منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-108-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٨٢

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ). (١)

إلى غير ذلك من الآيات وسيأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى تأويل ما دلّ على فناء الكلّ ، كقوله تعالى :

(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ). (٢)

ونحوه ، فانتظر ، والله تعالى يعلم.

__________________

(١) الكهف : ٤٧.

(٢) القصص : ٨٨.

١٢١

في أبديّة النشأة الاخرويّة

وهذا الذي ذكرنا كلّه إنّما هو الكلام في العالم بجملة أجزائه وفي بعض أجزائه في الجملة. وأمّا الكلام في بعض أجزائه على الخصوص ، ففيه تفصيل أيضا ، لأنّ ذلك البعض ، إمّا من النشأة الاخروية أو من النشأة الدنيويّة ، أمّا النشأة الاخرويّة فبقاؤها وخلودها بما فيها إمّا بأعيانها وأشخاصها كأكثرها ، وإمّا بأنواعها كبعضها ، مثل مأكولها ومشروبها ونحوهما ممّا دلّ عليه الدليل السمعيّ القطعيّ ، ويعضده الدليل العقليّ ، وبالجملة لا يظهر خلاف فيه بين المسلمين ، بل ادّعى كثير من العلماء وقوع الإجماع عليه.

أمّا الأوّل ، فلدلالة آيات كثيرة وأخبار متظافرة ناصّة عليه غير قابلة للتأويل ، أمّا الآيات ، فكقوله تعالى :

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). (١)

(الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ). (٢)

(أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها). (٣)

(سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ). (٤)

(خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ). (٥)

(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). (٦)

(خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ). (٧)

__________________

(١) البقرة : ٨٢.

(٢) المؤمنون : ١١.

(٣) الرعد : ٣٥.

(٤) الزمر : ٧٣.

(٥) المجادلة : ٢٢.

(٦) البقرة : ٣٩ ، ٨١ ، ٢١٧ ، ٢٥٧ ، ٢٧٥.

(٧) البقرة : ١٦٢.

١٢٢

(وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ). (١)

(قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها). (٢)

(فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ). (٣)

(كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ). (٤)

(كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً). (٥)

إلى غير ذلك من الآيات.

وأمّا الأخبار الواردة في ذلك فكثيرة أيضا ، كما يعلم بالتتبّع ، ومنها ما روي بطريق الرمز ، إنّ الموت يقام بين الجنّة والنار في صورة كبش أملح ويذبح بشفرة يحيى عليه‌السلام بأمر جبرئيل عليه‌السلام. (٦)

وفي معناه ما روي إنّ الله تعالى يظهر الموت يوم القيامة في صورة كبش أملح ويأتي بيحيى عليه‌السلام وبيده الشفرة فيضجعه ويذبحه وينادي مناد يا أهل الجنّة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت. (٧)

ولعلّ تأويله كما يستفاد من كلام بعض العرفاء ، أنّ الموت أي هلاك الخلق بواحد من طرفي التضادّ يقام بين الجنّة والنار لكي يظهر بتنزّله عن مرتبته إلى مرتبة ما بين طرفي التضادّ ولينكشف حاله على أهل الجنّة والنار فيصوّر على صورة كبش أملح معدّ للذبح والقتل ويمثّل بتلك الصورة فيذبح بشفرة يحيى عليه‌السلام الذي ذبح هو أيضا بالشفرة ، وهو صورة الحياة ويقتل بأمر جبرئيل الذي هو مبدأ الحياة والأرواح ومحيي الأشباح بإذن الله تعالى ، ليظهر حقيقة البقاء والأبديّة بموت الموت وحياة الحياة.

والحاصل ـ والله أعلم ـ أنّ النشأة الاخرويّة بما فيها أبديّة ويفعل ذلك ليظهر على الخلق أنّهم خالدون فيها ، وأنّ النشأة الاخرويّة بما فيها بأجمعها أبديّة باقيّة أبدا لا انقطاع لها ولا فناء ولذلك سمّيت دار القرار.

وأمّا الثاني أي معاضدة الدليل العقلي لذلك فمن وجهين :

__________________

(١) الأنبياء : ٩٩.

(٢) الزمر : ٧٢.

(٣) الجاثية : ٣٥.

(٤) النساء : ٥٦.

(٥) الإسراء : ٩٧.

(٦) راجع تفسير القمّي : ٤١١ ، الطبع الحجري.

(٧) راجع الأسفار ٩ : ٣١٢.

١٢٣

الأوّل من جهة الغاية ، وبيانه أنّ الغاية المقصودة من النشأة الاخرويّة بما فيها ، كما دلّ عليه العقل والنقل أي ثواب أهل النعيم وعقاب أهل الجحيم ، سوى ما دلّ دليل خارج على انقطاعه ، كعقاب صاحب الكبيرة من المؤمنين أبديّة دائمة بحكم العقل ، لأنّ دوام الثواب على الطاعة ، وكذا دوام العقاب على المعصية ، يبعث المكلّف على فعل الطاعة ويزجره عن المعصية ، فيكون لطفا واللطف واجب على الله تعالى كما تقرّر في موضعه ، ولأنّ المدح والذمّ دائمان ، إذ لا وقت إلّا ويحسن فيه مدح المطيع وذمّ العاصي ، وهما معلولا الطاعة والمعصية ، فيجب دوام الثواب والعقاب ، لأنّ دوام أحد المعلولين يستلزم دوام المعلول الآخر ، إلى غير ذلك من الوجوه التي ذكرها العلماء في كتبهم. وحيث كانت الغاية المقصودة من النشأة الأخرويّة بما فيها المترتّبة عليها دائمة أبديّة يحكم العقل بوجوب أبديّة ذات الغاية أيضا إمّا بشخصها أو نوعها ، إذ لا انفكاك بين الغاية وذات الغاية ، مع أنّ الفاعل تامّ الفاعليّة ، فيّاض على الإطلاق ولم يعلم أيضا أنّ هناك شرطا لوجودها ، يطرأ عليه الفناء حتّى يكون بانعدامه ينعدم المشروط ، بل المعلوم هنا خلافه. والله تعالى أعلم.

الوجه الثاني : من جهة ذوات الموجودات الاخرويّة وصورها وموادّها. وبيانه أنّه لا يخفى أنّ النشأة الاخرويّة بما فيها مخالفة بالحقيقة للنشأة الدنيويّة بما فيها ، مخالفة تامّة بسببها صارت عالما آخر غيرها ، وأنّ النشأة الدنيويّة بما فيها ما سوى ما دلّ الدليل على بقائه ، كالصادر الأوّل أو القديم لو جوّزنا وجوده فانية كلّها ، هالكة جميعها ، يطرأ عليها الفناء والزوال ولو من وجه كما سيأتي بيانه ، فينبغي أن يكون النشأة الاخرويّة التي هي مخالفة لها بالحقيقة والذات ، غير قابلة للفناء والهلاك باقية أبدا فيتحدّس من ذلك كما شهدت به الأخبار المرويّة أيضا ، أنّ الموجودات الاخرويّة بسائطها ومركّباتها بصورها وموادّها ـ إن كانت لها ـ ليست من جنس الموجودات الدنيويّة التي يتطرّق إليها الكون والفساد ، والاستحالة والانقلاب والتغيّرات ، ويطرأ عليه الزوال والفناء أي أنّ موادّها أصفى وألطف جوهرا من موادّ هذه النشأة ، وأبعد من الكثافة التي هي منشأ التغيّر وقبول الصور المتواردة المتخالفة ، كما في موادّ الأجسام العنصريّة ، بل هي صافية جدّا بحيث لا يشوبها كدرة ولا كثافة مطلقا ، بل لا نسبة لها إلى موادّ هذه النشأة ، وكذلك صورها أتمّ وجودا وأوفر قسطا من الفيض الأعلى وأحفظ من صور هذه النشأة بل لا نسبة لها إليها ،

١٢٤

فلذلك لا يتطرّق إليها الفساد مع أنّ الحقّ المفيض لها فيّاض على الإطلاق لا ينقطع فيضه عمّا هو مستعدّ له. ألا ترى أنّ موادّ أجسام هذه النشأة كلّما كانت أقرب إلى الكثافة كانت أقرب إلى قبول التغيّر والفساد ، وأشدّ استعدادا لقبول الصور المتبدّلة المتبدّدة الكائنة الفاسدة ، كما في العنصريّات. وكلّما كانت أقرب إلى الصفاء واللطافة كانت أبعد من الفساد وأكثر استعدادا للصور الكاملة التامّة [الآبية] (١) عن التغيّر والزوال ، كما في الفلكيّات وموجودات عالم البرزخ والمثال ، وكذلك صورها كلّما كانت أتمّ وأوفر حظّا من الوجود وأكمل آثارا ، كانت أحفظ وأبعد من الفساد ومن طروء (٢) الضدّ عليها ، كما في هذه أيضا ، وكلّما كانت أقلّ قسطا من الوجود وأنقص آثارا كانت أقرب إليه ، كما في الحوادث الكائنة الفاسدة أيضا ، وهذا هو القول في الجسمانيات من موجودات النشأة الاخرويّة ، على أنّ كثيرا منها ممّا ليست لها مادّة بل هي روحانيات مجرّدة عن الموادّ كالسعادات الروحانيّة العقليّة ، وكذا الشقاوة الروحانيّة ، فإنّها إدراكات روحانيّة ، مدركاتها مجرّدات عن الموادّ ، كذا المدرك لها. والمجرّدات لا يطرأ عليها الفساد ، حيث إنّ الفساد تابع لوجود مادّة تقبله كما هو المقرّر عندهم والمفروض هنا عدم المادّة وأنّ صورها ذواتها ولا ضدّ لها. ألا ترى أنّ المعاني الكلّية حيث كانت مجرّدة عنها ، كانت دائمة أبدا غير هالكة مطلقا ، وكذا الأعيان المجرّدة كالعقول لو قلنا بها كذلك أيضا ، إذ لا مادّة لها وصورها ذواتها ولا ضدّ لها وسيأتي تمام تحقيق ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وكذلك كثير منها مخلوقة بلا مادّة وحادثة من غير مدّة ، بل بمحض التصوّر ومجرّد التخيّل ، كما شهدت به الآيات والأخبار ، قال تعالى :

(لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ). (٣)

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ). (٤)

وهذا ـ والله أعلم ـ إمّا مبنيّ على ما ذكره بعض الحكماء من أنّ الله تعالى خلق النفس الإنسانيّة مجرّدة عن المادّة وجعل لها اقتدارا على إبداع الصور الغائبة عن الحواسّ بلا مشاركة الموادّ ، وأن ليس ذلك بممتنع كما في إنشاء الإبداعيات عندهم ، فعلى هذا

__________________

(١) هنا كلمة لا تقرأ.

(٢) يس : ٥٧.

(٣) الظاهر من طروّ.

(٤) الزمر : ٣٤.

١٢٥

لا يكون لهذا القسم من الموجودات مادّة أصلا حتّى تكون قابلة للتغيّر والفساد. وإمّا مبنيّ على أنّ الله تعالى لكرامته على المؤمنين يخلق ما يشتهونه فيحضره لديهم ، فعلى هذا وإن سلّمنا كون مادّة له ، لكنّا نقول إنّ تلك المادّة لكونها من جنس الموجودات الاخرويّة لعلّها لطيفة في الغاية روحانيّة جدّا ، بعيدة عن الكثافة التي هي منشأ لسنوح التغيّر والزوال ، وأنّ الموجود الذي تلك المادّة مادّته يمكن أن يكون باقيا بشخصه أيضا كما في الحور والقصور ونظائرهما. وعلى تقدير تسليم كونها قابلة لطروء الزوال في الجملة فذلك الموجود باق بنوعه كما في الاكل ونحوه.

وبالجملة فموجودات النشأة الاخرى مباينة بالحقيقة لموجودات النشأة الدنيا ، وكذا زمانها ومكانها بل لا نسبة لها إليها فلذا لا يمتنع فيهما وجود غير المتناهي مطلقا ، لعدم التزاحم والتضايف والمباينة والمسامّة والتداخل وأمثالها فيها. وسيأتي زيادة توضيح لهذا إن شاء الله تعالى.

وهذا هو الكلام في جملة النشأة الاخرويّة بما فيها.

[الكلام في النشأة الدنيوية]

وأمّا الكلام في النشأة الدنيوية بأبعاضها وأجزائها المخصوصة. فحريّ بنا أن نتكلّم أوّلا فيما نحن بصدد بيان حاله من البدن والنفس وفنائها أو بقائها ، ثمّ نتكلّم في باقي أجزاء هذه النشأة على الخصوص.

فنقول : أمّا البدن ، فلا سترة في أنّ المشاهدة والعيان والعقل والنقل ، دلّت على موته وهلاكه ، وقد أشرنا فيما سبق إلى سبب طروء الموت على البدن على رأي الطبيعيّين ، والإلهيّين من الحكماء ، وإلى كيفيّة وقوعه عليه على كلّ مذهب من المذاهب التي قيلت في الجسم ، وإلى أنّه على جميع المذاهب ، لا يستلزم انعدامه بالكلّية وهلاكه بالمرّة ، ومع ذلك فلا بأس بإعادة البيان.

فنقول : إنّه قد عرفت أنّه على مذهب القائلين بالجواهر الفردة ، أو بالأجسام الصغار الصلبة ، إنّما ينعدم بالموت التأليف الخاص الحاصل بين تلك الأجزاء أو بين تلك الأجسام فقط ، ولا يستلزم ذلك انعدام أصل تلك الأجزاء والأجسام المتفرّقة ، إذ لا ضدّ لها

١٢٦

ولا مادّة خصوصا على القول بقدمها ، كما ينسب ذلك إلى ذيمقراطيس وشيعته القائلين بالأجسام الصلبة ، وكذلك على مذهب المشّائين القائلين بتركّب الجسم من الهيولى والصورة ، وإن كان ينعدم بالموت الاتّصال الذي هو أحد جزئي الجسم لكنّه يبقى الجزء الآخر أعني الهيولى إذ لا مادّة لها ولا ضدّ وخصوصا على القول بقدمها كما هو مذهبهم. وكذلك على مذهب الإشراقيّين القائلين بأنّ حقيقة الجسم هو الاتّصال ، وذلك الأمر المتّصل من دون إثبات مادّة سواه وإن كان ينعدم بالموت الاتّصال الذي هو حقيقة الجسم لكنّه لا ينعدم بالمرّة ، فانّ انعدامه كذلك إنّما يمكن أن يكون إذا طرأ الانفصال على كل حدّ من حدود الاتّصال الذي في الجسم وهو ممتنع إذ طروؤه كذلك يستلزم خروج جميع الانقسامات الممكنة في الجسم إلى الفعل وهو محال. على أنّه يمكن القول ببقاء الأجزاء الأصليّة التي كانت للبدن كما نطق به الشرع على كلّ مذهب من تلك المذاهب ، ولا شكّ أنّ بقاءها ممّا هو منشأ للحكم بعدم انعدام البدن بالمرّة وهذا ظاهر.

وأمّا النفس ، فلا يخفى أنّ الشرع ناطق بأنّها ذائقة الموت ، فينبغي أن يشار إلى أنّه كيف هو. فنقول : إنّه على مذهب من يقول إنّها من الأعراض الحالّة في البدن ، ينبغي القول بانعدامها بالكلّية فإنّ العرض ينعدم بالمرّة بانعدام موضوعه ولو في الجملة. وعلى مذهب من يقول بأنّها جسم ، ينبغي القول بانعدامها مثل انعدام الجسم أي البدن ، كما مرّ.

وأمّا على مذهب من يقول إنّها جوهر مجرّد باق كما هو الحقّ ـ وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى ـ فينبغي القول بأنّ موتها عبارة عن قطع تعلّقها عن البدن من غير أن يستلزم انعدام ذاتها وحقيقتها ، وحيث عرفت ذلك فاعلم : أنّ بقاءها بعد خراب البدن ، ممّا دلّ عليه الشرع ، ويؤيّده العقل بل الإجماع أيضا. قال الشارح القوشجي في شرح التجريد في قول مصنّفه : «ولا تفنى بفنائه» : اتّفق القائلون بمغايرة النفس للبدن على أنّها لا تفنى بفنائه ، ودليل المتكلّمين على ذلك النصوص من الكتاب والسنّة وإجماع الامّة ، وهي من الكثرة والظهور بحيث لا تفتقر إلى الذكر ، وأمّا الفلاسفة فقالوا : يمتنع فناء النفس ـ إلى آخر ما نقله عنهم من الدليل العقلي عليه ـ. (١)

__________________

(١) شرح القوشجي : ٢٧٠.

١٢٧

في بيان الدليل السمعي على بقاء النفس الإنسانيّة بعد خراب البدن

فلنشر إلى نبذ من الدليل الشرعي والعقلي على ذلك :

فنقول : أمّا دلالة الكتاب عليه فلقوله تعالى :

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). (١)

إذ لا سترة في أنّ تلك الحياة والمرزوقيّة والفرح والاستبشار ، إنّما هي بحسب نفوسهم الباقية ، لا بحسب أبدانهم الداثرة الهالكة ، وحيث لم يقيّد ذلك بوقت دون وقت فيعلم منه أنّه حاصل لهم في جميع الأوقات بعد القتل في سبيل الله ، فيلزم منه بقاء نفوسهم بعد خراب أبدانهم أبدا وهو المطلوب.

وقوله تعالى في حال مؤمن آل يس : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ، بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ). (٢)

على ما قال المفسّرون ، إنّ قومه قتلوه فأدخله الله الجنّة وهو حيّ فيها يرزق.

وأمّا دلالة السنّة ، فلما رواه الشيخ الصدوق ابن بابويه (عليه الرحمة) في الفقيه عن الصادق عليه‌السلام ، انّه قال : إذا قبضت الروح فهي مظلّة فوق الجسد روح المؤمن وغيره ينظر إلى كلّ شيء يصنع به فإذا كفّن ووضع على السرير وحمل على أعناق الرجال عادت الروح إليه ، ودخلت فيه فيمدّ له في بصره فينظر إلى موضعه من الجنّة ، أو من النار فينادي بأعلى صوته إن كان من أهل الجنّة : عجّلوني ، عجّلوني ، وإن كان من أهل النار : ردّوني ،

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩.

(٢) يس : ٢٦ ـ ٢٧.

١٢٨

ردّوني ، وهو يعلم كل شيء يصنع به ، ويسمع الكلام. (١)

ولما رواه عنه عليه‌السلام إنّه قال : إنّ الأرواح في صفة الأجساد ، وفي شجرة من الجنّة تتساءل وتتعارف فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول دعوها فقد افلتت من هول عظيم ، ثم يسألونها ما فعل فلان وما فعل فلان؟ فإن قالت لهم : تركته حيّا ارتجوه ، وإن قالت لهم : قد هلك ، قالوا هوى هوى. (٢)

وعن محمّد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد الله (صلوات الله عليه) : الموتى نزورهم؟ فقال : نعم. قلت : فيعلمون بنا إذا آتيناهم؟ فقال : اي والله ، إنّهم ليعلمون بكم ، ويفرحون بكم ، ويستأنسون إليكم. قال : قلت : فأيّ شيء نقول إذا آتيناهم؟ فقال : قل : اللهم جاف الأرض عن جنوبهم ـ الحديث ـ. (٣)

وعن إسحاق بن عمّار أنّه سأل أبا الحسن الأوّل (صلوات الله عليه) عن المؤمن يزور أهله؟ فقال : نعم. قال : في كم؟ فقال : على قدر فضائلهم ، منهم من يزور كلّ يوم ، ومنهم من يزور في كلّ يومين ، ومنهم من يزور في كلّ ثلاثة أيّام ـ الحديث ـ. (٤)

ولما رواه الشيخ الطوسي (عليه الرحمة) في التهذيب ، عن مروان بن مسلم عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : إنّ أخي ببغداد وأخاف أن يموت فيها. قال : ما تبالي حيث ما مات ، إنّه لا يبقى مؤمن في شرق الأرض وغربها إلّا حشر الله روحه إلى وادي السلام ، قال : قلت : جعلت فداك وأين وادي السلام؟ قال : ظهر الكوفة ، أما إنّي كأنّي بهم حلق حلق قعود يتحدّثون. (٥)

وعن يونس بن ظبيان قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام جالسا. فقال : ما يقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قلت : يقولون تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : سبحان الله ، المؤمن أكرم على الله من ذلك أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر ، يا يونس إذا قبضه الله تعالى صيّر روحه في قالب (٦) كقالبه في الدنيا ،

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ١ : ١٩٣.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ١ : ١٩٣ ، وفي بعض النسخ : «اقبلت» مكان «أفلتت».

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٨١.

(٤) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٨١.

(٥) تهذيب الأحكام ١ : ٤٦٦ ، طبع نجف.

(٦) «في قالب» والمراد من القالب في المقام ، البدن المثالي الذي تحت تصرّف الروح المجرّد العقلاني ومن بلغ روحه في عالم الجبروت يقع شعاع الروح على قالبه المثالي.

١٢٩

فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا. (١)

وعن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عن أرواح المؤمنين ، فقال : في الجنّة على صور أبدانهم ، لو رأيتهم لقلت فلان. (٢)

وقد قال شارح الفقيه في شرحه له : «ودر حديث حسن كالصحيح از حضرت صادق عليه‌السلام منقول است كه پرسيدند از آن حضرت از ارواح مؤمنان ، پس حضرت فرمودند كه در حجره هاى بهشتند واز طعام وشراب بهشت مى خورند ، ومى گويند كه پروردگارا روز قيامت را بزودى واقع ساز ، ووعده اى كه به ما فرموده اى آور ، وآخر ما را ملحق ساز به أوّل ما».

وقال أيضا : «ودر حديث كالصحيح منقول است از حبه عرني كه در خدمت حضرت امير المؤمنين عليه‌السلام به ظهر كوفه رفتم كه صحراى نجف است ومسمّى به وادى السلام است. حضرت در آنجا ايستادند ، وگويا با جمعى صحبت مى داشتند. من آن قدر ايستادم كه تنگ آمدم ، نشستم. مدّتى ديگر برخاستم ، ديگر آن مقدار ايستادم كه مانده شدم. ديگر مدّتى نشستم تا به تنگ آمدم ، برخاستم ورداى خود را بر خود گرفتم وعرض كردم كه يا امير المؤمنين! بسيار تعب كشيديد از ايستادن ، ساعتى بنشينيد واستراحت فرماييد. بعد از آن ، رداى خود را انداختم كه شايد بر آن نشيند. پس حضرت فرمودند كه با مؤمنان صحبت مى داشتم وايشان را انس مى دادم. گفتم : يا امير المؤمنين! چنين است كه صحبت با مؤمنان مى داشتيد؟ حضرت فرمودند : كه اگر حجاب برخاسته شود از نظر تو ، ايشان را خواهى ديد كه حلقه حلقه زده اند با يكديگر صحبت مى دارند. گفتم : اجسامند يا ارواح؟ حضرت فرمود كه ارواحند ، وهر مؤمنى كه در هرجا بميرد خطاب به روح او مى رسد كه برو به وادى السلام وآن بقعه اى است از جنّت عدن».

وقال أيضا : «ودر حديث صحيح از ضريس كناسى منقول است كه سؤال كردم از حضرت امام محمّد باقر (صلوات الله عليه) كه مردم مى گويند كه آب فرات از بهشت بيرون مى آيد چگونه چنين باشد وحال اين كه از جانب مغرب مى آيد وآبها از چشمه ها ورودخانه ها داخل او مى شود؟ پس حضرت فرمودند كه حقّ سبحانه وتعالى بستانى

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٤٦٦.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٤٦٦.

١٣٠

آفريده است در مغرب ، واين آب از آنجا مى آيد وارواح مؤمنان به آنجا مى روند هر شام واز ميوه هاى آن مى خورند وتنعّم مى كنند ، وبا يكديگر ملاقات مى كنند ويكديگر را آشنايى مى دهند تا صبح. وچون صبح مى شود در ميان آسمان وزمين طيّارند وسيّارند وبا يكديگر ملاقات مى كنند ويكديگر را مى شناسند. وحقّ تعالى در مشرق آتشى آفريده است كه مسكن ارواح كفّار است. وخوردن ايشان از زقوم است كه خوراك اهل جهنّم است وآشاميدن ايشان از آب جوشان آنجاست در شبها وچون صبح طالع مى شود مى روند به برهوت كه وادى است در يمن كه از آتشهاى دنيا گرمتر است ودر آنجا با هم ملاقات مى نمايند وآشنايى مى دهند وچون شب مى شود باز به آتش مى روند وحال ايشان چنين است تا روز قيامت. پس گفتم كه حال آن جماعتى كه اقرار رسول خدا دارند وامام زمان خود را نمى شناسند وعداوت با اهل بيت ندارند از مستضعفين ، حال ايشان چون است؟ حضرت فرمودند كه ايشان در قبرهاى خود خواهند بود وعقاب نخواهند داشت واما مستضعفانى كه كارهاى خوب كرده اند نسيمى از بهشت دنيا به ايشان مى رسد تا روز قيامت وبعد از آن كار ايشان با خداست ، اگر مى خواهد به استحقاق ايشان را به جهنم مى فرستد واگر مى خواهد به تفضّل ، ايشان را به بهشت مى برد.

وهمچنين است حال جمعى كه عقل صحيحى نداشته باشند وحال اولاد آنها كه امام زمان خود را نشناخته باشند وبه حدّ بلوغ نرسيده باشند ، امّا آنها كه امام زمان خود را نشناخته باشند ومستضعف نباشند ، از قبرهاى ايشان راهى به جهنم است كه از زبانه آتش آن ودود وجوشش حميم آن به ايشان رسد تا قيامت وبعد از آن ايشان را به جهنم برند ودر آتش سوزند ، وايشان را گويند كه چرا متابعت امام زمان خود نكرديد كه حق سبحانه وتعالى از جهت شما مقرّر كرده بود؟ واطفال مؤمنين ، پس ايشان ملحق به پدران خود خواهند شد به حسب ظاهر آيات وأحاديث متواتره وخواهد آمد در كتاب نكاح. ـ انتهى موضع الحاجة من كلامه.» (١)

وبالجملة أنّ الأخبار الدالّة على بقاء النفس الإنسانيّة ، بعد خراب البدن متظافرة

__________________

(١) لوامع صاحبقراني للمجلسي الأوّل (ره) ١ : ٣٦٠ ـ ٣٦١.

١٣١

متواترة ، ناصّة عليه ، غير قابلة للتأويل ، والاستقصاء يوجب الإطناب ، وفيما نقلناه كفاية للطلاب وغنية لاولي الألباب ودلالة على بقاء نفوس المؤمنين والكفّار والفسّاق والمستضعفين والأطفال جميعا. ويدخل في المستضعفين البله والمجانين ، وسنذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى شرح هذه الأخبار التي نقلناها وغيرها ، وكذا بيان ما لعلّه يحتاج إلى البيان في هذا المقام ، فانتظر.

١٣٢

في بيان الدليل العقلي على بقاء النفس الإنسانيّة بعد خراب البدن

وأمّا الدليل العقلي على بقاء النفس الإنسانيّة بعد خراب البدن فقد ذكره الحكماء في كتبهم من وجوه عديدة كلّها مبنيّة على كون النفس الإنسانيّة جوهرا مغايرا للبدن ، وأجزائه بسيطا مجرّدا عن المادّة في ذاته ، كما هو المقرّر عندهم ، وهو الحقّ كما سيأتي تحقيقه فيما بعد إن شاء الله العزيز.

وبعضها مع ابتنائه على ذلك ، مبنيّ أيضا على مقدّمة مقرّرة عند الحكماء أيضا وإن كانت غير تامّة عند التحقيق ، هي أنّ كلّ حادث مسبوق بمادّة إلّا أنّا لا نبالي بذكر نبذ من تلك الدلائل وتوضيحها وتلخيصها ، ودفع ما عسى أن يورد عليها وإن كان موجبا للإسهاب والإطناب.

من جملة الدلائل عليه

فنقول : ربّما يمكن الاحتجاج على هذا المطلب ، بأنّ فساد كلّ فاسد إمّا بورود ضدّه عليه ، وهذا غير متصوّر هنا ، لأنّك قد عرفت فيما سبق أن لا ضدّ للجوهر المجرّد عن المادّة ، وإمّا بزوال أحد من أسبابه الأربعة الفاعل والغاية والمادّة والصورة ، وهذا أيضا غير متصوّر هنا ، إذ فاعل النفس هو الأوّل تعالى شأنه وغايتها هو التشبّه به تعالى أو معرفته وذلك لا يتصوّر فيه الزوال والفناء كما عرفته أيضا ، وليس لها مادّة ولا صورة كما هو المفروض. أمّا نفي المادّة فظاهر ، وأمّا نفي الصورة فلأنّ صورة المجرّد ذاته بذاته ، وليس أيضا فيها شرط لوجودها تنتفي هي بانتفائه. وحيث كان كذلك فهي باقية أبدا لا يطرأ عليها الفساد والفناء أصلا وهو المطلوب.

١٣٣

في الحجج التي اعتمد أفلاطون فيه عليها

وقد نقل بعضهم عن أفلاطون ، أنّه اعتمد في بقاء النفس الإنسانيّة على ثلاث حجج :

أحدها : أنّ النفس تعطى كلّ ما توجد فيه حياة.

والثانيّة : أنّ كلّ فاسد فإنّما يفسد من قبل رداءة فيه.

والثالثة : أنّ النفس متحرّكة من ذاتها.

وشارحوا كلامه ، قد تبيّنوا الحجّة الاولى ، بأنّ النفس تعطى الحياة أبدا كلّ ما توجد فيه ، وكلّ ما كان كذلك فالحياة جوهرية له أي ذاتيّة له ، فلا يمكن أن يقبل ضدّ الحياة أي الموت ، فالنفس لا تقبل الموت.

والحجّة الثانية بأنّ الرداءة مقترنة بالفساد والفساد مقترن بالعدم ، والعدم مقترن بالهيولى ، فالرداءة مقترنة بالهيولى ، وحيث لا هيولى فلا عدم فلا فساد ، وحيث لا فساد فلا رداءة ، فالهيولى معدن الرداءة وينبوع الشرّ وأصله الذي منه يتفرّع ، ومقابل هذه الرداءة الجودة ، فإنّها مقترنة بالبقاء ، والبقاء مقترن بالوجود والوجود هو أوّل صورة أبدعها البارئ عزوجل. وحيث كانت النفس غير هيولانية فلا فساد يطرأ عليها.

والحجّة الثالثة : بأنّ النفس متحرّكة من ذاتها دائما حركة جولان ورويّة هي حياتها ، تارة نحو العقل فتستنير به وتستفيد منه ، وتارة نحو الهيولى فتنيرها وتفيدها حركة خارجة عن الحركات الستّ الجسمانيّة ، غير داخلة تحت الزمان ، بل فوق الزمان وفوق الحركات الطبيعية وفوق الطبيعية. وكلّ ما كانت حركته من ذاته حركة كذلك فهو باق ، لأنّ حركته مع كونه خارجة عن الزمان والتكوّن وأشبه بالدهر والسرمد غير زائلة وما كان غير زائل ، فهو ثابت.

هذا ما ذكروه في شرح تلك الحجج الثلاث ، وسنذكر زيادة شرح لها إن شاء الله تعالى.

١٣٤

في ذكر برهان أقامه الشيخ في الشفاء على هذا المطلب

ثمّ إنّ الشيخ في الشفاء بعد ما برهن على أنّ النفس الإنسانيّة غير مادّية ، وبيّن حدوثها وكيفيّة انتفاعها بالحواسّ ، برهن على أنّها لا تفسد ولا تموت (١) بموت البدن ، بأنّ كلّ شيء يفسد بفساد شيء آخر ، فهو متعلّق به نوعا من التعلّق ، إذ بفساد المباين من كلّ وجه للشيء لا يفسد الشيء ، وهذا التعلّق لا يخلو عن أن يكون تعلّق المكافئ في الوجود ، أو تعلّق المتأخّر في الوجود ، أو تعلّق المتقدّم في الوجود ، والأقسام ثلاثة ، لا رابع لها.

وعلى الأوّل أي أن يكون تعلّق النفس بالبدن تعلّق المكافئ في الوجود أعني أن لا يكون بينها علّيّة ولا معلوليّة ، بل كانا معلولي علّة ثالثة متكافئين في الوجود ومتضايفين ، فحينئذ إن كان ذلك التكافؤ والتضايف ذاتيّا لهما لا عارضا كما في المتضائفين الحقيقيّين ، كان كلّ واحد منهما مضاف الذات إلى صاحبه ، وحقيقتهما نفس تلك الإضافة ، فلا يكون النفس ولا البدن جوهرين ، لكنّهما جوهران ؛ هذا خلف. وإن كان ذلك أمرا عرضيّا لا ذاتيّا كما في المتضائفين المشهوريين ، كان فساد أحدهما موجبا لبطلان العارض الآخر من الإضافة ، لا لبطلان ذات الآخر من حيث هذا التعلّق ، فلا يلزم من فساد البدن بطلان ذات النفس بل بطلان عارضها من الإضافة.

وعلى الثاني أي أن يكون تعلّق النفس بالبدن ، تعلّق المتأخّر عنه في الوجود أي أن يكون البدن علّة النفس في الوجود والحال أن العلل أربع ، ولا يحتمل كونه علّة غائية لها ، فإمّا أن يكون البدن علّة فاعليّة للنفس ، معطية للوجود لها ، وهذا محال. إذ يستحيل أن تفيد الأعراض والصور القائمة بالموادّ وجود ذات قائمة مجرّدة عن المادّة في ذاتها ، وإمّا

__________________

(١) الشفاء ، الطبيعيات ، الفصل الرابع في أنّ الأنفس الإنسانيّة لا تفسد : ٢٠٢ ، طبع القاهرة.

١٣٥

أن يكون البدن علّة قابلية لها على سبيل التركيب كالعناصر للأبدان أو بسبيل البساطة كالنحاس للصنم ، وهذا أيضا محال لأنّا قد بيّنا وبرهنّا أنّ النفس ليست منطبعة في البدن بوجه من الوجوه ، فلا يكون البدن إذن متصوّرا بصورة النفس لا بحسب البساطة ولا بحسب التركيب ، بأن يكون أجزاء من أجزاء البدن ، تتركّب وتتمزّج تركّبا ومزاجا ، فينطبع فيها النفس. وإمّا أن يكون البدن علّة صورية أو كماليّة للنفس. وهذا أيضا محال ، بل الاولى أن يكون الأمر بالعكس إن كان هناك تفرض العلّة الصوريّة أو الكماليّة ، فإذن ليس تعلّق النفس بالبدن ، تعلّق معلول بعلّة ذاتية. وإن كان المزاج والبدن علّة بالعرض للنفس فإنّه إذا حدث مادّة بدن تصلح أن تكون آلة للنفس ومملكة له ، أحدثت العلل المفارقة النفس الجزئية ، فإنّ إحداثها بلا سبب يخصّص إحداث واحد دون واحد محال ، ومع ذلك فإنّه يمنع عن وقوع الكثرة فيها بالعدد لما قد بيّناه ، ولأنّه لا بدّ لكلّ كائن بعد ما لم يكن من أن يتقدّمه مادّة يكون فيها تهيّؤ قبوله وتهيّؤ نسبته إليه كما تبيّن في العلوم الاخرى ولأنّه لو كان يجوز أيضا أن يكون نفس جزئية تحدث ، ولم يحدث لها آلة بها تستكمل وتعقل ، لكانت معطّلة في الطبيعة وإذا كان ذلك ممتنعا ، فلا قدرة عليه ، ولكن إذا حدث التهيّؤ للنسبة والاستعداد للآلة ، يلزم حينئذ أن يحدث من العلل المفارقة شيء ، هو النفس. وليس ذلك للنفس فقط ، بل كلّ ما يحدث بعد ما لم يكن من الصورة ، فإنّما يرجّح وجوده عن لا وجوده استعداد المادّة له وصيرورتها خاصّة به ، وحيث ظهر أنّ حدوث النفس إنّما هو بحدوث البدن ، من غير أن يكون البدن علّة ذاتية لها فنقول : ليس إذا وجب حدوث شيء عند حدوث شيء ، وجب أن يبطل مع بطلانه ، بل إنّما يكون ذلك إذا كان ذات الشيء قائما بذلك الشيء ، وفيه ، وقد يحدث امور عن امور وتبطل تلك الامور وتبقى تلك الامور إذا كانت ذاتها غير قائمة فيها ، وخصوصا إذا كان مفيد الوجود لها شيء آخر غير الذي إنّما يتهيّأ إفادة وجوده مع وجوده ، ومفيد وجود النفس هو غير جسم ولا هو قوّة جسم ، بل هو لا محالة ذات قائمة مبرّاة عن الموادّ وعن المقادير. وإذا كان وجود النفس من ذلك الشيء البريء عن المادّة القائمة بذاتها وكان يحصل من البدن وقت استحقاقها للوجود فقط ، فليس للنفس تعلّق بالبدن في الوجود ولا البدن علّة لها إلّا بالعرض ، ولا التعلّق بينهما على نحو يوجب أن يكون البدن متقدّما بالعلّية عليها حتى تفسد النفس بفساد علّته أي البدن.

١٣٦

وعلى الثالث : أي أن يكون تعلّق النفس بالبدن تعلّق المتقدّم في الوجود ، أعني أن يكون النفس علّة للبدن ، فإمّا أن يكون التقدّم مع ذلك زمانيّا فيستحيل أن يتعلّق وجود البدن بها وقد تقدّمته في الزمان ، وإمّا أن يكون التقدّم بالذات لا بالزمان ، وهذا النحو من التقدّم هو أن يكون الذات المتقدّمة في الوجود كما توجد ، يلزم أن يستفاد عنها ذات المتأخّر في الوجود ، وحينئذ إذا فرض عدم المتأخّر لا يوجد أيضا هذا المتقدّم في الوجود ، لكن لا لأجل أنّ عدم المتأخّر أوجب عدم المتقدّم ، فإنّ عدم المعلول لا دخل له في عدم العلّة ، بل لأجل أنّ عدم المتأخّر أمارة أنّه قد عرض للمتقدّم عدم في نفسه ، فعرض العدم للمتأخّر بسبب عروضه على المتقدّم حيث إنّ عدم المعلول إنّما يكون بسبب عدم علّته لكن في نفسها لا باعتبار عدم معلولها ، فعدم العلّة بسبب فساد في نفسها وعدم المعلول بتبعية عدم علّتها ، وإذا كان كذلك فيجب أن يكون السبب المعدم يعرض أوّلا في جوهر النفس فيفسد معه البدن ، وأن لا يكون البدن البتّة يفسد بسبب يخصّه ، لكن فساد البدن يكون بسبب يخصّه من تغيّر المزاج والتركيب ، فمحال أن يكون النفس تتعلّق بالبدن تعلّق المتقدّم بالذات ، ثمّ يفسد البدن البتّة بسبب في نفسه ، فليس إذن بينهما هذا التعلّق. وإذا كان الأمر على هذا فقد بطل أنحاء التعلّق كلّها وبقي أن لا تعلّق للنفس في الوجود بالبدن ، بل تعلّقها في الوجود بالمبادئ الاخر التي لا تستحيل ولا تبطل.

دليل آخر منه

وأيضا نقول : لا يجوز أن يكون سبب من الأسباب يعدم النفس ، وذلك لأنّ كلّ شيء موجود من شأنه أن يفسد بسبب ما يجب أن يكون فيه قوّة أن يفسد ، وقبل الفساد فيه فعل أن يبقى ، وتهيّؤه للفساد ليس لفعل أن يبقى ، فان معنى القوّة لمعنى الفعل ، وإضافة هذه القوّة مغايرة لإضافة هذا الفعل لأن اضافة ذلك إلى الفساد وإضافة هذا إلى البقاء ، فإذن لأمرين مختلفين ما يوجد في الشيء هذان المعنيان. فنقول : إنّ الأشياء المركّبة والأشياء البسيطة التي هي قائمة في المركّبة ، يجوز أن يجتمع فيها فعل أن تبقى وقوّة أن تفسد ، وفي الأشياء البسيطة المفارقة الذات لا يجوز أن يجتمع في شيء أحديّ الذات هذان المعنيان ،

١٣٧

وذلك لأنّ كلّ شيء يبقى وله قوّة أن يفسد ، فله أيضا قوّة أن يبقى لأنّ بقاءه ليس بواجب ضروري ، وإذا لم يكن واجبا كان ممكنا ، والإمكان الذي يتناول الطرفين هو طبيعة القوّة فإذن يكون له في جوهره قوّة أن يبقى ، وقد بان أن فعل أن يبقى منه لا محالة ، ليس هو قوّة أن يبقى منه وهذا بيّن ، فيكون فعل أن يبقى منه أمرا يعرض للشيء الذي له قوّة أن يبقى ، فتلك القوّة لا تكون لذات ما بالفعل بل للشيء الذي يعرض لذاته أن يبقى بالفعل لا أنّه حقيقة ذاته فيلزم من هذا أن يكون ذاته مركّبة من شيء إذا كان كان به ذاته موجودا بالفعل وهو الصورة في كلّ شيء وعن شيء حصل له هذا الفعل وفي طباعه قوّته ومادّته ، فحينئذ نقول : لو كانت النفس بسيطة مطلقة لم تنقسم إلى مادّة وصورة ، فلا يكون فيها هذان المعنيان ، فلا يكون فيها قوّة الفساد فلا تقبل الفساد ، وإن كانت مركّبة فلنترك المركّب ولننظر في الجوهر الذي هو مادّته ، ولنصرف القول إلى مادّته ولنتكلّم فيها ، ونقول : إنّ المادّة إمّا أن تنقسم هكذا دائما وثبت الكلام دائما وهذا محال. وإمّا أن لا يبطل ذلك الشيء الذي هو في ذلك الجوهر البسيط ، الذي هو في السنخ والأصل وكلامنا في ذلك الشيء الذي هو السنخ والأصل وهو الذي نسمّيه النفس ، وليس كلامنا في شيء مجتمع منه ومن شيء آخر فتبيّن أن كلّ شيء هو بسيط غير مركّب ، أو هو أصل مركّب وسنخه فهو غير مجتمع فيه فعل أن يبقى وقوّة أن يعدم بالقياس إلى ذاته ، فإن كانت فيه قوّة أن يعدم ، فمحال أن يكون فيه فعل أن يبقى ، وإذا كان فيه فعل أن يبقى وأن يوجد فليس فيه قوّة أن يعدم ، فبيّن إذن أنّ جوهر النفس ليس فيها قوّة أن تفسد ، وأمّا الكائنات التي تفسد فإنّ الفاسد منها هو المركّب المجتمع ، وقوّة أن تفسد أو تبقى ليس في المعنى الذي به المركّب واحد ، بل في المادّة التي هي بالقوّة قابلة لكلا الضدّين فليس إذن في هذا الفاسد المركّب لا قوّة أن يبقى ولا قوّة أن يفسد فلم تجتمعا فيه ، وأمّا المادّة فإمّا أن تكون باقية لا بقوّة تستعدّ بها للبقاء كما يظنّ وإمّا أن تكون بقوّة بها تبقى وليس لها قوّة أن تفسد شيء آخر يحدث فيها.

وأمّا البسائط التي في المادّة فإنّ قوّة فسادها في جوهر المادّة لا في جوهرها ، والبرهان الذي يوجب أنّ كلّ كائن فاسد من جهة تناهي قوّة البقاء والبطلان ، إنّما يوجب فيما هو كائن من مادّة وصورة ويكون في مادته قوّة أن يبقى فيه تلك الصور وقوّة أن

١٣٨

تفسد هي منه معا كما علمت ، فقد بان إذن أنّ النفس الإنسانيّة لا تفسد البتّة.

انتهى ما رمنا نقله من كلامه في الشفاء ، ومثله كلامه في الإشارات.

١٣٩

فيما ذكره في الإشارات في ذلك

حيث أبطل فساد النفس بفساد البدن وكذا فسادها في نفسها بناء على مغايرتها للبدن وأجزائه وعلى تجرّدها عن المادّة وبساطتها ، قال : «ولمّا كانت النفس الناطقة التي هي موضوع ما للصور العقلية غير منطبعة في جسم تقوم به ، بل انّما هي ذات آلة بالجسم ، فاستحالة الجسم عن أن يكون آلة لها ، وحافظا للعلاقة معها بالموت لا يضرّ جوهرها ، بل يكون باقيا بما هو مستفيد الوجود من الجواهر الباقية». ثم بيّن أنّ النفس الناطقة تعقل بذاتها من غير آلة. ثم قال : «تكملة لهذه الإشارات ، فاعلم من هذا أنّ الجوهر العاقل مناله أن يعقل بذاته ولأنّه أصل فلن يكون مركّبا من قوّة قابلة للفساد مقارنة لقوة الثبات ، فإن أخذت لا على أنّها أصل ، بل كالمركّب من شيء كالهيولى وشيء كالصورة ، عمدنا بالكلام نحو الأصل من جزأيه والأعراض وجوداتها في موضوعاتها فقوّة فسادها وحدوثها هي في موضوعاتها فلم يجتمع فيها تركيب ، وإذا كان كذلك لم يكن أمثال هذه في أنفسها قابلة للفساد بعد وجوبها بعللها وثباتها بها. ـ انتهى.» (١)

__________________

(١) شرح الإشارات ٣ : ٢٦٥ ـ ٢٨٥.

١٤٠