأنّه نظر إلى ظاهر كلام الشيخ فقرّر دليله ، وتمسّك فيه بالمقدّمة الاولى فقط ، أي أنّ قوّة الفساد غير فعليّة البقاء ، حيث قال : «كلّ موجود يبقى زمانا ويكون من شأنه أن يفسد ، كان قبل الفساد باقيا بالفعل وفاسدا بالقوّة ، وفعل البقاء غير قوّة الفساد ، وإلّا لكان كلّ باق ممكن الفساد ، وكلّ ممكن الفساد باقيا ، فإذن هما لأمرين مختلفين ، والأصل لا يمكن أن يكون مشتملا على مختلفين ـ إلى آخره ـ». (٢)

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ : ٢٨٥.

(٢) شرح الإشارات ٣ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦.

١٧٨

وقال أيضا أخيرا : «وهو أي الأصل غير مركّب من قوّة الفساد ووجود الثبات». (١)

ولم يتعرّض للمقدّمة الثانية التي لها مدخل في إتمام الدليل ، أي أنّ ذلك مستلزم لقوّة الثبات ، وهي متغايرة مع فعليّة الثبات وتستلزمان محلّين مختلفين.

ويرد عليه أوّلا أنّه شرح غير مطابق لكلام الشيخ ، فإنّ الشيخ لم يذكر فعليّة الثبات ، بل ذكر قوّة الثبات ، حيث قال : «فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوّة الثبات» (٢) وأيضا فإنّ المحقّق الطوسي وإن تعرّض لذكر قوّة الثبات في قوله : «فالنفس إن كان أصلا فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوّة الثبات ، ـ حيث إنّ الموجود في بعض النسخ لقوّة الثبات وإن كان الموجود في البعض الآخر لوجود الثبات كما في أوّل كلامه وآخره ـ إلّا أنّه أيضا لا يكون إشارة إلى المقدّمة الثانية ، حيث إنّ المقدّمة الثانية هي المغايرة بين قوّة الثبات وفعليّته ، لا بين قوّة الفساد وقوّة الثبات ، وإن كان مطابقا لظاهر كلام الشيخ.

وأمّا ثانيا فلأنّه على هذا التقرير الذي ذكره لشرح كلام الشيخ يرد عليه النظر المذكور آنفا ، ويحتاج إلى الجواب عنه بما ذكرنا أو نحوه ، وقد أورده صاحب المحاكمات عليه.

قال في قول المحقّق الطوسي : «فإذن هما لأمرين مختلفين» بهذه العبارة : «وهاهنا شيئان : الأوّل ، أنّ قوّة الفساد مغايرة للبقاء بالفعل ، لأنّها لو كانت عين البقاء بالفعل ، لكان كلّ باق فاسدا بالقوّة وبالعكس وليس كذلك. الثاني ، أنّ قوّة الفساد وفعليّة البقاء لأمرين مختلفين أي موضوع قوّة الفساد غير موضوع البقاء حتّى لا يمكن عروضهما لشيء واحد». (٣) ولم يذكر عليه دليلا.

كلام مع صاحب المحاكمات

وربما يستدلّ عليه بأنّ محل قوّة الفساد هو بعينه موصوف بالفساد. ـ إلى آخر ما نقلنا في قولنا : وبعبارة اخرى ـ ثمّ قال : وفيه نظر ، لأنّا لا نسلّم أنّ الباقي لو قبل الفساد ـ إلى آخر ما نقلنا من النظر.

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ : ٢٨٧.

(٢) شرح الإشارات ٣ : ٢٨٥.

(٣) المحاكمات ؛ راجع هامش شرح الإشارات ٣ : ٢٨٦.

١٧٩

وبالجملة فما ذكره هذان العلمان في ذيل كلام الشيخ في الإشارات كأنّه مبنيّ على غفلة عن كلامه في الشفاء ، وأنّ توجيه كلامه في الإشارات ينبغي أن يكون مطابقا لما ذكره في الشفاء ، لا بما ذكره المحقّق الطوسي وأورد عليه صاحب المحاكمات النظر كما نقلناه وهما (رحمهما‌الله) أعلم.

ثمّ إنّ المحقّق الطوسي رحمه‌الله كما نقلنا كلامه ، قرّر دليل الشيخ في الإشارات على هذا المطلب هكذا : هذا ابتداء احتجاجه على بقاء النفس ويريد بالأصل كلّ بسيط غير حالّ في شيء من شأنه أن يوجد فيه الأعراض والصور ، وأن يزول عنه تلك الأعراض والصور وهو باق في الحالتين فهو أصل بالقياس إليها.

ثمّ بيّن مغايرة فعل البقاء لقوّة الفساد كما نقلنا عنه.

ثمّ ادّعى أنّهما لأمرين مختلفين.

ثمّ قال فالنفس إن كان أصلا فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوّة الثبات. (١) وإن لم يكن أصلا ـ أي لم يكن بسيطا غير حالّ ـ كان إمّا مركّبا وإما حالّا ، والثاني باطل لما مرّ والمركّب يكون مركّبا من بسائط غير حالّة ، إمّا بعضها كالمادّة من الجسم وإمّا كلّها ، وعلى التقديرين فالبسيط الغير الحالّ موجود في المركّب ، وهو غير مركّب من قوّة الفساد ووجود الثبات.

ثمّ قال في قول الشيخ : «وإذا كان كذلك لم يكن أمثال هذه في أنفسها قابلة للفساد بعد وجوبها بعللها وثباتها بها» هكذا : أي إذا ثبت أنّ لنفس إمّا أصل وإمّا ذات أصل ، لم تكن هي وما يجري مجراها ممّا لا تركيب فيه ، ولا هو بحالّ في غيره ممّا يقبل الفساد ، فإنّ البقاء وقوّة الفساد لا يجتمعان في البسيط والأوّل حاصل ، فالثاني ليس بحاصل ، فإذن النفس لا يمكن أن تفسد وإنّما قال بعد وجوبها بعللها وثباتها بها لأنّ أصل الوجود وبقاءه يكونان في ممكنات الوجود مستفادين من عللها ـ انتهى. (٢)

ثمّ أورد صاحب المحاكمات على هذا الدليل بناء على هذا التقرير ، وقال في قول المحقّق الطوسي : «والنفس إن كان أصلا ـ إلى آخره ـ : لا يخلو إمّا أن يكون النفس بسيطا غير حالّ فلا يمكن قبوله الفساد لاستدعاء قبول الفساد التركيب ، وإمّا أن تكون حالّا

__________________

(١) لوجود الثبات (خ ل).

(٢) شرح الإشارات ٣ : ٢٨٥ ـ ٢٨٩.

١٨٠