منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]

منهج الرّشاد في معرفة المعاد - ج ١

المؤلف:

محمّد نعيم بن محمّد تقي [ الملا نعيما العرفي الطالقاني ]


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الآستانة الرضويّة المقدّسة
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-108-7
ISBN الدورة:
964-444-109-5

الصفحات: ٣٨٢

وأنّه في الجميع روحانيّ وجسمانيّ معا ، والله تعالى يعلم.

وحيث عرفت ما بيّناه عرفت أنّ ما نقله صدر الأفاضل من المتكلّمين ، أنّهم حملوا الآيات والنصوص الواردة في إثبات الحشر على أنّ المراد جمع المتفرّقات من أجزاء الإنسان التي هي حقيقته ومنعوا فناء الإنسان بالحقيقة ، لأنّ حقيقة الإنسانية بأجزائه الأصليّة ، وهي باقية ، إمّا متجزّية أو غير متجزّية ، ثمّ أورد عليهم بأنّه مستبعد من العقل والنقل ، ليس ذلك الاستبعاد واردا عليهم ، لو أرادوا بتلك الأجزاء الأجزاء الأصليّة من بدنه ، كما عرفت أنّ الأحاديث المرويّة عن الصادقين عليهم‌السلام تدلّ عليه ، وأرادوا بجمع المتفرّقات جمع تلك الأجزاء وإعادة النفس الباقية إليها مرّة اخرى ، فإنّه لا يبعد من العقل والنقل بوجه أصلا.

نعم لو أرادوا بتلك الأجزاء الأصلية الباقية أنّها عبارة عن النفس الباقية ، كما نقل عن كثير منهم ، سواء قالوا بانعدام البدن بالكلّية أو لم يقولوا به ، لورد عليهم ذلك الاستبعاد عقلا ونقلا ، إذ العقل كما يأتي بيانه يدلّ على أنّ النفس الإنسانيّة جوهر مجرّد لا أجزاء أصلية ، وكذلك النقل وإن دلّ على بقاء الأجزاء الأصليّة من الموتى كما عرفت ، لكن دلالته على أنّها هي النفس الإنسانيّة الناطقة غير ظاهرة بل مستبعدة. فإنّ الظاهر من النقل أيضا كما سيظهر وجهه أنّ النفس الإنسانيّة الناطقة جوهر مجرّد باق غير الأجزاء الأصليّة ، كما أنّ ما نقله عنهم من أنّهم تارة جوّزوا إعادة المعدوم ، يرد عليهم ذلك الاستبعاد كما بيّنا وجهه سابقا وسيأتي زيادة بيان له ، فانتظر.

وحيث انتهى الكلام إلى هذا المقام فحريّ بنا أن نتكلّم في أن شيئا من النفس والجسد ، بل شيئا من أجزاء العالم ، هل يجوز أن ينعدم بالكلّية أم لا؟ وعلى تقدير جواز الانعدام ، فهل يجوز أن يعاد المعدوم بعينه أم لا؟ إذ هو أيضا ممّا يبتني عليه الخلاف في المعاد ، وتحقيق القول فيه ممّا يتوقّف عليه إثبات ما نحن بصدده ، من إثبات المعاد على النهج الذي دلّ عليه الشرع فلنبيّن ذلك في مقامين :

المقام الأوّل في الأمر الأوّل ، أي جواز الانعدام وعدمه ، والثاني في الثاني ، أي جواز إعادة المعدوم وعدمها.

١٠١

المقام الأوّل في جواز عدم العالم وامتناعه

أمّا المقام الأوّل.

فنقول : قال الفاضل الأحساوي : المقدّمة الثانية ، فالكلام فيها على نوعين : الأوّل في جواز عدم العالم أو امتناعه ، ومذهب الإسلاميّين جوازه ، ومنعه طائفة من الفلاسفة ، لا باعتبار ذاته ، لأنّه عندهم ليس بواجب الوجود لذاته ، نعم منعوه من حيث وجوب وجوده بغيره بناء على تلازم المعلول مع علّته التامّة ، وأنّ عدم المعلول إنّما يكون لعدم علّته ، وعلّته واجب الوجود ، وهو لا يصحّ عدمه.

وطائفة منعوه بناء على وجوب وجوده لذاته ، وهذا مذهب مخالف لمقتضى العقول ، ومناف لجميع الشرائع ، فإنّ العقل الصريح حاكم بإمكانه ، وأنّه ليس بقديم لذاته ، ولذلك جميع الملل والشرائع مخبرة بذلك فلا يلتفت إلى ما قالوه.

ونسبوا إلى الكرّامية القول بأبديّة العالم بعد القول بحدوثه ، فإن أرادوا بأبديّته ، أبديّته بفاعل مختار يوجب له البقاء ، ويفيض عليه الوجود لا إلى نهاية ، فذلك لا يحيله العقل ، ولا ينافي أحكام الشريعة ، فإنّه قد ورد فيها أنّ أهل القيامة أبديّون كما صرّحت به الآيات القرآنيّة.

وإن أرادوا أبديّته بذاته فذلك محال عقلا وسمعا ، لأنّ الأبديّة الذاتية لا يتحقّق مع الحدوث الذاتي ، لما بين التأبيد الذاتي والإمكان الذاتي المستلزم للحدوث الذاتي من المنافاة الذاتيّة. نعم يصحّ أبديّته استنادا إلى علّته الممدّة له باعتبار ارتباطها به على ما مرّ.

والذي عليه عامّة أهل الإسلام جواز عدمه بالنظر إلى ذاته ، لكن يختلفون في أنّ هذا

١٠٢

الجائز هل يقع أم لا؟

ومبنى خلافهم على أنّ المعدوم هل يعاد أم لا ، وهي المسألة الثانية في أنّ المعدوم هل يصحّ عوده أم لا؟ فمن قال منهم بجواز إعادته ، قال إنّ العالم يعدم قبل القيامة ثمّ يعاد مرّة ثانية كما كان أوّلا ، ومن منع من إعادته ، منع عدمه وقال إنّ الإعادة معناها جمع الأجزاء بعد تفرّقها وتلاشيها وتأليفها على مثل الحالة الاولى ، فالمعدوم هو التأليف وهو لا يعاد بعينه ، وإنّما يعاد تأليف آخر مثله ، فهو في الحقيقة تأليف مبتدأ ، لكن لما كان مماثلا للأوّل قيل بإعادة الأجسام باعتبار حصوله على الهيئة الاولى.

هذا رأي القائلين بأنّ المعدوم ليس شيئا. وأمّا الذين قالوا إنّ المعدوم شيء في العدم ، قالوا إذا عدم الوجود بقيت الشيئيّة (١) المخصوصة ، فعند العود يفيض عليها الوجود مرّة ثانية كما أفاضها عليه أوّلا.

أقول : وإلى هذا أشار بعض أهل الحكمة ، بقوله : «إنّ الموجود المطلق لا يعدم أصلا ، وإنّ المعدوم المطلق لا يوجد أصلا ، والإعدام والإيجاد بالنسبة إلى الممكنات عبارة عن تفريق أجزاء صورة إلى صورة اخرى ، وتبديل أوضاعه إلى أوضاع اخر. ومن هذا قيل : إنّ الممكنات غير متناهية ، وإنّ مظاهرها لا نهاية لها. ـ انتهى كلامه رحمه‌الله(٢)

وقال المحقّق الطوسي رحمه‌الله في التجريد : «والإمكان يعطي جواز العدم. والسّمع دلّ عليه. ونتأوّل في المكلّف بالتفرّق كما في قصّة إبراهيم عليه‌السلام(٣)

وقال القوشجي في شرحه : «اختلفوا في أنّ العالم هل يصحّ أن يعدم ويفنى أم لا؟ فذهبت الفلاسفة إلى امتناعه ذهابا إلى أنّه قديم وما ثبت قدمه امتنع عدمه. والكرّامية والجاحظ إلى أنّ العالم محدث ومع ذلك ممتنع الفناء. وذهبت الأشاعرة وأبو على إلى أنّ جواز فناء العالم يعلم بالعقل. وذهب أبو هاشم إلى أنّه إنّما يعرف بالسمع. والمصنّف اختار أنّ جواز عدمه يعلم بالعقل ، ووقوع عدمه بالسمع.

أمّا الأوّل ، فلأنّه ممكن ، والممكن يجوز له العدم كما يجوز له الوجود ، اذ لو امتنع عليه العدم لزم الانقلاب من الإمكان [الذاتي] إلى الوجوب [الذاتي] ، وإلى هذا المعنى أشار

__________________

(١) النسبة (خ ل).

(٢) المجلي : ٤٩٦ ـ ٤٩٧.

(٣) شرح التجريد للقوشجي : ٤٩٣ وفيه متن التجريد أيضا.

١٠٣

بقوله : والإمكان يعطي جواز العدم.

أقول : فيه نظر ، لأنّ الممكن يجوز أن يمتنع فناؤه أعني العدم (١) الطارئ بعد وجوده ، ولا يلزم من ذلك انقلابه من الإمكان الذاتي إلى الوجوب الذاتي ، وإنّما كان يلزم ، لو امتنع عليه العدم مطلقا طارئا كان أو مبتدأ ، وقد مرّ بيان ذلك مستقصى في مبحث أنّ المعدوم لا يعاد.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الدلالة السمعيّة تدلّ على وقوع العدم ، مثل قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ). (٢)

ومثل قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ). (٣)

وقوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ). (٤) والآخريّة (٥) في حقّه إنّما يتحقّق أن لو بقي بعد فناء ما سواه.

وقوله تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ). (٦)

إلى غير ذلك من النصوص القطعيّة.

وإلى هذا أشار بقوله : والسمع دلّ عليه أي على العدم.

فقوله : ونتأوّل في المكلّف بالتفرّق كما في قصّة إبراهيم عليه‌السلام إشارة إلى جواب دخل مقدّر تقديره : أنّ القول بوقوع العدم ينافي القول بالمعاد ، لأنّ إعادة المعدوم ممتنعة ، فإذا وقع العدم امتنع الإعادة ، فلم يتحقّق المعاد.

وتقرير الجواب : أن يقال : لا إشكال في غير المكلّفين ، فإنّه يجوز أن ينعدم بالكلّية ولا يعاد ، وأمّا بالنسبة إلى المكلّفين ، فإنّه يتأوّل [العدم] بتفرّق الأجزاء ويتأوّل المعاد بجمع الأجزاء وتأليفها بعد التفرّق. والذي يصحّح هذا التأويل قصّة إبراهيم عليه‌السلام فإنّه لمّا طلب إراءة إحياء الموتى حيث قال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى). قال الله تعالى في جوابه : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً). (٧) فإنّه يظهر منه أنّه أراد بإحياء الموتى تأليف الأجزاء المتفرّقة

__________________

(١) عدمه (ظ).

(٢) الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) القصص : ٨٨.

(٤) الحديد : ٣.

(٥) في المصدر : الآخر.

(٦) الأنبياء : ١٠٤.

(٧) البقرة : ٢٦٠.

١٠٤

بالموت.» ـ انتهى كلامه ـ. (١)

وأقول : إنّ تحقيق المقام يستدعي تمهيد مقدّمة هي : أنّه قد تقرّر في موضعه أنّ الإمكان نسبة بين الماهيّة من حيث هي هي وبين الوجود والعدم ، وأنّ عروضه إنّما هو عند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى الماهيّة وعلّتها ، وأنّه عند اعتبارهما أي الوجود والعدم بالنظر إلى الماهيّة وعلّتها يثبت ما بالغير أي الوجوب والامتناع بالغير.

والحاصل أنّ الإمكان إنّما يعرض للماهيّة من حيث هي لا مأخوذة مع وجودها ولا مأخوذة مع عدمها ، وكذا غير مأخوذة مع وجود علّتها وعدمها ، فإنّ الإمكان نسبة بين الماهيّة من حيث هي هي وبين الوجود والعدم ، أمّا إذا اخذت الماهيّة مع الوجود ، فإنّ نسبتها حينئذ تكون إلى الوجود بالوجوب لا بالإمكان ، ويسمّى ذلك وجوبا لاحقا ، وإذا اخذت مع العدم يكون نسبتها إلى الوجود بالامتناع ، لا بالامكان ، ويسمّى ذلك امتناعا لاحقا ، وكلاها يسمّيان ضرورة بشرط المحمول ، وإذا اخذت الماهيّة مع وجود علّتها كانت واجبة ما دامت العلّة موجودة ، ويسمّى ذلك وجوبا سابقا ، وإذا اخذت مع عدم علّتها كانت ممتنعة ، ما دامت العلّة معدومة ، ويسمّى ذلك امتناعا سابقا ، فكلّ موجود محفوف بوجوبين سابق ولاحق ، وكلاهما وجوب بالغير وكلّ معدوم محفوف بامتناعين سابق ولاحق وكلاهما امتناع بالغير ، ولا منافاة بين الإمكان الذاتي والوجوب والامتناع بالغير.

إذا تمهّد هذا فنقول : إنّ العالم لمّا كان بجميع أجزائه ممكنا ، والممكن ما كان وجوده وعدمه بالنظر إلى ذاته متساويين من غير أن يكون ذاته بذاته مقتضيا لأحدهما لا على سبيل التساوي من غير مرجّح أصلا وهو ظاهر ، ولا على سبيل الأولويّة الذاتيّة ، على ما تقرّر في موضعه بطلانها ، وإنّما المقتضي لأحدهما له هو السبب الخارج عند العلّة له ، المرجّح لأحدهما ، فذاته بذاته مع قطع النظر عن كلّ ما سواه ـ حيث كان كلّ من الموجود والعدم بالنظر إليه من حيث هو متساويين ـ ، كما لا يأبى عن فيضان الوجود عليه بعلّته الموجدة له ـ سواء كان وجوده وجودا مستمرّا أبديّا أو غير أبديّ ـ كذلك لا يأبى عن طريان العدم عليه بزوال علّته أو جزء علّته أو شرط وجوده أو نحو ذلك ، فإنّه بعد وجوده بعلّته لو امتنع عدمه لذاته واقتضى ذاته بذاته أبديّته ، لصار واجب الوجود بالذات مع

__________________

(١) شرح القوشجي : ٤٩٣ ـ ٤٩٤.

١٠٥

فرضه ممكنا بالذات وهو خلاف الفرض. وأيضا يلزم انقلاب ذاته من الإمكان الذاتي إلى الوجوب ، أي وجوب الوجود أو إلى الامتناع ، أي امتناع العدم ، وكلاهما باطلان.

وبالجملة الأبديّة الذاتيّة تنافي الإمكان الذاتي ، وما اشتهر بينهم من أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه ، راجع إلى الامتناع الغيري ، لا الذاتي ، كما سنبيّنه.

وكذلك ما ادّعاه الشارح القوشجي : من أنّ الممكن يجوز أن يمتنع فناؤه ـ إلى آخره.

ومقصوده أنّ عدمه المطلق لعلّه كان ممكنا ، وأمّا عدمه بعد وجوده فلعلّه كان ممتنعا ، وامتناع هذا العدم الخاصّ ، لا يستلزم امتناع العدم العامّ ، أي عدم المطلق.

ولا يلزم الانقلاب من الإمكان إلى الامتناع أيضا لكون ذلك المعنى العامّ باقيا بعد ، ثابتا له بحسب الذات ، فذلك أيضا راجع إلى الامتناع الغيري لا الذاتي ، لأنّه يرجع إلى أنّ خصوصيّة ذلك العدم الخاصّ ممتنعة ، والمانع من إمكانه هو نفس ذلك الخاصّ الذي هو غير ذات الممكن ، لا العدم العامّ ولا ذات الممكن. وعسى أن نأتي على تحقيق هذا المقام في موضع يليق به إن شاء الله تعالى.

وممّا ذكرنا يظهر وجه صحّة ما أسنده الفاضل الأحساوي إلى عامّة المسلمين من القول بجواز عدم العالم بالنظر إلى ذاته ، سواء كان مرادهم بالعدم السابق على وجوده ، أو عدمه الطارئ عليه.

وكذا يظهر وجه فساد ما أسنده إلى طائفة من الفلاسفة من القول بمنع جواز عدم العالم بناء على وجوب وجوده لذاته ، وإن كان هذا المذهب من الفساد بمرتبة لا يحتاج إلى بيان فساده ، لكونه مخالفا لمقتضى العقول ومنافيا لجميع الشرائع كما ذكره رحمه‌الله.

وكذا يظهر أنّ ما أسنده إلى طائفة من الفلاسفة من القول بمنع جواز عدم العالم لا باعتبار ذاته ، لأنّه عندهم ليس بواجب الوجود لذاته ، نعم منعوه من حيث وجوب وجوده بغيره ، له وجه صحّة في الجملة ، إلّا أنّ في هذا المقام تفصيلا وتحقيقا.

تفصيل وتحقيق

لأنّ الكلام فيه إمّا في جميع أجزاء العالم ، وفي كلّ جزء جزء منه ، بحيث لا يشذّ جزء ، أو في بعض أجزائه على الإجمال ، أو في بعض أجزائه على الخصوص ، وعلى التقادير

١٠٦

الثلاثة ، إمّا المقصود بيان إمكان هذا الوجوب بالغير وإن لم يكن متحقّقا بالفعل ، أو بيان وقوعه بالفعل ، وعلى التقدير الأخير ، إمّا المقصود أنّ هذا الواقع هل يمكن أن يرتفع ، أو يمتنع زواله ، والحاصل أنّ العالم بجميع أجزائه أي كلّ جزء من أجزائه بحيث لا يشذّ عنها جزء لمّا كان ممكنا متساويا وجوده وعدمه بالنظر إلى ذاته ، ويترجّح وجوده أو عدمه بعلّته الخارجة عن ذاته ، وكان يمكن أن يفرض تحقّق علّته التامّة المستجمعة لجميع شرائط وجوده مع ارتفاع جميع موانعه ، بحيث تكون مستلزمة لوجوده ، ولا يتخلّف هو عنها ، فكما يمكن أن يتحقّق أصل ذلك الوجوب بالغير بالنسبة إلى كلّ واحد من أجزاء العالم ، وكذا بالنسبة إلى المجموع من حيث هو مجموع ، كذلك يمكن أن يتحقّق أبديّة ذلك الوجوب الغيري بالنسبة إليهما إذا فرضت العلّة التامّة المستلزمة لذلك المعلول ، ـ أي المجموع أو كلّ جزء ـ أبديّة دائمة ، إذ لا مانع من ذلك لا من جهة ذات الممكن ، ولا من جهة فرض تحقّق العلّة التامّة له كذلك.

فعلى هذا فكلّ جزء من أجزاء العالم سواء في إمكان حصول الوجوب الغيري له وأبديّته ، وكذا المجموع إذ ليس هو سوى جميع الأجزاء ، والهيئة التركيبيّة اعتباريّة هنا ، ليس أمرا موجودا خارجيا آخر ، وعلى تقدير تسليم كونها كذلك فهي أيضا من أجزاء العالم كما هو المفروض ، وهذا الذي ذكرنا إنّما هو بحسب الجليل من النظر والفحص الأوّلي.

وأمّا ما يقتضيه الدقيق من النظر والفحص الثانوي ، فهو أنّه لو كان شيء من أجزاء العالم بحيث قام دليل عقليّ أو سمعيّ على أبديّته ، سواء دلّ مع ذلك على امتناع زواله مطلقا ، أو لم يدلّ عليه ، بل على وقوع أبديّته بالفعل من غير الدلالة على امتناع الفناء واستحالته ، لكان ينبغي أن يحكم عليه مع إمكان الأبديّة بوقوع الأبديّة بالفعل ، مع استحالة الفناء والزوال ، أو بدونها ، كما أنّه لو كان شيء من أجزاء العالم بحيث قام دليل عقليّ أو سمعيّ قطعيّ على عدم إمكان أبديّته ، وعلى وجوب زواله وفنائه ، ينبغي أن يحكم عليه به ، وهذا مثل أنّا لو قلنا بأنّ الحركة والزمان من أجزاء العالم ، وحقيقتهما التقضّي والانصرام ، بحيث كلّما تجدّد جزء انقضى جزء وانعدم ، لكان ينبغي لنا أن نحكم بعدم إمكان أبديّة تلك الأجزاء المعيّنة والقطعات المتصرّمة المخصوصة ، وإن كنّا نحكم بأبديّة نوعهما لو قلنا بها.

١٠٧

ومثل أنّا لو جوّزنا وجود قديم زماني أو دهري من جملة أجزاء العالم ، سواء كان جوهرا مجرّدا أو جسما ، كما ذهب إليه الفلاسفة ، لكان ينبغي لنا أن نحكم بوقوع أبديّته وقوعا يمتنع زواله ، حيث إنّ زواله يستلزم محالا ، وهو انعدام الواجب لذاته ، كما اشتهر بينهم من أنّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه.

وبيانه : أنّ الممكن القديم ، لو جاز وجوده لكان علّته ذات الواجب لذاته بذاته ، من غير أمر آخر له دخل في العليّة ، إذ لو كان هناك أمر آخر له مدخل في العليّة سواء كان شرطا أو جزءا فإمّا أنّ يكون ذلك الأمر الآخر حادثا وهو محال ، إذ الحادث لا يكون له دخل في علّية وجود القديم ، أو يكون قديما ، فننقل الكلام إلى ذلك الأمر القديم وعلّته ، فينتهي إلى أن يكون علّته التامّة ذات الواجب تعالى بذاته. وحيث إنّ زوال المعلول إنّما يكون بزوال علّته التامّة أو جزء علّته أو شرطها ، فلو فرض زوال ذلك الموجود القديم كان مستلزما لزوال الواجب لذاته ، الذي هو علّته التامّة بذاته ، وهو محال. تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

١٠٨

في أبديّة الصادر الأوّل من أجزاء العالم

ومثل أنّا إذا قلنا بوجود صادر أوّل ، كما قال به الفلاسفة ، وكذا الإسلاميّون ، سواء قيل بكونه جوهرا مجرّدا أو مادّيا ، وسواء قيل بكونه قديما أو حادثا ، لكان ينبغي لنا أن نحكم عليه بما حكمنا على القديم. أمّا إذا قيل بقدمه ، فظاهر كما مرّ وجهه. وأمّا إذا قيل بحدوثه الزماني كما هو رأي المتكلّمين ، أو بحدوثه الدهري كما هو رأي بعض أعاظم العلماء (١) وذهبنا نحن إليه وحقّقناه في رسالتنا الموضوعة لبيان حدوث العالم (٢) ، وقلنا مع ذلك بتجرّده عن المادّة في ذاته ، فللدليل الذي سيأتي ذكره فيما بعد على امتناع طريان الفساد على المجرّدات. وأيضا سواء قلنا بتجرّده أم لم نقل به ، نقول إنّ الصادر الأوّل حيث فرض كونه صادرا أوّلا يكون مستندا إلى ذات الواجب تعالى بلا واسطه شيء آخر ، فعلّته ذاته تعالى بذاته ، فلو جاز انعدامه ـ والحال أنّ انعدام المعلول إنّما يكون بانعدام علّته التّامة ـ كان مستلزما لزواله تعالى ، وهو محال.

فإن قلت : إذا فرض الصادر الأوّل حادثا زمانيّا أو دهريّا ، لكان ينبغي أن يقال كما حقّقته أنت في تلك الرسالة أيضا ، بأنّ علّة تخصيص وجود ذلك الصادر الأوّل بذلك الجزء من الزمان الموهوم أو الدهر ، ـ والحال أنّ كلّ أجزائهما في الأزل متساوية في إمكان وجوده فيه ، والفاعل الموجد له تامّ الفاعليّة والقدرة والاختيار ، والوجود خير محض ، لا مانع منه ـ لعلّها اقتضاء العناية الأزلية والعلم بالأصلح وجود ذلك الصادر الأوّل في ذلك الجزء الذي وجد فيه. فعلى هذا فجاز أن يكون العلم بالأصلح اقتضى وجوده فيما

__________________

(١) كالسيّد الداماد رحمه‌الله.

(٢) توجد نسخة من هذه الرسالة في مكتبة مدرسة المروي بطهران.

١٠٩

وجد فيه ، وكذا بقاء وجوده في قطعة من الزمان أو الدهر ، وأنّه حيث انقضت تلك القطعة وتصرّمت ، اقتضى انعدامه ، لكون وجوده بعد ذلك منافيا للأصلح. وهذا ممّا ليس فيه توهّم انعدام الواجب لذاته ، فإنّ العلم بالأصلح جاز أن يكون مقتضياته مختلفة باختلاف الأزمنة ومنافيا بعضها لبعض ، وبعبارة اخرى أنّ العلّة التامّة لوجود الممكن لمّا كانت مركّبة من الوجود والعدم ، ـ أي من وجود علّته الفاعلة له ، ووجود جميع شرائط وجوده ، ومن عدم الموانع منه ـ فجاز أن يكون ذلك المانع من وجوده الذي فرض ارتفاعه أوّلا قد حدث بعد انقضاء قدر من زمان وجوده بحدوث علّته ، ويكون مانعا من وجوده ، فحينئذ يمكن أن يكون انعدام الصادر الأوّل بانعدام علّته التامّة ـ أي بحدوث المانع الذي وجوده مستلزم لارتفاع عدمه ـ وهذا الإيراد على هذا التقرير يمكن أن يورد في القديم أيضا ، ولا يلزم منه في الصورتين انعدام الواجب تعالى بوجه ، فما الجواب؟

قلت : من المستبين عند العقل السليم ، أنّ العلم بالأصلح لا يمكن أن يكون جزافيّا ، بل ينبغي أن يكون متعلّقا بما هو أصلح في الواقع وفي نفس الأمر. فعلى هذا نقول : إذا اقتضى العلم بالأصلح وجود الصادر الأوّل في وقته الذي وجد فيه ، ينبغي أن يكون وجوده فيه أصلح في الواقع من عدمه ، وكذا من وجود ما سواه مطلقا فيه ، وكذا من وجوده في غير ذلك الوقت مطلقا ، وحيث فرض كونه صادرا أوّلا يلزمه أن يكون ذلك لخصوصيّة فيه ، وما هي إلّا لكون وجوده أشرف وأكمل من وجود غيره من الممكنات التي يمكن أن توجد بعده مطلقا ، فإنّ علّة الشرف والكمال هي الدنوّ من الحقّ المتعال ، وأنّ كلّ ما كان متقدّما في الوجود فهو أوفر اختصاصا به تعالى ، ولا سيّما إذا قلنا بترتيب وجود الممكنات ، وقلنا بتقدّم صادر الأوّل على غيره بالعلّيّة أو بالطبع أو نحو ذلك ، وبكونه واسطة في إفاضة الفيض كما حقّق في موضعه.

وبالجملة ينبغي أن يكون وجوده اكمل من وجود غيره مطلقا ، ويكون وجود غيره أنقص منه مطلقا ، حتّى وجود ضدّه الذي هو مانع عن وجوده ، ورفعه من جملة رفع الموانع عنه ، ولسنا نعني بذلك أكمليّة وجود هذا في ذلك الوقت الذي فرض وجوده فيه من وجود ما سواه مطلقا فيه ، بل نعني به أنّ وجوده في كلّ جزء فرض من أجزاء الأزل والأبد ، أكمل من وجود ما سواه من الممكنات فيه مطلقا ، فإنّ كونه صادرا أوّلا يقتضي

١١٠

كونه كذلك.

ثمّ إنّه لو اقتضى العلم بالأصلح انعدام ذلك الصادر الأوّل في وقت بعد وقت وجوده وبقائه ، ـ والحال أنّ تعلّق الجعل بالعدم بما هو عدم مما لا معنى له ـ لم يكن ذلك إلّا لاقتضائه حينئذ وجود ما وجوده أصلح في الواقع وأشرف وأكمل من وجود الصادر الأوّل مطلقا بعد ما كان وجود ذلك الموجود الحادث أنقص منه مطلقا ، وما يكون وجوده منافيا لوجوده ، مستتبعا لرفعه بالعرض حتّى يرتفع بوجوده وجوده ، فلم يكن وجود الصادر الأوّل أصلح وأشرف وأكمل من وجود غيره مطلقا ؛ هذا خلف.

لا يقال : إنّ ما ادّعيت من أنّ الصادر الأوّل أشرف وأكمل من كلّ ما سواه من الممكنات ، ينافي ما ورد من النصوص الدالّة على أنّ نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أشرف الممكنات وأكملها ، مع أنّه ليس بالصادر الأوّل ، بل هو خاتم الأنبياء عليهم‌السلام. وإن اوّلت ذلك بأنّ المراد أنّ روحه الشريفة ونفسه المقدّسة أشرف من الكلّ وأكمل ، وهي الصادرة عن البارئ تعالى على ما دلّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أوّل ما خلق الله نوري» ، (١) وإن كان بدنه الشريف صادرا عنه تعالى أخيرا ، وادّعيت أنّه يدلّ عليه أيضا حديث : «خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام». (٢) وكذا حديث : «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين» ، (٣) فهذا ينافي ما سيجيء بيانه من أنّ النفس الإنسانيّة حادثة بحدوث البدن.

لأنّا نقول : لا منافاة ، لأنّه يمكن التأويل بأنّ روح القدس الذي ورد في الأحاديث أنّه أيّده صلى‌الله‌عليه‌وآله ... (٤) لأنّه أشرف من الكلّ وأشرفيّته أيضا يرجع إلى أشرفيّته صلى‌الله‌عليه‌وآله لكونه مؤيّدا خادما له ، وهذا أيضا في مرتبة البدوي وأمّا في مرتبة العودي ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله أشرف من روح القدس أيضا لاكتسابه معارف وكمالات ، ليست هي لروح القدس ، سواء سمّي روح القدس بالروح أو بالعقل أو بالنور المحمّدي صلى‌الله‌عليه‌وآله ... (٥).

وأيضا لو لم يكن ذلك الأمر الحادث الآخر ضدّا للصادر الأوّل ، لم يكن وجوده منافيا لوجوده ، فينبغي أن يكون ضدّا له ، حتّى يكون وجوده مستلزما لانعدامه ، وهذا لا يتصوّر هنا ، لكون المفروض أنّ الصادر الأوّل موجود أصيل عيني ، لا موجود بالعرض ،

__________________

(١) البحار ١٥ : ٢٤ ، الطبع الحديث.

(٢) البحار ٥٨ : ١٣١ ـ ١٥٠.

(٣) البحار ١٦ : ٤٠٢ ، الطبع الحديث.

(٤) هنا كلمات لا تقرأ.

(٥) هنا قد امّحى من النسخة سطران أو أقلّ.

١١١

ولا اعتباري ، سواء قيل بكونه جوهرا مجرّدا أو مادّيا ، وبالجملة المفروض كونه جوهرا عينيّا. ومن المقرّر عندهم أن لا ضدّ للجواهر مطلقا إذ من المستبين أنّ الشيئين المتنافيين اللذين يكون وجود أحدهما سببا لارتفاع الآخر ، ما لم يكن بينهما تضادّ يكون منشأ لذلك ـ سواء كان ذلك هو غاية الخلاف بينهما كما في الضدّين الحقيقيّين ، أم لا كما في الضدّين المشهوريّين ـ لم يكن وجود أحدهما منشأ لرفع الآخر ، وهذا لا يتصوّر إلّا فيما إذا كان هناك موضوع أو محلّ يمكن توارد ذينك الأمرين الضدّين وتعاقبهما على ذلك الموضوع أو المحلّ ، ولا يمكن اجتماعهما فيه ، ويكون وجود أحدهما فيه مزاحما لوجود الآخر فيه ومنافيا له ، فإنّ ما لا موضوع له أو محلّ ، لا يتصوّر فيه ذلك ، كما أنّ ما له موضوع أو محلّ وكان موضوعاهما ومحلّاهما متغايرين لا يتصوّر فيه ذلك ، ولذلك قالوا بأنّه لا تضادّ بين الجواهر ، ولا بينهما وبين غيرها ، بل انّه إنّما يتحقّق بين الأعراض التي يمكن أن يكون لهما موضوع واحد ، كما هو المتّفق عليه بينهم ، وجوّز بعضهم تحقّقه أيضا بين الصور الحالّة في محلّ واحد.

وحيث تحقّقت أن لا ضدّ للجواهر ، ظهر لك أنّه على تقدير تسليم إمكان تعلّق الجعل والإيجاد بالعدم ـ أي فناء الجواهر وكونه أمرا ثبوتيّا أيضا مع أنّه غير معقول ـ لا يمكن أن يكون الفناء ضدّا للصادر الأوّل أو القديم ، بل للجواهر مطلقا ، لأنّ الفناء على ذلك التقدير لا يخلو عن أن يكون قائما بالذات أو قائما بالغير ، وعلى الأوّل يكون الفناء جوهرا لا موضوع له ولا محلّ ، والمفروض أنّ الجوهر الآخر الذي فرض كون الفناء فناء له هو أيضا كذلك فلا تضادّ بينهما. وعلى التقدير الثاني وإن كان الفناء ذا موضوع أو محلّ ، لكنّ الجوهر الآخر ليس كذلك ، فلا تضادّ أيضا ، إذا المتضادّان ينبغي أن يكون كلّ منهما ذا موضوع أو محلّ يمكن أن يتواردا عليه ولا يجتمعا فيه ، مع أنّه يلزم على تقدير إثبات الفناء محذور آخر ، وهو أنّه على تقدير عدم الفناء ثمّ وجوده ثانيا إمّا أن يكون عدم لذاته ، فيلزم انقلاب ماهيّته من الامتناع الذاتي إلى الإمكان أو الوجوب الذاتيّين ، وهذا محال. وأمّا أن يكون لغيره أي بوجود ضدّه ، فيلزم التسلسل وهذا أيضا محال.

وحيث أحطت خبرا بما حقّقناه ظهر لك الجواب عن السؤال على التقرير الأوّل وهو ظاهر ، ومنه يظهر الجواب عن السؤال على التقرير الثاني أيضا ، فإنّ ذلك المانع المفروض

١١٢

كونه مانعا من وجود الصادر الأوّل لا يكون إلّا ضدّا له ومنافيا لوجوده ، وقد عرفت أنّه لا يتصوّر هنا. وكذا يظهر منه الجواب عن السؤال إذا اورد في القديم ، إذ القديم مع قدمه يكون صادرا أوّلا أيضا ، والمفروض كونه أيضا موجودا أصيلا عينيّا جوهرا مجرّدا أو ماديّا لا ضدّ له ، فتدبّر.

فإن قلت : إنّ ما ذكرت من أنّ المانع منحصر في الضدّ غير مسلّم ، فإنّ المتقابلين اللّذين كلّ منهما مستلزم لرفع الآخر قد يكونان ضدّين وقد يكونان سلبا وايجابا وقد يكونان عدما وملكة ، فجاز أن يكون فيما نحن فيه أحد من المتقابلين الأخيرين ، وفيه المطلوب أيضا.

قلت : إنّ الصادر الأوّل والقديم لمّا فرض كونهما موجودين عينيّين فهما لا يكونان عدما البتّة ، فبقي أن يكون ما فرض كونه مانعا عن وجودهما عدما ، وقد مرّت الإشارة إلى أنّ العدم بما هو عدم لا يمكن أن يكون متعلّقا للجعل والإيجاد أوّلا وبالذات حتّى عدم الملكة الذي يقال إنّه وجوديّ باعتبار ، فإنّ العمى مثلا إنّما يكون أوّلا وبالذات بحدوث صورة وهيئة وشكل في العين يتبع ذلك عدم البصر ، وحينئذ فلا يمكن أن يقتضي العلم بالأصلح إيجاد ما هو عدم لهما بالذات مطلقا سواء ذلك العدم عدم الملكة أو سلبا بحتا صرفا ، بل ينبغي أن يكون بإيجاد أمر وجودي يكون هو مستتبعا لعدمهما ومستلزما له ، وما هو إلّا ضدّهما ، وقد عرفت أن لا ضدّ للجواهر. وعلى تقدير تسليم إمكان تعلّق الجعل أوّلا وبالذات بالعدم ، فهذا العدم إن فرض كونه عدم ملكة ، فينبغي أن يفرض الصادر الأوّل أو القديم ملكة ، ومن المقرّر عندهم أنّ عدم الملكة وإن كان عدما باعتبار ، لكنّه وجودي باعتبار ، ومعناه عدم شيء من شأن نوعه أو جنسه تلك الملكة ، فينبغي أن يكون هناك موضوع أو محلّ قام به استعداد تلك الملكة ووجودها بحيث يمكن أن يتوارد عليه استعداد عدمها ، وكذا نفس ذلك العدم ، فينبغي أن يكون هناك موضوع أو محلّ يتواردان عليه ، ولا يمكن اجتماعهما فيه ، والحال أنّ الصادر الأوّل أو القديم حيث فرضا جوهرا مجرّدا أو جسما ليس لهما موضوع ولا محلّ ، فتبصّر.

وإن فرض كون ذلك العدم سلبا محضا ونفيا صرفا فهو من حيث هو سلب ونفي وإن لم يقتض موضوعا ، ولا وجوده ، حيث إنّ السلب يصدق بانتفاء الموضوع أيضا ، لكنّه هنا

١١٣

حيث كان سلبا لشيء وهو وجوده الصادر الأوّل أو القديم ، واقتضى مسلوبا ومسلوبا عنه اقتضى أن يكون متعلّقا به ، فنقول إنّه حينئذ إمّا أن يكون قائما بالذات أو قائما بالغير ، وذلك الغير إمّا أن يكون ذلك الشيء المسلوب والمسلوب عنه أو أن يكون غيرهما.

وعلى التقدير الأوّل يلزم أن يكون السلب أمرا عينيّا وموجودا في الخارج أصيلا إذ القائم بالذات لا يكون إلّا كذلك وهو محال ، إذ السلب على تقدير تسليم إمكان كونه مجعولا بالذات وفرض وجوده لا يمكن أن يكون موجودا خارجيّا عينيّا أصيلا ، لمنافاة هذا الفرض لفرض كونه سلبا.

وأيضا فهو على هذا التقدير لا يكون سلبا لما فرض سلبه ، إذ سلب شيء ينبغي أن يكون متعلّقا به وقائما به ، نحوا من التعلّق والقيام ، والمفروض خلافه.

ولو فرض مع قيامه بالذات قيامه أيضا في وجوده بذلك الشيء ، حتّى يكون مع قيامه بالذات قائما بالغير أيضا لزم اجتماع المتنافيين ، لأنّ القيام بالغير في الوجود والقيام بالذات فيه متنافيان تنافيا بالذات.

وعلى التقدير الثاني ـ أي أن يكون السلب قائما بالغير وذلك الغير هو ذلك المسلوب أو المسلوب عنه ـ يلزم أن يكون ذلك الغير من جهة كونه موضوعا أو محلّا للسلب موجودا حتّى يصحّ قيامه به ، إذ وجود القائم بالشيء تابع لوجود ذلك الشيء ، ومن جهة كونه سلبا له أو عنه معدوما ، وهذا أيضا اجتماع المتنافيين ، إذ يلزم أن يكون شيء واحد موجودا ومعدوما معا وهو محال. اختلاف الجهة هنا ، لا يمكن أن يكون منشأ لاجتماع الوجود والعدم ، إذ هما متباينان بالذات لا يجتمعان في شيء أصلا.

وعلى التقدير الثالث ـ أعني أن يكون السلب قائما بغير ما فرض تعلّق السلب به ـ فمع أنّه يلزم اجتماع الوجود والعدم في ذلك الغير الذي فرض كون السلب قائما به بتقريب ما ذكر وهو محال ، يلزم أنّه حيث لا تعلّق له ولا قيام بما فرض سلبه ورفعه بوجه بل بأمر آخر كما هو المفروض ، لا يكون منشأ لرفع ما فرض رفعه إذ لا تعلّق له به أصلا ؛ هذا خلف.

وبما ذكرنا ظهر أنّ الفناء سواء فرض أمرا ثبوتيّا ، أو عدم ملكة ، أو سلبا محضا ، لا يمكن أن يكون ضدّا للجواهر ، وكذا لا يمكن أن ينتفي به جوهر ما من الجواهر ، فضلا عن ما نحن بصدده ، أي الصادر الأوّل أو القديم ، فيظهر منه بطلان ما ذهب إليه جماعة من المتكلّمين ،

١١٤

من أنّ الله تعالى يخلق الفناء ، فيفني به الأجسام لكونه ضدّا ومنافيا لها ، سواء قيل بأنّه يخلق لكلّ جوهر فناء على حدة كما ذهب إليه أبو علي منهم ، أو أنّ فناء واحدا يكفي لإفناء الكلّ كما ذهب إليه أبو هاشم منهم ، وسواء كانوا اعتبروا الفناء ضدّا اصطلاحيّا للجواهر ، كما هو ظاهر المنقول عنهم ، أو أمرا منافيا للجواهر مطلقا بحيث يشمل عدم الملكة أو السلب أيضا ، فتبصّر.

فإن قلت : إنّا لا ندّعي بقولنا : «إنّه يمكن أن يكون العلم بالأصلح ، اقتضى انعدام شيء بعد وجوده ، كالصادر الأوّل أو القديم» أنّه يمكن أن يوجد عدم ذلك وفناؤه بعده كما هو مبنى ما ذكرت ، وأقمت الدليل على عدم إمكانه ، بل ندّعي أنّه يمكن أن يقتضي العناية الأزليّة والعلم بالأصلح قطع الفيض والوجود عن ذلك الشيء.

والحاصل أنّ الممكن لمّا كان في وجوده وبقائه محتاجا إلى المؤثّر كما هو المحقّق في موضعه ، سواء كان البقاء عبارة عن أمر آخر سوى أصل الوجود الأوّل ، أي عن استمراره ، أو عبارة عن الوجود الأوّل بحيث يبقى زمانين أو أكثر ، وكان وجوده وبقاؤه جميعا مفاضين بإفاضة الجاعل له الموجد إيّاه ، فجاز أن يقتضي العلم بالأصلح إبقاءه في حين ، ثمّ يقتضي قطع الإفاضة والجعل عنه وينعدم ، وهذا وإن كان فيه انعدام ذلك الشيء ، لكن ليس بجعل عدمه وفنائه ، بل بعدم جعل وجوده وعدم إفاضة بقائه ، وفي هذا ليس شيء من المفاسد التي ذكرتها في الجواب عنه.

قلت : قد ذكرنا أنّ العلم بالأصلح لا يكون جزافيّا ، بل ينبغي أن يكون متعلّقا بما هو أصلح في الواقع وفي نفس الأمر ، وأن يكون قطع الإفاضة أصلح في نفس الأمر حين فرض القطع ، كما كانت إفاضة الوجود والبقاء أصلح في الواقع حين فرضهما. فهذا القطع وهذا الذي فرض كونه أصلح في ثاني الحال كلاهما حادثان لم يكونا قبل. ومن المقرّر أنّ الحادث إنّما يكون بسبب حادث بسببه حدث قطع الإفاضة وحصول الأصلح الثاني ، وما هو الّا أحد أسباب زوال المعلول ، ومن المقرّر أنّ زوال المعلول إمّا بزوال علّته التامّة أو بزوال جزئها أو شرطها. وبعبارة اخرى إمّا بزوال علّته الفاعليّة ، أو بزوال صورته ، أو مادّته إن كان له صورة ومادة ، أو بزوال شرط وجوده إن كان له شرط ، أو بزوال غايته إن كانت له غاية وكان صادرا عن الفاعل المختار ، كما يقولون إنّ ذات البارئ تعالى وإن كان

١١٥

فاعلا تامّ الفاعليّة فيّاضا على الإطلاق لا يفعل ما يفعله لعوض ولا لغرض دعاه إلى الفاعليّة ، لكنّه لمّا كان فاعلا مختارا عليما حكيما ، يترتّب على فعله مصالح ومنافع ، لها ارتباط بنظام الكلّ ، هي غايات لفعله وإن لم تكن علّة غائيّة له وغرضا ، أو بزوال الجميع ، ومن المستبين عدم إمكان تحقّق شيء من هذه الامور فيما نحن فيه ، أي الصادر الأوّل أو القديم ، لأنّ الفاعل هو الله تعالى وهو واجب الوجود لذاته ، والمفروض أن ليس لهما شرط وجود سوى ذات الواجب لذاته العليم الحكيم كما يقولونه في الحوادث اليوميّة من الدورات الفلكيّة والأوضاع الكوكبية ونحو ذلك وكذلك الصادر الأوّل أو القديم لو فرض كونهما مجرّدين عن المادّة ، ليس لهما مادّة وهو ظاهر ولا صورة إذ صورة المجرّد ذاته بذاته ، فبقي أن يكون زوالهما لزوال غايتهما ، سواء فرضا مجرّدين أو ماديّين أو لزوال صورتهما أو مادّتهما لو فرضا جسمين ماديّين ، وهذان أيضا ممتنعان ، أمّا زوال الغاية فلأنّ غاية وجودها كما حقّق في موضعه هي التشبّه بمبدإ الكلّ جلّ شأنه أو معرفته تعالى ، أو كون الوجود خيرا محضا أو نحو ذلك. وشيء من هذه لا يمكن أن ينعدم ، أمّا كون الوجود خيرا محضا فظاهر ، لأنّ خيريّته بالذات ، ولا يمكن أن يختلف (كذا) ذاته ولا أن ينقلب إلى غيره مع كون الفاعل له خيرا بالذّات فيّاضا على الإطلاق ، وكذا التشبّه بالمبدإ ومعرفته لا يمكن أن ينفكّا عن ذات ما هو ذو شعور ومعرفة قابل لتحصيل التشبّه والمعرفة بالغا ما بلغ كالصادر الأوّل الذي قد عرفت أنّه ينبغي أن يكون أشرف الموجودات وأكملها ، أو القديم الذي هو على تقدير فرض وجوده ينبغي أن يكون كذلك.

وبالجملة ينبغي أن يكون حصول المعرفة والتشبّه فيهما أتمّ وأكمل منهما في كلّ ما سواهما من الممكنات ، والحال أنّ مراتب التشبّه والمعرفة غير متناهية ، فإنّ كلّ مرتبة منهما إذا حصلت يمكن أن يحصل بعدها مرتبة اخرى أعلى منها ، حيث لا يقفان إلى حدّ ومرتبة ، والمفروض أن لا مانع من ذلك لا من جهة المتشبّه ولا من جهة المتشبّه به ولا من جهة العارف ولا من جهة المعروف ، بل انّه كلّما ازداد التشبّه والمعرفة يكون الداعي إلى تحصيلهما أقوى ، حيث إنّه يكون العارف والمتشبّه أكمل ، وبهجته وسعادته أتمّ وأوفر ، فما دام ذات العارف والمتشبّه موجودا لا يمكن أن ينفكّ عنه التشبّه والمعرفة ، فكيف يمكن زوالهما حتّى ينعدما بزوالهما ، وينقطع إفاضة الوجود عنهما ، مع أنّ إفاضة التشبّه

١١٦

والمعرفة خير بالذات كإفاضة الوجود ، ومع أنّ الفاعل جلّ شأنه وتعالى خير بالذات فيّاض على الإطلاق. نعم زوال المعلول بزوال غايته إنّما يتصوّر فيما أمكن زوال تلك الغاية ، كما في الحوادث الزمانيّة أو الدهريّة غير الصادر الأوّل ولا سيّما المادّية منها ، مثل أنّا لو قلنا ـ كما هو رأي بعض الحكماء الإلهيّين ـ بأنّ غاية وجود بدن الإنسان الذي كلامنا في المعاد فيه ، وغاية تعلّق النفس به ، هي أن تستكمل به النفس ، فيما يحصل به سعادتها أو شقاوتها ، ثمّ تنال سعادتها أو شقاوتها ، وانّها إذا استكملت به ولم تحتج إلى البدن في استكمالها تزول تلك الغاية وتنتفي ، وبزوالها يعرض للبدن الفناء والموت ، إمّا بأن ينقطع عنه فيض الفاعل الفيّاض أو بأن ينقطع عنه علاقة النفس التي هي منشأ حياته بل حياته. وبالجملة فموته وانعدامه لزوال غاية وجوده ، أي لترتّب الغاية المقصودة منه عليه وحصولها بالفعل ، وانّه لو بقي بعد ذلك لا يكون لوجوده تلك الغاية المقصودة المترتّبة عليه. وهذا في الموت الطبيعي ، وأمّا في غير الطبيعي منه كالقتل ، فالقاسر يجعل البدن بحيث لا يمكن أن يصير آلة لاستكمال النفس به ، فينقطع عنه تلك الغاية قسرا ، وينقطع عنه فيض الفاعل الفيّاض ، وكذا علاقة النفس به لانقطاع غايته. وأمّا زوال الصورة ، أو المادّة على تقدير تجويز كون الصادر الأوّل أو القديم مركّبا منهما ، فامتناعه يعلم من البيان الذي ذكرنا سابقا ، حيث إنّ زوالهما فيما نحن فيه لا يمكن إلّا بحدوث ضدّهما الذي هو أصلح في الواقع منهما. وكما أنّه لا ضدّ كذلك ولا مطلقا لذات الصادر الأوّل أو القديم إذا فرضا جوهرين مجردين ، كذلك لا ضدّ مطلقا لمادّتهما مطلقا ، وإن فرضناها لهما حيث إنّ المادّة لا محلّ لها ولا موضوع ، وكذلك لا ضدّ لصورتهما وإن جوّزنا إمكان الضدّ للصورة لكونها ذات محلّ ، إذ الضدّ لصورتهما ينبغي أن يكون أصلح في الواقع من صورتهما ، والحال أنّهما ينبغي أن يكونا بمادّتهما وصورتهما إن كانتا لهما أكمل الموجودات الممكنة حتّى من الضدّ الذي يمكن فرضه لصورتهما ؛ هذا خلف.

نعم زوال الشيء لحدوث ضدّه يمكن فرضه في الأجسام العنصرية الكائنة الفاسدة كما في بدن الإنسان أيضا لو قلنا ـ كما هو رأي الطبيعيّين منهم ـ أنّ سبب الموت هو استيلاء الحرارة على رطوبات البدن فتفنيها ، لكونها ضدّا لها ثمّ تفنى هي بفنائها ، ولهذا قالوا إنّ ما هو سبب الحياة هو سبب الموت أو قلنا بأنّ سببه أنّ البدن بورود واردات غريبة

١١٧

عليه ينحرف مزاجه عن الاعتدال الذي كان حاصلا له ، فيتفرّق اتّصاله لتداعي أجزائه إلى التفرّق بالذات لو لا الجامع المانع عنه فينعدم اتّصاله بطروء ضدّه أي التفرّق ويعرض له الموت ، وهذان أيضا في الموت الطبيعي ظاهر ، وكذلك في غير الطبيعي منه ، لأنّهما يمكن أن يحصلا بفعل القاسر أيضا والله أعلم.

١١٨

في أبديّة فرد ما من أجزاء العالم

وحيث تحقّقت ما فصّلناه ، تبيّنت أنّ الصادر الأوّل من أجزاء العالم أو القديم إن جوّزنا وجوده وإن كانا من حيث ذاتهما ومن جهة كونهما ممكنين بالذات يجوز طريان الفناء والعدم عليهما ، لكنّهما باقيان أبديّان ، يمتنع عليهما الفناء من حيث وجوب وجودهما بغيرهما. فيظهر منه أنّ العالم بجملته أيضا وإن كان يمكن طريان الفناء عليه من جهة ذاته ، لكنّه يمتنع ذلك عليه بالنظر إلى وجوب وجوده بغيره ، لأنّه لو جاز عليه ذلك ، أي على مجموع أجزائه من حيث المجموع ، بالنظر إلى غيره ، لجاز طريان الفناء والعدم على الصادر الأوّل والقديم أيضا ، لأنّهما من جملة أجزاء العالم أيضا ، فيظهر منه أنّ فردا ما من أجزاء العالم أبديّ الوجود يمتنع عليه العدم امتناعا غيريّا وهو المطلوب. وأيضا نقول لا يخفى أنّ العالم بجملته معلول للواجب تعالى شأنه ، سواء قلنا بأنّ كلّه معلول له بلا واسطة وإن كان لبعضه شرط ، أو بأنّ بعضه معلول له بواسطة أو شرط ، وبعضه بلا واسطة ولا شرط ، فحينئذ لو جاز طريان الفناء على مجموع العالم بجملته لجاز طريانه على ذلك البعض من المعلول الذي بلا واسطة ولا شرط من جملة اجزائه ، وقد عرفت أنّه ممتنع بالنظر إلى العلم بالأصلح ، وكون ذلك الصادر الأوّل بلا واسطة أصلح من غيره مطلقا ، وأنّه لا يمكن له ضدّ. وعلى تقدير تسليم أنّه يجوز أن يقتضي العلم بالأصلح طريانه عليه لجهة لا نعرفها وتسليم أنّه يمكن له ضدّ ، فهذا الضدّ الحادث أيضا من أجزاء العام البتّة ، فيلزم أن يكون هو أبديّ الوجود مثل الصادر الأوّل وفيه المطلوب أيضا. ولو سلّمنا طريان الفناء على ذلك الضدّ أيضا فلا يمكن أن يكون ذلك إلّا لحدوث ضدّه وهكذا فيلزم التسلسل المحال ، ومع ذلك ففيه المطلوب. إذ على هذا التقدير يكون تلك الأضداد المتسلسلة

١١٩

غير المتناهية أبديّة الوجود بنوعها ، فتدبّر.

لا يقال : يمكن أن يكون العلم بالأصلح اقتضى فناء الصادر الأوّل ، بل فناء العالم بجملته في وقت من الأوقات كوقت قيام الساعة بقطع فيض الوجود عنها ، وأن يكون الحكمة في ذلك إظهاره جلّ شأنه عظمته وجبروته وتفرّده بالعزّ والبقاء وقهر خلقه بالموت والفناء كما دلّ عليه الآيات والأخبار ، كقوله تعالى :

(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ). (١)

لأنّا نقول : إن هذا الإظهار أيضا يقتضي أن يكون هناك من يظهر عليه ذلك ، وهو أيضا من أجزاء العالم كما أنّ قوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) يقتضي أن يكون هناك مملوك ويوم ، وهما أيضا من أجزاء العالم فهذا أيضا يدلّ على أنّه لا ينعدم العالم بجملته ، بل يبقى منه شيء في ذلك الوقت أيضا كما دلّ عليه قوله تعالى :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٢)

حيث استثنى من شاء الله من ذلك وقد ذكر المفسّرون أنّ المراد بمن شاء الله في الآية الملائكة الأربعة أو الشهداء ، وحينئذ نقول إن كان الصادر الأوّل داخلا في من شاء الله ففيه المطلوب ، وكذا إن لم يكن داخلا فيهم لأنّ دلالة الآية على بقاء بعض من الخلق وأبديّته ظاهرة وهو المطلوب أيضا ، وإن لم يكن ذلك البعض هو الصادر الأوّل.

وبالجملة فهذا الإظهار لا يتوقّف على طروء الفناء على الخلق أجمعين ، ويمكن أن يكون بطروئه على غير المستثنى ولعلّ الصادر الأوّل من المستثنى ، كيف وقد عرفت أنّه أشرف الممكنات ، كما لا يتوقّف على طروء الفناء والعدم بالمرّة على غير المستثنى أيضا ، بل يمكن أن يكون ذلك بالنسبة إلى ذوي الأنفس بطروء الموت أي بتلاشي أجزاء أبدانهم ، وقطع علاقة نفوسهم عن أبدانهم ، وبالنسبة إلى الأجسام غير ذوات الأنفس بتبدّل الصور وتغيّر الهيئات والصفات والحالات ونحو ذلك ، كما قال الله تعالى :

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ). (٣)

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ). (٤)

__________________

(١) غافر : ١٦.

(٢) الزمر : ٦٨.

(٣) الأنبياء : ١٠٤.

(٤) إبراهيم : ٤٨.

١٢٠