نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-357-284-6
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٤٧٦

مخصوصة كان اعتقاده لبقائهم على تلك الحالة الّتي تركهم عليها راجحا على اعتقاده لتغيّر تلك الحالة. ومن غاب عن بلده فإنّه يكتب إلى أصدقائه في الأمور الّتي كانت موجودة حال حضوره ، وما ذاك إلّا لرجحان اعتقاد البقاء على اعتقاد التغيير ، بل لو تأمّلنا بأنّ أكثر مصالح العالم ومعاملات الخلق مبني على القول بالاستصحاب ، والنوم سبب ظاهر لوجود الخارج الناقض للطهارة ، فلهذا امتنع فعل الصلاة معه.

وعن الأوّل من الاعتراض على الأوّل (١). أنّه يلزم من رجحان الطهارة في الصورة الأولى صحّة الصلاة تحصيلا للمصلحة مع ظن الطهارة كالصورة الثانية. وامّا النوم فإذا كان مظنة الخارج وجب إدارة الحكم عليه كما هو الغالب من تصرفات الشارع لا على حقيقة الخارج دفعا للعسر والحرج. وهو جواب الإغماء والمس.

ويلزم من رجحان الحدث في الصورة الثانية امتناع صحّة الصلاة زجرا له عن التقرّب إلى الله تعالى والوقوف بين يديه مع ظن الحدث ، فإنّه قبيح عقلا وشرعا ، ولذلك نهى عنه ، والشاهد له بالاعتبار الصورة الأولى.

قوله : إنّه لا تأثير للحدث المظنون عندكم.

قلنا : إنّما لا يكون مؤثرا بتقدير عدم القول بالاستصحاب كالتقدير الّذي نحن فيه ، وإلّا فلا.

__________________

(١) ذكره الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

٣٨١

وعن الثاني (١). أنّه لو لم يكن الاستصحاب والاستمرار مقتضي الدليل في كلّ متحقّق ، لكان الاستمرار في هاتين الصورتين على خلاف حكم الأغلب الأعم. إن كان عدم الاستمرار هو الأغلب ، أو أن يكون عدم الاستمرار على خلاف الغالب إن كان الاستمرار هو الأغلب ، وهو على خلاف الأصل ، فإن تساوى الطرفان فهو احتمال من ثلاثة ، ووقوع احتمال من احتمالين أغلب من احتمال واحد بعينه.

وعن الثالث (٢). أنّا ندّعي أصالة البقاء فيما يمكن بقاؤه إمّا بنفسه كالجوهر ، أو بتجدد أمثاله كالأعراض ، وعليه بناء الأدلة المذكورة ، وعلى هذا فالأصل في الزمان بقاؤه بتجدد أمثاله.

وأمّا الحركات فإن كانت من قبيل ما يمكن استمراره ، فهو من جملة صور النزاع ، وإن لم يكن اندفع النقض به.

وفيه نظر ، لأن أصالة البقاء فيما يمكن بقاؤه بنفسه إنّما كان باعتبار استغنائه عن المؤثر كما قالوه ، وهذا لا يتحقّق فيما لا يمكن بقاؤه.

وعن الاعتراض على [الوجه] الثاني (٣). أنّ الإقدام على الفعل لغرض موهوم غير ظاهر ، إنّما يكون فيما لا خطر في فعله ولا مشقة كما ذكروه من المثال.

وأمّا ما يلزم الخطر والمشقة في فعله ، فلا بدّ وأن يكون لغرض ظاهر

__________________

(١) ذكره الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٣٨.

(٢) ذكره الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٣٨.

(٣) ذكره الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٣٨ ـ ١٣٩.

٣٨٢

راجح على خطر ذلك الفعل ومشقّته على ما تشهد به تصرّفات العقلاء وأهل العرف من ركوب البحار ومعاناة المشاق من الأسفار ، فإنّهم لا يركبون ذلك إلّا مع ظهور المصلحة لهم في ذلك ، ومن فعله لا مع ظهورها في نظره عدّ سفيها ، وتنفيذ الودائع والإرسال إلى الغائب من هذا القبيل ، فكان الاستصحاب ظاهرا فيه.

وعن الأوّل. من الاعتراض على [الوجه] الثالث (١). بزيادة افتقار التغيّر إلى تجدد علّة موجبة للتغيّر ، بخلاف البقاء لإمكان اتّحاد علّة المتجددات.

وعن الثاني. بأنّ الشيء إذا كان موقوفا على شيء واحد والآخر على شيئين ، فما يتوقّف على شيء واحد لا يتحقّق عدمه إلّا بتقدير عدم ذلك الشيء ، وما يتوقّف تحقّقه على أمرين يتم عدمه بعدم كلّ واحد من ذينك الأمرين.

ولا يخفى أنّ ما يقع عدمه على تقديرين يكون عدمه أغلب من عدم ما لا يتحقّق عدمه إلّا بتقدير واحد ، وما كان عدمه أغلب كان تحقّقه أندر ، وبالعكس مقابله.

لا يقال : عدم الواحد المعيّن إمّا أن يكون مساويا في الوقوع لعدم الواحد من الشيئين أو غالبا أو مغلوبا ، ولا تتحقّق غلبة الظن فيما ذكرتموه بتقدير غلبة الواحد المعيّن ومساواته ، وإنّما يتحقّق ذلك بتقدير كونه

__________________

(١) ذكره الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٣٩.

٣٨٣

مغلوبا ، ووقوع أحد الأمرين لا بعينه أغلب من وقوع الواحد المعيّن لما ذكرتموه.

لأنّا نقول (١) : إذا نسبنا أحد الشيئين بعينه إلى ذلك الواحد المعين إمّا أن يكون عدمه أغلب من المعيّن ، أو مساويا ، أو مغلوبا. فإن كان الأوّل لزم ما ذكرناه ، وإن كان الثاني فكذلك ، لترجيحه بضم عدم الوصف الآخر إليه ، وإن كان مغلوبا فنسبة الوصف الآخر إليه لا تخلو من الثلاثة ، ويترجّح ما ذكرناه بتقديرين آخرين منها ، وإنّما لا يترجّح ما ذكرناه بتقدير أن يكون كلّ من الوصفين مرجوحا ، فإذن ما ذكرناه يتمّ على تقديرات أربعة ولا يتم على تقدير واحد.

قوله : البقاء وإن كان أغلب من التغيّر فلا يلزم أن يكون غالبا على الظنّ.

قلنا : إذا كان البقاء أغلب من مقابله فهو أغلب على الظن منه ، ويجب المصير إليه نظرا إلى أنّ المجتهد مؤاخذ بما هو الأظهر عنده.

قوله : إنّما يدل ما ذكرتموه على غلبة الظن فيما هو قابل للبقاء.

قلنا : الأعراض إن كانت باقية فلا إشكال ، وإن لم تكن باقية بأنفسها فممكنة البقاء بطريق التجدّد ، كسواد الغراب وبياض الملح. وعلى كلّ تقدير فالكلام إنّما هو واقع فيما هو ممكن التجدّد من الأعراض ، لا فيما هو غير ممكن.

__________________

(١) ذكر الإشكال وأجاب عنه الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٣٩ ـ ١٤٠.

٣٨٤

البحث الثاني : في حكم استصحاب الإجماع في محلّ الخلاف

اختلف الناس فيه فقال الأكثر : إنّه ليس حجّة ، وبه قال الغزالي. (١)

وقال آخرون : إنّه حجّة. (٢)

ومثاله : انّ من قال : المتيمّم إذا رأى الماء في خلال الصلاة مضى في الصلاة ، لانعقاد الإجماع على صحّة صلاته ودوامها بطريان وجود الماء كطريان هبوب الريح وطلوع الشمس وسائر الحوادث ، فنحن نستصحب دوام الصلاة إلى أن يدلّ دليل على كون رؤية الماء قاطعا.

وكقول الشافعي في مسألة الخارج من غير السبيلين : إذا تطهّر ثمّ خرج منه خارج من غير السبيلين فهو بعد الخروج متطهّر ولو صلّى فصلاته صحيحة ، لانعقاد الإجماع على هذين الحكمين قبل الخارج ، والأصل في كلّ متحقّق دوامه إلى أن يوجد المعارض والأصل عدمه.

لا يقال : القول بصحة الصلاة وثبوت الطهارة في محلّ النزاع لا بدّ له من دليل وليس نصّا ولا قياسا وإلّا لم يكن إثبات الحكم في محل الخلاف بناء على الاستصحاب ، بل على ما ظهر من النصّ أو القياس ولا إجماعا لأنّه مختلف فيه ولا إجماع في محلّ الخلاف ، وإن كان الإجماع قبل خروج الخارج ثابتا.

__________________

(١) المستصفى من علم الأصول : ١ / ٢٢٤.

(٢) وهو مختار الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٤١.

٣٨٥

لأنّا نقول (١) : متى يفتقر الحكم في بقائه إلى دليل ، إذا قيل إنّه ينزل منزلة الجواهر أو الأعراض؟ ممنوع ، بل هو باق بعد ثبوته بالإجماع لا بدليل ، لما سبق تقريره في مسألة الاستصحاب مسلّم ، لكن لم قلتم بأنّه يتنزل منزلة الأعراض.

سلّمنا تنزله منزلتها ، وأنّه لا بد له من دليل ، لكن لا نسلّم انحصار الدليل المنفي فيما ذكروه من النص والإجماع والقياس ، إلّا إذا بيّنتم انّ الاستصحاب ليس دليلا ، وهو نفس النزاع.

سلّمنا أنّ الاستصحاب بنفسه لا يكون دليلا على الحكم الباقي بنفسه ، لكنّه دليل الدليل على الحكم. لما تقدّم في مسألة الاستصحاب من وجود غلبة الظن ببقاء كلّ ما كان متحقّقا على حاله ، وهو يدلّ من حيث الإجمال على دليل موجب لذلك الظن.

قال الغزالي : المستصحب إن أقرّ بأنّه لم يقم دليلا في المسألة ، بل قال : أنا ناف ، ولا دليل على النافي ، فسيأتي بيان وجوب الدليل على النافي ؛ وإن ظن إقامة دليل فقد أخطأ ، فإنّا نقول : إنّما يستدام الحكم الّذي دلّ الدليل على دوامه ؛ وهو إن كان لفظ الشارع فلا بدّ من بيانه ، فلعلّه يدلّ على دوامها عند عدم الخروج لا عند وجوده. وإن دلّ بعمومه على دوامها عند العدم والوجود معا ، كان ذلك تمسكا بالعموم ، فيجب إظهار دليل التخصيص.

__________________

(١) ذكر الآمدي الإشكال وأجاب عنه في الإحكام : ٤ / ١٤٢.

٣٨٦

وإن كان بإجماع ، فالاجماع إنّما انعقد على دوام الصلاة عند العدم دون الوجود ؛ ولو كان الإجماع شاملا حال الوجود كان المخالف له خارقا للإجماع ، كما أنّ المخالف في انقطاع الصلاة عند هبوب الرياح وطلوع الفجر خارق للإجماع ، لأنّ الإجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب وانعقد مشروطا بعدم الخروج وعدم الماء. فإذا وجد فلا إجماع. فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه بعلّة جامعة ؛ فأمّا أن يستصحب الإجماع عند انتفاء الإجماع ، فهو محال. وهذا كما أنّ العقل دلّ على البراءة الأصلية بشرط عدم دليل السمع ، فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع ، فكذا هنا انعقد الاجماع بشرط العدم ، فانتفى الإجماع عند الوجود.

وهذه الدقيقة ، وهي أنّ كلّ دليل يضاده نفس الخلاف فلا يمكن استصحابه مع الخلاف ؛ والإجماع يضادّه نفس الخلاف ، إذ لا إجماع مع الخلاف ، بخلاف العموم والنص ودليل العقل ، فإنّ الخلاف لا يضاده ، فإنّ المخالف مقرّ بأنّ العموم يتناول بصيغته محل الخلاف ، فإنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا صيام لمن لم يبيّت» (١) ، شامل بصيغته صوم رمضان مع خلاف الخصم فيه فيقول : أسلّم شمول الصيغة لكنّي أخصّه بدليل ، فعليه الدليل ؛ وهنا المخالف لا يسلّم شمول الإجماع محل الخلاف ، لاستحالة الإجماع مع الخلاف ولا يستحيل شمول الصيغة مع الدّليل. فهذه دقيقة يجب التنبيه لها.

__________________

(١) عوالي اللآلي : ٣ / ١٣٢ ح ٥ ؛ بحار الأنوار : ٨٠ / ٩٠.

٣٨٧

ويرد عليه ما تقدّم من عدم الانحصار في النص والإجماع والقياس.

قال : فان قيل الإجماع يحرّم الخلاف فكيف يرتفع بالخلاف؟

أجاب بأنّ هذا الخلاف غير محرّم بالإجماع ولم تكن المخالفة خارقة للإجماع ، لأنّ الاجماع إنّما انعقد على حالة العدم ، لا على حالة الوجود ، فمن ألحق الوجود بالعدم فعليه الدّليل. (١)

لا يقال : دليل صحّة الشروع دالّ على الدوام إلى أن يقوم دليل على الانقطاع.

لأنّا نقول : ليس ذلك الدليل الإجماع ، لأنّه مشروط بالعدم ، فلا يكون دليلا عند العدم ، فإن كان نصّا فيه فبيّنه لننظر هل يتناول حال الوجود أم لا؟

لا يقال : بم تنكرون على من يقول : الأصل أنّ ما ثبت دام إلى وجود قاطع فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه ، بل الثبوت هو المحتاج ، كما إذا ثبت موت زيد أو بناء دار كان دوامه بنفسه لا بسبب.

لأنّا نقول : هذا وهم باطل ، فإنّ كلّ ثابت جاز دوامه وعدمه ، فلا بدّ لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت ، ولو لا دليل العادة على أنّ الميت لا يحيا ، والدار لا تنهدم بعد البناء إلّا بهادم أو طول الزمان ، لما عرفنا دوامه بمجرّد موته ، كما لو أخبر عن قعود الأمير وأكله ودخوله الدار ولم تدل العادة على دوام هذه الأحوال فإنّا لا نقضي بدوامها ، فكذا خبر الشرع

__________________

(١) المستصفى من علم الأصول : ١ / ٣٨٠ ـ ٣٨١.

٣٨٨

عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع وجوده فيفتقر دوامها إلى دليل آخر.

لا يقال : ليس مأمورا بالشروع فقط ، بل به وبالإتمام.

لأنّا نقول : إنّه مأمور بالشروع مع العدم وبالإتمام معه ، أمّا مع الوجود فهو المتنازع.

لا يقال : إنّه منهيّ عن إبطال العمل ، وفي استعمال الماء إبطال العمل.

لأنّا نقول : هذا دليل آخر غير الاستصحاب مع ضعفه ، لأنّ المراد بالبطلان إن كان إحباط العمل ، فلا نسلم أنّه لا يثاب على فعله ؛ وإن كان أنّه أوجب عليه مثله ، فليس الصحّة عبارة عن ما لا يجب مثله كما تقدّم.

لا يقال : الأصل أنّه لا يجب شيء بالشك ووجوب استيناف الصلاة مشكوك فيه ، فلا يرفع به اليقين.

لأنّا نقول : إنّه معارض بأنّ وجوب المضيّ في هذه الصلاة مشكوك فيه ، وبراءة الذمة بهذه الصلاة مع وجود الماء مشكوك فيه ، ثمّ نقول : من يوجب الاستيناف يوجبه بدليل يغلب على الظن كما يرفع البراءة الأصلية بدليل يغلب على الظنّ ، كيف واليقين قد يرفع بالشّك في بعض المواضع؟ فالمسائل فيه متعارضة ، كما إذا اشتبهت ميتة بمذكاة ، ورضيعة بأجنبية ، وماء طاهر بماء نجس ، ومن نسى صلاة من خمس صلوات.

واحتجّ الآخرون بأنّه تعالى صوب الكفّار في مطالبتهم الرّسل بالبرهان حتى قال : (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا

٣٨٩

بِسُلْطانٍ مُبِينٍ)(١) وقد اشتغل الرسل بالبرهان المغيّر للاستصحاب.

والجواب : أنّهم لم يستصحبوا الإجماع ، بل النّفي الأصلي الّذي دلّ العقل عليه ، إذ الأصل في فطرة الآدمي أن لا يكون بيّنا وإنّما يعرف ذلك بآيات وعلامات ، فهم مصيبون في طلب البرهان ومخطئون في المقام على دين آبائهم بمجرّد الجهل من غير برهان. (٢)

البحث الثالث : في أنّ النافي هل عليه دليل أم لا؟

اختلف الناس في ذلك فذهب قوم إلى أنّه لا دليل عليه.

وقال آخرون : لا بدّ له من دليل. وهو قول السيّد المرتضى (٣) وأبي الحسين البصري والغزالي ، (٤) وهو الحقّ.

وفصّل آخرون بين العقليات والشرعيات ، فأوجبوا الدليل في العقليات دون الشرعيات.

لنا : انّ النافي مدّع كالمثبت ، فإن كان ما ادّعاه نفي علمه أو نفي ظنه لم يطالب بدليل ، لأنّه جاهل ، والجاهل لا يطالب بالدليل على جهله ولا يلزمه ذلك ، كما لا يطالب على دعواه عدم الألم والجوع. وإن كان العلم بنفي أمر فإن كان ضروريا لم يطالب ببرهان ، لأنّه إن كان صادقا في دعوى الضرورة

__________________

(١) إبراهيم : ١٠.

(٢) المستصفى : ١ / ٣٨١ ـ ٣٨٣.

(٣) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٨٢٧.

(٤) المستصفى : ١ / ٣٨٤.

٣٩٠

فالضروري لا يطالب بالدّليل عليه ، وإن لم يكن صادقا لم يطالب بالدليل أيضا ويكفي المنع في انقطاعه حيث إنّه لا يقدر على تحقيق الضرورة في ذلك والنظر لا يدّعيه ، وإن ادّعى العلم بنفيه لا بالضرورة فلا بدّ له من طريق يفضي إليه ، إذ حصول علم غير ضروري من غير طريق مقتض إليه محال ، وإذا وجب أن يكون عن طريق وجب عند الدعوى والمطالبة بدليلها ذكره لينظر فيه كما يجب على مدّعي الإثبات.

وبالجملة فإنّ الممكن متساوي الطرفين ، فلا يجوز الحكم بأحدهما إلّا لمرجح هو الدّليل ، ولا فرق بين طرفيه في ذلك بالضرورة وقد وقع الإجماع على وجوب إقامة الدليل على مدّعي الوحدانية وقدم الله مع أنّ حاصل دعوى الوحدانية نفي الشريك ، وحاصل دعوى القدم نفي الحدوث والأولية ، وقد نبّه الله تعالى في قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(١) على ذكر دليل على النفي.

ولو لم يطالب النافي بالدليل ، لزم أن يدّعي كافر نفي النبوّة ونفي الصانع ولا يطلب منه الدّليل ، وهو باطل إجماعا.

وأيضا لو سقط الدليل عن النافي لم يعجز المثبت عن تعبير مقصوده الإثباتي بالنفي ، فيقول بدل قوله : محدث : ليس بقديم ، وبدل أنّه قادر : ليس بعاجز.

احتجّوا بوجهين :

__________________

(١) الأنبياء : ٢٢.

٣٩١

الأوّل : لا دليل على منكر الدين ، لأنّه ناف ، ولا على من أنكر النبوة من لم يقم على دعواه دليل ، ولا على من أنكر وجوب صلاة سادسة أو صوم شوّال.

الثاني : الدليل على النفي متعذر كإقامة الدليل على براءة الذمّة.

والجواب عن الأوّل من وجوه (١) :

أ. نفي الدليل عن المنكر ليس لكونه نافيا ولا لدلالة العقل على سقوط الدليل عن النافي ، بل بحكم الشرع ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» (٢) ولا يجوز قياس غيره عليه ، لأنّ الشرع إنّما قضى به للضرورة ، إذ لا يمكن إقامة دليل على النفي ، لأنّ ذلك إنّما يعرف بملازمة عدد التواتر له من أوّل وجوده إلى وقت الدعوى فيعلم انتفاء أسباب اللزوم قولا وفعلا بمراقبة الخطاب ، وهو محال ، فكيف يكلّف البرهان على ما يستحيل إقامة البرهان عليه ؛ بل المدّعى لا دليل عليه أيضا ، لأنّ قول الشاهدين يحصل به الظن بجريان سبب اللزوم كإتلاف أو دين وذلك في الماضي أمّا في الحال فلا يعلم الشاهد شغل الذمة بجواز البراءة بأداء أو براء فلا سبيل للخلق إلى معرفة شغل الذمة وبراءتها إلّا بقوله تعالى أو قول رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا ينبغي أن يظن أنّ على المدّعى دليلا ، فإنّ قول الشاهد صار دليلا بحكم الشرع.

__________________

(١) ذكرها الغزالي في المستصفى : ١ / ٣٨٥.

(٢) عوالي اللآلي : ١ / ٤٥٣ ح ١٨٨ و ١٩٠ وج ٢ / ٢٥٨ و ٣٤٥ ؛ سنن البيهقي : ٨ / ١٢٣ وج ١٠ / ٢٥٢.

٣٩٢

وفيه نظر ، فإنّا لا نشترط في الدليل إفادته العلم ، بل ما يحصل به الظن دليل أيضا ، وهو هنا ثابت وهو الشهادة مع الاستصحاب.

ب. المدّعى عليه يدّعي علمه الضروري ببراءة ذمّته ، وقد يعجز الخلق كلّهم عن معرفته فالنافي في العقليات إن ادّعى معرفة النفي ضرورة ، فهو محال ، وإن أقرّ بأنّه مختص بمعرفته اختصاصا لا يمكن أن يشاركه فيه إلّا الله ، فعند ذلك لا يطالب بالدليل ، كما إذا أخبر عمّا يجده من نفي الجوع والشبع ، فحينئذ يستوي النفي والإثبات.

ج. النافي في مجلس الحكم عليه دليل وهو اليمين كما على المدّعي دليل ، وهو البيّنة ، وهو ضعيف ، فإنّ اليمين يجوز أن تكون كاذبة فأي دلالة لها من حيث العقل لو لا حكم الشرع. نعم هو كالبيّنة لجواز أن يشهد بالزور فاستعماله من هذا الوجه صحيح ، أو يقال كما وجب على النافي في مجلس الحكم أن يعضد جانبه بزيادة على دعوى النفي فليجب ذلك في فن الأحكام.

د. يد المدّعى عليه دليل على نفي ملك المدّعي ، وهو ضعيف ، لأنّ اليد تسقط دعوى المدّعي شرعا ، فإنّ اليد قد تكون من غصب أو عارية له فلا دلالة.

وعن الثاني (١). نمنع التعذّر ، فإنّ النزاع إن كان في العقليات أمكن أن يدلّ على نفيها بأنّ إثباتها يفضي إلى محال فيكون محالا ، كقوله تعالى : (لَوْ

__________________

(١) ذكره الغزالي المستصفى : ١ / ٣٨٦.

٣٩٣

كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ومعلوم أنّهما لم يفسدا ، فيدلّ ذلك على نفي الشريك فيمكن ، إثباته بالقياس الشرطي.

أو يقال للمثبت لو ثبت ما ادّعيته لعلم بالضرورة ، وهو باطل للخلاف. أو بالدليل ، ولا دليل هنا وهو باطل لانقلابه على النافي فإنّه يقال : لو انتفى لعلم الانتفاء بضرورة أو استدلال ، وهما منتفيان.

واعلم أنّ الدليل المساعد على النفي إمّا نص وارد من الشارع يدلّ على النفي ، أو إجماع من الأمة ، أو استصحاب النفي الأصلي مع عدم الدليل المعتبر القاطع ، أو الاستدلال بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم ، وهل يمكن الاستدلال على النفي بالقياس الشرعي؟

اختلف القائلون بالقياس فيه بناء على الاختلاف في جواز تخصيص العلّة ، ولا فرق في ذلك بين قياس العلّة والدلالة والقياس في معنى الأصل.

٣٩٤

الفصل الثالث :

في الاستحسان

وفيه بحثان :

الأوّل : في ماهيته

وهو استفعال مأخوذ من الحسن ، ويطلق على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني وإن كان مستهجنا عند غيره. وليس المتنازع فيه ذلك ، بل ولا يتحقّق استحسان مختلف فيه.

واختلف أصحاب أبي حنيفة في تعريفه (١) فقال بعضهم : إنّه عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد ولا يقدر على إظهاره لعدم مساعدة العبارة عنه.

وأورد عليه أنّ المجتهد ان تردد فيه بين أن يكون دليلا محققا ووهما فاسدا ، امتنع التمسّك به إجماعا ؛ وإن تحقّق أنّه دليل شرعي ، فلا خلاف في جواز التمسّك به ، وإن كان بعيدا ؛ وإنّما النزاع في تخصيصه باسم

__________________

(١) راجع الإحكام : ٤ / ١٦٣ ـ ١٦٤.

٣٩٥

الاستحسان عند العجز عن التعبير عنه دون حالة إمكان التعبير عنه ، وهو نزاع لفظي.

وقال قوم : إنّه عبارة عن العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه يخرج من الاستحسان عندهم بالعدل عن موجب القياس إلى النصّ من الكتاب أو السنّة أو العادة.

أمّا الكتاب : فكما في قوله : «مالي صدقة» فإنّ القياس يقتضي لزوم التصديق له ؛ وقد استحسن تخصيص ذلك بمال الزكاة لقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً)(١) ولم يرد سوى مال الزكاة.

وأمّا السنّة : فكاستحسانهم أن لا قضاء على من أكل ناسيا في نهار رمضان ، والعدول عن حكم القياس إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن أكل ناسيا : «الله أطعمك وسقاك». (٢)

وأمّا العادة : فكالعدول عن موجب الإجارات في ترك تقدير الماء المستعمل في الحمام وقدر اللبث ، وتقدير الأجرة للعادة في ترك المضايقة في ذلك.

وقال بعضهم : إنّه عبارة عن تخصيص قياس بدليل هو أقوى منه ، ويرجع حاصل ذلك إلى تخصيص العلّة.

وقال الكرخي (٣) : الاستحسان هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم

__________________

(١) التوبة : ١٠٣.

(٢) سنن البيهقي : ٤ / ٢٢٩ ؛ فتح الباري : ٤ / ١٣٦ ؛ كنز العمال : ٨ / ٦٠٢ برقم ٢٤٣٣٨.

(٣) نقله عنه الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٦٤.

٣٩٦

به في نظائرها إلى خلافه ، لوجه هو أقوى ، ويدخل فيه العدول عن حكم العموم إلى (مقابله للدّليل) (١) المخصّص ، والعدول عن حكم الدليل المنسوخ إلى (مقابله للدّليل) (٢) الناسخ وليس باستحسان عندهم.

وقال أبو الحسين البصري : الاستحسان ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه ، وهو في حكم الطارئ على الأوّل. (٣)

قال : ولا يلزم عليه العدول عن العموم إلى القياس المخصّص ، لأنّ العموم لفظ شامل ولا يلزم عليه أن يكون أقوى القياس استحسانا ، لأنّ الاقوى ليس في حكم الطارئ على الأضعف ، فإن كان طارئا فهو استحسان.

فإن قلت : قد قال محمد بن الحسن الشيباني في عدّة مواضع من كتبه : تركنا الاستحسان للقياس ؛ كما لو قرأ آية السجدة في آخر السورة ، فالقياس يقتضي الاجتزاء بالركوع ، والاستحسان يقتضي عدمه ، بل يسجد لها. ثمّ إنّه قال بالقياس. (٤)

فهذا الاستحسان إن كان أقوى من القياس ، فكيف تركه؟ وإن لم يكن أقوى بطل الحد.

قلنا : ذلك المتروك إنّما يسمّى استحسانا ، لأنّه وإن كان الاستحسان وحده أقوى من القياس وحده ، لكن اتّصل بالقياس شيء آخر ، صار

__________________

(١ ـ ٢). في «ج» و «د» : مقابلة الدليل.

(٣) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٢٩٦.

(٤) نقله عنه الرازي في المحصول : ٢ / ٥٦٠.

٣٩٧

المجموع أقوى من الاستحسان كما في هذه المسألة ، فإنّه تعالى أقام الركوع مقام السّجود في قوله : (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ)(١). وهذا الحدّ يقتضي كون الشريعة بأسرها استحسانا ، لأنّ مقتضى العقل هو البراءة الأصلية ، وإنّما يترك ذلك لدليل أقوى منه ، وهو نصّ أو إجماع أو قياس. وهذا الأقوى في حكم الطارئ على الأوّل ، فيكون الكلّ استحسانا ، وهم لا يقولون بذلك ، لأنّهم يقولون : تركنا القياس للاستحسان ، وهو يقتضي المغايرة بينهما ، فالواجب أن يزاد في الحد قيد آخر فيقال : ترك وجه من وجوه الاجتهاد مغاير للبراءة الأصلية ، والعمومات اللفظية ، لوجه أقوى منه ، وهو في حكم الطارئ على الأوّل. (٢)

البحث الثاني : في أنّه ليس بحجّة

اختلف الناس في ذلك فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنّه حجّة. وبه قال أحمد بن حنبل. وأنكره الإمامية (٣) والشافعي وباقي الجمهور (٤) حتى

__________________

(١) ص : ٢٤.

(٢) راجع المحصول : ٢ / ٥٦٠ ـ ٥٦١.

(٣) رأي الإمامية في الاستحسان هو : إنّ المجتهد إذا استند إلى ما يستقل به العقل من حسن العدل وقبح الظلم ، أو إلى دليل شرعي فلا إشكال في كونه حجة ، لأنّه أفتى بالدليل لا بمجرّد الاستحسان ؛ وأمّا إذا استند لمجرد استحسان فكره وذوقه فهو تشريع باطل ومحرّم. فالاستحسان ليس له قيمة في مجال الإفتاء ، بل الاعتبار بالدليل ، فلو كان هناك دليل للعدول فالمنكر والمثبت أمامه سواء ، وإن لم يكن فلا وجه للعدول. راجع الوسيط في أصول الفقه للعلّامة السبحاني : ٢ / ٧٩ ـ ٨٠.

(٤) وهو مختار الرازي في المحصول : ٢ / ٥٦١ حيث قال : اتّفق أصحابنا على إنكار الاستحسان. وراجع الإحكام : ٤ / ١٦٢.

٣٩٨

قال الشافعي : من استحسن فقد شرّع. (١)

وهذا الخلاف ليس راجعا إلى اللفظ ، لوروده في القرآن. قال تعالى : (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(٢) ، (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها)(٣) وغير ذلك.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» (٤).

وكذا ورد في ألفاظ سائر المجتهدين ؛ قال الشافعي في المتعة : «استحسن أن يكون ثلاثين درهما» وقال (في باب الشفعة) (٥) : «استحسن ان يثبت للشفيع الشفعة إلى ثلاثة أيام».

وقال في المكاتب : «استحسن أن يترك له شيء».

فإذن الخلاف ليس في اللفظ ، بل في المعنى ولا يتحقّق موضع الخلاف ، لأنّ من قال : إنّه دليل ينقدح في نفس المجتهد يعتبر عبارته عنه ، فلا نزاع فيه ؛ لأنّه إن شك فيه فمردود إجماعا ، وإن تحقّق فمعمول به إجماعا.

ومن قال : هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى ، فلا نزاع فيه.

__________________

(١) نقله عنه الرازي في المحصول : ٢ / ٥٦١ ؛ والآمدي في الإحكام : ٤ / ١٦٢ ؛ والغزالي في المستصفى : ١ / ٤٠٩ ، وغيرهم.

(٢) الزمر : ١٨.

(٣) الأعراف : ١٤٥.

(٤) عوالي اللآلي : ١ / ٣٨١ ؛ بحار الأنوار : ٢٢ / ٤٥. ورواه في مسند أحمد : ١ / ٣٧٩ ؛ مستدرك الحاكم : ٣ / ٧٨ ؛ مجمع الزوائد : ١ / ١٧٧ عن عبد الله بن مسعود.

(٥) ما بين القوسين من المحصول : ٢ / ٥٦١.

٣٩٩

ومن قال : تخصيص قياس بأقوى منه ، فلا نزاع معه أيضا.

ومن قال : إنّه العدول إلى خلاف النظير لدليل أقوى ، فلا نزاع معه.

وأمّا من قال : إنّه العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس ، كدخول الحمام وشرب الماء من السقّاء ، فإن استند إلى جريانه في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو زمان المجتهدين من الصحابة مع علمهم به وعدم الإنكار ، صار حجّة إجماعا ، وإلّا فهو مردود ، لأنّ الشرع هو الحاكم على العادة دون العكس ، فإن تحقّق استحسان مختلف فيه فليس بحجّة على ما اخترناه ، إذ لا دليل عليه ، فلا يجوز الحكم به ، لأنّه يكون حكما في الدين بغير دليل ، إذ لا فرق بين تشريع الحكم وبين تشريع ما يدلّ عليه وليس دليلا في نفس الأمر.

احتجّوا (١) بأنّه تعالى أورد : (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) في معرض الثناء والمدح لمتبع أحسن القول ، وأمر بقوله : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)(٢) باتّباع أحسن ما أنزل ، ولو لا أنّه حجّة لما كان كذلك.

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» ولو لا أنّه حجّة لما كان عند الله حسنا.

واجتمعت الأمّة على استحسان دخول الحمام من غير تقدير زمان السكون والماء والأجرة.

__________________

(١) ذكرها الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٢) الزمر : ٥٥.

٤٠٠