نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-357-284-6
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٤٧٦

تلقّته بالقبول». ولكن خفي عليه أنّ الاستدلال به على القياس جعله مشهورا ، وتصوّر أنّ الأمّة تلقّته بالقبول ، حتّى أنّ الجوزجاني قد أورده في «الموضوعات» وقال : هذا حديث باطل ، رواه جماعة عن شعبة ، وقد تصفّحت هذا الحديث في أسانيد الكبار والصغار ، وسألت من لقيته من أهل العلم بالنقل عنه ، فلم أجد له طريقا غير هذا ... إلى أن قال : فإن قيل : إنّ الفقهاء قاطبة أوردوه واعتمدوا عليه. قيل : هذا طريقه والخلف قلّد السلف. (١)

وأمّا الدلالة ـ إذا افترضنا صحّة الحديث ـ فيلاحظ عليها أنّها مبنيّة على مساواة الاجتهاد بالقياس أو شموله له ، وكلا الأمرين ممنوعان ، بل الظاهر أنّ المراد من الاجتهاد هو الاجتهاد في كتاب الله وسنّة رسوله حتّى يتوصّل إلى حكم الله عن طريقهما.

فإن قلت : لا يصحّ تفسير الاجتهاد في الحديث ، بالاجتهاد في كتاب الله وسنّة رسوله ، لأنّ الفقيه إنّما ينتهي إلى الاجتهاد بعد ما لم يجد حكم الموضوع في كتاب الله وسنّة رسوله ، وعندئذ لا معنى أن يفسّر قوله : «اجتهد رأيي» أي اجتهد في كتاب الله وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قلت : الأحكام الواردة في القرآن والسنّة على قسمين :

قسم موجود في ظواهر الكتاب والسنّة ولا يحتاج في الوقوف عليه إلى بذل الجهد ، بل يعرفه كلّ من يعرف اللغة.

__________________

(١) عون المعبود شرح سنن أبي داود : ٩ / ٥١٠.

٦١

وقسم منه غير موجود في ظواهر الكتاب والسنّة لكن يمكن التوصّل إليها عن طريقهما بالتدبّر فيهما ، وهذا هو الاجتهاد الدارج بين العلماء. فأين هذا من القياس الّذي ورد فيه النصّ على حكم الأصل دون الفرع؟!

قال المرتضى : لا ينكر أن يكون معنى قوله : «أجتهد رأيي» أي أجتهد حتّى أجد حكم الله تعالى في الحادثة ، من الكتاب والسنّة ، إذ كان في أحكام الله فيهما ما لا يتوصّل إليه إلّا بالاجتهاد ، ولا يوجد في ظواهر النصوص فادّعاؤهم أنّ إلحاق الفروع بالأصول في الحكم لعلّة يستخرجها القياس ، هو الاجتهاد الّذي عناه في الخبر ، ممّا لا دليل عليه ولا سبيل إلى تصحيحه. (١)

والحاصل : أنّ الاستدلال بالحديث مبني على اختصاص الاجتهاد بالقياس أو شموله له وهو موضع شكّ ، بل القدر المتيقّن من الحديث هو الاجتهاد المألوف في عصر النبي ، وهو بذل الجهد في فهم الكتاب والسنّة وما عليه المسلمون.

وثانيا : كان مصب القضاء غالبا هو الشبهات الموضوعية دون الحكمية ، ويمكن فصل الخصومة فيها بقاعدة العدل والإنصاف ، أو بما هو المعروف بين العرف والعقلاء ، ممّا يرضى به المتخاصمان ، وأين هو من القياس في الأحكام الشرعية؟!

وثالثا : أنّ تجويز القياس في القضاء لا يكون دليلا على تجويزه في

__________________

(١) الذريعة : ٢ / ٧٧٦.

٦٢

الإفتاء ، لأنّ القضاء أمر لا يمكن تأخيره ، بخلاف الإفتاء ، فالاستدلال بجواز القياس في القضاء على جوازه في الإفتاء ، مبنيّ على صحّة القياس ، وهو دور واضح.

ورابعا : أنّ القضاء منصب خطر ، إذ به تصان الدماء والأعراض والأموال ، كما به تباح النواميس والشئون الخطيرة ، فهل يمكن أن يبعث النبي رجلا ويخوّل له النبي التصرف في مهام الأمور ، بإعمال الرأي من دون أن يحدّده على وجه يصونه عن الخطأ ومجانبة الواقع ، والقائلون بحجّية القياس ذكروا لإعماله شروطا وموانع لم يكن معاذ يعرف معشارها ، ومعه كيف بعثه وقرر عمله بالقياس وهو غير عارف بالشروط والموانع؟! وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المراد من الاجتهاد هو استخراج حكم الواقعة من المصدرين ـ الكتاب والسنّة ـ بالتأمّل فيهما ، لا إعمال الرّأي بأقسامه المختلفة الّتي ربّما لا تمس الواقع غالبا.

وهذا يكشف عن وجود خصوصية في معاذ تصدّه عن استعمال الرأي الخارج عن حدود الكتاب والسنّة ، وإلّا لما خوّله أمر القضاء من دون تحديده.

ويشهد على ما ذكرنا ما حكي من سيرة معاذ حيث إنّه لم يكن يجتهد برأيه في الأحكام وإنّما كان يتوقّف حتّى يسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

روى يحيى بن الحكم أنّ معاذا قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصدّق أهل اليمن ، وأمرني أن آخذ من البقر من كلّ ثلاثين تبيعا ، ومن كلّ أربعين

٦٣

مسنّة قال : فعرضوا عليّ أن آخذ من الأربعين فأبيت ذاك ، وقلت لهم : حتّى أسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك.

فقدمت ، فأخبرت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأمرني أن آخذ من كلّ ثلاثين تبيعا ، ومن كلّ أربعين مسنّة. (١)

فإذا كانت هذه سيرته فكيف يقضي بالظنون والاعتبارات؟!

٢. حديث الخثعمي

أخرج النسائي عن عبد الله بن الزبير قال جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّ أبي شيخ كبير لا يستطيع الركوب وأدركته فريضة الله في الحجّ فهل يجزئ أن أحجّ عنه؟ قال : أنت أكبر ولده ، قال : نعم ، قال : أرأيت لو كان عليه دين أكنت تقضيه؟ قال : نعم ، قال : فحجّ عنه. (٢)

وأخرج النسائي عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله إنّ أبي مات ولم يحجّ أفأحج عنه؟ قال : أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال : نعم ، قال : فدين الله أحقّ. (٣)

وأخرج النسائي عن عبد الله بن عباس : أنّ رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ أبي أدركه الحجّ وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته فإن شددته خشيت أن

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٢٤٠ ؛ المسند الجامع : ١٥ / ٢٣٠.

(٢) سنن النسائي : ٥ / ١١٧ ، باب تشبيه قضاء الحج بقضاء الدين.

(٣) المصدر نفسه.

٦٤

يموت ، أفأحجّ عنه؟ قال : أرأيت لو كان عليه دين فقضيته أكان مجزئا؟ قال : نعم. قال : فحجّ عن أبيك. (١)

وقد استدلّ بهذا الحديث بصورة المختلفة الّتي رواها النسائي وغيره ، على حجّية القياس.

يقول السرخسي : هذا تعليم المقايسة وبيان لطريق إعمال الرأي. (٢)

وقال الآمدي : إنّه ألحق دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه ، وهو عين القياس. (٣)

يلاحظ على الاستدلال بهذا الحديث بصورة المختلفة بوجهين :

الأوّل : أنّ القياس الوارد في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من باب القياس الأولوي ، وذلك لأنّه إذا وجب الوفاء بحقوق الناس حسب النص فحقوق الله أولى بالقضاء والوفاء ـ كما نصّ عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث ـ وأين هذا من مورد النزاع؟! وقد تقدّم أنّ القياس الأولويّ عمل بالنصّ ، لأنّه مدلول عرفي وليس عملا بالقياس.

الثاني : أنّ القياس من أقسام الاستنباط وهو استخراج حكم الفرع من الأصل بالدقّة وإعمال النظر وبعد التأنّي والتفكير ، وذلك لأنّ الحكم يكون في الأصل منصوصا ، وفي الفرع غير منصوص ، فيستنبط حكم الفرع من دليل الأصل بفضل القياس.

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) أصول الفقه : ٢ / ١٣٠.

(٣) الإحكام : ٣ / ٧٨.

٦٥

ولكن المقام يفقد هذا الشرط ، فإنّ الأصل والفرع على صعيد واحد ، ومنضويان تحت ضابطة واحدة ، وهي وجوب قضاء الدين.

فإنّ اسم الدين يقع على الحجّ كوقوعه على المال ، وإذا كان كذلك دخل في قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ)(١). ومع التنبيه على العلّة قد أثبت الحكم في الفرع والأصل معا ، وما هذا حاله لا يدخل في القياس. (٢)

وإن شئت قلت : إنّ المخاطب كان يحضره حكم أحد الموردين دون الآخر ، فأرشده النبي إلى ما كان يحضره من قضاء دين الناس ، حتّى ينتقل إلى حكم ما لا يحضره ، بحجة أنّ الموردين من أقسام الضابطة الكلية ، أعني : وجوب أداء الحق ممّن عليه ، إلى من له ، من غير فرق بين كونه من حقوق الله أو حقوق الناس.

إنّ ما ورد في هذه الأحاديث ليس من القياس في شيء ، بل من قبيل تطبيق الكبرى على الصغرى. فالكبرى ـ وهي مطوية ـ «كلّ دين يقضى» هي في واقعها أعمّ من ديون الله وديون الآدميين ، وقد طبقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على دين الله لأبيه ، فحكم بلزوم القضاء ، وأين هذا من القياس المصطلح؟ (٣)

إنّ المقام أشبه بما يقال : إنّ من شرائط الاستدلال بالقياس أن لا

__________________

(١) النساء : ١١.

(٢) انظر عدّة الأصول : ٢ / ٧١٨.

(٣) الأصول العامّة للفقه المقارن : ٣٢٩.

٦٦

يتناول دليل الأصل ، إثبات الحكم في الفرع ، وإلّا لغى التمسّك بالعلّة المشتركة ، كما إذا قيل : النبيذ حرام بجامع الإسكار الموجود في الخمر ، فإنّ دليل الأصل كاف في إثبات الحكم له من دون حاجة إلى التعليل ، وهو قوله : «كلّ مسكر خمر وكلّ مسكر حرام». (١)

وجه الشبه : انّ الكبرى الشرعية : «يجب قضاء الدين» يتناول حكم الفرع كما يتناول حكم الأصل ، غير أنّ المخاطب كان غافلا عن أحد الفردين ، نبّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه مثل حق الناس يجب قضاؤه.

٣. حديث عمر

عن جابر بن عبد الله ، عن عمر بن الخطاب ، قال : هششت فقبّلت وأنا صائم ، فقلت : يا رسول الله أتيت أمرا عظيما قبّلت وأنا صائم ، فقال : «أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم؟» فقلت : لا بأس بذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ففيم». (٢)

قال السرخسي : هذا تعليم المقايسة ، فإنّ بالقبلة يفتتح طريق اقتضاء الشهوة ولا يحصل بعينه اقتضاء الشهوة ، كما أنّ بإدخال الماء في الفم يفتح طريق الشرب ولا يحصل به الشرب. (٣)

وقال ابن قيّم الجوزية : ولو لا أنّ حكم المثل حكم مثله ، وأنّ المعاني

__________________

(١) انظر : مباحث العلّة في القياس : ٢٢٥.

(٢) سنن أبي داود : ٢ / ٣١١ ، كتاب الصوم رقم ٢٣٨٥ ؛ مسند أحمد : ١ / ٢١.

(٣) أصول الفقه : ٢ / ١٣٠.

٦٧

والعلل مؤثرة في الأحكام نفيا وإثباتا ، لم يكن لذكر هذا التشبيه معنى ، فذكر ليدلّ به على أنّ حكم النظير حكم مثله ، وأنّ نسبة القبلة الّتي هي وسيلة للوطء كنسبة وضع الماء في الفم الّذي هو وسيلة إلى شربه ، فكما أنّ هذا الأمر لا يضرّ ، فكذلك الآخر. (١)

يلاحظ عليه :

أوّلا : أنّ الحديث يمكن الاستدلال به على بطلان القياس لا على إثباته ، لأنّ عمر ظنّ أنّ القبلة تبطل الصوم قياسا على الجماع ، لاشتراكهما في كونهما من أسباب الالتذاذ الجنسي ، فردّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ الأشياء المماثلة المتقاربة لا تتساوى أحكامها.

وثانيا : أنّ القياس عبارة عن استفادة حكم الفرع من حكم الأصل ، بحيث يستمد الفرع حكمه من الأصل ، وليس المقام كذلك ، بل كلاهما على مستوى واحد كغصني شجرة.

وإن شئت قلت : إنّ المبطل هو الشرب لا مقدّمته (المضمضة) ، كما أنّ المبطل هو الجماع لا مقدّمته (القبلة) ، فبما أنّ المخاطب كان واقفا على ذلك الحكم في الشرب ، دون الجماع ، أرشده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تشبيه القبلة بالمضمضة إقناعا للمخاطب ، لا استنباطا للحكم من الأصل.

وكم فرق بين كون المتكلم في مقام استنباط حكم الفرع من الأصل ،

__________________

(١) إعلام الموقعين : ١ / ١٩٩.

٦٨

وكونه في مقام إرشاد المخاطب إلى حكم الله وإقناعه بالمثال؟ وهذا المورد وما تقدّم من قبيل الثاني دون الأوّل.

٤. حديث الأعرابي

روى البخاري عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاءه أعرابيّ فقال : يا رسول الله إنّ امرأتي ولدت غلاما أسود (وإني أنكرته) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هل لك من إبل؟» قال : نعم ، قال : «ما ألوانها؟» قال : حمر ، قال : «هل فيها من أورق (١)»؟ قال : نعم ، قال : «فأنّى كان ذلك؟» ، قال : أراه عرق نزع ، قال : «فلعلّ ابنك هذا عرق نزعه (٢)». (٣)

يلاحظ عليه : أوّلا : أنّ الأصل المقرر في الشرع هو أنّ الولد للفراش ، ولمّا كان الأعرابي بصدد نفي الولد بحجة عدم التوافق في اللون حاول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبطل حجته بأنّ عدم التوافق لا يكون دليلا على عدم ولادته منه ، وذلك لأنّه يوجد نظير ذلك في الحيوانات ، فربّما تلد الإبل الحمر ولدا أورق يغاير لونه لون والديه. وأين هذا من القياس؟

وإن شئت قلت : الحديث بصدد رفع استبعاده وإقناعه وإزالة شكّه ببيان انّ هذه القاعدة (لزوم التوافق في اللون) ليست ضابطة كلية ، بل ربّما تنتقض كما في الأورق من الإبل.

__________________

(١) الأورق : الإبل الأسود غير الحالك ، أي الّذي يميل إلى الغبرة.

(٢) نزع : أي رجع إليه.

(٣) صحيح البخاري : ٨ / ١٧٣ ، كتاب الحدود.

٦٩

وثانيا : أنّ القياس يتشكّل من أصل وفرع وجهة جامعة ، وعندئذ يقاس الفرع على الأصل ، وعلى ضوء هذا فما هو الأصل في الرواية وما هو الفرع؟!

فهل ولادة الإبل أصل وولادة الإنسان فرع ، مع أنّ كلا النوعين في الإيلاد واللقاح سواء؟

يقول ابن حزم : وهل من قال : إنّ توالد الناس مقيس على توالد الإبل ، إلّا بمنزلة من قال : إنّ صلاة المغرب إنّما وجبت فرضا ، لأنّها قيست على صلاة الظهر ، وإنّ الزكاة إنّما وجبت قياسا على الصلاة. (١)

وحصيلة الكلام :

أوّلا : أنّ هذه الروايات روايات أحادية لا تفيد العلم اليقين ، فكيف يمكن أن يستدلّ بما لا يفيده في المقام؟ وقد عرفت أنّ الأصل في العمل بالظن ومنه القياس هو الحرمة ، فلا يخرج عن الأصل إلّا بدليل قطعي.

وثانيا : أنّ هذه الأحاديث ليست بصدد الاستدلال على الحكم الشرعي ، بل بصدد رفع الاستبعاد وإرشاد الطرف إلى الحكم الشرعي بأسهل الطرق ، وحاشا أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استدلّ بالقياس على الحكم الشرعي ، فإنّه عالم بعامّة الأحكام عن طريق الوحي ، وقد وصفه سبحانه

__________________

(١) الإحكام في أصول الاحكام : ٧ / ٤١٣.

٧٠

بقوله : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).(١)

وفضله سبحانه على نبيّه هو علمه ، فمن وصف علمه بالعظمة ، فهو غني عن أن يلتجئ إلى القياس ، وإنّما ابتغى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الموارد رفع الاستبعاد عن المخاطب أو إرشاده إلى الحكم الشرعي بأسهل الطرق.

وقد استدلّوا بروايات غير صحيحة ولا ظاهرة في المقصود أعرضنا عن ذكرها ، ونتطرق هنا إلى استدلالهم بالعقل.

الاستدلال على حجّية القياس

بالدليل العقلي

ويقرر بوجوه :

الأوّل : وحدة المناط تقتضي وحدة الحكم

إنّه سبحانه ما شرّع حكما إلّا لمصلحة ، وأنّ مصالح العباد هي الغاية المقصودة من تشريع الأحكام ، فإذا ساوت الواقعة المسكوت عنها ، الواقعة المنصوص عليها في علّة الحكم الّتي هي مظنّة المصلحة ، قضت الحكمة والعدالة أن تساويها في الحكم ، تحقيقا للمصلحة التي هي مقصود الشارع

__________________

(١) النساء : ١١٣.

٧١

من التشريع ، ولا يتّفق وعدل الله وحكمته أن يحرّم الخمر لإسكارها محافظة على عقول عباده ، ويبيح نبيذا آخر فيه خاصيّة الخمر ، وهي الإسكار ، لأنّ مآل هذا ، المحافظة على العقول من مسكر ، وتركها عرضة للذهاب بمسكر آخر. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الكبرى مسلّمة ، وهي أنّ أحكام الشرع تابعة للمصالح والمفاسد ، إنّما الكلام في إمكان وقوف الإنسان على مناطات الأحكام وعللها على وجه لا يخالف الواقع قيد شعرة ، وأمّا قياس النبيذ على الخمر فهو خارج عن محلّ الكلام ، لأنّا نعلم علما قطعيا بأنّ مناط حرمة الخمر هو الإسكار ، ولذلك روي عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أنّه سبحانه حرّم الخمر وحرّم النبيّ كلّ مسكر. (٢) ولو كانت جميع الموارد من هذا القبيل لما اختلف في حجّية القياس اثنان.

ولأجل إيضاح هذا المعنى ، وتبيان أنّ المكلّف ربّما لا يصل إلى مناطات الأحكام ، نقول :

إذا نصّ الشارع على حكم ولم ينصّ على علّته ومناطه ، فهل للمجتهد التوصّل إلى معرفة ذلك الحكم عن طريق السبر والتقسيم بأن يحصر الأوصاف الّتي توجد في واقعة الحكم ، وتصلح لأنّ تكون العلّة واحدة منها ، ويختبرها وصفا وصفا ، وبواسطة هذا الاختبار يستبعد الأوصاف الّتي لا يصحّ أن تكون علّة ، ويستبقي ما يصحّ أن يكون علّة ،

__________________

(١) مصادر التشريع الإسلامي : ٣٤ ـ ٣٥.

(٢) الكافي : ١ / ٢٦٦.

٧٢

وبهذا الاستبعاد وهذا الاستبقاء يتوصّل إلى الحكم بأنّ هذا الوصف هو العلّة؟

ولكن في هذا النوع من تحليل المناط إشكالات واضحة مع غضّ النظر عن النهي الوارد عن العمل بالقياس :

أوّلا : نحتمل أن تكون العلّة عند الله غير ما ظنّه بالقياس ، فمن أين نعلم بأنّ العلّة عندنا وعنده واحدة؟

ثانيا : لو افترضنا أنّ المقيس أصاب في أصل التعليل ، لكن من أين نعلم أنّها تمام العلّة ، فلعلّها جزء العلّة وهناك جزء آخر منضمّ إليه في الواقع ولم يصل المقيس إليه؟

ثالثا : نحتمل أن تكون خصوصية المورد دخيلة في ثبوت الحكم ، مثلا لو علمنا بأنّ الجهل بالثمن علّة موجبة شرعا في فساد البيع ، ولكن نحتمل أن يكون الجهل بالثمن في خصوص البيع علّة ، فلا يصحّ لنا قياس النكاح عليه ، إذا كان المهر فيه مجهولا ، فالعلّة هي الجهل بالثمن ، لا مطلق الجهل بالعوض حتّى يشمل المهر ، ومع هذه الاحتمالات لا يمكن القطع بالمناط.

وقد ورد على لسان أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام النهي عن الخوض في تنقيح المناط.

وتجلية للأمر ، نذكر هذا المثال ، وهو أنّ الجارية تحت العبد إذا أعتقت فلها الخيار إن شاءت مكثت مع زوجها ، وإن شاءت فارقته ، أخذا

٧٣

بالسنّة حيث إنّ «بريدة» كانت تحت عبد ، فلمّا أعتقت ، قال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اختاري فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد ، وإن شئت أن تفارقيه». (١)

وقياسا على ذلك ، قالت الحنفية بأنّ الجارية تحت الحرّ إذا أعتقت لها الخيار كالمعتقة تحت العبد ، لاشتراكهما في كونهما جاريتين اعتقتا ، ولكن من أين علم أنّ الانعتاق تمام المناط للحكم؟ فلعلّ كونها تحت العبد وافتقاد المماثلة جزء العلّة؟ فما لم يقطع بالمناط لا يمكن إسراء الحكم ، وهذا هو الّذي دعا الشيعة إلى التحذير من خطورة العمل بالقياس وطرح تخريج المناط الظني الّذي لا يغني من الحقّ شيئا.

الثاني : النصوص متناهية والوقائع غير محدودة

إنّ نصوص القرآن والسنّة محدودة ومتناهية ، ووقائع الناس وأقضيتهم غير محدودة ولا متناهية ، فلا يمكن أن تكون النصوص المتناهية وحدها مصادر تشريعية لما لا يتناهى.

وبعبارة أخرى : القياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجدّدة ، ويكشف حكم الشريعة فيما يقع من الحوادث ، ويوفّق بين التشريع والمصالح. (٢)

__________________

(١) الكافي : ١ / ٢٦٦ ، برقم ٤.

(٢) مصادر التشريع الإسلامي : ٣٥ ، انظر المنخول : ٣٢٧ و ٣٥٩.

٧٤

يلاحظ عليه :

أوّلا : أنّ عدم إيفاء النصوص عند أهل السنّة بالإجابة عن جميع الأسئلة المتكثّرة ، لا يكون دليلا على حجّية القياس ، فربّما تكون الحجّة غيره ، إذ غاية ما في الباب أنّ عدم الوفاء يكون دليلا على أنّ الشارع قد حلّ العقدة بطريق ما ، وأمّا أنّ هذا الطريق هو القياس ، فلا يكون دليلا عليه.

إنّ فقهاء السنّة لو رجعوا إلى الطرق والأمارات والأصول العملية الأربعة (١) الّتي مضى الإيعاز إليها في الباب الأوّل لاستغنوا عن اعتبار القياس ، وهذه الضوابط والأمارات واردة في حديث أئمّة أهل البيت عن جدّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والقوم لما أعرضوا عن أحد الثقلين ـ أعني : العترة الطاهرة في حديث الرسول ـ وقعوا في هذا المأزق وزعموا انّ النصوص غير وافية ببيان الأحكام غير المتناهية ، وقد غفلوا انّ غير المتناهي هي الجزئيات والمصاديق ، وهو لا يوجد مشكلة إذا كانت الضوابط العامة قادرة على إعطاء حكمها.

وثانيا : أنّ المستدلّ اتّخذ المدّعى دليلا وقال : «والقياس هو المصدر التشريعي الذي يساير الوقائع المتجدّدة» ، مع أنّ الكلام في أنّ القياس هل هو مصدر تشريعيّ حتّى نأخذ به في مسايرته مع الوقائع المتجدّدة أو لا؟ ومجرّد كونه يساير الحوادث لا يكون دليلا على كونه حجّة ، فانّ القوانين الوضعيّة في الغرب تساير الوقائع أيضا ، فهل يصحّ لنا أخذها بذلك الملاك؟!

__________________

(١) البراءة ، الاحتياط ، التخيير ، الاستصحاب.

٧٥

إنّ العمل بالقياس ـ ما لم يدعمه دليل قطعي ـ تشريع وبدعة وإدخال في الدين ما لم يعلم كونه منه ، فهل ثمّة ضرورة لاقتحام البدعة مع إمكان الخروج من المأزق بروايات أئمّة أهل البيت الذين هم عدل الكتاب وقرناؤه في حديث الثقلين؟ وهل أنّ رواياتهم وأحاديثهمعليهم‌السلام المتصلة الإسناد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمستقاة من ينبوع علمه ، أقلّ منزلة من القياس الظنّي؟!

الثالث : في العمل بالقياس دفع للضرر المظنون

القياس يفيد الظنّ بالحكم وهو يلازم الظنّ بالضرر فيجب دفعه.

قال الرازي : إنّ من ظنّ أنّ الحكم في الأصل معلّل بكذا وعلم أو ظنّ حصول ذلك الوصف في الفرع ، وجب أن يحصل له الظنّ بأنّ حكم الفرع مثل حكم الأصل. ومعه علم يقيني بأنّ مخالفة حكم الله تعالى سبب العقاب ، فتولّد من ذلك الظن ، وهذا العلم ، ترك العمل به سبب للعقاب ، فثبت أنّ القياس يفيد ظن الضرر. (١)

وقال الأرموي : العمل بالقياس دفع ضرر مظنون ، وأنّه واجب. فيكون العمل بالقياس واجبا.

أمّا الأوّل : فلأنّه إذا ظن تعليل الحكم في الأصل بوصف ، وظن أنّ ذلك الوصف موجود في الفرع ، فحينئذ يظن أنّ ذلك الحكم ثابت في الفرع. وعنده علم «أنّ مخالفة حكم الله سبب للعقاب». فيتولد من هذا

__________________

(١) المحصول : ٢ / ٢٨٨.

٧٦

«العلم» وذلك «الظن» ظن أنّ خلاف القياس ضرر ، والعمل يدفع ذلك.

وأمّا الثاني : ـ أي أنّ دفع الضرر واجب فواضح عند العقل ـ (١)

يلاحظ عليه : أنّ الرازي والأرموي خلطا بين موردي القاعدتين العقليتين المحكمتين :

١. قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

٢. وجوب دفع الضرر المظنون بل المحتمل.

فإنّ القاعدتين لا غبار عليهما لكن لم يعرفا موردهما.

أمّا القاعدة الأولى ، فهي قاعدة محكمة دلّ العقل والنقل على صحّتها ، ودلالة العقل واضحة فإنّ استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان شيء لا ينكر ، وأمّا دلالة النقل فيكفي قوله سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).(٢) وبعث الرسول كناية عن إتمام الحجّة وبيان التكليف.

فإذا لم يرد في واقعة دليل شرعي على الحرمة أو الوجوب يستقل العقل بقبح عقاب المكلّف إذا خالف ما ظنّ أنّه هو الحكم فيها ، وذلك لأنّ ما يترتب عليه إمّا أن يكون ظنا بالضرر الأخروي ، أو ظنا بالضرر الدنيوي.

أمّا الضرر الأخروي فهو مقطوع الانتفاء بحكم تقبيح العقل مثل ذلك العقاب وتأييد الشرع له ، ففي مثل ذلك المورد لا يكون الظن بالحرمة أو

__________________

(١) الحاصل من المحصول : ٣ / ١١٩. لاحظ ذيل كلامه في أنّ دفع الضرر واجب ، فقد أطال الكلام بما لا حاجة إليه.

(٢) الإسراء : ١٥.

٧٧

الوجوب ، ملازما للظن بالضرر أبدا ، لعدم تمامية الحجّة على المكلّف.

وأمّا الضرر الدنيوي ، فهو وإن كان ملازما للظنّ بالحكم غالبا ، نظرا إلى تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، لكنّه ليس بواجب الدفع إلّا إذا كان ضررا عظيما لا يتحمل ، ففي مثله يستقل العقل بدفعه.

وحصيلة الكلام : أنّ القياس لما لم تثبت حجّيته فالظن بالحكم لأجله ، لا يلازم الظن بالضرر الأخرويّ أبدا ، وأمّا الضرر الدنيوي فهو وإن كان يلازمه غالبا ، لكنّه غير واجب الدفع دائما إلّا في المورد الذي ذكرناه.

ونتيجة ما تقدّم ، هي : انّ الظنّ الحاصل بالحكم لأجل القياس الذي لم تثبت حجّيته لا يكون ملازما للظن بالعقوبة ولا يكون داخلا في قاعدة «لزوم دفع الضرر المظنون».

وأمّا القاعدة الثانية الّتي زعم الرازي أنّ المقام من مصاديقها وجزئياتها ، فموردها ما إذا قام الدليل على الحكم الكلي ، وعلى وجود الموضوع له ، فعندئذ يجب دفع الضرر بصورة الثلاث :

أ. تارة يكون الضرر (العقاب) مقطوعا ، كما إذا علم بأنّ الخمر حرام وانّ هذا المائع خمر.

ب. وأخرى يكون الضرر مظنونا ، كما إذا علم بأنّ الخمر حرام ، وعلم أنّ أحد الإناءين خمر ، فشرب أحدهما ـ لا كليهما ـ مظنة للضرر الأخروي.

ج. وثالثة يكون الضرر (العقاب) مشكوكا ، كما إذا تردّد الخمر بين أوان عشر ، فشرب أحدها ، يكون محتملا للضرر.

٧٨

فالضرر بتمام صوره واجب الدفع للعلم بالكبرى ، أعني : الحكم الكلّي ، والعلم بالموضوع معينا أو مردّدا بين إناءين أو أوان كثيرة.

فاللازم على الفقيه تنقيح مصاديق القاعدتين حتّى لا يخلط بين مواردهما ، كما خلط الرازي وغيره.

الاستدلال على القياس بالإجماع

استدلّ القائلون بحجّية القياس ، بإجماع الصحابة على العمل به ، كما عمل به من جاء بعدهم من التابعين والفقهاء.

قال الغزالي : والّذي ذهب إليه الصحابة (رضي الله عنهم) بأجمعهم وجماهير الفقهاء والمتكلّمين بعدهم رحمهم‌الله ، وقوع التعبّد به شرعا. (١)

وقال الأرموي : العمل بالقياس مجمع عليه والإجماع حجّة.

ثمّ قال : وإنّما قلت : «إنّه مجمع عليه» لوجوه :

أحدها : قول عمر : «اعرف الأشياء والنظائر ، وقس الأمور برأيك» من غير إنكار أحد من الصحابة عليه.

وثانيها : إنكار ابن عباس على زيد بن ثابت في عدم حجبه الأخ بالجد وقياس ابن عباس الجد على ابن الابن من غير إنكار من الصحابة.

وثالثها : اتّفاقهم على القول بالرأي ، مع أنّ «الرأي» هو : القياس.

__________________

(١) المستصفى : ٢ / ٢٣٤.

٧٩

أمّا «اتّفاقهم على القول بالرأي» فقول أبي بكر في الكلالة : «أقول فيها برأيي».

وعن عمر ـ في الجد ـ «أقضي برأيي» وعن علي عليه‌السلام : «اجتمع رأيي ورأي عمر في أمّ الولد : أن لا تباع ، وقد رأيت الآن بيعهن».

وأمّا «أنّ الرأي هو : القياس» : فلأنّهم يجعلونه قسيما للنص و «قسيم النص» هو : القياس.

فثبت إجماع الصحابة على القول بالقياس.

وأمّا «إنّ الإجماع حجّة» : فلما مرّ. (١)

أقول : يأتي أنّ العمل بالقياس كان مورد خلاف بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من الفقهاء ، وستوافيك نصوص الخلاف.

وأمّا ما احتجّ به من الوجوه على الإجماع فالجميع مخدوش.

أمّا الأوّل : أعني قول عمر : «اعرف الأشياء والنظائر وقس الأمور برأيك» فقد قاله لأبي موسى الأشعري حين ولّاه على البصرة. (٢)

فلعلّ المراد هو معرفة مصاديق الشيء الكلّي الّذي ورد النص على حكمه ، إذ ربّما يغفل الإنسان عن حكم مصداق لضابطة كلية ، فالمراد استخراج حكم مصاديق الضابطة الّتي ورد على وفقها النص كما هو الحال

__________________

(١) الحاصل من المحصول : ٣ / ١١٠ ـ ١١١.

(٢) المستصفى : ٢ / ٢٤٤.

٨٠