نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-357-284-6
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٤٧٦

في الدين ، ففي قوله سبحانه : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ).(١) ضابطة كلية تدفع الفقيه إلى الحكم بقضاء مطلق الدين من غير فرق بين ديون الناس وديونه سبحانه.

ومنه يظهر معنى قوله : «وقس الأمور برأيك».

وأمّا إنكار ابن عباس على زيد بن ثابت في عدم حجبه الأخ بالجد ، فإنّما هو لأجل أنّ ابن الابن ابن ، وأب الأب أب ، فالأوّل يدخل في قوله سبحانه : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ).(٢)

والثاني يدخل في قوله تعالى : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ)(٣). فيكون الجدّ حاجبا للأخ لكونه مصداقا ادّعائيا للأب.

وأمّا الثالث : أعني اتّفاقهم على الرأي فلم يعلم أنّ المراد بالرأي هو القياس ولم يثبت أنّ الرّأي مساوق للعمل بالقياس ، بل لعلّهم اعتمدوا فيه على ضرب من الاستدلال والتأمّل.

وبشأن تعويل بعض الصحابة على الرأي ، يقول الشيخ المظفر : يجب الاعتراف بأنّ بعض الصحابة استعملوا الاجتهاد بالرأي وأكثروا ، بل حتّى فيما خالف النص تصرّفا في الشريعة باجتهاداتهم ، والإنصاف أنّ ذلك لا ينبغي أن ينكر من طريقتهم ، ولكن لم تكن الاجتهادات واضحة المعالم عندهم من كونها على نحو القياس ، أو الاستحسان ، أو المصالح المرسلة ، ولم يعرف عنهم ، على أيّ كانت اجتهاداتهم ، أكانت تأويلا للنصوص ، أم

__________________

(١) النساء : ١٢.

(٢) النساء : ١١.

(٣) النساء : ١١.

٨١

جهلا بها ، أم استهانة بها؟ ربّما كان بعض هذا ، أو كلّه من بعضهم ، وفي الحقيقة إنّما تطوّر البحث عن الاجتهاد بالرأي في تنويعه وخصائصه في القرن الثاني والثالث. (١)

ومع تعدّد أسباب العمل بالرأي وبعضها لا يمتّ إلى الشريعة بصلة ، وتصريح بعض الصحابة بإنكار الرأي والقياس (كما يأتي) ، كيف يمكن ادّعاء الإجماع على العمل بالقياس؟

الاستدلال بالإجماع ببيان آخر

ثمّ إنّ الرازي استدلّ بإجماع يعتمد على مقدّمات ثلاث :

المقدّمة الأولى : إنّ بعض الصحابة ذهب إلى العمل بالقياس والقول به.

المقدّمة الثانية : إنّه لم يوجد من أحدهم إنكار أصل القياس ، فلأنّ القياس أصل عظيم في الشرع نفيا أو إثباتا ، فلو أنكر بعضهم لكان ذلك الإنكار أولى بالنقل من اختلافهم ، ولو نقل لاشتهر ، ولوصل إلينا ، فلمّا لم يصل إلينا علمنا أنّه لم يوجد.

المقدّمة الثالثة : إنّه لمّا قال بالقياس بعضهم ولم ينكره أحد منهم فقد انعقد الإجماع على صحّته. (٢)

__________________

(١) أصول الفقه : ٢ / ١٧٢.

(٢) المحصول : ٢ / ٢٦٢ ـ ٢٦٩. وقد صرح في ص ٢٩٢ : أنّ مذهب أهل البيت إنكار القياس.

٨٢

وهذه المقدمات الثلاث قابلة للنقاش والرد.

أمّا الأولى : فلنفترض أنّ بعض الصحابة عمل بالقياس على وجه الإجمال ولكن لم يشخّص تفاصيله ، وانّهم هل عملوا بمنصوص العلّة أو بمستنبطها؟ وعلى فرض العمل بالثاني فلم يعلم ما هو مسلكهم في تعيين علّة الحكم ومناطه ، فهل كان بالسبر والتقسيم أو من طريق آخر؟ ومع هذا الإجمال كيف يمكن أن يتّخذ عمل الصحابة دليلا على حجّية القياس في عامة الموارد وعامة المسالك إلى تعيين علّة الحكم ومناطه.

وأمّا الثانية : فلأنّ تسمية عمل البعض مع سكوت الآخرين إجماعا غير صحيح جدّا ، لأنّ الإجماع عند الأصوليين عبارة عن اتّفاق علماء عصر واحد على حكم شرعي. (١)

ومن المعلوم أنّ عمل البعض لا يعدّ دليلا على الإجماع وإن سكت الآخرون ، فالسكوت قد يكون ناجما عن عدم إحاطة بعضهم بالأحكام ، أو تعبيرا عن موافقة بعضهم للأخذ بالرأي على حساب التعبّد بالنصوص لمآرب خاصة ، أو عدم امتلاك بعضهم للجرأة الأدبية التي تتيح له إبداء الموقف الرافض.

ثمّ إنّ الصحابة لم يكونوا مجتمعين في المدينة المنورة ، بل توزّعوا على ميادين الجهاد وتفرّقوا في البلدان المفتوحة ، فكيف علم اتّفاقهم على هذين الأمرين حتّى تحقّق الإجماع؟

__________________

(١) المستصفى : ١ / ١١٠.

٨٣

وأمّا الثالثة : وهو عدم إنكار أحد منهم فهو أيضا محجوج بالروايات القطعية عن بعض الصحابة والتابعين في استنكار القياس. وسيوافيك بيانها.

استنكار الصحابة للعمل بالقياس

رويت كلمات عن بعض الصحابة تحذّر من العمل بالقياس ، منها :

١. عن عمر بن الخطاب : إيّاكم وأصحاب الرأي ، فإنّهم أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي ، فضلّوا وأضلّوا. (١)

وقد شاع عند القائل بالقياس أنّ الرأي هو القياس أو أعمّ منه ومن غيره.

وعلى كلّ تقدير يعمّ القياس.

٢. وعن علي عليه‌السلام قال : «لو كان الدين يؤخذ قياسا لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره». (٢)

٣. وعن ابن عباس : يذهب قرّاؤكم وصلحاؤكم ، ويتّخذ الناس علماء جهّالا : يقيسون الأمور بآرائهم. (٣)

__________________

(١) الإحكام لابن حزم : ٦ / ٧٧٩ ـ ٧٨٠ ، تحقيق أحمد شاكر ؛ الفقه والمتفقّه للخطيب البغدادي : ٥ / ١٨١.

(٢) الإحكام للآمدي : ٤ / ٤٤.

(٣) المستصفى : ٢ / ٢٤٧ باختلاف يسير في المتن.

٨٤

وقال : إذا قلتم في دينكم بالقياس : أحللتم كثيرا ممّا حرم الله ، وحرّمتم كثيرا ممّا أحلّ الله.

٤. عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود أنّه قال : ليس عام إلّا والذي بعده شر منه ، لا أقول عام أمطر من عام ، ولا عام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير ، ولكن ذهب خياركم وعلماؤكم ، ثمّ يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم.

٥. عن جابر بن زيد ، قال : لقيني ابن عمر قال : يا جابر إنّك من فقهاء البصرة وستستفتى ، فلا تفتينّ إلّا بكتاب ناطق أو سنّة ماضية.

٦. عن زيد بن عميرة ، عن معاذ بن جبل ، قال : تكون فتن يكثر فيها الملل ويفتح فيها القرآن حتى يقرؤه الرجل والمرأة ، والصغير والكبير ، والمؤمن والمنافق ، فيقرؤه الرجل فلا يتبع ، فيقول : والله لأقرأنّه علانية ، فيقرؤه علانية فلا يتبع ، فيتخذ مسجدا ويبتدع كلاما ليس من كتاب الله ولا من سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإيّاكم وإيّاه ، فإنّها بدعة ضلالة. قالها ثلاث مرات.

هذا وقد ذكر ابن حزم أحاديث أخرى على لسان الصحابة في ذم القياس أعرضنا عنها خوفا من الإطالة ، ونقتصر على سرد أسمائهم :

أبو هريرة ، وسمرة بن جندب ، وعبد الله بن أبي أوفى ، ومعاوية. (١)

__________________

(١) انظر الإحكام في أصول الأحكام : ٦ / ٥٠٨ ـ ٥١١ ؛ إعلام الموقعين عن ربّ العالمين : ١ / ٢٤٠ ـ ٢٤٢ ، طبعة دار الكتاب العربي.

٨٥

هذا بعض ما نقل عنهم حول إنكار العمل بالقياس.

وأمّا العترة الطاهرة عليهم‌السلام فحدّث عنهم ولا حرج فقد تواترت كلماتهم على إنكار القياس ، وقد اعترف الرازي بإنكار العترة العمل بالقياس ، وقال : إنّ مذهب أهل البيت عليهم‌السلام إنكار القياس. (١)

وها نحن نذكر كلماتهم عليهم‌السلام :

القياس في كلمات العترة الطاهرة عليهم‌السلام

١. عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام أنّ عليا عليه‌السلام قال : «من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس ، ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس».

٢. كتب الإمام الصادق عليه‌السلام في رسالة إلى أصحابه أمرهم بالنظر فيها وتعاهدها والعمل بها ، وقد جاء فيها : «لم يكن لأحد بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقاييسه ثمّ قال : واتّبعوا آثار رسول الله وسنّته فخذوا بها ولا تتبعوا أهواءكم ورأيكم فتضلّوا».

٣. روى سماعة بن مهران ، عن أبي الحسن موسى الكاظم عليه‌السلام : «ما لكم وللقياس، إنّما هلك من هلك من قبلكم بالقياس».

٤. عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ السنّة لا تقاس ، ألا ترى أنّ المرأة تقضي صومها ولا تقضي صلاتها ، يا أبان إنّ السنّة إذا قيست محق الدين».

__________________

(١) المحصول : ٢ / ٢٩٢.

٨٦

٥. عن عثمان بن عيسى قال : سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن القياس؟ فقال : «وما لكم وللقياس ، إنّ الله لا يسأل كيف أحلّ وكيف حرّم».

٦. عن أبي شيبة الخراساني ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلّا بعدا ، وإنّ دين الله لا يصاب بالمقاييس».

٧. عن محمد بن مسلم قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام بمنى إذ أقبل أبو حنيفة على حمار له ، فلمّا جلس قال : إنّي أريد أن أقايسك ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ليس في دين الله قياس».

٨. عن زرارة بن أعين قال : قال لي أبو جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام : «يا زرارة إيّاك وأصحاب القياس في الدين ، فانّهم تركوا علم ما وكّلوا وتكلّفوا ما قد كفوه ، يتأوّلون الأخبار ، ويكذبون على الله عزوجل ، وكأنّي بالرجل منهم ينادى من بين يديه فيجيب من خلفه ، وينادى من خلفه فيجيب من بين يديه ، قد تاهوا وتحيّروا في الأرض والدين». (١)

القياس في كلمات التابعين

إنّ لفيفا من التابعين ممّن يؤخذ عنهم العلم قد خالفوا القياس بحماس وندّدوا به ، وإليك نزرا من كلماتهم ليعلم أنّ القياس لم يكن أمرا متفقا عليه بين أوساط التابعين كما لم يكن كذلك بين الصحابة :

__________________

(١) راجع الوسائل : ١٨ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي.

٨٧

١. عن داود بن أبي هند قال : سمعت محمد بن سيرين ، يقول : القياس شؤم ، وأوّل من قاس إبليس فهلك ، وإنّما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس.

٢. قال ابن وهب : أخبرني مسلم بن علي أنّ شريحا القاضي قال : إنّ السنّة سبقت قياسك.

٣. عن المغيرة بن مقسم ، عن الشعبي ، قال : السنّة لم توضع بالقياس.

٤. وعن عامر الشعبي أيضا : إنّما هلكتم حيث تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس.

٥. عن جابر ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : لا أقيس شيئا بشيء ، قيل : لم؟ قال : أخشى أن تزل رجلي.

وكان يقول : إيّاكم والقياس والرأي ، فإنّ الرأي قد يزل.

إلى غير ذلك من المواقف والأقوال التي يطول بذكرها الكلام ، ونكتفي هنا بسرد أسماء التابعين الذين نالوا من القياس :

إياس بن معاوية ، مالك بن أنس ، وكيع بن الجراح ، حماد بن أبي حنيفة ، ابن شبرمة ، مطر الوراق ، عطاء بن أبي رباح ، أبو سلمة بن عبد الرحمن. (١)

أفبعد هذا الإنكار المتضافر عن العترة ولفيف من الصحابة والتابعين

__________________

(١) انظر : الاحكام في أصول الاحكام لابن حزم : ٦ / ٥١١ ـ ٥١٤ ؛ اعلام الموقعين : ١ / ٢٤٣ ـ ٢٤٦ ؛ عدّة الأصول : ٢ / ٦٨٨ ـ ٦٩٠.

٨٨

يصحّ ادّعاء الإجماع على صحّة القياس وأنّه لم يخالفه أحد؟! هذا إذا لم نقل إنّ الإجماع قام على نفي القياس.

وهذا يدلّ على أنّ هذا العنصر قد دخل حيّز التشريع الإسلامي بموافقة بعض ومخالفة البعض الآخر له ، وانّ ادّعاء الإجماع في مثل هذه المسألة أمر لا يليق بمن تتبّع كلمات الفقهاء في هذا الصدد ، وقد نقل ابن قيم الجوزيّة كلمات الموافقين كما نقل كلمات المخالفين للقياس ، وإن كان في كثير من المباحث عيالا على كتاب «الإحكام» لابن حزم الأندلسيّ.

الآن حصحص الحقّ

لقد أثبتت البحوث السابقة حول ما أقيم من الأدلّة على حجّية القياس انّه ليس هناك دليل صالح قاطع للنزاع ، مفيد للعلم بأنّ الشارع جعل القياس حجّة فيما لا نصّ فيه ، وهناك نكتة جديرة بالتأمّل ، وهي انّه إذا كان للقياس في الشريعة المقدّسة هذه المنزلة في التشريع الإسلامي ، فلما ذا لم يقع في إطار البيان الصريح من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما وقع قول الثقة أو حجّية البيّنة في إطاره؟

وقد عرفت أنّ ما استدلّوا من كلام الشارع في ذلك المجال كلّها انتزاعات شخصية فرضت عليه ، وانّ عقيدة المستدلّ جرّته إلى أن يبحث عن الدليل حول عقيدته ، فلذلك جمع أشياء من هنا وهناك ليثبت بها مدّعاه ، والجميع بريء ممّا يرتئيه.

* * *

٨٩

هذا ما أردنا بيانه حول القياس وآراء المثبتين والنافين له وقد تبيّن ممّا ذكرنا أنّ موقف الإمامية من هذه القاعدة هو القول الوسط فلا ترفضه بتاتا ولا تأخذ به بدون شرط وقيد.

وفي الختام أود الإشارة إلى أنّ لجنة التحقيق في مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام استفادت في هذا الجزء والجزء الّذي يليه من نسخة خطية جديدة حصلنا عليها مؤخرا ، وهي النسخة الموجودة في مركز إحياء التراث الإسلامي في قم المقدسة والّتي تحمل الرقم ١٦٨٥ ، وتاريخ نسخها سنة ١٠٤١ ه‍ ، وتحتوي على ٩٤٠ ورقة ، وهي نسخة جيدة واضحة الخط ، وقد رمزت لها بحرف (د).

وقد جاء في آخرها : وكان الفراغ منه في ثامن شهر رمضان المبارك سنة أربع وسبعمائة ، ومصنّف الكتاب حسن بن يوسف بن مطهر الحلّي. وصلّى الله على سيد المرسلين محمد النبي وآله الطاهرين. تحريرا في تاريخ خمسة شهر ربيع الثاني ١٠٤١ ه‍.

فجزاهم الله خير الجزاء ووفقهم ووفقنا لما فيه خدمة لهذا الدين الحنيف والحمد لله رب العالمين.

جعفر السبحاني

قم المقدسة

مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام

٩٠

البحث الرابع : في المناسب

وفيه مطالب :

المطلب الأوّل : في تعريفه

وله تعريفات :

الأوّل : قال أبو زيد (١) : المناسب عبارة عمّا لو عرض على العقول تلقته بالقبول.

وهو موافق للوضع اللغوي حيث يقال : هذا مناسب لذلك ، أي ملائم له ، غير أنّه لا طريق للمناظر إلى إثباته على خصمه ، لأنّه قد يقول : إنّ عقلي لا يتلقّاه بالقبول فلا يكون مناسبا بالنسبة إلى ، وإن تلقاه عقل غيري بالقبول فإنّه ليس الاحتجاج علي بتلقّي عقل غيري له بالقبول أولى من الاحتجاج على غيري بعدم تلقّي عقلي له بالقبول.

وبهذا الاعتبار منع أبو زيد وجماعة من التمسك في إثبات العلّة في المناظرة بالمناسبة والإحالة ولم يمنع من التمسك في حقّ المناظر نفسه ، لأنّ العاقل لا يكابر نفسه.

الثاني : أنّه الّذي يفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيلا وإبقاء. ويعبّر

__________________

(١) نقله عنه الآمدي في الإحكام : ٣ / ٢٩٤ ، الفصل الأوّل : في تحقيق معنى المناسب.

٩١

عن التحصيل بجلب النفع ، وعن الإبقاء بدفع الضرر ، لأنّ ما قصد إبقاؤه فإزالته مضرّة وإبقاؤه دفع المضرّة. ثمّ هذا التحصيل والإبقاء قد يكون معلوما ومظنونا ، وعلى التقديرين فقد يكون دينيا ودنيويا.

والمنفعة : اللذة أو ما يكون وسيلة إليها. والمضرة : الألم أو ما يكون وسيلة إليه. واللذة قيل : إدراك الملائم. والألم قيل : إدراك المنافي. والحقّ أنّهما غنيان عن التعريف ، لأنّهما من الوجدانيات ، فإنّا ندرك بالضرورة التفرقة بينهما وبين كلّ واحد منهما وبين غيرهما ، فهو أظهر من كلّ ما يعرّف به.

الثالث : أنّه الملائم لأفعال العقلاء في العادات ، فيقال : هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة لملاءمة جمعهما في سلك واحد ، وهذا الثوب يناسب هذه العمامة ، أي الجمع بينهما ملائم. وهذا تعريف من يأبى تعليل أحكامه تعالى بالحكم والمصالح ، أو السابق عليه تعريف من يعتقد التعليل. (١)

الرابع : المناسب : وصف ظاهر منضبط يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصودا من شرع ذلك الحكم. سواء كان الحكم وجوديا أو عدميا ، وسواء كان المقصود جلب مصلحة أو دفع مفسدة.

وقد عرفت أنّ هذه المناسبة تسمى تخريج المناط ، وهو تعيين العلّة بمجرّد إبداء المناسبة من ذاته لا من نص ولا غيره ، كالإسكار في التحريم ،

__________________

(١) ذكر التعريفين الثاني والثالث الرازي في المحصول : ٢ / ٣١٩ ـ ٣٢٠.

٩٢

والقتل العمد العدوان في القصاص ، فإن كان الوصف خفيا أو غير منضبط اعتبر ملازمه وهو المظنة كالسفر للمشقّة ، والفعل المعروف عند العقلاء انّه عمد في العمدية ، لأنّ الخفي لا يعرّف الخفي.

المطلب الثّاني : في تقسيم المناسب

وفيه أنواع :

الأوّل : كون المناسب مناسبا إمّا أن يكون حقيقيا ، أو إقناعيا.

فالحقيقي إمّا أن يكون لمصلحة يتعلق بالدنيا ، أو بالآخرة. وأقسام الأول ثلاثة :

أ. أن تكون رعاية المصلحة في محلّ الضرورة ، وهي المتضمّنة حفظ أحد المقاصد الخمسة :

حفظ النفس بشرع القصاص ، وقد نبّه عليه تعالى بقوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)(١).

حفظ المال بشرع الضمان والحدود.

وحفظ النسب بشرع زاجر الزنا ، فإنّ المزاحمة في الأبضاع تفضي إلى اختلاط النسب المفضي إلى قطع التعهّد عن الأولاد وإلى التوثّب على الفروج بالتغلّب ، وهو جالب للفساد والقتال.

__________________

(١) البقرة : ١٧٩.

٩٣

وحفظ الدين بشرع زاجر الردّة ، والمقاتلة لأهل الحرب ، وقد نبّه عليه تعالى في آيات الجهاد.

وحفظ العقل بشرع تحريم المسكر ، وقد نبّه عليه تعالى بقوله : (أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ)(١). ويلحق به ما هو مكمّل للضروري ، كحدّ قليل المسكر.

ب. أن تكون رعاية المصلحة في محل الحاجة من غير ضرورة ، كتمكين الولي من تزويج الصغيرة ، فإنّ مصالح النكاح غير ضرورية له في الحال إلّا أنّ الحاجة بوجه ما حاصلة ، وهي تقييد الكفء الّذي قد يفوت لا إلى بدل. وكذا المعاملات الّتي وضعها الشارع كالبيع والإجارة والقراض والمساقاة وجميع المعاملات وبعضها آكد من بعض ؛ وقد يوجد فيه ما يكون ضروريا ، كالإجارة على تربية الطفل الصغير وشراء المطعوم والملبوس له ولغيره ؛ ومكمل له ، كرعاية الكفاءة ومهر المثل في الصغيرة فإنّه أفضى إلى دوام النكاح.

ج. أن لا تكون في محلّ الضرورة ولا الحاجة ، وهي الّتي تجري مجرى التحسينات ، كسلب العبد أهلية الشهادة لنقصه عن المناصب الشريفة جريا على ما ألف من محاسن العادات وتقرير الناس على مكارم الأخلاق ومحاسن الشّيم. وهذا على قسمين :

الأوّل : أن لا يقع على معارضة قاعدة معتبرة ، كتحريم تناول

__________________

(١) المائدة : ٩١.

٩٤

القاذورات ؛ وسلب أهلية الشهادة عن العبد ، لأنّها منصب شريف ، والعبد نازل القدر ، والجمع بينهما غير ملائم.

الثاني : أن يقع على معارضة معتبرة كالكتابة ، فإنّها وان استحسنت في العادة إلّا أنّها في الحقيقة بيع الرجل ماله بماله ، وهو غير معقول. وأمّا الّذي يكون مناسبا لمصالح الآخرة فهي الحكم المذكورة في رياضة النفس ، وتهذيب الأخلاق ، والمداومة على فعل الشرائع والعبادات فإنّ منفعتها في سعادة الآخرة.

تذنيب

كلّ واحدة من هذه المراتب قد يقع فيه ما يظهر كونه من ذلك القسم ، وقد يقع فيه ما يخفى ، ويختلف ذلك بحسب اختلاف الظنون.

مثاله : أنّ حفظ النفس بشرع القصاص من باب المناسب الضروري وممّا نعلم أنّه من هذا الباب شرع القصاص في المثقّل ، فإنّا نعلم أنّه لو لا شرع القصاص فيه لحصل الهرج والمرج ، ولتأدّى الأمر إلى أنّ كلّ من يريد قتل غيره يعدل عن المحدّد إلى المثقّل دفعا للقصاص عن نفسه ، إذ ليس في المثقّل زيادة مئونة ليست في المحدّد ، بل ربّما كان أسهل ، فلا يجوز في كلّ شرع تراعى فيه مصالح الخلق عدم وجوب القصاص بالمثقّل.

أمّا إيجاب قطع الأيدي باليد الواحدة فإنّه وإن كان من هذا الباب ، لأنّا لو لم نوجب قطع الأيدي باليد الواحدة لآل الأمر إلى أنّ كلّ من يريد قطع

٩٥

يد إنسان استعان بغيره ليدفع القصاص عن نفسه ، فتبطل حكمة شرع القصاص ، إلّا أنّه محتمل لعدم الدخول فيه لاحتياجه إلى الاستعانة ، وقد لا يحصل ، فليس وجه الحاجة إلى وجه القصاص هنا كوجه الحاجة إلى شرعه في المنفرد.

تنبيه

الإجارة خارجة عن الأقيسة الحاجية (١) ، فإنّ مقابلة العوض الموجود بالمعدوم خارج عن القياس الشرعي في المعاوضات ، فإنّ قياسها مقابلة الموجود بمثله لكن احتمل ذلك في الإجارة لمكان الحاجة.

واعلم أنّ الحاجة العامّة تجري مجرى الضرورة الخاصة في حقّ آحاد الأشخاص ، والبيع ملتحق بقاعدة الضروري من جهة إمساس الحاجة إلى تناول العروض بالعروض ، لأنّ العروض لا يراد لذاتها بل لمنافعها ، ومتعلّق تصرّفات الخلق في الأعيان محال على منافعهم منها ، ثمّ المنافع إذا عرضت نوعا من العروض وظهر من الحاجة إليها في المسكن والمركب وغيرهما التحق هذا بالأصول الكلية ، واشتراط مقابلة الموجود بالموجود من باب الاستصلاح والحمل على الأصلح والأرشد ، ولا يظهر تعلّق هذا الفن بالحاجة والضرورة ، ولهذا يسمى القياس الجزئي لا بمعنى جزئياته في شخص واحد ، بل الأصل الذي لا بدّ من رعاية الضرورة ثمّ الحاجة والاستصلاح في حكم الوجوه الخاصة في حكم الجزئي عند النظر في المصالح والضوابط الكلية.

__________________

(١) في «أ» و «د» : الحاجة».

٩٦

وأمّا المناسب الإقناعي فهو الذي يظن به في الظاهر كونه مناسبا ، لكن يظهر مناسبته عند البحث ، كتعليل الشافعية تحريم بيع الخمر والميتة والعذرة بالنجاسة ، وقياس الكلب عليه.

ووجه المناسبة : أنّ كونه نجسا يناسب إذلاله ، ومقابلته بالمال في البيع إعزاز له ، والجمع بينهما باطل. وهذا وإن كان مظنون المناسبة في الظاهر لكنّه ليس في الحقيقة كذلك، لأنّ معنى نجاسته عدم جواز الصلاة معه ، ولا مناسبة بين المنع من استصحابه في الصلاة وبين المنع من بيعه.

فائدة : قد عرفت أنّ المقصود من الحكم إمّا جلب مصلحة ، أو دفع مفسدة ، أو مجموعهما. وهذا إنّما هو بالنسبة إلى العبد لا إلى الرب لتعاليه عن جلب النفع ودفع الضرر.

والنفع قد يكون مقصودا للعبد ، لأنّه ملائم له وموافق لنفسه ، ولهذا إذا خيّر بين وجود ذلك وعدمه اختار وجوده.

وتحصيل المصلحة ودفع المفسدة المتعلّقة بالدنيا إمّا أن يكون شرع الحكم فيها مقتضيا لتحصيل أصل المقصود ابتداء ، أو دواما ، أو تكميلا.

فالأوّل كالقضاء بصحّة التصرف الصادر من الأهل في المحل تحصيلا للأصل المقصود المتعلّق به من الملك أو المنفعة ، كما في البيع والإجارة ونحوهما.

٩٧

وأمّا الثاني فكالقضاء بتحريم القتل وإيجاب القصاص على القاتل عمدا عدوانا لإفضائه إلى دوام المصلحة.

وأمّا الثالث فكالحكم باشتراط الشهادة ومهر المثل في النكاح.

النوع الثاني من القسمة (١)

المقصود إمّا أن يكون حاصلا من شرع الحكم يقينا أو ظنا ، أو يتساوى الأمران ، أو بترجيح عدم الحصول.

فالأوّل ، كإفضاء الحكم بصحّة التصرف بالبيع إلى إثبات الملك.

والثاني ، كشرع القصاص المرتب على القتل العمد العدوان صيانة للنفس المعصومة عن الفوات ، فإنّه مظنون الحصول راجح الوقوع ، فإنّ غالب حال العاقل أنّه إذا علم أنّه يقتل إذا قتل ، لم يقدم على القتل فتبقى نفس المجني عليه وأشباه ذلك من الزواجر ، وليس ذلك مقطوعا به إذ الإقدام على القتل مع شرع القصاص يقع كثيرا.

والثالث تقريبا ، كشرع الحد على شرب الخمر ، لحفظ العقل ، فإن أفضاه إلى ذلك متساو (٢) حيث نجد كثرة الممتنعين عنه مقاومة لكثرة المقدمين عليه ، لا على وجه الترجيح والغلبة لأحد الفريقين على الآخر في العادة.

والرابع ، كإفضاء الحكم بصحة نكاح الآيسة إلى مقصود التوالد ، فإنّه

__________________

(١) ذكره الآمدي في الإحكام : ٣ / ٢٩٨ ، الفصل الثالث من المسلك الخامس.

(٢) في الإحكام : «متردد».

٩٨

وإن أمكن عقلا إلّا أنّه بعيد عادة ، فكان الإفضاء إليه مرجوحا.

وهذه الأربعة وإن كانت مناسبة من حيث الموافقة للنفس ، إلّا أنّ أعلاها القسم الأوّل للقطع به ، ثمّ الثاني لرجحانه ، ثمّ الثالث لتساويه ، ثمّ الرابع لمرجوحيّته.

وقد اتّفق القائلون بالقياس على صحّة التعليل بالأولين وعلى صحّة التعليل بالآخرين في آحاد الصور الشاذة ، وكان المقصود ظاهرا من الوصف في غالب صور المتن وإلّا فلا ، كما في صحّة نكاح الآيسة لمقصود التوالد فإنّه وإن كان غير ظاهر بالنسبة إلى الآيسة إلّا أنّه ظاهر فيما عداها.

فعلى هذا لو خلا الوصف المرتب عليه الحكم من المقصود الموافق للنفس قطعا وإن كان ظاهرا في غالب صور الجنس لم يصحّ التعليل به لعدم مناسبته ، كما في لحوق النسب في نكاح المشرقي للمغربية ، وشرع الاستبراء في شراء الجارية ممّن باعها منه في مجلس البيع الأوّل ، لعلمنا بفراغ رحمها من غيره قطعا ، وإن كان ظاهرا في غالب صور الجنس فيما عدا هذه الصورة ، لأنّ المقصود من شرع الأحكام هو الحكم المنوط به ، فشرع الحكم مع انتفاء الحكمة يقينا لا يكون مفيدا ، فلا يرد به الشرع خلافا لأبي حنيفة.

٩٩

النوع الثالث :

الحكمة اللازمة لضابطها إمّا أن تكون ناشئة عنه ، أو لا تكون.

والثاني إمّا أن يكون للوصف دلالة على الحاجة إليها ، أو لا.

فالأوّل كشرع الرخصة في السفر لدفع المشقّة الناشئة من السفر.

والثاني كالحكم بصحّة البيع لإفضائه إلى الانتفاع بالعوض ، فإنّ الانتفاع لازم لصحة البيع ظاهرا وليس ناشئا عن البيع ، لكن البيع وهو التصرف الصادر من الأهل في المحلّ وهو الإيجاب والقبول دلالة على الحاجة إليه.

والثالث كما في ملك نصاب الزكاة ، فإنّه يناسب إيجاب الزكاة من حيث إنّه نعمة ، والنعمة تناسب الشكر لإفضائه إلى زيادتها على ما قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)(١) ، والزكاة صالحة لئن تكون شكرا لما فيها من إظهار النعمة ، وإظهار النعمة يعد في العرف شكرا ، ولا يخفى أنّ مثل هذا المقصود وهو زيادة النعمة ملازم لترتيب إيجاب الزكاة على ملك النصاب وليس زيادة النعمة ناشئة عن ملك نفس النصاب كما كانت المشقّة ناشئة عن السفر ، ولا لملك النصاب دلالة على الحاجة إلى زيادة النعمة كدلالة البيع على الحاجة إلى الانتفاع.

__________________

(١) إبراهيم : ٧.

١٠٠