منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-108-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٨٢

١
٢

٣
٤

فهرست الموضوعات

مقدّمة الاستاذ السّيّد جلال الدين الآشتياني........................................ ١١

مقدّمة المصحّح................................................................. ٣٧

مقدّمة المؤلّف.................................................................. ٥٥

في الاشارة إلى أنّ الانسان عبارة عن مجموع النفس والبدن............................ ٦١

في الاشارة إلى معنى المعاد........................................................ ٦٣

في الاشارة إلى كون الاعتقاد بالمعاد ضروريّا في هذا الدين القويم وكذا في الأديان السابقة.. ٦٧

في كيفيّة دلالة الآيات القرآنيّة على المعاد.......................................... ٦٩

في كيفيّة دلالة الآيات الواردة في إنكار المنكرين للمعاد............................... ٧١

في الاشارة إلى معنى المعاد الروحاني والجسماني....................................... ٧٤

في الاشارة إلى مبنى إنكار المنكرين للمعاد.......................................... ٧٦

في الإشارة إلى مبنى القول بالمعاد.................................................. ٧٩

في الإشارة إلى معاد البدن........................................................ ٧٩

في الاشارة إلى مبنى معاد النفس................................................... ٨٩

إيراد إشكال على القول بالمعاد الروحاني فقط....................................... ٩٢

كلام مع صدر الأفاضل......................................................... ٩٥

المقام الأوّل في جواز عدم العالم وامتناعه.......................................... ١٠٢

تفصيل وتحقيق............................................................... ١٠٦

٥

في أبديّة الصادر من أجزاء العالم............................................. ١٠٩

في أبديّة فرد ما من أجزاء العالم............................................... ١١٩

في أبديّة النشأة الاخرويّة.................................................... ١٢٢

[الكلام في النشأة الدنيوية]............................................... ١٢٦

في بيان الدليل السمعي على بقاء النفس الإنسانيّة بعد خراب البدن............... ١٢٨

في بيان الدليل العقلي على بقاء النفس الإنسانيّة بعد خراب البدن................ ١٣٣

من جملة الدلائل عليه.................................................... ١٣٣

في الحجج التي اعتمد أفلاطون فيه عليها...................................... ١٣٤

في ذكر برهان أقامه الشيخ في الشفاء على هذا المطلب.......................... ١٣٥

دليل آخر منه............................................................. ١٣٧

فيما ذكره في الإشارات في ذلك.............................................. ١٤٠

فيما ذكره المحقّق الطوسي رحمه‌الله في شرحه له..................................... ١٤١

في ذكر ما ذكره صاحب المحاكمات........................................... ١٤٦

في ذكر ما ذكره صدر الأفاضل في هذا المطلب................................. ١٤٨

شك وتحقيق............................................................... ١٥١

في توجيه حجج أفلاطون.................................................... ١٥٣

إيراد سؤال على كلام الشيخ في الشفاء مع جوابه............................ ١٥٦

نقل كلام عن المحقّق الطوسي لبيان الجواب.................................. ١٥٨

في امور ينبغي التنبيه عليها هنا [الأمر الأوّل]................................... ١٦٣

دفع إيراد عن المحقّق الطوسى رحمه‌الله.......................................... ١٦٦

الأمر الثاني............................................................. ١٦٧

دفع إيراد آخر على المحقّق الطوسي رحمه‌الله..................................... ١٧٠

في بيان الجواب عن السؤال الذي أوردناه على كلام الشيخ في الشفاء........... ١٧٢

في ترميم بعض ما ذكره الشيخ في الكتابين من الدليل على بقاء النفس.......... ١٧٧

كلام مع صاحب المحاكمات.............................................. ١٧٩

كلام مع المحقّق الطوسي رحمه‌الله.............................................. ١٨٥

في توجيه كلامه في الإشارات.............................................. ١٩٠

في ذكر شبهة مشهورة موردة على أدلّة بقاء النفس بعد فساد البدن............... ١٩٨

في تحرير الجواب عن الشبهة............................................... ٢٠٣

٦

شروع في تحرير الجواب.................................................... ٢٠٥

زيادة إيضاح للمقام...................................................... ٢١١

في تحرير جواب المحقّق عن اعتراض الإمام.................................... ٢١٩

في التكلّم فيما قاله صدر الأفاضل من الجواب عن الاعتراض.................. ٢٢٥

في بقاء النفوس............................................................ ٢٣١

في بيان حال المادّيات من الموجودات.......................................... ٢٣٣

في بيان معنى ما دلّ من السمعيّات على هلاك كلّ ما سواه أو على الفناء بالمرّة...... ٢٣٨

ختام..................................................................... ٢٤٧

المقام الثاني في جواز إعادة المعدوم وعدمه...................................... ٢٤٩

في تحرير ما ذكره الشيخ في الشفاء أوّلا في هذا المطلب.......................... ٢٥٨

في الإشارة إلى الجواب عن شبهة المعدوم المطلق................................. ٢٦٢

حاصل الدليل الذي ذكره الشيخ في الشفاء أوّلا وذكره في التعليقات أيضا على بطلان إعادة المعدوم        ٢٦٧

في الإشارة إلى دفع ما أورده الشارح القوشجي على المحقّق الطوسي............. ٢٦٩

في الإشارة إلى قول المحقّق الطوسي......................................... ٢٧٢

في الإشارة إلى دفع إيراد عن الشيخ وعن المحقّق الطوسي...................... ٢٧٣

كلام مع المحقّق الدواني................................................... ٢٧٥

في الإشارة إلى دفع توهّم هنا.............................................. ٢٨٠

في تحرير ما ذكره الشيخ بعد دليله الثاني.................................... ٢٨١

في تحرير ما ذكره الشيخ في الشفاء أخيرا.................................... ٢٨٤

نقل كلام من المحقّق الدواني في هذا المقام والإشارة إلى ما فيه................... ٢٨٩

في الإشارة إلى توجيه الدليل الأوّل الذي ذكره المحقّق الطوسي على هذا المطلب... ٢٩٢

في ذكر حجج المجوّزين لإعادة المعدوم وذكر ما فيها ونقدها وتزييفها............... ٣١٣

في تحرير كلام المحقّق الطوسي................................................ ٣٢٣

في الإشارة إلى دفع مناقشة المحشّي الشيرازي عن المحقّق الدواني................. ٣٢٦

كلام مع الشارح القوشجي والمحشّين....................................... ٣٢٨

في الإشارة إلى توجيه كلام القائل الأوّل بحيث يندفع عنه ايراد الشارح القوشجي. ٣٢٨

في تحرير ما ذكره صاحب المواقف.......................................... ٣٣٢

٧

في تحرير ما ذكره الشارح القوشجي في مقام الجواب عمّا أورده صاحب المواقف... ٣٣٥

في تحرير الجواب......................................................... ٣٣٨

في الكلام فيما ذكره الشارح القوشجي نفسه في الجواب عمّا ذكره صاحب المواقف ٣٤٢

في الإشارة إلى اندفاع ما أورده المحقّق الدواني عن الشارح القوشجي............. ٣٤٦

كلام مع المحشّي الشيرازي................................................ ٣٤٩

كلام مع المحقّق الدواني................................................... ٣٥٣

مناقشة مع المحقّق........................................................ ٣٦٠

في الإشارة إلى دفع مناقشة المحشي الشيرازي عن المحقّق الدواني................. ٣٦١

مناقشة أخرى مع المحقّق.................................................. ٣٦١

كلام معه أيضا......................................................... ٣٦٤

في الكلام فيما أورده الشارح القوشجي على المحقّق الطوسي................... ٣٦٤

في بيان ما يرد على الشارح من الأنظار..................................... ٣٦٨

[بيان ضعف احتجاج القائلين بجواز إعادة المعدوم على الجواز بالآيات والروايات]. ٣٧٤

في تضعيف الوجه الإقناعي الذي ذكره الشارح القوشجي على جواز الإعادة وكذا في تضعيف الوجه الذي ذكره المحقّق الدواني على امتناع الإعادة...................................................... ٣٧٧

٨

مقدّمة الناشر

قضيّة الإيمان بالعودة إلى الله عزوجل ـ عبر سفر الموت ـ إحدى الركائز الأساسيّة التي يقوم عليها المعتقد التوحيديّ في الأديان الإلهيّة. وتشكّل هذه القضيّة ثاني قوسين تكتمل بتلاقيهما دائرة الحياة الإنسانيّة في الوجود ، بعد أن كان أوّلهما الإيمان بصدور الإنسان من الغيب الإلهيّ ، ليجتاز ـ في رحلة الحياة الدنيا ـ مراحل الكدح والنموّ والتكامل ، ثمّ ليعود إلى لقاء الله من جديد .. كما تعود القطرة مرّة اخرى إلى المحيط. وهذا الصدور من القدرة الإلهيّة ثمّ العودة إليها بعد الموت هو ما عرف في الثقافة الإسلاميّة باسم «المبدأ والمعاد» ؛ استلهاما من تعابير القرآن الكريم : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ـ) الأعراف ٢٩» و (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) ـ الأنبياء ١٠٤» و (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ـ يونس ٤».

ولا ريب أنّ حياة الإنسان القادمة في أسفار الآخرة مرتبطة ارتباطا صميميّا بأعمال الإنسان وبمساعيه في الحياة الدنيا ، وبما يحمل من معتقدات وأفكار ، وبما يعتمل في داخله من دوافع ونيّات. هنالك تتجسّد الأعمال والدوافع الداخليّة في عالم الانكشاف والظهور (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ـ الكهف ٤٩» ، (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) ـ البقرة ٢٨١» ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ـ الزلزال ٧ ـ ٨».

وقد حفلت النصوص الإسلاميّة ـ قرآنيّة وحديثيّة ـ بذكر حقيقة المعاد وما يرتبط به ، بما لا تجد نظيرا له في أيّ من الأديان الاخرى. وشهدت الحياة العلميّة والدينيّة للمسلمين ، على تعاقب القرون ، مباحث شتّى حول عقيدة المعاد .. خلال كتب خاصّة ألّفت في الموضوع ، وخلال فصول تضمّنتها المؤلّفات الاعتقاديّة والأخلاقيّة والوعظيّة ، ليتجلّى للمسلم هذا الأصل الدينيّ الأساس ، وليتأهّب للسفر الأخرويّ ، حيث يصل الى الغاية التي هي لقاء الله.

٩

إنّ العامل الرئيس في خراب حياة الإنسان على الأرض ، وفي ضلاله عن طريق التكامل ـ الذي حمل رسالته الأنبياء وبلّغ به الأوصياء عليهم‌السلام ـ إنّما ينبعث من نسيان العودة إلى الله والغفلة عنها ، ناهيك عن التورّط في إنكار هذه العودة والتكذيب بها ، كما يتوهّم أصحاب الطريقة المادّيّة في التفكير.

وقد كانت معالجة الكتّاب والمفكّرين المسلمين لقضيّة المعاد على أنماط متفاوتة ؛ فمنها ما اعتمد النصّ أساسا في البحث ، ومنها ما نهج نهجا استدلاليّا عقليّا خالصا ، ومنها ما جمع بين الاستدلال العقليّ والاستناد إلى النصوص القرآنيّة والحديثيّة باعتبار الحقائق التي تجلّيها هذه النصوص محورا للاستدلال ، وموضوعا للبحث العقليّ والفلسفيّ.

وكتاب «منهج الرشاد في معرفة المعاد» هو ممّا ألّفه الآخوند الملّا نعيما الطالقانيّ ـ من كبار علماء الإماميّة في القرن الحادي عشر ـ وفق هذا النهج الأخير القائم على البرهان العقليّ المنوّر بالنّص ، وحدّد المؤلّف رحمه‌الله هدفه من الكتاب ، فقال : «أن نقيم الدليل على أنّ المعاد ينبغي أن يكون واقعا على هذا الوجه الذي دلّ عليه الشرع ، لا على وجه آخر» (١ : ٣٨٢). وقد عني فيه ببحث مختلف القضايا المتّصلة بعقيدة المعاد ، مناقشا ـ في ضمن ذلك ـ طائفة من أفكار الفلاسفة والمتكلّمين المسلمين وغير المسلمين ، وكاشفا عن وهن ما ألقي في هذا السبيل من شكوك وشبهات.

وكان هذا الأثر موضع عناية الأستاذ السيّد جلال الدين الآشتيانيّ ، فإنّه كتب له مقدّمة ضافية تحدّث فيها عن المؤلّف وعن بيئته العلميّة ، وزيّن الكتاب بتعليقات (هي المميّزة بعلامة النجمة) ، ثمّ أشار على مجمع البحوث الإسلاميّة في الآستانة الرضويّة المقدّسة بتحقيق الكتاب. وعملا من المجمع على نشر المعارف والعقائد الأصيلة تلقّى هذا الاقتراح بالتّرحيب ، وطلب من آية الله رضا أستادي تولّي هذا العمل ، فتحمّل أعباءه ، وكتب مقدّمة عن مصادر حياة المؤلّف وما يتّصل بمؤلّفاته .. فله وللأستاذ الآشتيانيّ وافر الشكر والامتنان ، ونسأل الله تعالى لهما المزيد من الخير والتوفيق.

وإذ يقدّم مجمع البحوث الإسلاميّة الجزء الأوّل من هذا الكتاب ، يسأل الله سبحانه التوفيق لإصدار الجزءين الآخرين ، والله المستعان في البدء وفي الختام.

مجمع البحوث الإسلاميّة

١٤١٨ ه‍ ـ ١٣٧٦ ش

١٠

مقدّمة الأستاذ السّيّد جلال الدّين الآشتيانيّ

نقلها الى العربية : علي هاشم الأسدي

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الآخوند الملّا نعيما الطّالقانيّ أحد علماء الإماميّة المشهورين ، ويعرف بالملّا محمّد نعيم أيضا.

كان يواصل دراسته بأصفهان في أواخر العهد الصّفويّ ونقتني كتابين من كتبه : أحدهما أصل الأصول وقد طبعته في سلسلة منتخبات فلسفي ، والآخر هو كتابه المفصّل منهج الرّشاد في معرفة المعاد الّذي ألّفه بعد عودته إلى أصفهان إذ كان قد نزح منها إثر فتنة الأفغان ، فعاد إليها بعد أن أجلاهم عنها القائد الشّهير نادر شاه أفشار. ولم يتحدّث المؤلّف عن سيرته في الكتابين المذكورين ، بيد أنّه عرّف نفسه بإيجاز في الكرّاس الملحق بأوّل كتاب أصل الأصول. ويستبين منه أنّ المترجم له كان ذا قريحة شعريّة ، لأنّه كتب في آخر الصّفحات الثّلاث الملحقة بكتاب أصل الأصول ـ الّذي يشكّل أحد أجزاء كتابنا منتخبات فلسفي ـ والمطبوعة على حدة :

«لكاتبه ومالكه ومؤلّفه وواقفه ملّا نعيما المعروف بالعرفيّ (١) الطّالقانيّ».

نزلت بصاحب التّرجمة مصائب محيّرة بعد غزو الأوباش أصفهان ، فقد قضى الغزاة على جلّ أقربائه ، فاضطرّ إلى الخروج من أصفهان ليلا بمساعدة بعض الأصدقاء والنّاصحين ، ووصل إلى قمّ بعد أن تجشّم عناء كبيرا في سفره.

عرفه بعض العلماء الّذين كانوا قد ذهبوا إلى أصفهان سابقا لطلب العلم وغادروها

__________________

(١) العرفي : اسم خاصّ اختاره الشاعر لنفسه ويذكره في آخر بيت من كلّ قصيدة ، على عادة شعراء الفارسيّة.

١١

لأسباب معيّنة فطلبوا منه أن يدرّس ويفيدوا من وجوده ، فألّف رسالة أصل الأصول في قمّ (دار الإيمان).

* * *

توفّر المستشرق المعروف المرحوم البروفسور كربن على دراسة شيخ الإشراق وأفكاره وآثاره مدّة مديدة ، عند ما كان مشغولا في مطالعة آثار محقّقي الشّرق وأفكارهم عدد سنين إبّان اقامته في تركيا. وكان يعمل في القسم المتعلّق بالمعهد الفرنسيّ التّركيّ مبعوثا من قبل حكومته ثمّ انتقل إلى ايران وواصل فيها عمله. وقد تعرّف عليّ سنة ١٩٥٩ و ١٩٦٠ م ، وكان يرغب كثيرا أن أقوم بإعداد مختارات فلسفيّة منذ عصر الميرداماد حتّى عصرنا هذا. وكان يرى أنّ الموضوعات الّتي اختارها من كتب الفلاسفة في القرنين الأخيرين ينبغي أن تنقل دون إبداء وجهة نظر فيها ، وهو يتولّى تدوين القسم الفرنسيّ. وكنت أدرك جيّدا أنّ نقل المباحث العلميّة العويصة بدون إبداء رأي فيها عمل ناقص. فلا بدّ من بيان التّفاوت بين المشارب والمذاهب.

كنت أنجز العمل الّذي اقترحه عليّ المستشرق المذكور مع انشغالي بإعداد الكتب العرفانيّة والفلسفيّة للطّبع. وتهيّأ قرابة ستّة أجزاء كمختارات من آثار أكابر العلماء ، مشفوعة ببيان ما أشكل وشرح ما أعضل. واستطعنا أن نتعرّف على كثير من العلماء عن هذا الطّريق ، وقد كان بعض منهم ـ مثل الملّا نعيما الطّالقانيّ ـ غير معروفين عند الكثيرين.

طبع من المختارات الفلسفيّة أربعة أجزاء ، وانتقل زميلي الباحث المغفور له البروفسور كربن إلى رحمة الله تعالى.

وقد بلغ البروفسور كربن من الذكاء الحادّ ، والقابليّة العمليّة والذّوق العلميّ الوافر مبلغا أصبح فيه عالما ملمّا بالأسس الفلسفيّة ، متمكّنا من المسائل العويصة أكثر من كونه مستشرقا بالمعنى المتداول.

* * *

كان الملّا نعيما المشهور بالملّا محمّد نعيم أيضا من العلماء الأجلّاء أولي المنزلة الرّفيعة لكنّه لم يتمتّع بشهرة كافية عند الجميع. مثله بذلك مثل كثير من العلماء الّذين كانوا

١٢

رجالا كبارا إلّا أنّهم مغمورون. وانّها لمأساة حقّا أن لا تولي الحوزات العلميّة الشّيعيّة اهتماما كافيا بالعرفان النّظريّ والعمليّ والحكمة الإلهيّة ، ولا تعتني بالعلوم القرآنيّة وتفسير القرآن الكريم ، ولا توسّع نطاقها العلميّ ؛ إذ أصبحت حوزات أحاديّة العلم اقتصرت على الفقه والأصول ، وركّزت على العلوم النّقليّة ، وتركت تفسير القرآن والعلوم الّتي تنبثق منه وتحفظ أصالة الإسلام. ونلحظ في الجامعات أيضا أنّ العلوم الأصيلة ، والعلوم القرآنيّة ، وعلم التّوحيد والعرفان الّذي تألّق من بطن القرآن ، والعلم الإلهيّ ، والحكمة المتعالية الّتي تعدّ كلاما شيعيّا في مقابل كلام علماء العامّة ، كلّ ذلك آخذ بالزّوال. وكان بعض الجهلة المغرورين يخالون أنّ معرفة الصّرف والنّحو والمعاني والبيان ، والتّوغّل في اللغة العربيّة وآدابها يكفيان لفهم القرآن ، وبعضهم كان يرى أنّ ترجمة القرآن الكريم إلى اللّغة الفارسيّة مفتاح المعارف القرآنيّة.

ولا بدّ أن نعرف أيضا أنّ علم الكلام وحده لا يكفي لفهم القرآن ، بل قد يكون مضرّا ومضلّا.

إنّ علم الكلام على المذهب الأشعريّ مشحون بالأخطاء والهفوات ، وعلى أصول المعتزلة حامل لأخطاء فادحة ، وكلاهما وقع في فخّ التّنزيه الصّرف الّذي يلزم نفي التّوحيد الألوهيّ والتّشبيه الصّرف الملازم لاستناد آثار المادّيّات الخاصّة إلى الحيّ المنزّه عن عوارض الجسمانيّات. والمذهب الحقّ هو الجمع بين التنزيه والتّشبيه.

في ضوء ما ذكرنا كان الكلام الأشعريّ والمعتزليّ دعامة للمعارف القرآنيّة وزاعما فهم ظواهر القرآن والأحاديث المأثورة عن خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحلّ المسائل العويصة ، بيد أنّ الأصول والقواعد العلميّة لهاتين الفرقتين قد خرجت من نطاق العلم تماما خلال فترة قليلة نوعا ما. ونلحظ في كتب التّفسير أثرا للفرقتين المذكورتين لكنّه مضلّ.

إنّ ما ينبغي أن نذعن له هو أنّ علم التّفسير يستتبع عددا من العلوم ، وأنّ التّفسير يجب أن يكون مناسبا لبيئة خاصّة. وإذا همّ امرؤ أن يفسّر القرآن وهو في الأربعين أو الخمسين من عمره وكان أذكى النّاس ، فلا يفلح في عمله. إذ مع وجود الظّروف المساعدة على التّفسير ، لا بدّ أن يتعلّم الإنسان التّفسير في شبابه عند أستاذ مفسّر ، ويعمل ليل نهار،

١٣

ويتوفّر على دراسة آثار الماضين. ويحتاج طالب علم التّفسير إلى بيئة تفسيريّة مناسبة ، وكما أنّ الفقيه البارز يجب أن ينشأ في بيئة فقهيّة ، فكذلك المفسّر المحقّق يجب أن يكون وليد بيئة تفسيريّة ، وبعد تهيئة الظّروف لا بدّ من خمسين سنة في الأقلّ حتّى تعدّ البيئة التّفسيريّة المناسبة.

إنّ الإلمام بالأسس العرفانيّة ، والتّمكّن من الحكمة المتعالية ، والاطّلاع على علم الكلام ، والعثور على طريق الأنس بالقرآن ، وتطهير النّفس من الرّذائل ، وتحصيل الإقبال للأنس بالقرآن ، كلّ ذلك وسيلة للعبور من ظواهر القرآن والحديث ، والعروج إلى البطون القرآنيّة وإدراك كلام الحقّ. قال الإمام جعفر الصّادق عليه وعلى آبائه السّلام : «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ، ولكنّهم لا يبصرون.» (١) وما قاله خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن.» (٢) أراد به أنّ كلّ بطن يختصّ بأشخاص معيّنين ، وأنّ بطنه الثّالث هو مشاهدة الحقيقة كأنّك تراه. وأشار مولى الموالي أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى أعلى درجاته فقال : «ما كنت أعبد ربّا لم أره.» (٣) وشهود البطن السّابع للمحمّديّين خاصّة. وفي عصرنا هذا ينبغي ألّا نتطلع إلى بطون القرآن الكريم ونعرج من ظاهره إلى باطنه وننظر من عالم التّفسير إلى عالم التّأويل. والقصد هو أنّ إدراك السّور القرآنيّة وفهم الظّواهر بنحو لا يجرّد من فهم كلام الحقّ تماما يجب أن يعدّ بالغ الأهميّة.

* * *

الملّا نعيما هو نجل الشّيخ محمّد تقي الملائكة ، والشّيخ محمّد تقي ابن الشّيخ محمّد جعفر ، والشّيخ محمّد جعفر ابن الشّيخ محمّد كاظم الطّالقانيّ. وسلالة هؤلاء العلماء هي أكبر ممّا ذكر.

الملّا محمّد الملائكة المشهور بالملّا محمّد فرشته أخو الآخوند الملّا نعيما. وكانت أسرة الملّا نعيما من أعاظم رجال العلم والأدب ، وكما قيل في المشهور «كان رجال أسرته من علماء الدّين». وبين أحفاده المشهورين بلقب (نعيمائي) هذا اليوم كثير من

__________________

(١) بحار الانوار ٩٢ : ١٠٧.

(٢) تفسير الصافي ١ : ٣٨.

(٣) اصول الكافي ١ : ٩٨.

١٤

العلماء ، ومعظمهم من أولي الذّوق. ومن أسرته الأخ نعيمائي الّذي يسكن في طهران حاليّا وله خطّ جميل ، كما أنّه ملمّ بعدد من الخطوط. وقد زرته في بيته مع عدد من الأصدقاء. علما أنّ خطّ الملّا نعيما في غاية الجمال.

أثران من الآثار العلميّة للملّا محمّد نعيم (الملّا نعيما)

لم يكن الملّا نعيما شخصيّة مغمورة قطّ ، فقد كان من مشاهير العلماء وضريحه بين نور وطالقان مطاف أولي الإقبال.

إنّ أحد آثاره العلميّة الّتي امتزج فيها الذّوق العلميّ بالذّوق العرفانيّ رسالة جامعة بعنوان أصل الأصول ألّفها الملّا نعيما في قمّ (دار الإيمان) وهي أثر نفيس ، وقد طبعته في الجزء الثّالث من المختارات الفلسفيّة.

مرّ بنا فيما سبق أنّ العالم المذكور فقد كثيرا من أقاربه في غارة الأفغان على مدينة اصفهان الكبرى (وسقوط اصفهان وموت مائة ألف من أهاليها جوعا وقتلا) فقام بعض الأخيار بإخراجه منها بمشقّة فتوجّه تلقاء قمّ مضطرّا وفي قمّ طلب منه بعض العلماء أن يدرّس ، فاستجاب لهم. وما كتابه أصل الأصول إلّا مجموعة دروس كتبها في مهجره.

هذا الكتاب في المعاد الجسمانيّ والرّوحانيّ وعنوانه منهج الرّشاد في معرفة المعاد. ألّفه الملّا نعيما بعد مواجهة جيش الملك (نادر شاه افشار) صلفاء الأفغان وطغامهم. وأخيرا استطاع الجيش المذكور أن ينزل هزيمة ما حقة بجيش (أشرف قلجه اي) حتّى آثر الفرار على البقاء ، وترك اصفهان لمحة البرق. وتكبّد في الطّريق أيضا خسائر كثيرة تحدّثت عنها كتب التّاريخ. وكان بين الأفغان عالم دينيّ يعرف بالملّا زعفر ، وهو مرشدهم ، اشتهر أنّه أقسى النّاس. وعند ما وصل إلى ضواحي كرمان ألقى نفسه في النّهر وغرق.

وكلّ من دخل اصفهان بعد فرار الأفغان ، وكان قد رآها قبل حكومة محمود وأشرف فانّه وجدها يبابا وتنهّد تأوّها عليها. وقام الحاكم غير الكفوء وبعض المتظاهرين بالعلم من الوصوليّين ، ـ في آخر لحظة كان ممكنا فيها أن يعيد القائد الإيرانيّ اللائق النّظم إلى البلاد ـ بإجبار الملك الجاهل على إعماء رجل كفوء وقتله.

١٥

أخذت إيران بالضّعف بعد الشّاه طهماسب. وقام أحد أحفاد السّيّد الشّريف ـ وكان سنّيّا متعصّبا ـ بإغواء الشّاه اسماعيل الثّاني وجعله سنّيّا ، لكنّ الشّاه أنكر تسنّنه خوفا من رؤساء قبيلة (استاجلو) وألقى الشّريف في السّجن ، وأثبت نذالته من خلال قتل أقاربه. وعمد إلى أولي الذّوق والفضل المحترمين من أولاد الشّاه اسماعيل الأوّل مؤسّس الامبراطوريّة الصّفويّة فقتلهم شرّ قتلة ، وأنزل بذلك ضربة فادحة بالبلاد والشّعب خلال عمره القصير.

كانت جميع مدن إيران وقصباتها بما فيها تبريز خاضعة للسّلطة العثمانيّة قبل حكومة عبّاس الأوّل الّذي كان لقب (الشّاه عبّاس الكبير) حقّه المطلق. وذاق النّاس فيها مرارة التّسلّط الأجنبيّ عشرين سنة. وصارت مدينة تبريز خربة ، وانجلى عنها كثير من أهلها. وتزوّج العثمانيّون عددا كبيرا من النّساء التّبريزيّات بالعنف والإكراه. وكانت قلعة تبريز مكانا مأمونا لولاة الدّولة العثمانيّة سنين طويلة. وعند ما كان الجيش الملكيّ على عشرة فراسخ من تبريز ، وضع التّبريزيّون قبّعاتهم الّتي كانت مألوفة عندهم في الماضي على رءوسهم وطفقوا يقتلون الأولاد المفروضين عليهم. وحينما دخل الجيش الإيرانيّ تبريز ، بدأ الجيش العثمانيّ يتقهقر بعد مقاومة قليلة ، وهذا ما تحدّثت عنه كتب التّاريخ.

وضعف مركز الحكومة الصّفويّة بسبب تشتّت الآراء حتّى كاد يزول ، وكانت الدّولة العثمانيّة تترصّد الفرصة لتزيد اعتداءاتها. ووقعت هرات في خراسان بأيدي الأوزبك سنة ٩٩٧ ه‍ بعد تسعة أشهر من الدّفاع المستميت. وأخفق أهالي آذربايجان في طرد عثمان لو من منطقتهم. وأصبحت الطّرق غير آمنة وارتفعت أسعار البضائع الّتي يحتاجها النّاس بنحو لافت للنّظر حتّى أصبحت أغلى من الأمصار المجاورة.

ومنيت الدّولة بضعف أطمع فيها الأعداء حتّى إنّهم كانوا يتأهّبون لمهاجمتها.

وكانت الظّروف تتطلّب يومئذ حاكما مقتدرا نابها كيّسا ذا دهاء ، ومن حسن حظّ بلادنا والحكومة الصّفويّة أنّ ذلك الحاكم المطلوب كان موجودا ، وهو عبّاس الأوّل الّذي أنقذ البلاد ولم يأل جهدا في إرساء دعائم التّشيّع ونشر مباديه.

ولم يدّخر الملك المذكور وسعا في تشييد المساجد وإنشاء الجسور القويّة وكلّ ما جعل اصفهان نجمة متألّقة ، وكلّ ما أدّى إلى راحة التّجّار والكسبة ورخائهم في مجال

١٦

حمل البضائع التّجاريّة. وما كان له دور في ازدهار التّجارة من بناء الجسور والرّبط في مناطق ايران جميعها بخاصّة الوعرة منها. ولو قسنا الإمكانيّات الّتي كانت موجودة في أيّام حكومته بالإمكانيّات المتوفّرة في عصر اختراع الآلات والوسائل المحيّرة ، لسلّمنا أنه لم يشقّ له غبار.

كتب روجر سيوري مؤلّف كتاب ايران عصر صفوى [إيران العصر الصّفويّ] (ص ٨٢ من التّرجمة الفارسيّة الّتي أنجزها أحمد صبا) :

«على الرّغم من الانتصارات العسكريّة والسّياسيّة للملك عبّاس الأوّل ، بيد أنّها كانت تمثّل جانبا واحدا من حكمه المتلوّن. وكانت حكومته معلما على ذروة ازدهار الفنّ الّذي ظهر في العصر الصّفويّ. وتطوّر نسج السّجّاد في عهده فبلغ مستوى الفنون الدقيقة الجميلة بفضل دعمه وتشجيعه بعد أن كان صناعة ريفيّة. ولم تشهد المنسوجات الّتي كانت تعدّ في معامل الحياكة والنّسيج الكبرى مثيلا لها في سطوع لونها وفي تصميمها. ونافست الأواني الفخاريّة المصنوعة في العصر الصّفويّ منتوجات الصّين في الأسواق الأوربيّة.

ولا عهد للعالم الإسلاميّ بمثل هذا النّموذج الجامع لبناء المدن في العصر الصّفويّ منذ أن بنى المنصور العبّاسيّ بغداد في القرن الثّاني. ودلّت تركيبة المدينة وسعتها على منزلتها كعاصمة للإمبراطوريّة الفارسيّة.

تبلغ مساحة ساحة (نقش جهان) العظيمة الّتي أنشأها الشّاه عبّاس في مركز المدينة سبعة أضعاف ساحة (سان ماركو). (١)

كان بعض الأمراء الصّفويّين يتمتّعون بذوق مفعم ولعلّ معظمهم كانوا من أولاد الشّاه اسماعيل الأوّل أو من أحفاده.

__________________

(١) ساحة في مدينة البندقيّة. كان عصر اثنين أو ثلاثة من سلاطين الصّفويّة عصر نضج المواهب. وكان الشّاه إسماعيل نفسه قائدا حربيّا وهو ابن اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة. هزم مرّة واحدة فحبس في جالديران. كتب جاهل مغرور أنّه نهض من أجل بثّ التّشيّع. ومن المستبعد أن يحمل شعورا بحبّ الوطن. وكان الشّاه اسماعيل نفسه هو الّذي جدّ في إحياء الشّاهنامه بخطّ جميل جدّا. واشتملت على منمنمات بريشة رسّامين كبار يترأسّهم رسّام عصره بهزاد رحمه‌الله.

أصيبت ايران بعد الفتح الإسلاميّ لها بحالة تشبه حالة ملوك الطّوائف خلال تسعمائة سنة وكانت تتقاذفها الأيدي. وتعدّ اقامة امبراطوريّة عظيمة بسرعة خاطفة أمرا يسيرا لرجل مريض مني بداء فقدان الضّمير.

١٧

وكان الأمير الحرّ أبو الفتح ابراهيم ميرزا بن بهرام بن الشّاه اسماعيل الصّفويّ (المتوفّى سنة ٩٣٠ المقتول سنة ٩٨٤ ه‍) يتمتّع بقابليّة قليلة المثيل ويحظى بعناية الشّاه طهماسب ، وقد زوّجه الشّاه بنته (گوهر سلطان خانم). وكان أديبا جليلا ، وفي العلوم الرّياضيّة أستاذا بارعا. وكان من تلاميذ المير صدر الدّين دشتكي في الحكمة والفلسفة. ودرس على علماء قزوين علوما متعدّدة وأصبح من الأساتذة الّذين توجّهت إليهم أنظار العلماء. ولمّا كان كفوءا ، فقد ولّاه الشّاه طهماسب على خراسان ، وضمّ إليها سبزوار لرغبة أهلها في ذلك. وما كان يتّصف به من علم وفضيلة ودراية وكفاءة دفع اسماعيل الثّاني ـ بعد تقلّده الأمر ـ أن يستدعيه إلى قزوين ويقتله. وأوصى هذا الأمير زوجته أن يدفن في جوار الإمام الثّامن عليّ بن موسى الرّضا عليه‌السلام.

ألّف أبو الفتح ميرزا عددا من الرّسائل في علم الموسيقى وكان يتمتّع بكفاءة ودراية.

إنّ من خصائص الحكومة الاستبداديّة أن يتولّى الأمر فيها مجنون جاهل كإسماعيل الثّاني ، فيقيل عالما كفوءا كأبي الفتح إبراهيم ميرزا ويقتله. وجاء في گلستان هنر ، (١) وخلاصة التّواريخ ، (٢) وخلاصة الأشعار أنّ السّلطان ابراهيم حفيد الشّاه اسماعيل الصّفويّ كان من عباقرة الدّهر ونوادره ، وقد جمع وحده ما كان عند أولي الذّوق والمعرفة من العلوم والفنون. وكان يكتب بخطّ نستعليق في غاية الجودة. كما كان رسّاما ظريفا. وتتلمذ على مولانا قاسم قانوني في تصنيف القول والعمل. وبرع في النّجارة ، وصناعة الآلات الموسيقيّة ، وصناعة الاختام. وكان أستاذا في التّجليد ، والتّذهيب ، ورشّ الألوان والتّصوير ، والرّماية ، والصّياغة ، وتربّى عليه عدد من الشّعراء والعلماء ، وكان ذا قريحة شعريّة ، واتّخذ لنفسه لقب (جاهي). قتله الشّاه اسماعيل الثّاني سنة ٩٨٤ ه‍. وتحتفظ مكتبة ملك الأهليّة بنسخة من ديوانه.

* * *

ومن الأمراء الصّفويّين الآخرين : الشّريف جمال الدّين إبراهيم بن نور الدّين عبيد الله الصّفويّ. كان من كبار أولي المعرفة ، ومن فحول الفلاسفة والمتكلّمين في القرن العاشر الهجريّ. وكان من التّلامذة المهمّين للملّا جلال الدّوانيّ في العلوم العقليّة. من آثاره :

__________________

(١) ص ١٠٦ ، ١١٩.

(٢) ص ٦٣٣.

١٨

كتاب في المنطق والحكمة الإلهيّة ، ومقدّمة العلوم بخطّ المؤلّف ، وهذا الكتاب موجود في مكتبة الملّا محمّد صالح البرغاني بكربلاء.

أخو الشّريف جمال الدّين هو الشّريف عفيف الدّين ، وكان من تلامذة الملّا جلال الدّوانيّ أيضا. عاصر السّيّد السّند من سادات (دشتكي شيرازي) دافع عن أستاذه الدّوانيّ في مقابل صدر الدّين.

* * *

من الضّروريّ أن نذكر عددا من الموضوعات في هذا المجال :

١ ـ كانت هناك مشاجرات علميّة بين الملّا جلال ومير صدر دشتكي سنين طويلة ، بيد أنّها لم تفض إلى إبداع دراسات وبحوث جديدة.

كما كان هناك خلاف علميّ متواصل بين نجل مير صدر الدّين ، وغياث الدّين كأبيه حول أفكار الملّا جلال الدّوانيّ وأنصار الفلسفة. وكان يدور حول الموضوعات الكلاميّة غالبا. إنّ التّعبير عن المتكلّمين بالفلاسفة عمل غير سديد. وكان الأساتذة والمدرّسون في عصر عضد الدّين الايجي والسّيّد الشّريف وتلامذته من المتكلّمين المحقّقين. وعلى هذا النّهج كانت آثار التّفتازانيّ شارح المقاصد ، والشّيخ النّسفيّ في خراسان. إنّ الرّجوع إلى آثار هؤلاء الأعاظم كالتّنقيب في بيدر للتّبن إذ قد يعثر فيه على قمح أحيانا.

وصفوة القول : إنّ أكثر موضوعاتهم ـ أطراف النّزاع ـ لا تقوم على قاعدة قويّة ، بل هي بالمطالب الواهية أشبه ؛ لذا لم تدرّ هذه المنازعات نفعا على أحد.

كلّ من تلقّى المعرفة من أساتذة مدرسة شيراز ، فانّه تلاعب بالألفاظ.

لم يولد فيلسوف عظيم بعد الخواجه نصير الدّين الطّوسيّ ، وقطب الدّين الشّيرازيّ. ولعلّنا نظفر بحكيمين أو ثلاثة من ذوي المستوى المتوسّط. وكان الأشاعرة فرسان الميدان يومئذ. أمّا العرفاء ، والمتصوّفة ، وأولو المعرفة ، فقد كانوا موجودين في كلّ مكان. وقد قدّم هؤلاء خدمات جليّ من أجل بثّ الإسلام دون أن يستخدموا العنف ، والقتل ، والنّهب ، والإرهاب ، وقوّة السّيف.

واعتمدت الحكومة الصّفويّة على أنصار آبائهم وأجدادهم. وقد ضحّى هؤلاء في نهضة اسماعيل الأوّل الّذي كان ابن اثنتي عشرة سنة حين ظهور الصّفويّين ، وابن أربع

١٩

عشرة أو خمس عشرة سنة عند النّهضة.

ولحق الأنصار التركمان الّذين ينتمون إلى قبائل متعدّدة بمرشدهم وهم طافحون بالشّوق ، كما لحق به الرّاقصون والطّبّالون في مواكب ضمّت الخمسمائة ، والألف ، والألفين ، ومعظمهم كانوا رجال حرب. واستطاع هؤلاء أن يوحّدوا ايران خلال فترة يسيرة فأنقذوها من حالة ملوك الطّوائف الّتي دامت تسعمائة سنة ، وعادت ايران إلى نصابها في مدّة قليلة نوعاما.

قال أحد الشّعراء : «بر آر سر كه طبيب آمد ودوا آورد». وتعريبه :

«ارفع رأسك فقد جاء الطبيب وأتى بالدّواء».

كانت بين الطّالقان (طالقانات) الشّاملة منطقة فسيحة من القرى والقصبات ، وبين مدينة قزوين علاقات عميقة ممتدّة. واشتهر بعض العلماء في قزوين أيّام الشّاه طهماسب الصّفويّ ، وكان بين المدرّسين أو أصحاب المناصب الحكوميّة من كان من أهل الطّالقان. كان سماحة الأستاذ سيّد الأساطين وقرّة عيون الموحّدين المغفور له السّيد أبو الحسن القزوينيّ الرّفيعيّ تغمّده الله برحمته الواسعة القزوينيّ الأمّ من أهالي الطّالقان ، وجدّه الميرزا رفيعا القزوينيّ من أعاظم تلاميذ الشّيخ الأنصاريّ ، وفي الحكمة المتعالية من تلاميذ الآخوند الملّا اسماعيل بن محمّد سميع الأصفهانيّ المشهورين. والدته هي بنت الفقيه والأصوليّ المشهور آقا سيّد عليّ القزوينيّ صاحب التّعليقات النّفيسة على كتاب قوانين الأصول للميرزا القمّيّ. وتوجّه والده الميرزا رفيعا ، وأخوه الميرزا شفيعا من الطّالقان إلى قزوين (١) من أجل الدّراسة.

__________________

(١) ذهبت في أحد أيّام إقامتي المؤقّتة في قزوين مع صديقي العزيز المغفور له الشّيخ محمّد حسين الأويسي لزيارة الأموات في مقبرة المدينة العامّة ، ومن ثمّ زيارة قبر السّيّد حسين (أحد أبناء الائمّة). وتعرّفنا في هذين المكانين المقدّسين على رجال عظام استزدنا من أرواحهم همّة. تغمّد الله جميع الأموات برحمته الواسعة. وكان قبر أستاذ العلوم الكثيرة الملّا الكاتبيّ القزوينيّ سقى الله تربته ـ وهو أحد أعوان الخواجه الطّوسيّ رضي الله عنه في مرصد مراغه ـ في خربة تقع في شارع رشت قريبا من مسجد سلطاني. وهذا الرّجل ألّف كتبا نفيسة في علوم عديدة. وكان ابن ماجة مؤلّف «السّنن» المتوفّى سنة ٢٧٢ ه‍ قزوينيّا. درس في قزوين ، وسافر إلى بغداد ، ومصر ، والحجاز. أفاد من علماء الحديث وأتمّ كتابه.

توفّي صديقي العزيز سماحة آية الله الأستاذ الجامع للعلوم العقليّة والنّقليّة الشّيخ محمّد حسين الاويسي يوم ١١ ما يس سنة ١٩٩١ م. أتمّ هذا الأستاذ المحقّق المرحلة الاولى من الفقه والأصول والحكمة المتعالية : شرح المنظومة وشيئا من الأسفار ، ثمّ سافر إلى قمّ لمواصلة دراسته فحضر درس أستاذ الأساتذة آية الله العظمى البروجرديّ أعلا الله مقامه في الفقه ، ودرس الأستاذ العلّامة الطّباطبائيّ قدس‌سره في الأسفار. ـ

٢٠