نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-357-284-6
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٤٧٦

كالخبر المتواتر أو المستفيض أو خبر الواحد ـ على قول ـ لا ما إذا حدّدت حجّيته بقيد «ما لا نصّ فيه» والمراد من النصّ مطلق الدليل والإطلاق والعام دليلان ، ومع وجودهما لا موضوع للقياس حتّى يكون حجّة فيقدم عليه.

الثانية : إذا كانت أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام حجّة بنصّ حديث الثقلين ، وثبت عند الفقيه السنّي صحّة الحديث المروي عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام كان عليه الأخذ بالحديث مكان الأخذ بالقياس لعدم الموضوع للقياس بعد صحّة الخبر.

ولا عذر لهم في ترك التحرّي والتحقيق في الأحاديث المروية عن علي وأولاده عليهم‌السلام.

الثالثة : انّ الأستاذ مصطفى شلبي صرّح بأنّ الموجود في ذهن المجتهد هو غلبة الظن بأنّهما متساويان في الحكم ، والتساوي فيه فرع الظن بالتساوي في العلّة ، وإلّا فلو كان هناك علم بالتساوي في العلّة التامة ، لحصل العلم بالتساوي في الحكم ، كما هو الحال في الحكم بحرمة النبيذ للعلم بتساويه مع الخمر في العلّة ، وعندئذ يسأل ما هو الدليل على حجّية هذا الظن الّذي يبنى عليه الفقه الإسلامي في مختلف الأبواب ، وسيوافيك دراسة أدلّته.

ما تقدّم يسلّط الضوء على المقصود ، وها نحن نذكر أدلّة نفاة القياس.

ثمّ نذكر أدلّة مثبتيه أيضا ، وذلك ضمن البحثين التاليين :

٤١

البحث الأوّل :

أدلّة نفاة القياس

قد نسب إلى نفاة حجّية القياس أدلّة غير تامّة غالبا ، فنحن نعرض عنها ونأتي بما هو الصحيح المتقن عندنا في عدم حجّيته :

وقد نقل الشيخ الطوسي أدلّة نفاة القياس وقال : «على جميعها اعتراض» ، ثمّ ذكر الاعتراضات ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب «عدة الأصول». (١)

الشكّ في الحجّية يساوق القطع بعدمها

إنّ الأثر تارة يترتّب على الوجود الواقعي للشيء كتحريم الخمر المترتّب على الخمر الواقعي ، وأخرى يترتّب على واقعه ومشكوكه معا ، كالطهارة حيث إنّ الطاهر الواقعي ومشكوك الطهارة كلاهما محكومان بالطهارة واقعا أو ظاهرا.

وثالثة أخرى يترتّب على الوجود العلمي للشيء بأن يكون معلوما للمكلّف.

__________________

(١) عدة الأصول : ٢ / ٦٦٧ ـ ٦٦٨.

٤٢

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المراد من الحجّة في المقام هو ما يحتجّ به المولى على العبد ، والعبد على المولى.

والغاية من جعل أمر ـ كالظن ـ حجّة هو كونه منجزا للواقع إذا كان مصيبا وموافقا للواقع ، ومعذّرا للمكلّف إذا كان مخالفا له ، وهذا ما يعبّر عنه في علم الأصول بأنّ الغاية من الحجية ، هو المنجّزية والمعذّرية.

هذا من جانب ومن جانب آخر ، انّ المنجزية والمعذرية ليستا من آثار الحجّة الواقعية وإن لم يقف عليها المكلّف ، إذ في ظرف عدم الوقوف عليها ، تكون البراءة الشرعية والعقلية محكّمة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمّتي ما لا يعلمون» ، وحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

فعلى ضوء هذين الأمرين وفي ظرف الشكّ في حجّية ظن من الظنون كخبر الواحد أو القياس يكون الشاك قاطعا بعدم الحجّية ، وينتج الشك في الحجّية ، القطع بعدمها ، لما عرفت من أنّ الغاية منها هو المنجزية والمعذرية ، وهما من آثار معلوم الحجّية لا مشكوكها.

وهنا بيان آخر ربّما يكون أوضح من السابق وهو :

إنّ البدعة أمر محرم إجماعا من غير خلاف ؛ وهي عبارة عن إدخال ما يعلم أنّه ليس من الدين أو يشكّ انّه منه ، في الدين ؛ والاعتماد على الظن الذي لم يقم دليل على جواز العمل والإفتاء على وفقه ، التزام بكون مؤدّاه حكم الله في حقّه وحقّ غيره ، وهذا هو نفس البدعة ، لأنّه يدخل في الدين ما يشكّ انّه من الدين.

٤٣

وبعبارة أخرى : انّ العمل بالظن عبارة عن صحّة إسناد مؤدّاه إلى الشارع في مقام العمل ، ومن المعلوم أنّ إسناد المؤدّى إلى الشارع والعمل به إنّما يصحّ في حالة الإذعان بأنّ الشارع جعله حجّة ، وإلّا يكون الإسناد تشريعا قوليا وعمليا دلّت على حرمته الأدلّة الأربعة ، وليس التشريع إلّا إسناد ما لم يعلم أنّه من الدين إلى الدين.

قال سبحانه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ).(١)

فالآية تدلّ على أنّ الإسناد إلى الله يجب أن يكون مقرونا بالإذن منه سبحانه ، وفي غير هذه الصورة يعدّ افتراء ، سواء كان الإذن مشكوك الوجود كما في المقام أو مقطوع العدم ، والآية تعمّ كلا القسمين ، والمفروض أنّ العامل بالظن شاك في إذنه سبحانه ومع ذلك ينسبه إليه.

وقال سبحانه : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).(٢)

تجد انّه سبحانه يذم التقوّل بما لا تعلم حدوده من الله ، سواء أكان مخالفا للواقع أم لا ، والعامل بالظن يتقوّل بلا علم.

وتترتّب على ذلك النتيجة التالية :

إنّ الضابطة الكلية في العمل بالظن هي المنع ، لكونه تشريعا قوليا

__________________

(١) يونس : ٥٩.

(٢) الأعراف : ٢٨.

٤٤

وعمليا محرّما وتقوّلا على الله بغير علم ، فالأصل في جميع الظنون ـ أي في باب الحجج ـ هو عدم الحجّية ، إلّا إذا قام الدليل القطعي على حجّيته.

وعلى ضوء ذلك فنفاة القياس في منتدح عن إقامة الدليل على عدم حجّيته ، لأنّ الأصل عدم حجّية الظن إلّا ما قام على حجّيته الدليل ، وإنّما يلزم على مثبتي القياس إقامة الدليل القطعي على أنّ الشارع سوّغ العمل بهذا النوع من الظن كما سوغ العمل بخبر الثقة ، ولو قام الدليل القطعي على حجّيته ، لخرج عن البدعة وصار ممّا أذن الله به وممّا يتعبّد به ، وهذا ما نبحثه في البحث الثاني. فإن ثبت الدليل القاطع على حجّية هذا الظن نخرج من الأصل بالدليل ، وإلّا كان الأصل هو المرجع.

البحث الثاني :

أدلّة مثبتي القياس

استدلّ القائلون بالقياس بوجوه من الأدلّة من الكتاب والسنّة والعقل. فلنقدّم البحث فيما استدلّوا به من الآيات.

الآية الأولى : آية الرد إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي

٤٥

الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).(١)

لم تزل الآية يستدلّ بها كابر بعد كابر على حجّية القياس ، ولبّ الدليل هو : «أنّ العمل بالقياس رد إلى الله سبحانه ورسوله» وإليك التفصيل :

إنّه سبحانه أمر المؤمنين إن تنازعوا واختلفوا في شيء ، ليس لله ولا لرسوله ولا لولي الأمر منهم فيه حكم ، أن يردّوه إلى الله والرسول ، وردّه وإرجاعه إلى الله وإلى الرسول يشمل كلّ ما يصدق عليه أنّه ردّ إليهما ، ولا شكّ أنّ إلحاق ما لا نصّ فيه بما فيه نصّ لتساويهما في علّة حكم النص ؛ من رد ما لا نصّ فيه إلى الله والرسول ، لأنّ فيه متابعة لله ولرسوله في حكمه. (٢)

وقال أبو زهرة : وليس الرد إلى الله وإلى الرسول إلّا بالتعرّف على الأمارات الدالّة منهما على ما يرميان إليه ، وذلك بتعليل أحكامهما والبناء عليها ، وذلك هو القياس. (٣)

وقال محمد مصطفى شلبي : وفي هذه الآية يأمر الله المؤمنين عند الاختلاف والتنازع في شيء ليس لله ولا لرسوله حكم صريح فيه أن يردّوه إلى الله ورسوله ، ومعنى الردّ إلى الله والرسول إرجاع المختلف فيه إلى

__________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) علم أصول الفقه : ٦١.

(٣) أصول الفقه : ٢٠٧.

٤٦

كتاب الله وسنّة رسوله ، فيلحق النظير بنظيره ، وما تنازعته الأشباه يلحق بأقربها شبها ، ولا يتحقّق ذلك إلّا في الاشتراك بالعلّة فيؤول الأمر إلى الأمر بالقياس. (١)

ولا يخفى أنّ القوم كلّهم قد ضربوا بسهم واحد بمعنى انّهم عبّروا عن حقيقة واحدة بألفاظ متقاربة.

والّذي يجب علينا هو تحديد معنى «الرد إلى الله ورسوله» ، ليتبين أنّ العمل بالقياس ردّ إلى الله ورسوله ، أو هو عمل بالظن بأنّه حكم الله.

أقول : إنّ الرد إلى الله سبحانه ورسوله يتحقّق إمّا بالرجوع إليهم وسؤالهم عن حكم الواقعة ، قال سبحانه : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).(٢)

أو إرجاعها إلى الضابطة الكلّية الّتي ذكرها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمثلا إذا شككنا في لزوم شرط ذكره المتعاقدون في العقد وعدمه ، فنرجع إلى الضابطة الّتي ذكرها الرسول في باب الشروط وقال : «إنّ المسلمين عند شروطهم ، إلّا شرطا حرّم حلالا أو أحلّ حراما».

قال القرطبي في تفسير قوله : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) أي ردّوا ذلك الحكم إلى كتاب الله ، أو إلى رسوله بالسؤال في حياته ، أو بالنظر إلى سنّته بعد وفاته. وهذا قول مجاهد والأعمش وقتادة وهو الصحيح ـ إلى أن

__________________

(١) أصول الفقه الإسلامي : ٢٠٠ ؛ ولاحظ أصول السرخسي : ٢ / ١٢٩ وغيره.

(٢) الأنبياء : ٧.

٤٧

قال ـ : وقد استنبط عليّ عليه‌السلام ـ مدّة أقلّ الحمل ـ وهو ستّة أشهر من قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)(١) وقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ)(٢) ، فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهرا بقيت ستة أشهر.

وأين هذا (أي الرد إلى كتاب الله وسنّة رسوله) ، من الرجوع إلى القياس ، لأنّ قياس ما لا نصّ فيه على ما نصّ فيه لأجل تساوي الواقعتين في شيء أو في أشياء نحتمل أو نظنّ أن تكون جهة المشاركة هي العلّة لبناء الحكم ، ليس ردّا إلى الله ورسوله ، لأنّ العلّة ، ليست منصوصة في كلامه أو كلام نبيّه ، بل مستنبطة بطريق من الطرق الّتي لا نذعن بإصابتها بل عملا بالظن بأنّه حكم الله.

وبذلك يظهر ضعف تفسير الشيخ أبي زهرة الآنف الذكر ، ذلك أنّ الاهتداء بتعليل الأحكام إلى نفسها إنّما يصحّ إذا كانت العلّة مذكورة في كلامه سبحانه أو كلام رسوله ، لا ما إذا قام العقل الظنّي باستخراج العلّة بالسبر والتقسيم أو بغيرهما من الطرق.

وحصيلة الكلام أوّلا : أنّه لا مشاحة في الكبرى وهي :

وجوب الرد إلى الله ورسوله ، وإنّما النزاع في الصغرى وهي : هل العمل بالقياس ردّ إلى الله ورسوله ، أو عمل بالظن بأنّه حكم الله؟ وذلك

__________________

(١) الأحقاف : ٥.

(٢) البقرة : ٢٣٣.

٤٨

لأنّ العلّة لو كانت منصوصة في كلامه سبحانه أو في كلام نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ما حصل اليقين بكونه العلّة ، يصحّ أنّه ردّ إلى الله ، لأنّه عمل بالتعليل الشامل للأصل والفرع.

وأمّا إذا كانت العلّة مظنونة ، أي نحتمل انّها العلّة أو أنّها جزء علّة أو أنّ العلّة غيرها ، فمع هذه الاحتمالات كيف يصدق عليه أنّه ردّ إلى الله ورسوله؟!

وثانيا : انّ الآية نزلت في مورد التخاصم والتحاكم ، كما يدلّ عليه قوله سبحانه في نفس الآية : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ،) وقوله سبحانه بعد هذه الآية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)(١). ومن المعلوم أنّ الرجوع إلى القياس الظني لا يفضّ نزاعا ولا يقطع اختلافا ، وإنّما يقطع النزاع الرجوع إلى كتاب الله وسنّة رسوله اللّذين لا يختلف فيهما اثنان ، ولذلك تختلف فتاوى العلماء القائلين بحجيّة القياس في موارد كثيرة حيث إنّ البعض يرى توفر شروط العمل به دون البعض الآخر ، ومثله لا يقطع الخصومة.

وثالثا : انّ مصب الآية هو التنازع فلو دلّت الآية على حجّية القياس في باب التحاكم لاختصت دلالتها به ، وتعميمها إلى باب الإفتاء ، يحتاج إلى دليل والتمسّك بالقياس في هذا المورد ، يستلزم الدور ، لأنّ حجّية الآية في

__________________

(١) النساء : ٦٠.

٤٩

مورد الإفتاء تتوقّف على حجّية القياس ، والمفروض ، انّ حجيته موقوفة على دلالة الآية.

الآية الثانية : آية الاعتبار

قال سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ).(١)

والحشر هو الاجتماع ، قال سبحانه : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)(٢) ، وهو كناية عن اللقاء بين اليهود (بني النضير المقيمين في المدينة) والمسلمين.

كيفية الاستدلال

إنّه سبحانه ذكر ما حلّ بهم ونبّه على علّته وسببه ثمّ أمر بالاعتبار وذلك تحذير من مشاركتهم في السبب ، فلو لم تكن المشاركة في السبب تقتضي المشاركة في الحكم ، ما كان لهذا القول معنى. (٣)

يقول الأستاذ محمد مصطفى شلبي : وهو تحذير لهم وبيان أنّ سنّة

__________________

(١) الحشر : ٢.

(٢) طه : ٥٩.

(٣) عدة الأصول : ٢ / ٦٧٣.

٥٠

الله في خلقه أنّ ما جرى على الشيء يجري على نظيره وأنّ المسببات مرتبطة بأسبابها ، فإذا وجد السبب وجد المسبب ، وما القياس إلّا إلحاق النظير بنظيره في إعطائه حكمه وربط للحكم بعلته يوجد معهما حيثما وجدت ، فتكون الآية أمرا بأمر عام يشمل القياس وغيره ، والأمر يفيد المشروعية بصرف النظر عن كونه للوجوب أو الندب. (١)

وقال عبد الوهاب خلّاف : وهذا يدلّ على أنّ سنّة الله في كونه ، أنّ نعمه ونقمه وجميع أحكامه هي نتائج لمقدّمات أنتجتها ، ومسببات لأسباب ترتّبت عليها ، وأنّه حيث وجدت المقدّمات نتجت عنها نتائجها ، وحيث وجدت الأسباب ترتّبت عليها مسبباتها ، وما القياس إلّا سير على هذه السنن الإلهي ، وترتيب المسبب على سببه في أيّ محل وجد فيه. (٢)

يلاحظ عليه : أوّلا : إنّ المثبت والنافي ركّزا على تفسير قوله سبحانه : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) فالمثبت يقول : إنّ لفظ الاعتبار من العبرة ، وهو العبور من شيء إلى شيء ، فيدلّ على أنّ من وظائف الإنسان هو العبور من شيء إلى مشابهه. فالقياس من تلك المقولة ، أي عبور من الأصل إلى الفرع.

ولكن نفاة القياس يركّزون على أنّ المراد هو الاتّعاظ ، أي فاتّعظوا بقصة بني النضير ، وأين هو من القياس؟!

__________________

(١) أصول الفقه الإسلامي : ١٩٩.

(٢) علم أصول الفقه : ٦٢.

٥١

أقول : سواء أفسّر الاعتبار بالاتّعاظ أم بالعبور من شيء إلى شيء ، فإنّ المرمى في كليهما واحد ، لأنّ الاتّعاظ أيضا لا يخلو من العبور ، أي العبور ممّا شاهد إلى ما لم يشاهد.

وبذلك يظهر أنّ النزاع في قوله : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) نزاع لا طائل تحته. إنّما الكلام في كون الاعتبار بالمسائل الكونية الّتي هي سنن الله سبحانه ، هل هي من مقولة القياس أو لا صلة لها به؟

والتحقيق هو الثاني ، وذلك لأنّ من شرائط العمل بالقياس هو أن لا يكون الدليل الدالّ الّذي دلّ على العلّة ، متناولا حكم الفرع لا بعمومه ولا بخصوصه ، فإذا كان الدليل الدالّ على العلّة شاملا للفرع والأصل في درجة واحدة غير أنّ أحد المصداقين كان ملموسا والآخر غير ملموس ، فهذا خارج عن كونه قياسا ، والمقام من تلك المقولة.

توضيحه : انّ الآية بصدد بيان سنّة الله في الظالمين من غير فرق بين بني النضير وغيرهم ، وأنّ إجلاء بني النضير من قلاعهم وتخريبهم بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين كان جزاء لأعمالهم الإجرامية ومن مصاديق تلك الضابطة الكلّية ، حيث إنّه سبحانه وتعالى يعذب الكافر والمنافق والظالم بألوان العذاب ولا يتركه ، فليس هناك أصل متيقّن ولا فرع مشكوك حتّى نستبين حكم الثاني من الأوّل بواسطة المشابهة ، بل كلّ ذلك فرض على مدلول الآية.

وكم لها من نظائر في القرآن الكريم ، قال سبحانه : (فَسِيرُوا فِي

٥٢

الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ).(١)

وقال سبحانه : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).(٢)

وأدلّ دليل على أنّ الآية ليست بصدد بيان حجّية القياس ، هو أنّك لو وضعت كلمة أهل القياس مكان قوله : (أُولِي الْأَبْصارِ) فقلت : فاعتبروا يا أهل القياس ، لعاد الكلام هزلا غير منسجم.

وثانيا : نفترض أنّ الآية بصدد بيان أنّ حكم النظير ، يستكشف من حكم النظير ، ولكن مصبّها هو الأمور الكونيّة لا الأمور التشريعية والأحكام الاعتبارية ، فتعميم مدلول الآية من الأولى إلى الثانية يحتاج إلى دليل ، وإثبات التعميم بالتمسّك بالقياس مستلزم للدور.

وثالثا : نفترض أنّها بصدد إضفاء الحجّية على القياس في التشريع أيضا ، وأنّ حكم الفرع يعلم من حكم الأصل فيما إذا توفّرت علّة الحكم بينهما بحيث يجعلهما كصنوان على أساس واحد ، ولكن ما هو المسلك الكاشف عن توفّر العلّة ، فالآية ساكتة عنه ، فهل المسلك الكاشف هو :

١. تنصيص الشارع عليها في كلامه؟

__________________

(١) آل عمران : ١٣٧ ـ ١٣٨.

(٢) هود : ٨٢ ـ ٨٣.

٥٣

٢. أو الإجماع على وحدة العلّة؟

٣. أو تنقيح المناط حسب فهم العرف من الكلام؟

٤. أو تخريج المناط بالسبر والتقسيم؟

وبما أنّ الآية ساكتة عن هذه الجهة فلا يصحّ الاستدلال بها على حجّية القياس على وجه الإطلاق.

الآية الثالثة : آية النشأة الأولى

قال سبحانه : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).(١)

وجه الاستدلال : أنّ الآية الثانية جواب لما ورد في الآية الأولى ، أعني : قوله : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فأجيب بقياس إعادة المخلوقات بعد نشأتها ، على بدء خلقها وإنشائها أوّل مرة ليقنع الجاهلين بأنّ من يقدر على خلق الشيء ، وإنشائه أوّل مرّة ، قادر على أن يعيده مرة ثانية.

وهذا الاستدلال بالقياس ، إقرار بحجّيته وصحّة الاستدلال به. (٢)

يلاحظ عليه أوّلا : أنّ الله سبحانه لم يرد الحديث عن القياس ، فهو أجلّ من أن يقيس شيئا على شيء ، وإنّما أراد الاستدلال وإلقاء البرهان ، فأشار إلى سعة قدرته ووجود الملازمة بين القدرة على إنشاء العظام

__________________

(١) يس : ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) علم أصول الفقه : ٦٢.

٥٤

وإيجادها أوّل مرّة بلا سابق وجود ، وبين القدرة على إحيائها من جديد ، بل القدرة على الثاني أولى ، فإذا ثبتت الملازمة بين القدرتين والمفروض أنّ الملزوم وهي القدرة على إنشائها أوّل مرّة موجودة ، فلا بدّ أن يثبت اللازم ، وهي القدرة على إحيائها وهي رميم ، فأين هو من القياس؟!

ولو صحّت تسمية الاستدلال قياسا ، فهو من باب القياس الأولوي الذي فرغنا عن كونه خارجا عن مورد النزاع.

ويدلّ على ذلك أنّه سبحانه لم يقتصر على هذا البرهان ، بل أشار إلى سعة قدرته بآية أخرى بعدها وقال : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ).(١)

والآيات كسبيكة واحدة ، والهدف من ورائها تنبيه المخاطب على أنّ استبعاد إحياء العظام الرميمة في غير محلّه ، إذ لو كانت قدرته سبحانه محدودة لكان له وجه ، وأمّا إذا وسعت قدرته كلّ شيء بشهادة أنّه خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا ، وخلق السماوات والأرض وخلقها أعظم من الإنسان ، لكان أقدر على معاد الإنسان وإحياء عظامه الرميمة.

وليس كلّ استدلال عقلي ، قياسا.

وثانيا : لو سلّمنا بدلالة الآية على حجّية القياس ، فإنّ مصبّها هو قياس الأمور الكونيّة بعضها ببعض فيما إذا كانت الجهة المشتركة بين المقيس والمقيس عليه أمرا واضحا ، كالشمس في رائعة النهار ، وأين هذا من القياس

__________________

(١) يس : ٨١.

٥٥

في الأمور التشريعية الاعتبارية في الموارد الّتي يصل المجتهد فيها إلى الجهة المشتركة بالسبر والتقسيم وربّما بالظن بوجود العلة المشتركة ، فتعميم مفاد الآية ، إلى التشريع لا يصحّ إلّا بضرب من القياس ، والاستدلال عليه بالآية عندئذ يستلزم الدور ، كما مرّ نظيره.

الآية الرابعة : آية جزاء الصيد

قال سبحانه : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ).(١)

قال الشافعي : فأمرهم بالمثل ، وجعل المثل إلى عدلين يحكمان فيه ، فلمّا حرّم مأكول الصيد عامّا ، كانت لدوابّ الصيد أمثال على الأبدان. فحكم من حكم من أصحاب رسول الله على ذلك ، فقضى في الضّبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة. (٢)

والعلم يحيط أنّهم أرادوا في هذا ، المثل بالبدن لا بالقيم ، ولو حكموا على القيم اختلفت أحكامهم ، لاختلاف أثمان الصيد في البلدان ، وفي الأزمان وأحكامهم فيها واحدة.

والعلم يحيط أنّ اليربوع ليس مثل الجفرة في البدن ، ولكنّها كانت

__________________

(١) المائدة : ٩٥.

(٢) العناق ، هي الأنثى من أولاد المعز ، ما لم يتمّ له سنة ، والجفرة ما لم يبلغ أربعة أشهر ، وفصل عن أمّها وأخذ في الرعي.

٥٦

أقرب الأشياء منه شبها ، فجعلت مثله ، وهذا من القياس ، يتقارب تقارب العنز والظبي ، ويبعد قليلا بعد الجفرة من اليربوع. (١)

يلاحظ عليه أوّلا : أنّ الآية تدلّ على أنّه يشترط في الكفّارة أن تكون مماثلة لما قتله من النعم إمّا مماثلة في الخلقة كما هو المشهور أو المماثلة في القيمة كما هو المنقول عن إبراهيم النخعي ، وعلى أيّ تقدير فلا صلة له بحجّية القياس في استنباط الأحكام الشرعية وكونه من مصادرها ، لأنّ أقصى ما يستفاد من الآية أنّ المحرم إذا قتل الصيد متعمّدا فجزاؤه هو ذبح ما يشبه الصيد في الخلقة كالبدنة في قتل النعامة ، والبقرة في قتل الحمار الوحشي وهكذا ، وهل اعتبار التشابه في مورد يكون دليلا على أنّ الشارع أخذ به في جميع الموارد ، أو يقتصر بمورده ولا يصحّ التجاوز عن المورد إلّا بالقول بالقياس غير الثابت إلّا بهذه الآية ، وهل هذا إلّا دور واضح؟

إنّ وزان التمسّك بالآية في حجّية القياس نظير الاستدلال عليها بقول الفقهاء في ضمان المثلي بالمثلي والقيمي بالقيمي ، حيث اقتصر في براءة الذمّة ، بالمماثلة ، في العين أو قيمتها.

وثانيا : أنّ محطّ البحث هو كون القياس من مصادر التشريع للأحكام الشرعية الكلّية ، وأين هذا من كون التشابه معيارا في تشخيص مصداق الواجب على الصائد؟

__________________

(١) الرسالة : ٤٩٠ ـ ٤٩١.

٥٧

وربّما يستدلّ بالآية بوجه آخر ، وهو انّه سبحانه أوجب المثل وجعل طريق تشخيص المماثلة هو الظن.

يلاحظ عليه : أنّ حجّية الظنّ في مورد لا يكون دليلا على اعتباره في سائر الموارد كما سيوافيك.

وقد استدلّ الشوكاني بوجه ثالث قريب من الوجه الثاني ، وهو انّه سبحانه أوجب المثل ولم يقل أيّ مثل فوكّل ذلك إلى اجتهادنا ورأينا ، نظيره أنّه أمر بالتوجّه إلى القبلة بالاستدلال وقال : (حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).(١)

يلاحظ عليه : أنّ الشارع وإن ترك لنا تشخيص الموضوعات ، إلّا أنّه جعل لها طرقا كالبيّنة ، وقال «يحكم به ذوا عدل» مضافا إلى الطرق العلمية في مورد القبلة.

ثمّ إنّ القوم استدلّوا بآيات أخرى تفتقد كثيرا إلى الدلالة ، فالأولى صرف عنان الكلام إلى الاستدلال بالسنّة.

__________________

(١) البقرة : ١٤٤.

٥٨

الاستدلال بالسنّة

استدلّ مثبتو القياس بروايات متعدّدة ، نذكر منها ما يصلح للدراسة في بدء النظر ونضرب صفحا عمّا لا يصلح لها.

١. حديث معاذ بن جبل

احتجّ غير واحد من مثبتي القياس بحديث معاذ. فقد روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا بعث معاذا إلى اليمن قال له : بم تحكم؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد؟ قال : بسنّة رسول الله ، قال : فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيي ولا آلو ، قال : الحمد لله الّذي وفّق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله.

يقول الشلبي : هذا الحديث أقرّ مبدأ الاجتهاد بالرأي ، حيث لا يوجد نصّ من القرآن والسنّة ، والاجتهاد بالرأي عام شامل للقياس وغيره ، فيكون القياس مشروعا بإذن رسول الله. (١)

هذا ويظهر من الإمام الشافعي أنّ الاجتهاد يساوي القياس وليس أعمّ منه. قال : فما القياس؟ أهو الاجتهاد أم هما مفترقان؟ ثمّ أجاب : أنّهما اسمان لمعنى واحد.

__________________

(١) أصول الفقه الإسلامي : ٢٠٠.

٥٩

وقال في موضع آخر : أمّا الكتاب والسنّة فيدلّان على ذلك ، لأنّه إذا أمر النبيّ بالاجتهاد ، فالاجتهاد أبدا لا يكون إلّا على طلب شيء ، وطلب الشيء لا يكون إلّا بدلائل ، والدلائل هي القياس. (١)

وقال أبو الحسين البصري : وجه الاستدلال به أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صوّبه في قوله : أجتهد رأيي عند الانتقال من الكتاب والسنّة ، فعلمنا أنّ قوله : أجتهد رأيي ، لم ينصرف إلى الحكم بالكتاب والسنّة. (٢)

يلاحظ عليه : أمّا أوّلا : فإنّ الاستدلال بحديث معاذ فرع صحّة السند وإتقان الدلالة.

ومن سوء الحظ أنّ السند مخدوش والدلالة مثله.

أمّا السند فينتهي إلى الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة ، عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص. (٣)

قال البخاري : لا يصحّ حديثه. وقال الذهبي : تفرّد به أبو عون محمد ابن عبيد الله الثقفي عن الحارث بن عمرو الثقفي ابن أخي المغيرة ، وما روى عن الحارث غير ابن عون ، فهو مجهول. (٤)

نعم ربّما يحاول تصحيح الحديث بما ذكره الغزالي بقوله : «إنّ الأمّة

__________________

(١) الرسالة : ٤٧٧ و ٥٠٥.

(٢) المعتمد : ٢ / ٢٢٢.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ٢٣٠ ؛ سنن الدارمي : ١٧٠ ؛ سنن أبي داود : ٣ / ٣٠٣ برقم ٣٥٩٣ ؛ سنن الترمذي : ٣ / ٦١٦ برقم ١٣٢٨.

(٤) ميزان الاعتدال : ١ / ٤٣٩ برقم ١٦٣٥.

٦٠