منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-108-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٨٢

فيما ذكره المحقّق الطوسي رحمه‌الله في شرحه له

وقال المحقّق الطوسي رحمه‌الله في شرح كلامه الأوّل بهذه العبارة : لمّا كانت النفس الناطقة واقعة في آخر مراتب العود ، اشتغل بالبحث عن حالها بعد تجرّدها عن البدن ، فاستدلّ بتجرّدها في ذاتها وكمالاتها الذاتية عن المادّة وما يتبعها ، وبأنّها غير متعلّقة الوجود بشيء غير مباديها الدائمة الوجود على ما تبيّن في النمط الثالث وغيره ، على بقائها بعد الموت كذلك.

وأشار بلفظ «لمّا» إلى ما ثبت في النمط الثالث من عدم انطباع النفس في الجسم ، وبقوله «التي هي موضوع ما للصور العقلية» (١) إلى كمالاتها الذاتية الباقية معها ببقائها التي استدلّ على امتناع انطباعها في الجسم ، وبقوله «بل انّما هي ذات آلة بالجسم» إلى كيفيّة ارتباطها بالجسم على وجه لا يلزم منه احتياجها في وجودها وكمالاتها المذكورة إليه ، ثمّ جعل قوله «فاستحالة الجسم عن كونه آلة لها لا تضرّ جوهرها» تاليا لما وضعه بعد لفظة لمّا ، وأتمّ مقصوده بقوله «بل يكون باقيا هو مستفيد الوجود من الجواهر الباقية» وذلك لوجوب بقاء المعلول مع علّته التامّة.

فهذا برهان لمّي هو عمدة براهين هذا الباب على ما ذكره الشيخ أبو البركات البغدادي.

واعلم أنّ إسناده حفظ العلاقة مع الجسم هاهنا إلى الجسم ليس بمناقض لإسناده حفظ المزاج الذي هو سبب العلاقة في النمط الثالث إلى النفس ، لأنّ النفس كما كانت حافظة لهما بالذات فالجسم حافظ أيضا ولكن بالعرض ، وذلك لأنّ فساد المزاج المقتضي لقطع العلاقة ، إنّما يتطرّق من جهة الجسم وعوارضه ، ولذلك أسند استحالة البدن عن كونه

__________________

(١) المعقولة (خ ل).

١٤١

آلة للنفس إلى الجسم ، وعدم تطرّق الفساد إلى الشيء ممّا من شأنه أن يتطرّق منه الفساد حفظ ما لذلك الشيء لكنّه بالعرض. ـ انتهى. (١)

وقال أيضا في شرح كلامه الثاني في قوله : «فاعلم من هذا» ـ إلى آخره ـ بهذه العبارة : «لمّا فرغ من إقامة الحجّة على كون النفس عاقلة بذاتها ، عاد إلى إكمال الكلام في بقائها على كمالاتها الذاتية بعد مفارقة البدن ، ولذلك وسم الفصل بالتكملة للفصول المتقدّمة وجعل قوله : «فاعلم من هذا أنّ الجوهر العاقل منّا له أن يعقل بذاته» نتيجة للحجج المذكورة.

وفي قوله : «ولأنّه أصل فلن يكون مركبا ـ إلى آخره ـ» بهذه العبارة :

هذا ابتداء احتجاجه على بقاء النفس ، ويريد بالأصل كلّ بسيط غير حالّ في شيء من شأنه أن يوجد فيه أعراض وصور ، وأن تزول عنه تلك الأعراض والصور ، وهو باق في الحالتين ، فهو أصل بالقياس إليها.

واذا تقرّر هذا ، فنقول : كلّ موجود يبقى زمانا ويكون من شأنه أن يفسد كان قبل الفساد باقيا بالفعل ، وفاسدا بالقوّة وفعل البقاء غير قوّة الفساد وإلّا لكان كلّ باق ممكن الفساد ، وكلّ ممكن الفساد باقيا فإذن هما لأمرين مختلفين والأصل لا يكون مشتملا على مختلفين إذ هو بسيط ، فالنفس إن كان أصلا فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوّة (٢) الثبات وإن لم يكن أصلا أي لم يكن بسيطا غير حالّ ، كان إمّا مركّبا وإمّا حالّا والثاني باطل لما مرّ ، والمركّب يكون مركّبا من بسائط غير حالّة إمّا بعضها كالمادّة من الجسم ، وإمّا كلّها ، وعلى التقديرين فالبسيط الغير الحالّ أعني الأصل موجود في المركّب وهو غير مركّب من قوّة الفساد ووجود الثبات.

وفي قوله : «والأعراض وجوداتها في موضوعاتها هي» بهذه العبارة :

هذا جواب عن سؤال. وهو أن يقال كثير من الأعراض والصور ، تكون باقية ممكنة الفساد مع بساطتها ، فهلّا كانت النفس كذلك.

فأجاب بأنّ قوّة فساد أمثالها إنّما تكون في موضوعاتها الحاملة لوجوداتها ، وذلك لا ينافي بساطتها في ذواتها ، أمّا ما لا يكون له حامل وجود ، فاجتماع الأمرين فيه ينافي

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦.

(٢) لوجود (خ ل).

١٤٢

بساطته.

وفي قوله : «وإذا كان كذلك لم يكن أمثال هذه قابلة للفساد ـ إلى آخره ـ» بهذه العبارة : أي إذا ثبت أنّ النفس ، إمّا أصل وإمّا ذات أصل ، لم تكن هي وما يجري مجراها ممّا لا تركيب فيه ولا هو بحالّ في غيره ممّا يقبل الفساد ، فانّ البقاء وقوّة الفساد لا يجتمعان في البسيط والأوّل حاصل ، فالثاني ليس بحاصل ، فإذن النفس لا يمكن أن تفسد.

وإنّما قال : بعد وجوبها بعللها وثباتها بها ، لأنّ أصل الوجود وبقاءه يكونان في ممكنات الوجود مستفادين من عللها.

واعترض الفاضل الشارح فقال : لو كان للنفس هيولى وصورة مخالفتان لهيولى الأجسام وصورها ، وكان الباقي منها هيولاها وحدها ، لما كان الباقي من النفس هو النفس بل جزءا منها. وحينئذ يجوز أن لا يكون كمالاتها الذاتية باقية لأنّها تابعة لصورتها.

والجواب : أنّ هيولى النفس تكون إمّا ذات وضع أو غير ذات وضع ، والأوّل محال ، لأنّ ذات الوضع لا تكون جزءا لما لا وضع له.

والثاني لا يخلو ، إمّا أن يكون مع كونها غير ذات وضع ، ذات قوام بانفرادها أولم تكن ، فإن كانت عاقلة بذاتها على ما مرّ ، لكانت هي النفس وقد فرضناها جزءا منها ، هذا خلف. وإن لم تكن ذات قوام بانفرادها ، فإمّا أن يكون للبدن تأثير في إقامتها أولم يكن. فإن كان ، كانت النفس غير مستغنية في وجودها عن البدن ، فلم تكن ذات فعل بانفرادها على ما مرّ ، وقد فرغنا عن إبطال هذا القسم.

وإن لم يكن للبدن تأثير في إقامتها ، كانت باقية بما يقيمها ، وإن لم يكن البدن موجودا ، وهو المطلوب.

ثمّ إنّ الصورة المقيمة إيّاها والكمالات التابعة لتلك الصورة ، لا يجوز أن تفسد وتتغيّر بعد انقطاع علاقتها عن البدن ، لأنّ التغيّر لا يوجد إلّا مستندا إلى جسم متحرّك ، كما تقرّر في الاصول الحكميّة.

ثم قال : والنفس تحت مقولة الجوهر ، فهي مركّبة من جنس وفصل ، والجنس والفصل إذا اخذا بشرط التجرّد كانا مادّة وصورة ، فالنفس عندهم مركّبة من مادّة وصورة ، وذلك يؤكّد ما ذكرنا.

١٤٣

والجواب : إنّ هذه مغالطة باشتراك الاسم ، فانّ المادة والصورة تقعان على ما ذكره وعلى جزأي الجسم بالتشابه ، وإلّا فجميع أنواع الأعراض أيضا مركّبة من مادّة وصورة.

ثم قال : الفساد والحدوث متساويان في احتياجهما إلى إمكان يسبقهما ، وإلى محلّ لذلك الإمكان أوفي استغنائهما عن ذلك ، فإن استغنى إمكان الحدوث عن المحلّ مع وقوع الحدوث ، فليستغن إمكان الفساد أيضا عنه مع وقوع الفساد ، وإن افتقر الإمكان إلى محلّ هو البدن ، فليكن البدن أيضا محلّا لإمكان الفساد ، وبالجملة يجوز أن يكون البدن شرطا لوجود النفس ، ويلزم انعدام المشروط عند فقدان الشرط.

والجواب : أنّ كون الشيء محلّا لإمكان وجود ما هو مباين القوام له أو لإمكان فساده غير معقول. فإنّ معنى كون الجسم محلّا لإمكان وجود السواد هو تهيّؤه لوجود السواد فيه ، حتى يكون حال وجود السواد مقترنا به ، وكذلك في إمكان الفساد ، ولذلك امتنع كون الشيء محلّا لإمكان فساد ذاته ، فالبدن ليس بمحلّ لإمكان حدوث النفس من حيث هو مباين لها ، ولا لإمكان فسادها أيضا بل انّما كان مع هيئة مخصوصة موجودة قبل حدوث النفس محلّا لإمكان وتهيّؤ لحدوث صورة إنسانيّة تقارنه وتقوّمه نوعا محصّلا.

ولم يكن وجود تلك الصورة ممكنا إلّا مع ما هو مبدؤها القريب بالذات ، أعني النفس فحدث بحسب استعداده وتهيّؤه ذلك مبدأ الصور المقارنة المقوّمة إيّاه على وجه كان ذلك المبدأ مرتبطا به هذا النوع من الارتباط وزال بذلك الحدوث ذلك الإمكان والتهيّؤ عن البدن ، إذ زال عنه ما كان البدن معه محلّا لإمكان حدوث النفس أعني الهيئة المخصوصة فبقي البدن محلّا لإمكان فساد الصورة المقارنة به وزوال ذلك الارتباط عنه فقط ، وامتنع أن يكون محلّا لفساد ذلك المبدأ من حيث هو ذات مباين عنه ، فإذن البدن مع هيئة مخصوصة شرط في حدوث النفس من حيث هي صورة أو مبدأ صورة لا من حيث هي موجودة مجرّدة وليس بشرط في وجودها.

والشيء إذا حدث فلا يفسد بفساد ما هو شرط في حدوثه ، كالبيت فانّه يبقى بعد موت البنّاء الذي كان شرطا في حدوثه.

فان قيل : لم أوجب استيجاب البدن لحدوث صورة ما حدوث مبدأ لتلك الصورة ، ولم يوجب استيجابه لفساد تلك الصورة فساد مبدأ ذلك ، وما الفرق بين الأمرين؟

١٤٤

قلنا : لأنّ ما يقتضي حدوث معلول ما ، فإنّما يقتضي وجود جميع علل ذلك المعلول بشرائطها ، وما يقتضي فساد معلول لا يقتضي فساد العلل ، بل يكفي فساد شرط ما ولو كان عدميا. (١) انتهى كلامه رحمه‌الله. (٢)

__________________

(١) واعلم أنّ النفس الناطقة إذا كانت مجرّدة عن المادة كما عليه أتباع المشّاء ليست لها حالة منتظرة ، لأنّ الفرض إنّ النفس مجرّدة عن المادة بحسب جوهر ذاتها والمجرّد بهذا المعنى مستكفية بذاتها وعلّتها ، ولهذا قال صدر أكابر الحكماء إنّ النفس في ابتداء ظهورها فيها استعداد التجرّد. وما قيل إنّ النفس بحسب جوهر الذات غير حادثة وإضافتها إلى البدن حادثة. وفيه ما لا يخفى ؛ فالمصير إلى ما حقّقه صدر المحققين رضي الله عنه.

(٢) شرح الإشارات ٣ : ٢٨٥ ـ ٢٩٢.

١٤٥

في ذكر ما ذكره صاحب المحاكمات

وهذا الاعتراض الذي أورده الفاضل الشارح أخيرا على كلام الشيخ ، قد ذكره صاحب المحاكمات في ذيل أوّل كلام الشيخ بهذه العبارة :

«يريد أن يستدلّ على بقاء النفس بعد الموت ، وتقريره أنّه قد ثبت أنّ النفس الناطقة التي هي محلّ الصور العقليّة غير حالّة في الجسم ولا تعلّق لها بالبدن في ذاتها وجوهرها ، بل تعلّقها به ليكون هو آلة لها في اكتساب الكمالات ، فإذا فسد البدن فقد فسد ما لا حاجة للنفس إليه في وجودها ، مع أنّ العلّة المؤثّرة في وجود النفس باقية ، فيجب بقاؤها بعد فساد البدن.

وفيه نظر ، لأنّ الجوهر العقلي الموجد للنفس إن كان علّة تامّة لها ، لزم قدمها لقدمه ، وإن كان علّة فاعليّة وتوقّف وجودها على حدوث البدن ، فلم لم يتوقّف بقاؤها على بقائه ، فالنفس وإن كانت مجرّدة إلّا أنّها متعلّقة بالبدن ، فجاز أن يكون تعلّقها شرطا لبقائها ، فاذا انتفى انعدمت.

والحاصل أنّ البدن ما كان موجودا وكذا النفس ما كانت موجودة ، ثمّ وجد البدن والنفس ، ثمّ ينعدم البدن.

فلا يخلو إمّا أن يكون للبدن دخل في وجود النفس ، أو لا ، فإن لم يكن له دخل في وجود النفس أصلا ، فلم لم يوجد النفس قبل وجود البدن ، وإن كان له دخل في وجودها ، فلم لا يجوز أن يكون له دخل في بقائها حتّى إذا انعدم انعدمت.

واعلم : أنّ ما ذكرناه في تقرير الاستدلال هنا هو ما ذكره الإمام. وزاد الشارح في الاستدلال تجرّد النفس عن المادّة في كمالاتها الذاتيّة أي الكمالات العارضة لذاتها

١٤٦

كالصور المعقولة ، وذلك مع كونه غير منطبق على المتن مستدرك في الاستدلال فإنّ المطلوب ليس إلّا بقاؤها بعد الموت ، وتجرّدها في ذاتها كاف في ذلك.

وكذلك قوله : أشار بقوله «التي هي موضوع ما للصور العقليّة ـ إلى كمالاتها الذاتيّة الباقية معها» فإنّ الحكم المذكور ليس إلّا عدم انطباعها في الجسم ، فذكر ذلك الوصف ليس إلّا إيماء إلى سبب الحكم.

وكذا قوله : «على وجه لا يلزم احتياجها في وجودها وكمالاتها الذاتيّة المذكورة إلى الجسم» ، فإنّ عدم الاحتياج في الكمالات غير مفهوم من كونها ذات آلة في الجسم (١) وهو ظاهر. ـ انتهى كلامه. (٢)

وأنت تعلم أنّه يستفاد من كلام الإمام وكلام صاحب المحاكمات : أنّ هذا الاعتراض يمكن أن يورد على كلّ من الدليلين اللذين ذكرهما الشيخ في الكتابين على عدم فناء النفس ، سواء كان المقصود عدم فنائها بفناء البدن كما ذكره أوّلا ، أو عدم فنائها مطلقا كما ذكره أخيرا.

__________________

(١) بالجسم (خ ل).

(٢) المحاكمات ؛ راجع هامش شرح الإشارات ٣ : ٢٦٤.

١٤٧

في ذكر ما ذكره صدر الأفاضل في هذا المطلب

وحيث عرفت ذلك فاعلم : أنّه قد ذكر صدر الأفاضل في بعض رسائله : (١) انّ المحقّق الطوسي (نوّر الله تعالى عقله الشريف) ، كتب إلى بعض معاصريه من الأفاضل وهو العلّامة النحرير شمس الدين الخسروشاهي شاهي ، رسالة وسأله فيها عن ثلاث مسائل ، طلب منه الكشف عن وجوه إعضالها ، فلم يأت ذلك البعض العلّامة بجواب.

ومن جملة تلك المسائل الثلاث ، هذه المسألة بهذه العبارة : ما بال القائلين بأنّ ما لا حامل لإمكان وجوده وعدمه ، فإنّه لا يمكن أن يوجد بعد العدم أو يعدم بعد الوجود ، حكموا بوجود النفس الإنسانيّة وامتنعوا عن تجويز فنائها ، فإن جعلوا حامل إمكان وجودها البدن فهلّا جعلوه حامل إمكان عدمها أيضا ، وإن جعلوها لأجل تجرّدها عمّا تحلّ فيه عادم حامل لإمكان العدم كيلا يجوز عدمها بعد الوجود ، فهلا جعلوها لأجل ذلك بعينه عادم حامل لإمكان الوجود ، فيمتنع وجودها بعد العدم في الأصل ، وكيف ساغ لهم أن جعلوا جسما مادّيا حاملا لإمكان جوهر مفارق مباين الذات إيّاه ، فإن جعلوها من حيث كونها مبدأ لصورة نوعية لذلك الجسم ذات حامل لإمكان الوجود ، فهلّا جعلوها من تلك الحيثية ذات حامل لإمكان العدم ، وبالجملة ما الفرق بين الأمرين مع تساوي النسبتين؟ ـ انتهى.

ثم أجاب صدر الأفاضل نفسه عن هذا السؤال بهذه العبارة : أمّا الجواب عن المسألة الثالثة فنقول:

إنّ البدن الإنساني استدعى باستعداده الخاصّ من واهب الصور على القوابل ، صورة

__________________

(١) طبعت هذه الرسالة في هامش المبدأ والمعاد : ٣٧٢ ـ ٣٩١ ؛ فراجع.

١٤٨

مدبّرة متصرّفة فيه تصرّفا يحفظ بها شخصه ونوعه ، فوجب صدورها عن الواجب الفيّاض ، لكن وجود صورة تكون مصدرا للتدابير البشرية والأفاعيل الإنسية الحافظ لهذا النوع لا يمكن إلّا بقوّة روحانيّة ذات إدراك وعقل وتمييز ، فلا محالة يفيض من المبدأ الفيّاض صورة متصرّفة ذات حقيقة مفارقة أو ذات مبدأ مفارق ، وكما أنّ الشيء الواحد يجوز أن يكون جوهرا من جهة ، عرضا من جهة اخرى ، كماهيّة الجوهر الموجودة في الذهن ، لما تحقق أنّ صورتها العقلية جوهر بحسب الماهيّة ، عرض بحسب الوجود العلمي بل كيف ، وكذا يجوز أن يكون شيء واحد مجعولا من جهة ، غير مجعول من جهة اخرى كالوجود والماهيّة ، فكذلك يجوز أن يكون شيء واحد كالنفس الإنسانيّة مجرّدا من حيث كونه ذاتا عقليّة ، ومادّيا من حيث كونه متصرّفا في البدن. فإذن كانت النفس مجرّدة من حيث الذات ، مادّية من حيث الفعل ، مسبوقة باستعداد البدن ، حادثة بحدوثه ، زائلة بزواله. وأمّا من حيث حقيقتها ومبدأ حقيقتها فغير مسبوقة باستعداد البدن إلّا بالعرض ، ولا فاسدة بفساده ، ولا يلحقها شيء من مثالب المادّيات إلّا بالعرض ، فتدبّر.

هذا ما سنح لنا في سالف الزمان على طريقة أهل النظر ، وأمّا الذي نراه الآن في تحقيق الحال ودفع الإعضال ، فهو أنّ للنفس الإنسانيّة مقامات ونشئات ذاتيّة بعضها من عالم الأمر والتدبير : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، (١) وبعضها من عالم الخلق والتصوير : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) ، (٢) فالحدوث والتجدّد ، انّما يطرءان لبعض شأنها ، فنقول لما كانت للنفس ترقّيات وتحوّلات من نشأة اولى إلى ثانية وإلى ما بعدها ، فإذا ترقّت وتحوّلت من عالم الخلق إلى عالم الأمر ، يصير وجوده وجودا عقليّا إلهيّا لا يحتاج حينئذ إلى البدن وأحواله واستعداده ، فزوال استعداد البدن إيّاها لا يضرّها دواما وبقاء إذ ليس حال النفس في أوّل حدوثها كحالها عند الاستكمال ومصيرها إلى العقل الفعّال ، فهي بالحقيقة جسمانيّة الحدوث روحانيّة البقاء ، ومثالها كمثال الطفل وحاجته إلى الرحم أوّلا والاستغناء عنه أخيرا ، وكمثال الصيد والحاجة في اصطياده إلى الشبكة أوّلا والاستغناء في بقائه عنها أخيرا ، ففساد الرحم والشبكة لا ينافي بقاء المولود والصيد ولا يضرّه.

__________________

(١) الإسراء : ٨٥.

(٢) الأعراف : ١١.

١٤٩

ثمّ اعلم أنّ العلّة المعدّة عند التحقيق علّة بالعرض ، وليست علّيتها كعلّية العلل الموجبة حتّى يقتضي زوالها زوال المعلول. وما ذكروه من قولهم كلّ ما لا حامل لإمكان وجوده وعدمه ، فإنّه لا يمكن أن يوجد بعد العدم ، ولا أن يعدم بعد الوجود ، لا يستلزم القول بأنّ ما لا حامل لإمكان وجوده وعدمه ، فإنّه لا يمكن أن يوجد بعد الوجود ، إذ ربما يكون وجوده السابق كافيا في رجحان وجوده اللاحق على عدمه ، فلا يحتاج في وجوده البقائي إلى حامل وقابل لإمكانه.

ومن نظر وأمعن في مراتب الأكوان الخلقيّة الإنسانيّة قبل حدوث النفس ، وجد أنّ مادة النطفة أي حامل إمكان الصورة الجمادية النطفية ، بعد أن تصوّرت بصورتها واستكملت بها ، زال عنها ذلك الإمكان ولم يزل عنها تلك الصورة ، بل صارت أقوى وأكمل ممّا كانت أوّلا ، حيث صارت صورة نباتية بحسب إمكانها الاستعدادي النباتي. وصورة النبات ، لا تقصر عن فعل الجماد أيضا ، وكذا الحال في صيرورتها صورة حيوانيّة ، لما حقّق في موضعه أن هذه الاستكمالات المترادفة والانقلابات ليس إلّا ضربا من الاشتداد الجوهري ، لا بأن تفسد صورة وتحدث صورة اخرى مباينة للاولى ، كيف والحكماء أثبتوا للطبائع حركة حبيّة إلى غايات ذاتية البتّة ، ولكلّ ناقص شوقا غريزيّا إلى كماله.

وكلّ ناقص إذا وصل إلى كماله اتحد به وصار وجوده وجودا آخر ، وهذه الحركة الحبيّة في هذا النوع الإنساني إلى جانب القدس معاين مشهود لصاحب البصيرة ، فإذا بلغت النفس الإنسانيّة في استكمالاتها وتوجّهاتها إلى مقام العقل واتحدت بالعقل الفعّال بعد أن كانت عقلا منفعلا ، اطلقت عن المادة والحدثان وتجرّدت عن القوّة والإمكان ، وصارت باقية ببقاء الله سبحانه من غير تغيير وفقدان.

وبالجملة تحقيق هذا المبحث وتنقيحه ، إنّما يتيسّر لمن علم كيفيّة اتحاد النفس بالعقل الفعّال ومصيرها إلى العقل الفعّال ، وكل ميسّر لما خلق له. ـ انتهى كلامه رحمه‌الله. (١)

وقال أيضا في الشواهد الربوبية : الإشراق السادس في حدوث النفس الإنسانيّة ، اعلم أنّ نفس الإنسان جسمانيّة الحدوث ، روحانيّة البقاء ، إذا استكملت خرجت من القوّة إلى

__________________

(١) راجع هامش المبدأ والمعاد : ٣٧٨ ـ ٣٨٢.

١٥٠

الفعل.

والبرهان عليه أنّ كلّ مجرّد عن المادّة لا يلحقه عارض غريب ، لما مرّ من أنّ جهة القوّة والاستعداد راجعة إلى أمر هو في ذاته قوّة صرفة تتحصّل بالصور المقوّمة له ، وما هو إلّا الهيولى الجرمانية فيلزم من فرض تجرّد النفس عن المادّة اقترانها بها ؛ هذا خلف ، وستعلم بطلان التناسخ ، فإذن يكون حادثة.

وهذا البرهان غير مبنيّ على أنّ النفوس الإنسانيّة متّحدة بالنوع ، فيكون أولى ممّا قيل : إنّها لو كانت موجودة قبل الأبدان ، لم تكن متكثّرة ولا واحدة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الامتياز فيما له حدّ نوعي إمّا بالموادّ أو لعوارضها أو بالفاعل أو بالغاية ، والعلل منحصرة في هذه ، والنفوس صورتها ذاتها لاتّحادها في النوع ، وفاعلها أمر واحد ، وغايتها الاتّصال به والتشبّه له ، فيكون تكثّرها إمّا بالمادة أو بما في حكمها كالأبدان وقد فرضت مفارقة ؛ هذا خلف.

وأمّا الثاني : فلأنّ قبول الكثرة بعد الوحدة من خواصّ المقادير وعوارضها ، والنفس ليست كذلك.

شك وتحقيق

ولك أن تقول : هذا ممّا يلزمك في النفوس ، بعد مفارقتها عن الأبدان ، فما الفارق؟

فنقول : المميّز فيها عند القوم هي الهيئات المكتسبة في الأبدان ، وعندنا بأنحاء الوجودات ، لأنّ تشخّص كلّ وجود بنفس ذاته المتقوّم بجاعله ، وقد علمت أنّ النفوس والصور التي هي مبادئ الفصول للأجسام ليست إلّا أنحاء من وجود الموادّ وما هي كالموادّ ، ولها امور سابقة ، هي مخصّصات المادّة ومعدّات وجود عقيبها (١) ، ولها امور لا حقة هي عوارضها اللازمة لذواتها المتعيّنة بأنفسها. فقد علم أنّ المادّة المشتركة أو الماهيّة النوعية ، تفتقر في تخصّصها وتميّزها بوجود دون وجود إلى لواحق ومميّزات سابقة ، فكذا في تخصّصها بتلك السابقة إلى سابقة اخرى. وأمّا إذا وجد فرد من ماهيّته فانعدام المعدّ المخصّص ، لا يقدح في بقائه إذا لم يكن له ضدّ.

__________________

(١) في المصدر : ومعدّات وجود ما يلحقها.

١٥١

فالجواهر النطقيّة بعد وجودها وتجرّدها عن الموادّ هي كسائر المفارقات الصوريّة ، لا ضدّ لها ، إذ لا قابل لها ، فتبقى ببقاء مبدئها ومعيدها (١) ، ولو لم يكن فيها من المميّزات إلّا شعور كلّ منها بهويّتها ، لكفى فضلا عن الصفات والملكات والأنوار الفائضة عليها من المبادئ. ـ انتهى ما قصدنا نقله من كلامه رحمه‌الله. (٢)

وأقول : وبالله التوفيق ، إنّ الدليل الأوّل الذي ذكرناه على هذا المطلب دليل واضح ، إلّا أنّ إتمامه يتوقّف على دفع ما أورده الإمام فيها من الشبهة وذكرها صاحب المحاكمات أيضا ، فإنّ الظاهر أنّ تلك الشبهة ترد عليه أيضا ظاهرا وتندفع بما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في المصدر : ومعادها. والظاهر : مبدعها ومعيدها.

(٢) الشواهد الربوبية : ٢٢١ ـ ٢٢٣.

١٥٢

في توجيه حجج أفلاطون

وأمّا الحجج الثلاث التي ذكرنا أنّ أفلاطون اعتمد عليها في هذا المطلب ، فهي حجج واضحة بعد التأمّل عند من كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد ، سواء بني الاحتجاج بها على مذهب أفلاطون وشيعته من قدم النفس ، (١) أو على مذهب من قال بحدوثها قبل البدن كما هو رأي بعض الملّيّين.

حيث إنّ المنقول عن أفلاطون وشيعته قدم النفس ، إمّا بناء على الدليل الذي دلّ عندهم على قدم العالم ، وكان ذلك جاريا بزعمهم في النفس أيضا كما هو الاحتمال.

وإمّا بناء على الدليل الذي قام عندهم على قدم خصوص النفس كما نقله صاحب المحاكمات عنهم حيث قال :

واعلم أنّ أفلاطون وأتباعه ، إنّما ذهبوا إلى قدم النفس لأجل أنّهم ما فرّقوا بين إمكان الحدوث وإمكان العدم في استدعاء المادة. وعلموا أنّ النفس غير مادّية فقطعوا بأنّها قديمة ، لأنّها لو كانت محدثة ، كانت لها مادّة فامتنع حدوثها كما لم يمكن عدمها لذلك ، ولأنّ النفس لمّا كانت عاقلة لذاتها ، لا يجوز أن يكون إمكان وجودها في مادّة وإلّا لتوقّف وجود النفس على المادّة ، فلا تعقل بذاتها ، وإذا لم يمكن إمكان وجودها في مادّة لم يمكن أن يكون فسادها في مادّة ، وإلّا لكان وجودها يتوقّف على عدم الاستعدادات العدميّة. ـ انتهى.

وكذا إذا بني الاحتجاج بها على مذهب من قال بحدوثها بحدوث البدن كما هو رأي الأكثرين منهم ، وسيجيء تحقيقه ، إلّا أنّه على هذا التقدير ، يرد على تلك الحجج تلك

__________________

(١) قوله : «من قدم النفس ...» واعلم أنّ القول بقدم النفس وحدوث إضافته إلى البدن مما اختاره أرباب العرفان ولذا قالوا إنّ ما هو أبديّ أزليّ أيضا. ويرد على هذا المشرب إشكالات لا يمكن دفعها.

١٥٣

الشبهة أيضا ، وتندفع بما سيأتي بيانه.

أمّا بيان تلك الحجج الثلاث على القول بقدم النفس فظاهر ، حيث إنّهم قالوا بأنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه كما بيّنا الوجه فيه فيما سبق ، وعلى هذا وإن كان لا احتياج في إثبات بقاء النفس إلى تلك الحجج ، إلّا أنّ أفلاطون كأنّه اعتمد فيه عليها ، إشارة إلى برهان آخر أو تأكيدا للبرهان المبنيّ على قدمها ، ولعلّه رام أنّ النفس الناطقة شيء لا يمكن أن يطرأ عليه الفساد ، لا من جهه علّته المفيضة التامّة ولا من جهة ذاته بذاته.

أمّا من الجهة الاولى فلأنّها قديمة ، والقديم لا يمكن أن يطرأ عليه الفساد ، لأنّ طروءه عليه يستلزم طروءه على الواجب بالذات تعالى شأنه كما مرّ تقريره ، وهو محال.

أمّا من الجهة الثانية فلوجوه :

أحدها ـ وهو الحجّة الثانية المنقولة عنه ـ : أنّ النفس لا رداءة فيها ، أي لا قوّة فساد فيها ، إذ تلك القوّة تابعة للمادّة كما تقرّر في موضعه ، وإذ ليس فيها قوّة فساد ، بل هي فعلية محضة ، وصورة مطلقة ، فلا يمكن أن يطرأ عليها الفساد بوجه ، إذ الشيء لا يمكن أن يكون محلّا لفساد نفسه.

وعلى هذا فيؤول هذا البرهان إلى البرهان الأخير ، الذي ذكره الشيخ في الشفاء ، ولخّصه في الإشارات على عدم إمكان فساد ذات النفس مطلقا ، وسيأتي زيادة توضيح له.

أو أنّه لا رداءة في النفس أي لا يتطرّق إليها العدم والفناء ، إذ لا ضدّ لها فإنّ الضدّ إنّما يتصوّر فيما كان له موضوع أو مادّة والمفروض أن ليس لها في ذاتها ذلك وما لا ضدّ له لا يمكن أن يطرأ عليه الفساد مع كون علّته التامة باقية بذاتها.

وثانيها ـ وهو الحجّة الاولى له ـ : أنّ النفس تعطى حياة ما هي متعلّقة به كالبدن ، ومفيد الحياة لا يمكن أن يكون فاقدا لها ، بل ينبغي أن يكون واجدا لها من ذاته ، فينبغي أن تكون الحياة ذاتية للنفس حتّى كأنّها حياة.

ولذلك أطلق بعض الحكماء أنّ النفس حياة للبدن ، والذاتي للشيء لا يمكن أن يزول عنه ، فلا يمكن أن يطرأ على النفس التي هي منشأ الحياة بل الحياة نفسها ، ما هو ضدّها أعني الموت.

نعم لو كان شيء ما من الأشياء بحيث يكون الحياة عارضة له كالجسم ، أمكن أن تزول

١٥٤

عنه الحياة بطروء ضدّها ، وحينئذ فما ورد في الشرع ، وكذا في كلام الحكماء من موت النفس ، إشارة الى قطع تعلّقها عن البدن. وزوال الحياة عن البدن بزوال ما هو منشأ الحياة عنه ، وعلى هذا فإطلاق الموت على موت البدن بمعنى وعلى موت النفس بمعنى آخر.

وهذا كالوجود عند أفلاطون وشيعته ، حيث ذهبوا إلى أنّه متأصّل في الوجود ، والماهيّة عارضة له ، وربط الوجود بالماهيّة إنّما هو عبارة عن عروض الماهيّة له ، لا أنّ الوجود أمر انتزاعي عارض للماهيّة كما هو رأي آخرين.

فإنّه على مذهب أفلاطون وأتباعه لا معنى لانعدام الوجود في نفسه ، لأنّه غير معقول ، بل المعدوم هو الماهيّة بزوال الوجود فيها واتّصاله بأصله ، وكذا يطلق العدم على عدم الماهيّة بمعنى ، وعلى عدم الوجود بمعنى آخر.

وثالثها ـ وهو الحجّة الثالثة له ـ : أنّ النفس دائما متحرّكة من ذاتها حركة رويّة وجولان ، إمّا إلى المبادئ العالية فتستكمل وتستفيد وتستنير ، وإمّا إلى البدن فتفيد وتكمل وتنير. فشأنها في ذاتها إمّا إفادة الكمال أو استفادته حتّى كأنّها حركة نحو الكمال ، ولذلك أطلق عليها أفلاطون في بعض كلماته أنّها حركة ، وعلى هذا فيكون تلك الحركة الكمالية ذاتية له ، وإذا كان كذلك فذاتها لا تقبل النقص ، فلا تقبل الفساد ، إذ هو فوق النقص.

وإذا عرفت ما ذكرنا ، عرفت أنّ الحجّة الاولى والثالثة وكذا الثانية على التقرير الأخير ترجع كلّها إلى معنى واحد ، وهو أنّ النفس الناطقة لا ضدّ لها فلا تقبل الفساد ، لكن التقرير مختلف ، فإنّ الحجّة الاولى مبنيّة على أنّها حياة ، والثانية على أنّها ليس لها رداءة ، والثالثة على أنّها كمال.

وأيضا الاولى مبنيّة على النظر في النفس من جهة كونها متعلّقة بالبدن ومنشأ حياة له ، والثالثة على النظر فيها في نفسها من غير نسبتها إلى البدن بخصوصه.

وهذا الذي ذكرنا ، هو تقرير تلك الحجج الثلاث على رأي أفلاطون وشيعته القائلين بقدم النفس ، وإن كان القول به غير صحيح في نفسه ، حيث إنّ الشبهة التي دعت الفلاسفة إلى القول بقدم العالم ، شبهة داحضة ، قد قرّرنا بطلانها بما لا مزيد عليه في الرسالة التي ألّفناها في بيان حدوث العالم.

وكذلك ما أسنده صاحب المحاكمات ، إلى القائل بقدم النفس من عدم الفرق بين إمكان الحدوث وإمكان العدم في استدعاء المادّة إلى آخر ما نقله ، سيجيء إبطاله في بيان

١٥٥

دفع شبهة الإمام ، مع أنّه يرد على هؤلاء القائلين ، وكذا على القائلين بحدوث النفس قبل البدن مفاسد ، سنشير إليها في مبحث إثبات حدوث النفس بحدوث البدن إن شاء الله تعالى.

وممّا ذكرنا يظهر تقرير تلك الحجج الثلاث على مذهب من قال بحدوث النفس قبل البدن ، وعدم ورود شيء عليها ، وإن كان هذا المذهب أيضا غير صحيح كما سيأتي بيانه.

وكذا يظهر تقريرها على مذهب من قال بحدوث النفس بحدوث البدن ، لكنّه ممّا يرد عليه اعتراض الإمام ظاهرا حتّى نأتي على بيان اندفاعه إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ ما ذكره الشيخ في الشفاء أوّلا من الدليل على عدم فساد النفس بحدوث البدن ، حيث بنى الكلام على ثلاثة احتمالات وأبطل كلّها ، ظاهر متّضح ، إلّا أنّه يرد على ما ذكره في الاحتمال الثالث من أنّ فساد البدن ، لو كان بفساد النفس ، لكان يجب أن تفسد النفس أوّلا ثم يتبعه فساد البدن ، وهذا باطل ، لأنّ فساد البدن إنّما يكون بسبب يخصّه من تغيّر المزاج والتركيب.

إيراد سؤال على كلام الشيخ في الشفاء مع جوابه

سؤال ينبغي التعرّض له ولجوابه. بيان السؤال : أنّه لو كانت النفس علّة ذاتيّة للبدن كما هو المفروض في ذلك الاحتمال ، فلم لا يجوز أن يكون فساد البدن بسبب فساد النفس؟ حيث إنّ زوال المعلول يكون بزوال علّته ، لا بدّ لنفي ذلك من دليل.

فإن قيل : الدليل عليه كما يشعر به كلام الشيخ ، أنّا نعلم قطعا أنّ فساد البدن إنّما يكون بسبب يخصّه كتغيّر المزاج والتركيب ، لا بسبب آخر أيضا كفساد النفس. والحاصل أنّ زوال المعلول وإن أمكن أن يكون بزوال علّته لكنّه لا ينحصر فيه بل يمكن أن يكون بوجه آخر أيضا والحال فيما نحن فيه كذلك ، لأنّا نعلم قطعا أنّ فساد البدن إنّما يكون بتغيّر المزاج والتركيب ، لا بسبب فساد النفس.

قلنا : هذا الحصر غير مسلّم ، وعلى تقدير تسليمه فتغيّر المزاج والتركيب لعلّه كان سببا قريبا لفساد البدن ، وكان السبب لهذا التغيّر هو فساد النفس ، وكان هو سببا بعيدا لفساد البدن ، فإنّ الحافظ للمزاج والتركيب هو النفس ، والتغيّر فيهما هو زوال ذلك الحفظ ، وهو إنّما يكون بزوال علّته الحافظة أي النفس.

١٥٦

يدلّ على ما ذكرنا كلام الشيخ في الكتابين ، حيث قال في الشفاء في فصل جوهرية النفس بهذه العبارة :

«فالنفس التي لكلّ حيوان ، هي جامعة اسطقسات بدنه ومؤلّفها ومركّبها على نحو يصلح معه أن يكون بدنا لها وهي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي ، فلا يستولي عليه المغيّرات الخارجة ما دامت النفس موجودة فيها.» (١)

وقال في النمط الثالث من الإشارات في بيان أنّ نفس الإنسان غير الجسمية والمزاج بهذه العبارة :

«ولأنّ المزاج واقع فيه بين أضداد متنازعة إلى الانفكاك ، إنّما يجبرها على الالتيام والامتزاج قوّة غير ما يتبع التيامها من المزاج ، وكيف وعلّة الالتيام وحافظه قبل الالتيام فكيف لا يكون قبل ما بعده أي المزاج. وهذا الالتيام كما يلحق الجامع الحافظ وهن أو عدم يتداعى إلى الانفكاك ، فأصل القوى المدركة والمحرّكة والحافظة للمزاج شيء آخر لك أن تسمّيه النفس وهذا هو الجوهر الذي يتصرّف في أجزاء بدنك ثمّ في بدنك ـ انتهى.» (٢) وما نقلناه عنه في الكتابين نصّ فيما ذكرنا.

فإن قيل : لا يمكن أن يكون تغيّر المزاج والتركيب مسبّبا عن فساد النفس ، لأنّه لا سترة في أنّ تغيّرهما لكونه استحالة وحركة في الكيف زمانيّ تدريجىّ ، وحينئذ نقول : لو كان ذلك التغيّر مسبّبا عن فساد النفس ، لكان يجب أن يكون فساد النفس أيضا تدريجيّا ، لوجوب المناسبة بين العلّة ومعلولها ، والتدريج يستدعي حركة في زمان واقعة على مادّة تقبل الحركة التدريجيّة كما حقّق في موضعه والمفروض كون النفس مجرّدة غير ذات مادّة في ذاتها ، وإن فرض تلك المادّة ، هي مادّة البدن كما في الحركات النفسانية ، حيث إن النفس وإن كانت مجرّدة عنها في ذاتها ، لكنّها محتاجة إليها في فعلها ، كان هذا الفرض منافيا لما هو المفروض منها حيث إنّ المفروض في ذلك الاحتمال الثالث ، هو فساد البدن بفساد النفس لا العكس ، حتّى يمكن أن يكون فساد النفس تدريجيّا تابعا لفساد البدن أي لفساد مزاجه وتركيبه الذي هو تدريجيّ.

قلنا : سلّمنا ذلك لكنّا نقول : فما وجه الجمع بين كلامي الشيخ أي الكلام الذي ذكره في

__________________

(١) الشفاء ، الطبيعيات ، الفصل الثالث في أنّ النفس داخلة في مقولة الجوهر : ٢٥ ، طبع القاهرة.

(٢) شرح الإشارات ٢ : ٣٠١ ـ ٣٠٢.

١٥٧

الاحتمال الثالث وما نقلناه عنه في الكتابين؟

وأيضا فما معنى قوله فيما نقلناه عنه في الكتابين ، إنّ حافظ المزاج والتركيب هو النفس؟

وما ذكره في الاحتمال الثاني من تلك الاحتمالات الثلاثة أنّ المزاج والبدن علّة بالعرض للنفس كما حقّقه ، وهذا بيان السؤال.

نقل كلام عن المحقّق الطوسي للتمهيد لبيان الجواب

وأمّا بيان الجواب فيستدعي تمهيد مقدّمة : هي أنّه قال المحقّق الطوسي رحمه‌الله في ذيل ما نقلنا عن الشيخ في الإشارات آنفا : وقد يرد على هذا الموضع سؤال مشهور ، وهو أن يقال : إنّكم قلتم : إنّ المركّبات إنّما تستعدّ لقبول صورها من مبدئها بحسب أمزجتها المختلفة ، ويجب من ذلك تقدّم الأمزجة على تلك الصور ، والآن تقولون : إنّ النفس التي هي صورة الحيوان جامعة لاسطقساته ، والجامع للاسطقسات يجب أن يكون متقدّما على المزاج وهذا تناقض. (١)

وأجاب الفاضل الشارح عن ذلك أنّ الجامع لأجزاء النطفة نفس الوالدين ، ثمّ إنّه يبقى ذلك المزاج في تدبير نفس الامّ إلى أن يستعدّ لقبول نفس ، ثمّ إنّها تصير بعد حدوثها حافظة له وجامعة لسائر الأجزاء بطريق إيراد الغذاء. (٢)

وقال (٣) في رسالته المشتملة على أجوبة مسائل المسعودي :

واعلم أنّ الجامع لتلك العناصر غير الحافظ لذلك الاجتماع ، ولمّا كتب بهمنيار إلى الشيخ وطالبه بالحجّة على أنّ الجامع للعناصر في بدن الإنسان هو الحافظ لها فقال الشيخ : كيف ابرهن على ما ليس ، فإنّ الجامع لأجزاء بدن الجنين هو نفس الوالدين والحافظ لذلك الاجتماع أوّلا القوّة المصوّرة لذلك البدن ، ثمّ نفسه الناطقة. ثمّ قال : وتلك القوّة ليست قوّة واحدة باقية في جميع الأحوال ، بل هي قوى متعاقبة بحسب الاستعدادات المختلفة لمادّة الجنين.

وبالجملة فإذن تلك المادّة تبقى في تصرّف المصوّرة ، إلى أن يحصل تمام الاستعداد

__________________

(١) شرح الإشارات ٢ : ٣٠٣.

(٢) شرح الإشارات ٢ : ٣٠٣.

(٣) أي قال الشيخ الاعظم رض.

١٥٨

لقبول النفس الناطقة ، فحينئذ يوجد النفس. ـ فهذا ما قال هذا الفاضل فيه.

أقول : وقال الشيخ في الفصل الثالث من المقالة من علم النفس في الشفاء : فالنفس التي لكلّ حيوان هي جامعة اسطقسات بدنه ومؤلّفها ومركّبها على نحو يحصل معه أن يكون بدنا لها ، وهي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي. (١)

فقول الشيخ في الشفاء والإشارات ، يخالف ما ذهب إليه الفاضل الشارح هاهنا وما نقله عن الشيخ في رسالته.

وأيضا إن كانت نفس الامّ مدبّرة للمزاج فكيف فوّضت التدبير بعد مدّة إلى الناطقة ، وإنّما يجري أمثال هذا بين فاعلين غير طبيعيّين يفعلان بإرادات متجدّدة ، وإن كانت القوّة المصوّرة مدبّرة ، والمصوّرة من القوى الخادمة للنفس التي تكون بمنزلة آلات لها ، فكيف حدثت المصوّرة قبل حدوث النفس التي هي مخدومتها ، وكيف فعلت بذاتها ، فإنّ الآلة ليس من شأنها أن تفعل من غير مستعمل إيّاها ، وما يقتضيه القواعد الحكميّة التي أفادها الشيخ وغيره ، هو أنّ النفس الأبوين تجمع بالقوّة الجاذبة أجزاء غذائيّة ، ثمّ تجعلها أخلاطا ، وتفرز منها بالقوّة المولدة مادة المنيّ ، وتجعلها مستعدّة لقبول قوّة من شأنها إعداد المادة لصيرورتها إنسانا ، فتصير بتلك القوّة منيّا ، وتلك القوة تكون صورة حافظة لمزاج المنيّ ، كالصور المعدنيّة ، ثمّ إنّ المنيّ يتزايد كمالا في الرحم بحسب استعدادات يكتسبها هناك إلى أن يصير مستعدّا لقبول نفس أكمل يصدر عنها مع حفظ المادّة الأفعال النباتية ، فتجذب الغذاء وتضيفها إلى تلك المادّة فتنميها ويتكامل المادّة بتربيتها إيّاها فتصير تلك الصورة مصدرا مع ما كان يصدر عنها لهذه الأفاعيل ، وهكذا إلى أن تصير مستعدّة لقبول نفس أكمل يصدر عنها مع جميع ما تقدّم الأفعال الحيوانية أيضا فيصدر عنها تلك الأفعال أيضا ، فيتمّ البدن ويتكامل إلى أن يصير مستعدّا لقبول نفس ناطقة يصدر عنها مع جميع ما تقدّم النطق ، وتبقى مدبّرة في البدن إلى أن يحلّ الأجل.

وقد شبّهوا تلك القوى في أحوالها من مبدأ حدوثها إلى استكمالها نفسا مجرّدة بحرارة تحدث في فحم من نار مشتعلة تجاوره ثمّ تشتدّ ، فإنّ الفحم بتلك الحرارة يستعدّ لأن يتجمّر ، وبالتجمّر يستعدّ لأن يشتعل نارا شبيهة بالنار المجاورة ، فمبدأ الحرارة الحادثة في الفحم ، كتلك الصورة الحافظة ، واشتدادها كمبدإ الأفعال النباتية ، وتجمّرها كمبدإ

__________________

(١) الشفاء ، الطبيعيات ، الفصل الثالث في أنّ النفس داخلة في مقولة الجوهر : ٢٥ ، طبع القاهرة.

١٥٩

الأفعال الحيوانية ، واشتعالها نارا كالناطقة ، وظاهر أنّ كل ما يتأخّر يصدر عنه مثل ما يصدر عن المقدّم وزيادة ، فجميع هذه القوى كشيء واحد متوجّه من حدّ ما من النقصان إلى حدّ ما من الكمال ، واسم النفس واقع منها على الثلاث الأخيرة ، فهي على اختلاف مراتبها نفس لبدن المولود.

وتبيّن من ذلك أنّ الجامع للأجزاء الغذائية الواقعة في الجنين ، هو نفس الأبوين وهو غير حافظها. والجامع للأجزاء المضافة إليها إلى أن يتمّ البدن وإلى آخر العمر ، والحافظ للمزاج هو نفس المولود ، وقول الشيخ : «إنّهما واحد» بهذا الاعتبار ، وقوله «إنّ الجامع غير الحافظ» بالاعتبار الأوّل.

وبالجملة فالغرض هاهنا على التقديرين أعني أن يكون الجامع والحافظ شيئين أو شيئا واحدا حاصل لأنّ المزاج محتاج إلى شيء آخر هو النفس ، سواء كانت نفس ذلك البدن أو نفسا اخرى. ـ انتهى كلامه رحمه‌الله.

وقال صدر الأفاضل في الشواهد الربوبيّة : اعلم أنّ الحكماء جعلوا المولّدة والمصوّرة وغيرهما قوى للنفس الإنسانيّة ، والنفس حادثة بعد حدوث المزاج وتمام صور الاعضاء ، واستشكل هذا بعض الناس بأنّ القول باستناد صور الأعضاء إلى المصوّرة قول بحدوث الآلة قبل ذي الآلة وفعلها بنفسها من غير مستعمل إيّاها وهو ممتنع. (١)

فأجيب عنه تارة بعدم تسليم حدوث النفس ـ لجواز قدمها ، كما ذهب إليه بعض الفلاسفة ـ وتارة بحدوثها قبل البدن ، كما هو رأي بعض الملّيّين ، وتارة بعدم جعل المصوّرة من قوى النفس المولود الحيواني ، بل من قوى النفس النباتية المغايرة لها بالذات كما هو رأي البعض ، وتارة بتصييرها من قوى نفس الامّ.

وشيء من هذه الوجوه لا يسمن ولا يغني ، وهكذا اضطرب كلامهم في أنّ الجامع لأجزاء البدن هل هو الحافظ لها أم لا؟ وفي أنّه نفس المولود أم لا؟ فذهب الإمام الرازي إلى أنّ الجامع نفس الأبوين ثمّ يبقى ذلك المزاج في تدبير نفس الأمّ إلى أن يستعدّ لقبول نفس ، ثمّ إنّها تصير بعد حدوثها حافظة له وجامعة لسائر الأجزاء بطريق إيراد الغذاء. ونقل عن الشيخ الرئيس لمّا طالبه بهمنيار بالحجّة على أنّ الجامع للعناصر في بدن الإنسان هو الحافظ لها؟ أنّه قال : «كيف ابرهن على ما ليس».

__________________

(١) الشواهد الربوبية : ١٨٤ وفيه : اعلم أنّ الحكماء حيث جعلوا ....

١٦٠