نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-357-284-6
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٤٧٦

مثال الثاني : وهو التلازم بين العدمين : لو صح الوضوء بغير نيّة لصحّ التيمّم ويثبت بالطرد ، كما تقدّم في جانب الثبوت.

ويقرر بانتفاء أحد الأثرين فينتفي المؤثر فينتفي الأثر الآخر ، ويقرر أيضا بانتفاء المؤثر.

مثال الثالث : وهو أن يكون الملزوم ثبوتا واللازم عدما : ما كان حلالا لا يكون حراما.

مثال الرابع : عكسه : ما لا يكون مباحا يكون حراما. أو تقررها بأنّ الملازمتان بثبوت التنافي بين الحكمين أو بين لوازمهما. فإذا تقرر ذلك وثبت أحدهما لزم انتفاء الآخر ، مثل الوجوب على المديون مع عدم الوجوب على الفقير بما (١) لا يجتمعان ، والثاني ثابت بالإجماع فيلزم انتفاء الأوّل.

ويمكن بيان عدم الاجتماع بالنص وبالقياس بواسطة التلازم بأن يقال : لو وجبت على المديون لوجبت على الفقير ، أو : لو لم يجب على الفقير لم يجب على المديون. ويبيّن كلّا من الملازمتين بالنص أو القياس ، وكلّ واحدة من هاتين الملازمتين مستلزمة لعدم الاجتماع بين الوجوب على المديون وعدمه على الفقير ، أو بواسطة إثبات أحد الأمرين بأن يقال : الثابت إمّا عدم الوجوب على المديون ، أو الوجوب على الفقير لدلالة الدليل على كلّ منهما وهو ؛ النص والقياس والتلازم ، وإنّما كان يلزم عدم الاجتماع بين الأمرين.

__________________

(١) في «أ» و «د» : ممّا.

٣٦١

ويرد على أنواع التلازم والتنافي منع المقدّمتين الشرطية والاستثنائية أو إحداهما. ويرد ما تقدّم في القياس ما عدا أسئلة نقص الوصف الجامع الاختصاص بالقياس لعدم تعيين العلّة هنا ويختصّ التلازم بسؤال آخر إذا كان الجامع بين الأصل والفرع أحد موجبي الأصل أي علته ، كقولهم في قصاص الأيدي باليد الواحدة أحد موجبي علّة الأصل وهو تفويت النفس. وإذا كان كذلك فيجب في الفرع بدليل وجود الموجب الثاني لعلّة الأصل وهو الدية على تقدير وجودها في الفرع. وتقرر وجوبها في القصاص في الفرع بأنّ الدية أحد الموجبين فيستلزم الموجب الآخر ، لأنّ علّة الموجبين في الأصل ـ إن اتّحدت ـ كان لزوم المطلوب واضحا ، لاستلزام وجود أحد موجبيها في الفرع وجودها المستلزم لوجود الموجب الآخر وهو القصاص على الكلّ. وإن تعددت فتلازم الحكمين في الأصل دليل تلازم العلّتين. فيعترض المعترض بما ذكر من السؤال وهو المختص بقياس الدلالة. وتقرير الاعتراض والجواب قد سبق.

٣٦٢

الفصل الثاني :

في الاستصحاب (١)

وفيه مباحث :

الأوّل : في أنّه هل هو حجّة أم لا؟

اختلف الناس في أنّ استصحاب الحال هل هو حجّة أم لا؟

فذهب أكثر الحنفية وجماعة من المتكلّمين كأبي الحسين البصري والسيد المرتضى (٢) وغيرهما إلى أنّه ليس حجّة ، ومن هؤلاء من جوّز به الترجيح لا غير.

وذهب جماعة من الشافعية كالمزني والصّيرفي والغزالي وغيرهم إلى أنّه حجّة. (٣)

__________________

(١) الاستصحاب في اللغة : أخذ الشيء مصاحبا أو طلب صحبته ، وفي الاصطلاح : إبقاء ما كان على ما كان. وهو أمارة ظنية عند قدماء الأصوليين ، لكن المعروف بين المتأخّرين أنّه أصل كسائر الأصول ، بل مرتبته متقدّمة على سائر الأصول العملية ، أعني : أصالة البراءة ، وأصالة التخيير ، وأصالة الاحتياط. راجع الوسيط في أصول الفقه لآية الله جعفر السبحاني : ٢ / ١٥٠.

(٢) الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦.

(٣) وهو مختار الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٣٣ ؛ والرازي في المحصول : ٢ / ٥٤٩.

٣٦٣

احتجّ الأوّلون بوجوه (١) :

الأوّل : التسوية بين الوقتين في الحكم إمّا باعتبار اشتراكهما في المقتضي للحكم فيكون قياسا أو لا باعتبار ذلك ، فتكون التسوية بين الوقتين في الحكم من غير دليل ، وهو باطل بالإجماع.

الثاني : لو كان الأصل في كلّ شيء استمراره ودوامه ، لكان حدوث جميع الحوادث على خلاف الدليل المقتضي لاستمرار عدمها ، وهو خلاف الأصل.

الثالث : الإجماع منعقد على أنّ بيّنة الإثبات مقدّمة على بيّنة النفي ، ولو كان الأصل في كلّ متحقّق دوامه ، لكانت بيّنة النفي مقدّمة لاعتضادها بهذا الأصل.

الرابع : مذهب الشافعي أنّه لا يجزي عتق العبد الّذي انقطع خبره ، عن الكفّارة ولو كان الأصل البقاء لأجزأ.

الخامس : المعتبر في الأحكام الشرعية ليس مطلق الظن ، وإلّا لكانت شهادة العبيد والنساء والفسّاق والصبيان مقبولة لحصول أصل الظن ، بل الظن الغالب ونحن نمنع انّ أصالة البقاء تفيد غلبة الظن ، لأنّ الأصل عدم هذه الزيادة بعين ما ذكرتم.

السادس : ظن الاستمرار ثابت قبل الشرع أمّا بعده فلا ، لعدم الأمن بالتغيّر ، وورود الدليل المغيّر ، فلا يبقى ظن الاستمرار حاصلا.

__________________

(١) راجع الإحكام : ٤ / ١٣٦ ـ ١٣٧.

٣٦٤

والاعتراض على الأوّل ؛ بأنّ التسوية بين الزمانين ليست بالقياس ، بل لأنّ العلم بثبوته في الحال يقتضي ظن ثبوته على ذلك الوجه في الزمان الثاني ، والعمل بالظن واجب ، ولا يلزم من نفي القياس نفي كلّ دليل ، لأنّ القياس دليل خاص ولا يلزم من نفيه نفي كلّ دليل.

وعلى الثاني ؛ بأنّا خالفنا الأصل في الحوادث لوجود السبب الموجب للحدوث ، ونفي حكم الدليل مع وجوده لمعارض أولى من إخراجه عن الدلالة وإبطاله بالكلّيّة مع ظهور دلالته.

وعلى الثالث ؛ بأنّ تقديم الشهادة المثبتة على النافية وإن كانت معتضدة بأصل براءة الذمة ، فإنّما كان لاطّلاع المثبت على السبب الموجب لمخالفة براءة الذمّة وعدم اطّلاع النافي عليه لإمكان حدوثه حال غيبة النافي عن المنكر بتعذّر صحبته له واطّلاعه على أحواله في سائر الأوقات.

وعلى الرابع ؛ نمنع ما ذهب إليه الشافعي وقوله ليس حجّة ، وبتقدير تسليمه فالفرق أنّ الذمّة مشغولة بالكفّارة يقينا ولا تحصل البراءة منها إلّا بيقين وجود العبد ولا يقين.

وعلى الخامس ؛ نمنع اشتراط غلبة الظن ، بل أصل الظن كاف ، وردّ الشهادة في الصور المذكورة لم يكن لعدم صلاحيتها ، بل لعدم اعتبارها في الشرع ، بخلاف ما نحن فيه من استصحاب الحال فإنّه معتبر.

وعلى السادس ؛ أنّه بعد ورود الشرع إذا لم يظفر بدليل يخالف الأصل نفي ذلك الأصل تغلبا على الظن ، نعم أنّه قبل ورود الشرع أغلب

٣٦٥

على الظن لتيقّن عدم المعارض فيه بعد ورود الشرع لظن عدم المعارض.

واحتجّ الآخرون بوجوه (١) :

الأوّل. الإجماع منعقد على أنّ الإنسان لو شك في وجود الطهارة ابتداء لا تجوز له الصلاة ، ولو شك في بقائها جازت له الصلاة ، ولو لم يكن الأصل في كلّ متحقّق دوامه لزم إمّا جواز الصلاة في الصورة الأولى ، أو عدم الجواز في الصورة الثانية ، وهو خلاف الإجماع.

وإنّما قلنا ذلك ، لأنّه لو لم يكن الراجح هو الاستصحاب لم يخل إمّا أن يكون الراجح عدم الاستصحاب ، أو أنّ الاستصحاب وعدمه سيان.

فإن كان الأوّل لزم منه امتناع جواز الصلاة في الصورة الثانية ، لظن فوات الطهارة.

وإن كان الثاني فإما أن يكون استواء الطرفين ممّا تجوز معه الصلاة أو لا تجوز. فإن كان الأوّل لزم منه جواز الصلاة في الصورة الأولى ، وإن كان الثاني لزم عدم جواز الصلاة في الصورة الثانية ، وكلّ ذلك ممتنع.

الثاني. العقلاء بأسرهم إذا تحقّقوا وجود شيء أو عدمه وله أحكام مختصّة به ، سوّغوا القضاء بها في المستقبل ، حتى جوّزوا إنفاذ الودائع إلى من عرفوا بوجوده قبل ذلك بمدد متطاولة ، ويشهدون ببقاء الدين على من أقرّ من مدة به ، ولو لا أصالة البقاء لم يجز ذلك.

__________________

(١) ذكرها الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٣٣.

٣٦٦

الثالث. ظن البقاء أغلب من ظن التغيّر ، لأنّ الباقي لا يتوقّف على أكثر من وجود الزمان المستقبل ومقارنة الباقي له ، وأمّا التغيّر فيتوقّف على وجود الزمان المستقبل ، وتبدّل الوجود بالعدم ، أو بالعكس ؛ ومقارنة الوجود أو العدم بذلك الزمان. والمتوقّف على شيئين أغلب ممّا يتوقف عليهما وعلى ثالث.

الرابع (١) : العلم بتحقّق أمر في الحال يقتضي ظنّ بقائه في الاستقبال ، لأنّ الباقي مستغن عن المؤثّر والحادث مفتقر إليه ، والمستغني عن المؤثّر راجح الوجود بالنسبة إلى المفتقر إليه. أمّا استغناء الباقي ، فلأنّه لو افتقر إلى المؤثّر لكان المؤثّر إمّا أن يصدر عنه أثر أو لا.

والثاني مؤدّ إلى التناقض من حيث فرض المؤثّر وعدم التأثير.

وأمّا الأوّل فالأثر الصادر عنه إمّا أن لا يكون هو الموجود ، أو لا بل أمر متجدّد ، فلم يكن المؤثر مؤثّرا في الباقي بل في أمر حادث ، وأمّا الباقي فإنّه مستغن عنه ؛ أو يكون هو الموجود أو لا ، وهو تحصيل الحاصل ؛ أمّا احتياج الحادث فبالضرورة ، وأمّا رجحان المستغني عن المؤثر على المفتقر إليه ، لأنّ المستغني لا بدّ وأن يكون الوجود به أولى ، إذ لو كان الوجود مساويا للعدم لاستحال الرجحان إلّا بمنفصل ، فكان يلزم افتقاره إلى المؤثر ، وقد فرضناه مستغنيا عنه ؛ هذا خلف. فإذن وجود الباقي راجح على عدمه.

__________________

(١) هذا الوجه ذكره الرازي في المحصول : ٢ / ٥٤٩.

٣٦٧

وأمّا الحادث فليس أحد طرفيه راجحا على الآخر ، إذ لو كان راجحا لاستحال افتقاره إلى المرجّح ، وإلّا لكان ذلك المرجّح مرجّحا لما هو في نفسه مترجّح ، فيكون تحصيلا للحاصل.

فإذن الباقي أولى بالوجود ، والحادث ليس أولى بالوجود ، ولا معنى لظن وجوده إلّا أنّ اعتقاد وجوده أولى ، فالباقي راجح الوجود بالنسبة إلى الحادث.

ولأنّ الباقي لا يعدم إلّا عند وجود المانع ، والمفتقر إلى المؤثر كما يعدم عند وجود المانع فقد يعدم عند عدم المقتضي. وما لا يعدم إلّا بطريق واحد أولى بالوجود ممّا يعدم بطريقين ، ولا معنى للظن إلّا اعتقاد أنّه أولى بالوجود.

وأمّا وجوب العمل بالظن فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نحن نحكم بالظاهر». (١)

ولأنّه لو لم يجب لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو بديهي البطلان. ولأنّ العمل بالقياس وخبر الواحد والفتوى وباقي الظنون المعتبرة شرعا إنّما وجب ترجيحا للأقوى على الأضعف. وهو قائم هنا فيثبت الحكم ، وهو وجوب العمل به.

اعترض بمنع ظن بقاء المعلوم ثبوته في الحال إلى ثانيه.

قوله : الباقي مستغن.

__________________

(١) تفسير الرازي : ٣ / ٢١٥ ؛ تفسير الآلوسي : ١٥ / ٧٣ ؛ سبل الهدى والرشاد : ١٠ / ٣١٥ ؛ المحصول : ٢ / ٥٥٠.

٣٦٨

قلنا (١) : إن عنيتم أنّ كونه باقيا مستغن عن المؤثر ، فهو ممنوع. ولأنّه مناقض لقولكم: الحادث مفتقر ، لأنّ كونه باقيا حادث ، إذ لم يكن باقيا حال الحدوث ثمّ تجدّد.

وإن عنيتم شيئا آخر فاذكروه.

سلّمنا لكن يجوز أن يكون للباقي مؤثر يؤثر في أمر لم يكن حاصلا ، لأنّ معنى البقاء حصوله في هذا الزمان بعد أن كان حاصلا في آخر قبله ، لكنّ حصوله في هذا الزمان لم يكن حاصلا قبل حصول هذا الزمان ، لأنّه نسبة للحاصل بالقياس إلى هذا الزمان والنسبة متأخّرة. فإذن كونه باقيا حادث ، وأثر المؤثر المنفي هو هذا الأمر.

لا يقال : يلزم كون أثر المبقي حادثا فلا يكون مبقيا بل محدثا.

لأنّا نقول (٢) : المراد من افتقار الباقي إلى المبقي افتقار حصوله في الزمن الثاني إلى المؤثر ، فيمتنع صدق البقاء عليه إلّا لمؤثر.

ثمّ البحث عن كون الواقع بذلك المؤثر أمر مستمر ، أو جديد خارج عن المقصود.

سلّمنا لكن يجوز أن يكون أثره شيئا كان حاصلا قبل.

قوله : تحصيل للحاصل. (٣)

__________________

(١) ذكر الرازي الإشكال والإجابة عنه في المحصول : ٢ / ٥٥١.

(٢) ذكر الرازي الإشكال والاجابة عنه في المحصول : ٢ / ٥٥١.

(٣) في المحصول : ٢ / ٥٥٢ : تحصيل الحاصل محال.

٣٦٩

قلنا : ان عنيت بتحصيل الحاصل أن يجعل عين الوجود أوّلا حادثا في الثاني ، فهو محال قطعا ، لكن نمنع أن يكون استناد الباقي [إلى] المؤثر يوجبه. وإن عنيت أنّ الوجود الّذي صدق عليه في الزمن الأوّل أنّه إنّما ترجّح لهذا المؤثر ، صدق عليه في الزمن الثاني أيضا أنّه ترجّح لهذا المؤثر منعنا استحالته.

سلّمنا أنّ ما ذكرتم يدلّ على استغناء الباقي لكن يعارضه أنّ الباقي حال بقائه ممكن لإمكانه حال الحدوث ، والإمكان من اللوازم ، وكلّ ممكن له مؤثر ، فالباقي حال بقائه له مؤثر. وأمّا افتقار الممكن إلى المؤثر ، فلأنّه لمّا استوى طرفاه ، افتقر في ترجيح أحدهما إلى مؤثر.

لا يقال : يجوز أن يكون الإمكان إنّما يحوج إلى المؤثر بشرط الحدوث ، وهو منتف حالة البقاء ، فلا يتحقّق الافتقار.

لأنّا نقول (١) : لا يجوز جعل الحدوث معتبرا في تحقق الاحتياج ، لأنّ معناه مسبوقية الشيء بالعدم ، ومسبوقية الوجود بالعدم صفة للوجود ، فتكون صفة الوجود متأخّرة عنه بالذات تأخر الصفة عن موصوفها ، فالحدوث متأخر عن الوجود والمتأخر عن الإيجاد المتأخّر عن احتياج الأثر إلى المؤثر المتأخّر عن علّة احتياجه إليه ؛ فلو كان الحدوث معتبرا في ذلك الاحتياج إمّا بأن يكون علّة له ، أو جزءا منها ، أو شرطا فيها ، لزم الدور.

سلّمنا ، استغناء الباقي وافتقار الحادث ، لكن نمنع رجحان المستغني.

__________________

(١) ذكر الرازي الإشكال وأجاب عنه في المحصول : ٢ / ٥٥٢ ـ ٥٥٣.

٣٧٠

قوله : الباقي أولى بالوجود والحادث ليس أولى ، ولا معنى للظن إلّا اعتقاد أنّه أولى.

قلنا : إن عنيت بالأولوية امتناع العدم عليه ، فهو باطل ، لقبول الباقي العدم. وإن عنيت أمرا آخر فبيّنه. ولا يمكن الاعتذار بثبوت متوسط بين الاستواء الصرف الّذي هو الإمكان ، والتعيّن المانع من النقيض الّذي هو الضرورة. لأنّ مع هذه الأولوية إن امتنع النقيض فهو الضرورة ؛ وإن لم يمتنع فمع الأولوية يصحّ عليه الوجود تارة ، والعدم أخرى ، فحصول أحدهما بدلا عن الآخر إن توقّف على انضمام قيد إليه ، لم يكن الحاصل قبله كافيا في تحقّق الأولوية. وإن لم يتوقّف فنسبة تلك الأولوية إلى الطرفين على السوية ، فترجيح أحدهما على الآخر لا لمرجح زائد ، ترجيح لأحد طرفي الممكن على الآخر ، وهو محال.

قوله : الباقي لا يعدم إلّا عند وجود المانع ، والمفتقر إلى المؤثر قد يعدم بذلك. ويعدم المقتضي ، وما يعدم بطريق واحد أولى بالوجود ممّا يعدم بطريقين.

قلنا : غايته انّه يمكن تحقيق عدم الحادث بطريقين ، ولا يمكن تحقّق عدم الباقي إلّا بطريق واحد ، فلم قلت : إنّ هذا القدر يقتضي رجحان الباقي في الوجود على الحادث؟

سلّمنا الرجحان من هذا الوجه ، لكنّه يقتضي عدم الرجحان من وجه آخر. فإنّ الشيء لا يصدق عليه كونه باقيا إلّا إذا حصل في الزمان الثاني ،

٣٧١

فحصوله في الزمان الثاني أمر حادث ، فإذا لم يكن وجود الحادث راجحا ، لم يكن وجود الباقي المتوقّف عليه راجحا ، لأنّ المتوقّف على ما لا يكون راجحا غير راجح.

سلّمنا أنّ الباقي راجح الوجود ، ولكن ما لم يتحقّق كونه باقيا لا يتحقّق كونه راجح الوجود. وإنّما يصدق عليه البقاء إذا حصل في الزمن الثاني. فالحاصل : أنّا ما لم نعرف وجوده في الزمن الثاني لا نعرف كونه راجح الوجود ، وأنتم جعلتم رجحان الوجود دليلا على وجوده في الزمن الثاني ، فيدور.

سلّمنا رجحان الباقي في الوجود الخارجي على الحادث ، لكن لم قلت : إنّه راجح في الظن؟

واعترض على الأوّل ، أيضا بوجوه (١) :

أ. نمنع الإجماع على الفرق ، فإنّ مالكا ذهب هو وجماعة إلى التسوية في عدم الصحّة.

ب. سلّمنا أنّه لو لم يكن الأصل البقاء في كلّ متحقّق ، للزم رجحان الطهارة أو المساواة في الصورة الأولى ، ورجحان الحدث أو المساواة في الصورة الثانية. لكن لا يلزم من رجحان الطهارة في الصورة الأولى جواز الصلاة ، لامتناع الصلاة بعد النوم والإغماء والمسّ على الطهارة ، وإن كان وجود الطهارة راجحا ، ولامتناع الصلاة مع ظن الحدث في الصورة الثانية

__________________

(١) ذكرها الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٣٥.

٣٧٢

حيث قلتم : إنّ ظن الحدث لا يلحق بيقين (١) الحدث.

ج. سلّمنا دلالة ما ذكرتم على أصالة البقاء في الصلاة (٢) والحدث ، لكن نمنع أنّه يلزم من ذلك في الطهارة والحدث أن يكون الأصل في كلّ متحقّق غيرهما البقاء ، فإنّ كثيرا من الموجودات يستحيل فيها البقاء ، كالحركة والزمان.

وعلى الثاني ، أنّه لا يدلّ على ظن البقاء بل إنّما كان ذلك مجوزا منهم لاحتمال إصابة الغرض فيما فعلوه ، وذلك كاستحسان الرمي إلى الغرض لقصد الإصابة ، لاحتمال وقوعها وإن لم تكن الإصابة ظاهرة ، بل مرجوحة أو مساوية.

وعلى الثالث ، لا نسلم أنّ ظن البقاء أغلب من ظن التغيّر. وما ذكرتموه من زيادة توقّف التغيّر على تبدّل الوجود بالعدم أو بالعكس ، معارض بما يتوقّف عليه البقاء من تجدّد مثل السابق.

سلّمنا أنّ ما يتوقّف عليه التغيير أكثر ، لكن لا نسلّم أنّه يدلّ على غلبة البقاء على التغيّر ، لجواز أن تكون الأشياء المتعدّدة الّتي يتوقّف عليها التغيّر أغلب في الوجود من الأعداد الثلاثة الّتي يتوقّف عليها البقاء ، أو مساوية لها وإن سلّمنا أنّ البقاء أغلب من التغيّر ، لكن لا نسلّم كونه غالبا على الظن ، لجواز أن يكون الشيء أغلب من غيره ، وإن غلب على الظن عدمه في نفسه.

__________________

(١) في الإحكام : ٤ / ١٣٥ : بتيقّن.

(٢) في الإحكام : ٤ / ١٣٥ : الطهارة.

٣٧٣

سلّمنا دلالة ذلك على الأغلبية ، لكن فيما يقبل البقاء لا فيما لا يقبله فلم قلتم : إنّ الأعراض الّتي وقع النزاع فيها قابلة للبقاء ، خصوصا عند الأشاعرة المانعين من بقاء الأعراض.

والجواب قوله (١) : ما المراد من استغناء الباقي؟

قلنا : لا شكّ في أنّ الباقي هو الّذي حصل في زمان بعد أن كان بعينه حاصلا في آخر ، وهو يقتضي أن تكون الذات الحاصلة في هذا الزمان عين الذات الحاصلة في الآخر.

فتلك الذات الحاصلة في الزمانين إن حصل فيها في الزمن الثاني أمر لم يكن حاصلا في الأوّل ، كان المتجدّد مغايرا للذات الباقية ، فيكون الباقي في الحقيقة هو الذات ، لا الكيفية المتجددة. فنحن ندّعي أنّ ذلك الباقي يستحيل استناده إلى المؤثر حال بقائه. وحينئذ لا يكون استناد الكيفية المتجدّدة إلى المؤثر قادحا في قولنا : الباقي غير مستند للتغاير بينهما.

وإن لم يحصل في الزمن الثاني أمر متجدّد ، بل الحاصل فيه ليس إلّا الذات الحاصلة في الأوّل ، بطل قولهم : إنّ كونه باقيا كيفية حادثة ، وإنّها مفتقرة إلى المؤثر.

فعلى التقديرين يسقط السؤال.

وفيه نظر ، لأنّ فرض البقاء فرض المتجدّد ، وإذ البقاء لم يكن أوّلا

__________________

(١) ذكره الرازي في المحصول : ٢ / ٥٥٥.

٣٧٤

لكن تجدّد ثانيا ، وحصول الذات في الزمن الثاني مفتقر إلى المؤثر لتجدّده ، والباقي مفتقر إليه ، والمفتقر إلى المفتقر إلى شيء مفتقر.

قوله : حصوله في الزمن الثاني كيفية زائدة على الذات ، وهي مفتقرة إلى المؤثر.

قلنا : هذا باطل. وبتقدير ثبوته فهو غير قادح في الدليل. أمّا البطلان ، فلأنّ حصوله في الزمن الثاني لو كان كيفية زائدة على الذات لكان حصوله في ذلك الزمان كيفية أخرى ؛ فلزم التسلسل ، وهو محال.

ولأنّ العدم قد يصدق عليه أنّه باق ؛ فلو كان تحقّقه في الزمن الثاني كيفيّة ثبوتية ، لزم قيام الصفة الموجودة بالموصوف الّذي هو نفي محض. وإنّه محال.

وفيه نظر ، فإنّ الموجود (١) في الزمن الثاني كالموجود (٢) في الزمن الأوّل ، فإن افتقر الثاني إلى المؤثر من غير تسلسل افتقر الأوّل ، فإن اسند أصل الوجود إلى الفاعل في الثاني فكذا في الأوّل.

وأمّا أنّ بتقدير ثبوته فالمقصود حاصل ، فلأنّ حصوله في الثاني لما كان حادثا كان إسناده إلى المؤثر إسنادا للحادث إلى المؤثر لا للباقي ، وكلامنا ليس إلّا في الباقي.

وفيه نظر ، لأنّ إسناد الباقي إلى المؤثر هو إسناد الحادث إليه على ما بيّنّاه.

قوله : ما الّذي تعني بتحصيل الحاصل؟

__________________

(١) في «ب» و «ج» : الوجود.

(٢) في «ب» و «ج» : كالوجود.

٣٧٥

قلنا : يعني به أنّ الشيء الّذي حكم العقل عليه بأنّه كان حاصلا قبل ذلك يحكم عليه بأنّ حصوله الآن لأجل هذا الشيء ، وهو محال بالبديهية ، لأنّه لمّا كان حاصلا قبل ذلك ، فلو أعطاه الآن هذا المؤثر حصولا ، لكان قد حصل نفس ما كان حاصلا ، وهو محال.

وفيه نظر ، فإنّ الفاعل كما أعطى في الأوّل الوجود كذا أعطاه مقارنة الوجود للزمن الأوّل ، فكذا يقول في الثاني تعطيه مقارنة الوجود للزمن الثاني.

قوله : الباقي حال بقائه ممكن ، وكلّ ممكن مفتقر.

قلنا : لا نسلّم بل الممكن إنّما يفتقر إلى المؤثر بشرط كونه حادثا.

وفيه نظر ، فإنّ العقل حاكم بأنّ علّة الاحتياج الامكان لوجوب افتقار المتساوي في ترجيحه ، بخلاف الحدوث فإنّ العقل لو جوّز وجوب الحادث حكم باستغنائه حينئذ.

قوله : الحدوث متأخّر.

قلنا : لا نريد به أنّ كونه حادثا شرط للافتقار ، بل نريد به أنّ كونه بحيث لو وقع بالمؤثر لكان حادثا شرط لافتقار الأثر إلى المؤثر ، وكونه بهذه الحيثية أمر متقدّم.

وفيه نظر ، فإنّ التلازم بين وجوده المستند إلى المؤثر وبين حدوثه لا يجوز أن يكون علّة ، لافتقاره إلى المؤثر ما لم يثبت الملزوم ، وهو محال ، لاستلزامه توقّف الافتقار على الإيجاد والحال بالعكس.

٣٧٦

قوله : ما المراد من الأولوية؟

قلنا : درجة متوسطة بين التساوي والتعيين المانع من النقيض.

قوله : هذا محال لاقتضائه ترجّح أحد المتساويين على الآخر لا لمرجّح.

قلنا : لا نسلّم أنّ ذلك ممتنع مطلقا ، بل ذلك إنّما يمتنع بشرط الحدوث.

وفيه نظر ، لأنّ رجحان المتساوي لذاته إن كان لذاته ، لزم اقتضاء الذات صفتين متناقضتين ، وهو محال بالضرورة ؛ وإن كان لغيره فالمطلوب لوجود (١) هذا الشرط لم يحتج إلى إثبات متوسط بين التساوي والترجيح المانع من النقيض ، فإنّ المتساوي حينئذ يجوز وجوده لا لمرجّح.

قوله : لم قلت : إنّه لمّا أمكن حصول عدم الحادث بطريقين ، وعدم الباقي لا يحصل إلّا بطريق واحد ، كان وجود الحادث مرجوحا.

قلنا : لأنّ عدم حدوث الحادث أكثر من عدم الباقي ، لأنّه يصدق على ما لا نهاية له أنّه لم يحدث. وأمّا عدم الباقي بعد حدوثه فهو متناه لاشتراط وجوده في عدمه بعد وجوده. فإذا كان الوجود متناهيا ، كان العدم بعد الوجود متناهيا. وإذا كان عدم الحادث أكثر من عدم الباقي بعد وجوده ، والكثرة موجبة للظن ، ثبت أنّ عدم الحادث غالب على عدم الشيء بعد بقائه ، ولا معنى للظن إلّا ذلك.

__________________

(١) في «د» : ولوجوب.

٣٧٧

واعلم أنّه يمكن الاستدلال بهذه الثلاثة ابتداء.

وفيه نظر ، لأنّا نمنع أوّلا انحصار عدم الباقي بوجود المانع ، بل قد يعدم لعدم المقتضي كالحادث ، وإنّما يتم الانحصار لو كان مستغنيا عن المؤثر ، وهو المتنازع ، سلّمنا الانحصار ، لكن كثرة عدم الحادث على عدم الباقي لا يقتضي كون عدم الحادث بطريقين وعدم الباقي بطريق واحد ، موجبا لترجيح الباقي على الحادث ، بل هو مقتض للترجيح.

قوله : كونه باقيا يتوقّف على حدوث حصوله في الزمن الثاني ، فكونه باقيا يتوقّف على الحدوث الّذي ليس براجح ، والمتوقّف على ما لا يكون راجحا ليس براجح.

قلنا : هذا إنّما يلزم لو كان حصوله في الزمن الثاني كيفية وجودية حادثة ، وهو محال لإفضائه إلى التسلسل. ثمّ إن سلّمنا صحّة ذلك ، لكنّا نقول : لمّا ثبت أنّ الحدوث مرجوح ، والذات إذا كانت حادثة ، فهناك أمران حادثان : أحدهما : الذات ، والآخر : حصول الذات في ذلك الزمان.

وأمّا إذا كانت الذات باقية ، فالحادث أمر واحد وهو حصوله في ذلك الزمان دون الذات. فإذن الحادث مرجوح من وجهين ، والباقي من وجه ، فوجب أن يكون الباقي راجحا على الحادث من هذا الوجه.

وفيه نظر ، إذ لا يلزم من توقّف البقاء على الحدوث اشتراط الوجود في البقاء ، لجواز أن يكونا ذهنيين وأحدهما مشروط بالآخر ، والباقي محتاج إلى الحادث باعتبار ذاته ووصفه ، إذ لا يراد بالحادث هنا ذات

٣٧٨

حقيقية ، بل ما يصدق عليه هذا الاسم ، سواء كان ذاتا أو صفة.

قوله : ما لم يعرف كونه باقيا لا يثبت رجحانه.

قلنا : لا حاجة إلى ذلك ، بل نقول : هذا الّذي وجد الآن لا يمتنع عقلا أن يوجد في الزمان الثاني ، وأن يعدم ، لكنّ احتمال الوجود راجح على احتمال العدم من الوجه الّذي ذكرناه ، فالعلم بوجوده في الحال يقتضي اعتقاد رجحان وجوده على عدمه في ثاني الحال ، فإذن العلم بالأوليّة مستفاد من العلم بوجوده في الحال. وعلى هذا التقدير ؛ يسقط الدور.

قوله : الباقي راجح على الحادث في الوجود الخارجي ، فلم قلت : إنّه يكون راجحا عليه في الوجود الذهني؟

قلنا : لأنّ الذهني مطابق للخارجي وإلّا كان جهلا (١).

وفيه نظر ، فإنّ الجهل يلزم لو حكم الذهن بخلاف الخارج ، أمّا إذا لم يحكم فلا.

وفي هذا الباب مباحث لا يمكن ذكرها هاهنا ، لأنّها من علم الكلام ، وقد ذكرناها في كتاب «نهاية المرام».

قيل : (٢) القول بالاستصحاب أمر لا بدّ منه في الدين والشرع والعرف.

أمّا الدين : فلافتقاره إلى الاعتراف بالنبوّة المتوقّف على توسّط

__________________

(١) راجع المحصول : ٢ / ٥٥٥ ـ ٥٥٨.

(٢) في المحصول : ٢ / ٥٥٨ : اعلم أنّ.

٣٧٩

المعجز ، ومعناه ليس إلّا فعل خارق للعادة ، ولا يحصل فعل خارق للعادة إلّا عند تقرر العادة ، ولا معنى للعادة إلّا أنّ العلم بوقوعه على وجه مخصوص في الحال يقتضي اعتقاد انّه لو وقع لما وقع الّا على ذلك الوجه ، وهو عين الاستصحاب.

وفيه نظر ، فإنّ المعجز ليس هو فعل خارق للعادة مطلقا ، بل ما يعجز البشر عن فعله ، وليس ذلك من الاستصحاب.

وأمّا في الشرع : فلأنا إذا عرفنا أنّ الشرع تعبّدنا بحكم ما كاجماع أو غيره ، لم يمكننا العمل به إلّا إذا علمنا أو ظننا عدم طريان الناسخ. فإن علمنا ذلك بلفظ آخر افتقرنا فيه إلى اعتقاد عدم الناسخ ، فإن كان ذلك بلفظ آخر تسلسل ، فلا بدّ من الانتهاء إلى التمسّك بالاستصحاب ، وهو : أنّ علمنا بثبوته في الحال يقتضي ظنّ وجوده في الزمن الثاني. وأيضا فالفقهاء بأسرهم على كثرة اختلافهم اتّفقوا على أنّا متى تيقّنا حصول شيء وشككنا في حدوث المزيل ، أخذنا بالمتيقّن. وهو عين الاستصحاب ، لأنّهم رجّحوا بقاء الباقي على حدوث الحادث.

وفيه نظر ، لأنّ الشرع إذا تعبّدنا بحكم فإمّا أن يدلّ على الاستمرار والوحدة ، أو يكون مطلقا. فإن كان الثاني والثالث لم يحكم بالاستمرار ولا ظنّه ، وإن كان الأوّل لم يكن ظن الاستمرار من حيث الاستصحاب ، بل باعتبار نصّ الشارع عليه ، وانّه (١) لا يزول إلّا بالناسخ.

وأمّا العرف : فلأنّ من خرج من داره ، وترك أولاده فيها على حالة

__________________

(١) في «أ» و «د» : لأنه.

٣٨٠